(22)
الإيمان بالملائكة أحد أصول الإيمان الستة
كثيرا ما يذكر الله تعالى الإيمان بالملائكة بعد ذكر الإيمان به، كما يذكر
الكفر بهم بعد ذكر الكفر به لأهمية الإيمان بهم، وقوة صلتهم بالله، ودوام
طاعتهم له، وقوة صلتهم بخلقه في الأرض، وبخاصة صلتهم بعباده المؤمنين، قال
تعالى: {آمن الرسول بما أنزل من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه
ورسله}. البقرة: 285. وفيه تفسير لبعض الغيب المذكور في أول السورة، في قوله
تعالى:{هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب}.البقرة:1-3
ومثله قوله تعالى في وسط السورة-وإن كان ذكر الملائكة جاء بعد ذكر اليوم الآخر:
{ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين}. البقرة:177
.
وقال تعالى: {ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا
بعيدا}. النساء: 136. وأصول الإيمان كما هو معروف ستة، خمسة منها ذكرت هنا
مجتمعة في آية النساء وفي الآية التي سبقتها في سورة البقرة، والسادس الإيمان
بالقدر وقد ذكر في آيات كثيرة من القرآن. [سنذكر شيئا منها في مبحث الإيمان
بالقدر]
وقد ذكرت الأركان الستة مجتمعة في حديث جبريل المشهور: (أن تؤمن بالله وملائكته
وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) .[ مسلم: (1/37)]
فالإيمان بالملائكة أصل من أصول الإيمان لا يصح إيمان من أنكره أو شك فيه، ولا
يعد من أنكره مسلما، ومن لم يصح إيمانه لا يرجى منه أن يطبق شريعة الله التي
أساسها الإيمان بالغيب.
(23)
الصلة بين الملائكة والإنسان
لقد حدد الله لكثير من ملائكته وظائف
لها صلة بالمخلوقين في الأرض-وهي داخلة في وظيفتهم الرئيسة:-طاعتهم المطلقة
لربهم-: {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}. التحريم: 6. فما من إنسان
إلا وللملائكة صلة به، من وقت وجوده في رحم أمه، إلى أن يدخل الجنة أو النار.
وقد فصل العلماء وظائف الملائكة التي وردت بها نصوص الكتاب والسنة. [راجع على
سبيل المثال شرح العقيدة الطحاوية: ص 332-337]
والذي يهمنا هنا أمور:
الأمر الأول:
صلة الملك بالجنين في رحم أمه.أنه تعالى يرسل الملك إلى الجنين، وهو في رحم أمه
فيأمره بكتابة رزقه، وأجله، وعمله، وسعادته أو شقاوته [ ثبت ذلك في الصحيحين من
حديث عبد الله بن مسعود.راجع كتاب العلوم والحكم،لابن رجب،بتحقيق الأرناؤط ص:
153]، وهي كما ترى صلة مبكرة بالإنسان قبل أن يظهر على وجه الأرض.وهذه غير
صلتهم المبكرة بأبينا آدم عليه السلام كما قص ذلك القرآن الكريم في آي كثيرة .
الأمر الثاني:
أن الملائكة هم سفراء الله إلى خلقه في الأرض، كما قال تعالى: {ينزل
الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا
فاتقون}. النحل: 2
وقد نزل جبريل عليه السلام بآخر كتب الله المنزلة وهو القرآن الكريم على
رسولنا صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح
الأمين على قلبك لتكون من المنذرين}. الشعراء:192-195. وكان-جبريل-عليه السلام
يدارس الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن، كما كان ينزل يعرفه ببعض الأحكام،
كمواقيت الصلاة.
الأمر الثالث:
أن الله قد وكل بكل إنسان ملكين، أحدهما عن يمينه يكتب حسناته، والآخر عن يساره
يكتب سيئا ته، قال تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}. ق: 18.
الأمر الرابع:
أن بعض الملائكة يزورون المؤمنين ويتفقد ونهم في بعض عباداتهم المهمة، كصلاتي
الفجر والعصر، كما في حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة
العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم-وهو أعلم بكم: كيف تركتم عبادي؟
فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون). [متفق عليه، جامع الأصول
(9/398)]
الأمر الخامس:
أن بعضهم يقبضون أرواح بني آدم-المؤمن منهم وغير المؤمن- قال تعالى: {قال الذين
أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي
أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء}.النحل: 27-28.
وقال تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما
كنتم تعملون}. النحل: 32.
والذين يقبضون روح المؤمن هم ملائكة الرحمة الذين يحتفلون بها في الأرض وفي
السماء، ويسأله في قبره ملكان عن ربه ودينه ونبيه، فيجيب جوابا صحيحا، فيحتفلون
به في قبره ويبشرونه بالخير الذي استحقه بعمله الصالح الذي وفقه الله له.
والذين يقبضون روح الكافر هم ملائكة العذاب، حيث يوبخونه ويقرعونه في الأرض وفي
السماء، ويسأله ملكان عن ربه ودينه ونبيه فلم يستطع الإجابة الصحيحة، لأنه لم
يدخل مدرسة الكتاب والسنة التي تعلم فيها المؤمن في الدنيا،
فيوبخونه-أيضا-ويقرعونه في قبره وينال منهم ما يسوءه على رسوبه الذي حرص على
فعل أسبابه في الدنيا. [راجع شرح الطحاوية ص 345-349]
الأمر السادس:
أنهم يهتمون-وهم في السماء-بإخوانهم المؤمنين في الأرض، فيدعون لهم، ويستغفرون،
كما قال تعال: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به
ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا
سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم
وأزواجهم وذريا تهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ
فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم}. غافر: 7-9.
وأما الكفار فإنهم يلعنونهم كما يلعنهم الله، قال تعالى: {إن الذين كفروا
وماتوا وهم كفار ألئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين}. البقرة: 161
الأمر السابع:
أنهم يشاركون إخوانهم المؤمنين في جهاد أعدائهم في سبيل الله لرفع راية
الإسلام، وتثبيت الصلاح في الأرض واجتثاث الباطل منها، كما قال تعالى: {ولقد
نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين ألن
يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا
ويأتوكم من فور هم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين}. آل عمران:
123.
وقال تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممد كم بألف من الملائكة
مردفين-إلى قوله تعالى-: إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين أمنوا
سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان}.
الأنفال: 9-12.
فصلتهم بالمؤمنين المناصرة لهم وتثبيتهم، وصلتهم بالكفار قتالهم وضربهم تحقيقا
للولاء الذي عقده الله بين المؤمنين، مهما تباعدت ديارهم وفصلت بينهم الأزمنة
المتباعدة، وتحقيقا للبراء الذي كلفه الله عباده المؤمنين، وللتعاون على البر
والتقوى.
الأمر الثامن:
أن خزنة الجنة يستقبلون إخوانهم المؤمنين،مرحبين بهم عند دخولهم الجنة، مهنئين
ومبشرين لهم بحسن المأوى بدار القرار، وخزنة النار يستقبلون الكافرين موبخين
لهم على كفرهم ومقرعين منذرين لهم بشر مصير عند دخولهم النار ٌقال تعالى: {وسيق
الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم
يأتكم رسل منكم ينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على
الكافرين قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين وسيق الذين
اتقوا إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم
طبتم فادخلوها خالدين}. الزمر: 71-73.
ولست بصدد استقصاء كل ما للملائكة من صلة بالناس في الدنيا، فذلك أمر يطول،
ولكن المتأمل في هذه الأمور-الثمانية-يتبين له أهمية الإيمان بالملائكة، بل
ضرورة ذلك، ليحقق في نفسه الإيمان الذي أمره الله به، فمن المستحيل-شرعا-أن يتم
الإيمان بالله تعالى، أو بأي ركن من أركان الإيمان الأخرى، بدون الإيمان
بالملائكة.
فالإيمان الذي أمرنا الله به إنما جاءنا عن طريق الوحي، والوحي إنما نزل عن
طريق الملائكة، فكيف يؤمن من ينكر الإيمان بالملائكة بالوحي الذي هو مصدر
الإيمان والوحي لم يصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلا عن طريق جبريل؟! ألا
ترى أن اليهود اتخذوا جبريل عدوا لهم بسبب اتخاذ الله له سفيرا بوحيه إلى رسوله
محمد صلى الله عليه وسلم فحكم الله عليهم بأنهم عدو له ولملائكته كلهم بما فيهم
ميكال الذي زعموا أنه وليهم، كما قال تعالى:{قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله
على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين من كان عدوا لله
وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين}. البقرة: 97-98. ][ راجع
تفسير الآيتين في كتاب جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري. وقد
اشترك مع اليهود في عداوة جبريل غلاة الرافضة الذين اتهموه بالخيانة لإبلاغه
القرآن محمدا صلى الله عليه وسلم، وقد كان الله تعالى إنما أراد به عليا رضي
الله عنه في زعمهم!]
(24)
وفي الملائكة قدوة حسنة لنا
إن الذي يريد أن يطبق شريعة الله، ليكون
صالحا مصلحا، لابد أن يسعى جاهدا في التعرف على عباد الله الصالحين، وعلى
أعمالهم التي يتقربون بها إلى الله، والإكثار من مرافقتهم وحبهم والاقتداء بهم،
فالجليس الصالح يؤثر في جليسه بصلاحه، كما أن جليس السوء يؤثر في جليسه بسوئه،
والذي يزهد في مجالسة الصالحين ومرافقتهم، لا بد أن يجالس أهل السوء ويرافقهم
ويكتسب منهم سوء فعالهم، فالأرواح جنود مجندة، ماتوا فق منها ائتلف وما تنافر
اختلف، والطيور على أشباهها تقع، وقد شرع الله لعباده المؤمنين قراءة سورة
الفاتحة في صلاتهم، فرضا كانت أم نفلا، وفيها هذا الدعاء العظيم: {إهدنا الصراط
المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}. والذين أنعم
الله عليهم، هم عباد الله الصالحون الذين هم القدوة الحسنة لمن أراد الصلاح في
الدارين، وقد استجاب الله دعاءهم هذا، فقال تعالى {ومن يطع الله والرسول فأولئك
مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك
رفيقا}. النساء: 69.
وقد طبع الله الملائكة على المداومة على طاعته، وعدم معصيته وأخبر تعالى أنهم
لا يفترون عن عبادته ولا يسأمون، فحياتهم كلها عبادة، كما قال تعالى:{فالذين
عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون}. فصلت: 38.
وقال تعالى: {يسبحون الليل والنهار لا يفترون}. الأنبياء: 20.
وقال تعالى:{لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}. التحريم: 6.
وفي إخبار الله لنا عنهم بذلك حض لنا على الاجتهاد في طاعته، وإذا كانوا هم
مجبولين على تلك الطاعة، ونحن لسنا مثلهم في ذلك فإننا مكلفون أن نجتهد في
طاعته في حدود طاقتنا، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ونشترك نحن والملائكة في
أننا جميعا مأمورون بطاعة الله، وإن اختلفت قدراتنا.
وإن اشتراكنا معهم في الإيمان بالله وطاعته ومحبته وتطبيق ما أمرنا به، والولاء
الذي يربطنا بهم، كل ذلك جعلهم يهتمون بنا ويدعون لنا، ويشاركوننا في جهادنا ضد
أعدائنا، وهم يلازموننا بكتابة أعمالنا، وينفخون الروح فينا ونحن أجنة في أرحام
أمهاتنا، ويزوروننا ليلا ونهارا ويسرون بعبادتنا لربنا وطاعتنا له، وهم الذين
يقبضون أرواحنا، ويمتحنوننا في قبورنا ويسألوننا عن ربنا وديننا ونبينا،
ويبشرون المؤمنين منا بالنعيم في قبورنا كما ينذرون الكافرين بالعذاب
فيها، ويستقبلون عباد الله المؤمنين عند دخولهم الجنة فيبشرونهم بالنعيم
المقيم والجزاءالعظيم، ويستقبلون أعداء الله من الكافرين عند دخولهم النار
بالتبكيت والتقريع والعذاب الأليم.
إن في ذلك كله لما يحفز المؤمن على الاجتهاد في طاعة الله والبعد عن معصيته
اقتداء بإخوانه الملائكة الذين يلازمونه بإذن الله من زمن خلقه في رحم أمه إلى
أن يدخل الجنة، فذلك يجعل المؤمن يستحيي من إتيان المعصية أو ترك الطاعة، وأهل
الطاعة لله لا يفارقونه، بل منهم من يلازمه لكتابة حسناته وسيئا ته.
هذا وقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته على الإقتداء بالملائكة في صفة من
صفات أعظم عبادة-بعد الشهادتين-وهي الصلاة، كما روى جابر بن سمرة، رضي الله
عنه، قال: (... ثم خرج علينا-رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فقال: (... ألا
تصفون كما تصف الملائكة عند ربها، فقلنا: يا رسول الله! وكيف تصف الملائكة عند
ربها؟ قال: يتمون الصف الأول ويتراصون في الصفوف). [مسلم (1/322)]
وإن الذي لا يتخذ عباد الله المتقين، من النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين-ومنهم الملائكة المقربون-، قدوة له في طاعة ربه فلا بد أن يتخذ أعداء
الله المفسدين من الشيطان الرجيم وأتباعه قدوته إلى معصية الله.فليعلم الإنسان
من يرافق، فإن المرء مع من أحب.
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه *** فكل قرين بالمقارن يقتدي