(18)
شرك الأسماء والصفات:
والشرك في أسماء الله تعالى نوعان:
النوع الأول:
إنكارها وجحدها مطلقا، بحيث لا يُثْبِتُ-الجاحد-لله تعالى شيئا من أسمائه
وصفاته الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، فهذا شرك أكبر مخرج
من ملة الإسلام، لأن في ذلك تعطيلا لما أخبر الله تعالى به عن نفسه من أسمائه
وصفاته، وفيه تكذيب للقرآن والسنة الصحيحة، وهو شبيه بمن جحد وجود الله تعالى،
وهذا هو مذهب غلاة المعتزلة، ومعطلة الجهمية. [مجموع الفتاوى: (10/55)، (6/35)]
النوع الثاني:
تشبيه الله تعالى أو أسمائه وصفاته، أو تشبيه شيء منها بأسماء المخلوقين أو
صفاتهم كما يصف اليهود الله تعالى بصفات النقص التي يتصف بها المخلوقون، كوصفهم
له بالعجز والفقر والبخل ونحو ذلك، وكما يصف النصارى بعض المخلوقات-كعيسى عليه
السلام-بالصفات الإلهية التي لا يتصف بها إلا الخالق جل جلاله، وكذلك بعض
الجهمية الذين جعلوا صفات الخالق من جنس صفات المخلوقين [مجموع الفتاوى:
(6/35)]، وهذا أيضا شرك أكبر مخرج من ملة الإسلام لما في ذلك من المخالفة
الصريحة للنصوص القرآنية والأحاديث النبوية ودلالتها القطعية على نفي
المشابهة-. ووجود الاشتراك في مجرد اللفظ بين أسماء الخالق وصفاته وبين أسماء
المخلوق وصفاته لا يلزم منه الاشتراك في حقيقة المعاني-. [مثال ذلك: أن من
أسماء الله تعالى (العزيز)، وسمى بعض المخلوقين (العزيز) كما في قوله تعالى:
(قالت امرأة العزيز)، ومن صفاته (الرحمة) ووصف بعض المخلوقين بـ(الرحمة) فليس
العزيز كالعزيز، ولا الرحيم كالرحيم، الاشتراك في اللفظ لا يلزم منه الاشتراك
في حقيقة المعنى وكيفيته، ومن أوضح الأدلة على ذلك أن الله تعالى يوصف بأنه
موجود،ويوصف المخلوق أيضا بأنه موجود، وهل ذات الله الموجود كذات المخلوق
الموجود؟ كلا!]
وهناك طائفة لا تجحد أسماء الله وصفاته، ولا تشبه الله ولا شيئا من أسمائه
وصفاته، بالمخلوقين، ولكنها تثبت بعض صفاته إثباتا يليق بجلاله، وتؤول بعضها
الآخر ظنا منها أن إثباتها على ظاهرها يلزم منه التشبيه،
وهذا هو مذهب جمهور الأشعرية، فما حكم هذه الطائفة؟
بادئ ذي بدء نقول: إن هذا المسلك غير صحيح لوجوه ثلاثة:
الوجه الأول:
مخالفته لنصوص القرآن والسنة، ولما درج عليه
السلف في القرون المفضلة من الصحابة وأتباعهم، فلم يرد عنهم أنهم أولوا شيئا من
أسماء الله وصفاته.
الوجه الثاني:
توهمهم أن إثبات ما أولوه من صفات الله يلزم
منه التشبيه، وهذا خطأ أيضا، فإثبات صفات الله على ظاهرها اللائق بجلال الله،
مع النفي القاطع لمماثلتها لصفات المخلوقين، لا يلزم منه ما توهموه من تشبيه،
كما قال الله تعالى مبينا ذلك: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}. فقد نفى عن
نفسه التشبيه، وأثبت على أساسه صفتي السمع والبصر.
الوجه الثالث:
تناقضهم في إثبات بعض الصفات على أساس التنزيه،
وتأويل بعض الصفات خشية التشبيه، والواجب إثبات جميع أسماء الله وصفاته على
أساس التنزيه، فما قالوه فيما أثبتوه يجب أن يقولوه فيما أولوه وإلا لزمهم أن
يؤولوا كل الصفات، لأن ما أثبتوه بدون تأويل-مثل السمع والبصر-يمكن أن يتوهم
فيه المشابهة، كما توهموها في صفة الرحمة-مثلا-لأن المخلوقين لهم سمع ويصر كما
أنهم يتصفون بصفة الرحمة، ثم إن صفات الله يجب أن يقال فيها ما يقال في ذاته،
فكما نثبت لله تعالى ذاتا لا تشبهها ذوات المخلوقين، كذلك يجب أن نثبت له صفات
لا تشبهها صفات المخلوقين.
(19)
وهنا ثلاثة تنبيهات مهمة:
التنبيه الأول:
أنه لا يلزم من إتيان شخص معين ما ثبت شرعا أنه كفر أن يحكم على ذلك الشخص بأنه
كافر، وإن كان يطلق لفظ الكفر عموما على من أتى الكفر، فيقال-مثلا-من فعل كذا
فقد كفر، ولكن لا يقال ذلك عن شخص بعينه إلا بوجود شروط وانتفاء موانع، فمن
الشروط التي إذا وجدت حكم على المعين إذا أتى كفرا-أنه كافر: أن تقوم عليه
الحجة، بأن يكون على علم بأن ذلك كفر، لأن من شرط التكليف القدرة على ما يكلفه
الإنسان، ولا قدرة لجاهل بالحكم على فعله أو تركه، والله تعالى لا يكلف نفسا
إلا وسعها، ومن الموانع الصغر-أي عدم البلوغ-، فإذا أتى الجاهل بالحكم ما هو
كفر لم يحكم عليه بأنه كافر لانتفاء الشرط، وإذا أتى ذلك من لم يبلغ سن التكليف
لم يحكم عليه بالكفر لوجود المانع.
وقد وضح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا المعنى تمام الإيضاح، ومن ذلك
قوله:
(وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع، يقال: هي كفر قولا
يطلق، كما دل على ذلك الدلائل الشرعية، فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن
الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يُحكَم
في كل شخص قال ذلك بأنه كافر، حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه، مثل
من قال: إن الخمر أو الرباحلال، لقرب عهده بالإسلام، أو لنشوئه في بادية بعيدة،
أو سمع كلاما أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن ولا أنه من أحاديث رسول الله صلى
الله عليه وسلم، كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله
عليه وسلم قالها، وما كان الصحابة يشكون في أشياء، مثل رؤية الله وغير ذلك، حتى
يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل الذي قال: إذا أنا مت
فاسحقوني وذروني في اليم لعلي أضل عن الله ونحو ذلك، فإن هؤلاء لا يكفرون حتى
تقام عليهم الحجة بالرسالة، كما قال الله تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة
بعد الرسل} وقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد أشبعنا الكلام في
القواعد التي في هذا الجواب في أماكنها..) [مجموع الفتاوى: (35/165)]
وقال في موضع آخر:
(فهذا الكلام يمهد أصلين عظيمين:
أحدهما: أن العلم والإيمان والهدى فيما جاء به الرسول، وأن خلاف ذلك كفر على
الإطلاق، فنفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله يُرى في الآخرة، أو أنه على
العرش، أو أن القرآن كلامه، أو أنه كلم موسى، أو أنه اتخذ إبراهيم خليلا كفر،
وكذلك ما كان في معنى ذلك، وهذا معنى كلام أئمة السنة وأهل الحديث.
والأصل الثاني: أن التكفير العام-كالوعيد العام-يجب القول بإطلاقه وعمومه.
وأما الحكم على المعين بأنه كافر،، و مشهود له بالنار: فهذا يقف على الدليل
المعين، فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه........
وإذا عرف هذا فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم-بحيث يحكم عليه بأنه من
الكفار-لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم الحجة الرسالية التي يتبين بها
بأنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر.
وهذا الكلام في تكفير جميع المعينين.. فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين، وإن
أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة..). [مجموع الفتاوى
(12/497-501، وراجع:523)]
ويدخل في ذلك المعطلة والمشبهة من أهل القبلة، فلا يحكم على معين منهم بالكفر
المخرج من الملة إلا إذا قامت عليه الحجة وتبينت له المحجة، مع أن أئمة الإسلام
أطلقوا الكفر على هاتين الطائفتين بصفة عامة.
قال ابن تيمية رحمه الله:
(والمحفوظ عن أحمد وأمثاله من الأئمة إنما هو تكفير الجهمية المشبهة، وأمثال
هؤلاء.. مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية، ولا كل من قال: إنه جهمي كفره، ولا
كل من وافق الجهمية في بعض بدعهم، بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم
وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة، لم يكفرهم أحمد
وأمثاله، بل كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم ويدعو لهم، ويرى الائتمام بهم في
الصلوات خلفهم والحج والغزو معهم، والمنع من الخروج عليهم ما يراه لأمثالهم من
الأئمة، وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم، وإن لم يعلموا هم
أنه كفر، وكان ينكره ويجاهدهم بحسب الإمكان، فيجمع بين طاعة الله ورسوله في
إظهار السنة والدين وإنكار بدع الجهمية الملحدين، وبين رعاية حقوق المؤمنين من
الأئمة والأمة، وإن كانوا جهالا مبتدعين وظلمة فاسقين) [مجموع الفتاوى:
(7/507)]
(20)
اجتهاد المجتهد مغفور له في الأصول وفي
الفروع
التنبيه الثاني:
أن العالم إذا اجتهد وبذل وسعه في مسألة-إيمانية أو عملية-من مسائل الإسلام
وأخطأ في اجتهاده، فإن خطأه مغفور معفو عنه، ولا يحكم عليه بالكفر، وإن حكم على
من أتاها عالما معاندا أنه كافر، وهذا بخلاف ما اشتهر لدى كثير من العلماء من
أنه لا يعذر المجتهد إلا في مسائل الفروع دون الأصول، ولهذا تجد أمثال هؤلاء
يكفرون ويبدعون ويفسقون علماء بأعيانهم وقعوا في هذا الباب، وقد أبان ابن تيمية
هذه المسألة أيضا، وأبدى فيها وأعاد ليسكت ألسنة حدادا سلقت من هم عند الله
معذورون، وبرحمته مغمورون، وبين أن التفريق بين الفروع والأصول في نيل المجتهد
عفو الله وتجاوزه، من البدع التي لم تكن معروفة لدى أهل القرون المفضلة من
الصحابة والتابعين، وأنها إنما هي من أقوال بعض أهل الكلام، فقال رحمه الله:
(... هل يمكن كل أحد أن يعرف باجتهاده الحق في كل مسألة فيها نزاع؟ وإذا لم
يمكنه فاجتهد واستفرغ وسعه فلم يصل إلى الحق، بل قال: ما اعتقد أنه هو الحق في
نفس الأمر، ولم يكن هو الحق في نفس الأمر، هل يستحق أن يعاقب أم لا؟ هذا أصل
هذه المسألة.....-وذكر مذاهب العلماء إلى أن قال-:
وأما غير هؤلاء فيقول: (هذا قول السلف وأئمة الفتوى، كأبي حنيفة والشافعي
والثوري وداود بن علي، وغيرهم لا يؤثمون مجتهدا مخطئا في المسائل الأصولية ولا
في الفروعية كما ذكر ذلك عنهم ابن حزم وغيره، ولهذا كان أبو حنيفة والشافعي
وغيرهما يقبلون شهادة أهل الأهواء-إلا الخطابية-ويصححون الصلاة خلفهم.
والكافر لا تقبل شهادته على المسلمين ولا يصلى خلفه.
وقالوا: هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين:
أنهم لا يكفرون ولا يفسقون ولا يؤثمون أحدا من المجتهدين المخطئين، لا في مسألة
عملية ولا علمية. قالوا: والفرق بين مسائل الفروع والأصول إنما هو من أقوال أهل
البدع من أهل الكلام والمعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم، وانتقل هذا القول إلى
أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غوره....)
[مجموع الفتاوى: (19/203-227)]
وقال-أيضا-:
(وقد اختلف العلماء في خطاب الله ورسوله، هل يثبت حكمه في حق العبيد قبل
البلاغ؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، قيل: يثبت، وقيل: لا يثبت، وقيل
يثبت المبتدأ دون الناسخ.
والصحيح ما دل عليه القرآن في قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}
وقوله: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} وفي الصحيحين عن النبي صلى
الله عليه وسلم: (ما من أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل
مبشرين ومنذرين).
فالمتأول والجاهل المعذور، ليس حكمه حكم المعاند والفاجر، بل قد جعل الله لكل
شيء قدرا).[ مجموع الفتاوى: (3/288)]
وقال: (والخطأ المغفور في الاجتهاد، هو في نوعي المسائل الخبرية والعلمية
[لعله: العملية، لأن الخبرية هي العلمية] كما قد بسط في غير موضع، كمن اعتقد
ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث، وكان لذلك ما يعارضه ويبين المراد ولم يعرفه.
مثل من اعتقد أن الذبيح إسحاق لحديث اعتقد ثبوته، أو اعتقد أن الله لا يرى،
لقوله: {لا تدركه الأبصار}، ولقوله: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو
من وراء حجاب}. كما احتجت عائشة بهاتين الآيتين على انتفاء الرؤية في حق النبي
صلى الله عليه وسلم، وإنما يدلان بطريق العموم.
وكما نقل عن بعض التابعين أن الله لا يرى، وفسروا قوله:{وجوه يومئذ ناضرة إلى
ربها ناظرة} بأنها تنظر ثواب ربها، كما نقل عن مجاهد وأبي صالح.
أو من اعتقد أن الميت لا يعذب ببكاء الحي، لاعتقاده أن قوله: {ولا تزر وازرة
وزر أخرى} يدل على ذلك وأن ذلك يقدم على رواية الراوي، لأن السمع يغلط، كما
اعتقد ذلك طائفة من السلف.
أو اعتقد أن الميت لا يسمع خطاب الحي، لاعتقاده أن قوله {إنك لا تسمع الموتى}
يدل على ذلك.
أو اعتقد أن الله لا يعجب، كما اعتقد ذلك شريح لاعتقاده أن العجب إنما يكون من
جهل السبب والله منزه عن الجهل.
أو اعتقد أن عليا أفضل الصحابة، لاعتقاده صحة حديث الطير، وأن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: (اللهم ائتني بأحب الخلق إليك يأكل معي من هذا الطائر).
أو اعتقد أن من جس للعدو وعلمهم بغزو النبي صلى الله عليه وسلم فهو منافق، كما
اعتقد ذلك عمر في حاطب، وقال: دعني أضرب عنق هذا المنافق.
أو اعتقد أن من غضب لبعض المنافقين غضبة فهو منافق، كما اعتقد ذلك أسيد بن حضير
في سعد بن عبادة، وقال: إنك منافق تجادل عن المنافقين.
أو اعتقد أن بعض الكلمات أو الآيات أنها ليست من القرآن، لأن ذلك لم يثبت عنده
بالنقل الثابت، كما نقل عن غير واحد من السلف أنهم أنكروا ألفاظا من القرآن،
كإنكار بعضهم: {وقضى ربك}، وقال: إنما هي: ووصى ربك، وإنكار بعضهم قوله: {وإذ
أخذ الله ميثاق النبيين} وقال: إنما هو ميثاق بني إسرائيل، وكذلك هي في قراءة
عبد الله، وإنكار بعضهم: قوله:{أولم ييئس الذين آمنوا}، إنما هي: أولم يتبين
الذين آمنوا، وكما أنكر عمر على هشام بن الحكم لما رآه يقرأ سورة الفرقان على
غير ما قرأها، وكما أنكر طائفة من السلف على بعض القراء بحروف لم يعرفوها، حتى
جمعهم عثمان على مصحف الإمام.
وكما أنكر طائفة من السلف والخلف أن الله يريد المعاصي، لاعتقادهم أن معناه: أن
الله يحب ذلك ويرضاه ويأمر به، وأنكر طائفة من السلف أن الله يريد المعاصي،
لكونهم ظنوا أن الإرادة لا تكون إلا بمعنى المشيئة لخلقها، وقد علموا أن الله
خالق كل شيء وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، والقرآن قد جاء بلفظ الإرادة
بهذا المعنى وبهذا المعنى، ولكن كل طائفة عرفت أحد المعنيين وأنكرت الآخر.
وكالذي قال لأهله: إذا أنا مت فأحرقوني ثم ذر وني في اليم، فوا لله لئن قدر
الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين.
وكما قد ذكره طائفة من السلف في قوله: {يظن أن لن يقدر عليه أحد} وفي قوله: {هل
يستطيع ربك أ، ينزل علينا مائدة من السماء}، وكالصحابة الذين سألوا النبي صلى
الله عليه وسلم: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فلم يكونوا يعلمون أنهم يرونه، وكثير
من الناس لا يعلم ذلك، إما أنه لم تبلغه الأحاديث، وإما لأنه ظن أنه كذب وغلط.)
[مجموع الفتاوى: (20/33-36)]
وقال أيضا:
(وأصل هذا ما قد ذكرته في غير موضع: أن المسائل الخبرية قد تكون بمنزلة المسائل
العملية، وإن سميت تلك (بمسائل أصول) وهذه (مسائل فروع) فإن هذه تسمية محدثة،
قسمها طائفة من الفقهاء والمتكلمين، وهو على المتكلمين والأصوليين أغلب، لاسيما
إذا تكلموا في مسائل التصويب والتخطئة.
وأما جمهور الفقهاء المحققين والصوفية، فعندهم أن الأعمال أهم وآكد من مسائل
الأقوال المتنازع فيها، فإن الفقهاء كلامهم إنما هو فيها، وكثيرا ما يكرهون
الكلام في مسائل ليس فيها عمل، كما يقوله مالك وغيره من أهل المدينة....
بل الحق أن الجليل من كل واحد من الصنفين مسائل أصول) والدقيق مسائل فروع).
فالعلم بوجوب الواجبات، كمباني الإسلام الخمس، وتحريم المحرمات الظاهرة
المتواترة كالعلم بأن الله على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وأنه سميع بصير،
وأن القرآن كلام الله، ونحو ذلك من القضايا الظاهرة المتواترة، ولهذا كان من
جحد تلك الأحكام العملية المجمع عليها كفر، كما أن من جحد هذه كفر.
وقد يكون الإقرار بالأحكام العملية أوجب من الإقرار بالقضايا القولية، بل هذا
هو الغالب، فإن القضايا القولية يكفي فيها الإقرار بالجُمَل، وهو الإيمان بالله
وملائكته، وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره.
وأما الأعمال الواجبة، فلا بد من معرفتها على التفصيل، لأن العمل بها لا يمكن
إلا بعد معرفتها مفصلة...
وقولنا: إنها قد تكون بمنزلتها [يعني المسائل الخبرية قد تكون بمنزلة المسائل
العملية] يتضمن أشياء:
منها: أنها تنقسم إلى قطعي وظني. [فليس كل مسألة من مسائل العقيدة تكون قطعية]
ومنها: أن المصيب-وإن كان واحدا-فالمخطئ قد يكون معفوا عنه، وقد يكون مذنبا،
وقد يكون فاسقا وقد يكون كالمخطئ في الأحكام العملية سواء.....
وإذا كانت قد تكون قطعية، وقد تكون اجتهادية سوغ اجتهاديتها ما سوغ في المسائل
العملية، وكثير من تفسير القرآن أو أكثره من هذا الباب، فإن الاختلاف في كثير
من التفسير هو من باب المسائل العلمية الخبرية، لا من باب العملية، لكن قد تقع
الأهواء في المسائل الكبار كما قد تقع في مسائل العمل..) [مجموع
الفتاوى6/56-61)]
وبين رحمه الله أن الصحابة تنازعوا في مسائل علمية اعتقادية، كتنازعهم في مسائل
عملية، وأن كل فريق منهم أقر الفريق الآخر على اجتهاده، مع بقاء الألفة والمودة
بينهم، فقال:
(وقد اتفق الصحابة-في مسائل تنازعوا فيها-على إقرار كل فريق للفريق الآخر على
العمل باجتهادهم، كمسائل في العبادات والمناكح والمواريث والعطاء والسياسة وغير
ذلك....
وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية، كسماع الميت صوت الحي، وتعذيب الميت ببكاء
أهله، ورؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه قبل الموت، مع بقاء الجماعة والألفة.
وهذه المسائل منها ما أحد القولين خطأ قطعا، ومنها ما المصيب في نفس الأمر واحد
عند الجمهور أتباع السلف، والآخر مؤد لما وجب عليه بحسب قوة إدراكه ...
ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا إثم على من اجتهد، وإن أخطأ .....) [مجموع
الفتاوى: (19/122)]
ومن لم يسعه ما وسع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأئمة الإسلام، ومذهب
أهل السنة فلتضق عليه الأرض بما رحبت.
(21)
حكم من تأول بعض الصفات
التنبيه الثالث:
أن الذين أولوا بعض الصفات، وهم الأشعرية، لم
يؤلوها عنادا، وإنما أولوها بسبب خطأ فهمهم بأن إثباتها بحسب ظاهرها يلزم منه
التشبيه، فهم مجتهدون فيما ذهبوا إليه، والمجتهد معفو عنه في خطئه، مثاب على
اجتهاده، فلا يجوز ذم من عفا الله عنه ووعده بالثواب،-وإن كان ذلك لايمنع من
بيان الحق الذي لم يهتد إليه-ولهذا قال ابن تيمية، رحمه الله:
(ومن علم منه الاجتهاد السائغ فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم والتأثيم له، فإن
الله غفر له خطأه، بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوى موالاته ومحبته، والقيام
بما أوجب الله من حقوقه، من ثناء ودعاء وغيره).[ مجموع الفتاوى (8/234)]
وإني أشهد الله لو أنني فهمت من ظاهر نصوص الصفات ما فهمه الأشعرية-مثلا- من أن
المراد بها الجوارح الموجودة في المخلوقات لكان فرضا علي أن أتأولها تأولا
يخرجها عن ذلك الظاهر الشنيع، وإن الذين نصبوا أنفسهم قضاة يشنعون على علماء
الإسلام في تأويلهم الاجتهادي، ويخرجونهم بذلك الاجتهاد الذي عفا الله عنه، من
صفوف أهل السنة، ويحكمون عليهم بأنهم ليسوا من الطائفة المنصورة، أقول: لو أن
أولئك الذين نصبوا أنفسهم قضاة يصدرون تلك الأحكام الجائرة نشأوا في بيئة علمية
أشعرية لكانوا أشعريين، بل لو أنهم نشأوا في بيئة علمية جهمية لكانوا جهميين،
ولسلكوا نفس المسلك الذي نشأوا فيه، وإن الواجب علينا أن نحمد الله الذي هيأ
لنا بيئة علمية تغرس في عقولنا وقلوبنا منهج القرآن والسنة وما سار عليه أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أبواب الإيمان، منذ نعومة أظفارنا، وأن نتمسك
بما قرره أهل العلم من أن المجتهد مأجور على اجتهاده، معفو عنه على خطئه، وأن
ندعو لهم بالمغفرة والرحمة، وأن ننظر لجهودهم العظيمة في خدمة كتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم، وبخاصة علماء الشافعية-من أمثال الإمام النووي،
والحافظ ابن حجر وغيرهما-الذين لا ينكر خدمتهم للسنة النبوية وعلومها إلا
مكابر.
ويجب الذود عن علماء الأمة الإسلامية، وعقوبة من يسلط عليهم لسانه، وبخاصة في
تكفيرهم وإصدار الأحكام التي تخالف هدي الله عليهم، مع ما عرف عنهم من نصر الحق
والجهاد في سبيله.
قال ابن تيمية رحمه الله: [وهو يرد على من زعم أن من نازع في عصمة الرسل في بعض
القضايا يعتبر متنقصا بهم عليه الصلاة والسلام، كمن خطأ الرسول صلى الله عليه
وسلم في مسألة تأبير النخل ومنهم أبو حامد الغزالي رحمه الله..]
(ليس في هذا الكلام تنقص بالرسول صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه باتفاق
علماء المسلمين-إلى أن قال-: فإن تسليط الجهال [قلت: والذي يكفر علماء المسلمين
أو غيرهم ممن لا يستحقون التكفير في شرع الله، هو جاهل، وإن ادعى العلم] على
تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض
الذين يكفرون أئمة المسلمين، لما يعتقدون أنهم أخطؤا في الدين، وقد اتفق أهل
السنة والجماعة أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض، بل كل
أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم،، وليس كل من يترك
بعض كلامه لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق، بل ولا يأثم، فإن الله تعالى قال في دعاء
المؤمنين: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) وفي الصحيح عن النبي صلى الله
عليه وسلم أن الله تعالى قال: (قد فعلت).
واتفق علماء المسلمين أنه لا يكفر أحد من علماء المسلمين المنازعين في عصمة
الأنبياء، والذين قالوا إنه تجوز عليهم الصغائر والخطأ ولا يقرون على ذلك، لم
يكفر أحد منهم باتفاق المسلمين، فإن هؤلاء يقولون: إنهم معصومون من الإقرار على
ذلك، ولو كفر هؤلاء لزم تكفير كثير من الشافعية والمالكية والحنفية والحنبلية
والأشعرية، وأهل الحديث والتفسير والصوفية الذين ليسوا كفارا باتفاق
المسلمين... ومن كفرهم بذلك استحق العقوبة الغليظة التي تزجره وأمثاله عن تكفير
المسلمين..). [مجموع الفتاوى: (35/99/104)]