(47)
الفرع الثالث
ذكر بعض أقوال
السلف الصالح في فضل الجهاد والترغيب فيه
لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان على علم تام بفضل
الجهاد في سبيل الله وعظمته، وذلك ما حدا بهم إلى التسابق إليه والتنافس فيه.
قال الضحاك في قوله تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم) [البقرة: 216] قال:
(فنزلت آية القتال فكرهوها، فلمَّا بيَّن الله عز وجل ثواب أهل القتال وفضيلة
أهل القتال، وما أعدَّ الله لأهل القتال من الحياة والرزق لهم؛ لم يؤثر أهل
اليقين بذلك على الجهاد شيئاً، فأحبوه ورغبوا فيه حتى إنهم يستحملون النبي صلى
الله عليه وسلم، فإذا لم يجدوا ما يحملهم تولَّوا وأعينهم تفيض من الدمع
حَزَناً ألا يجدوا ما ينفقون، والجهاد من فرائض الله) [الجهاد لابن المبارك
(1/66)].
وقال سيف الله خالد بن الوليد الذي ذاق حلاوة الجهاد في سبيل الله – بعد أن ذاق
الإيمان بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً – وقضى حياته كلها
مجاهداً، وأخذ يقارن بين مُتَع الحياة ممثِّلاً لها بعروس هو لها محب، أو بغلام
بُشِّر به، والجهاد في سبيل الله، فيرى في هذا متعته وقرة عينه، قال رضي الله
عنه: (ما من ليلة يُهدَى إليّ فيها عروساً أنا لها محب، أو أُبشَّر فيها بغلام،
أحب إلي من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد في سرية أصبِّح فيها العدو) [نفس
الكتاب (1/91)].
وقال عمرو بن عتبة بن فَرقْد: (سألت الله عز وجل ثلاثاً فأعطاني اثنين، وأنا
انتظر الثالثة: سألته أن يزهِّدني في الدنيا فما أبالي ما أقبل منها وما أدبر،
وسألته أن يقوِّيني على الصلاة فرزقني منها، وسألته الشهادة فأنا أرجوها) [نفس
الكتاب (2/112)].
تأمل كيف كانوا يسألون الله التوفيق لأداء الشعائر التعبدية والجهاد في سبيل
الله ونيل الشهادة على حد سواء، وقارن بين هؤلاء وأهل الزوايا الذين لا يبالون
أرتفعت راية الحق أم راية الباطل ؟ ويكتفون بترديد بعض الهمهمات التي يزعمون
أنها ذكر لله، وطغاة الباطل يقودون البشر إلى عبادة غير الله، أهؤلاء عُبَّاد
لله فعلاً ؟!؟
انظروا هذا
الجهاد فالزموه !
عن جرير بن حازم
قال: سمعت الحسن يقول: (لما حضر الناس باب عمر وفيهم سهيل بن عمرو وأبو سفيان
بن حرب وتلك الشيوخ من قريش، فخرج آذنه، فجعل يأذن لأهل بدر، لصهيب وبلال، وأهل
بدر، وكان والله بدرياً، وكان يحبهم وكان قد أوصى بهم)، فقال أبو سفيان: " ما
رأيت كاليوم قط، إنه يؤذن لهذه العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا!! " فقال سهيل
بن عمرو – ويا له من رجل ما كان أعقله – " أيها القوم، إني والله لقد أرى الذي
في وجوهكم، فإن كنتم غضاباً فاغضبوا على أنفسكم، دعي القوم ودعيتم فأسرعوا
وأبطأتم، أما والله لمَا سبقوكم به من الفضل فيما لا ترون أشد عليكم فوتاً من
بابكم هذا الذي تنافسونهم عليه، ثم قال: أيها القوم، إن هؤلاء القوم سبقوكم بما
ترون فلا سبيل لكم – والله – إلى ما سبقوكم إليه، وانظروا هذا الجهاد فالزموه
عسى أن يرزقكم شهادة، ثم نفض ثوبه فلحق بالشام، فقال الحسن: (صدق – والله – لا
يجعل الله عبداً أسرع إليه كعبد أبطأ عنه) [الجهاد (1/85-86)].
(48)
أبت البحوث
وكان كبار
الصحابة رضي الله عنهم يغزون وقد شاخوا، فيشفق عليهم الناس، وينصحونهم بالقعود
عن الغزو، لأنهم معذورون، فيجيبونهم أن سورة التوبة تأبى عليهم القعود، ويخافون
على أنفسهم من النفاق إذا ما تخلَّفوا عن الغزو.
عن جُبَير بن نُفَير قال: (جلسنا إلى المقداد بن الأسود بدمشق وهو يحدِّثنا وهو
على تابوت ما به عنه فضل، فقال له رجل: لو قعدتم العام عن الغزو ؟ قال: أبت
البحوث – يعني سورة التوبة – قال الله تبارك وتعالى: (انفروا خفافاً وثقالاً)
[التوبة: 41] قال أبو عثمان: " بحثت المنافقين " [الجهاد (1/88)].
قال ابن قدامة: (قال الأشرم: قال أحمد: لا نعلم شيئاً من أبواب البر أفضل من
السبيل. وقال الفضيل بن زياد: سمعت أبا عبد الله – وذُكر له أمر العدو – فجعل
يبكي ويقول: ما من أعمال البر أفضل منه. وقال عنه غيره: ليس بعد لقاء العدو
شيء. ومباشرة العدو بنفسه أفضل الأعمال والذين يقاتلون العدو هم الذين يدفعون
عن الإسلام وعن حريمهم فأي عمل أفضل منه ؟ الناس آمنون وهم خائفون، قد بذلوا
مهج أنفسهم) [المغني (9/199)].
وقال السرخسي: (وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة يخرج وتارة يبعث
غيره، حتى قال: (وددت ألا تخرج سرية أو جيش إلا وأنا معهم، ولكن لا أجد ما
أحملهم ولا تطيب أنفسهم بالتخلُّف عني) [راجع صحيح مسلم (3/1497)]، (ولوددت أن
أقاتل في سبيل الله تعالى حتى أقتل ثم أُحيا ثم أقتل) [راجع صحيح مسلم أيضاً
(3/1497)] ففي هذا دليل على أن الجهاد وصفة الشهادة في الفضيلة بأعلى النهاية،
حتى تمنى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع درجة الرسالة. والآثار في فضيلة
الجهاد كثيرة وقد سمّاها الرسول صلى الله عليه وسلم سنام الدين) [المبسوط
(10/3) وراجع جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 336، الطبعة الثانية – الحلبي].
وفي حواشي تحفة المحتاج: (والأصل فيه الآيات الكثيرة والأحاديث الصحيحة
والشهيرة، وأخذ منها ابن أبي عصرون أنه أفضل الأعمال بعد الإيمان، واختاره
الأذرعي، وذكر أحاديث صحيحة مصرِّحة بذلك، أوَّلها الأكثرون بحملها على خصوص
السائل أو المخاطب أو الزمن) [حواشي تحفة المحتاج على شرح المنهاج للنووي
(9/211)].
(49)
وقال ابن تيمية
مشيراً إلى بعض فضائل الجهاد
– في سياق دعوته الناس إلى قتال التتار -: (ولهذا كان الجهاد موجباً للهداية
التي هي محيطة بأبواب العلم، كما دل عليه قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا
لنهديَّنهم سبلنا) [ العنكبوت: 69] فجعل لمن جاهد فيه هداية جميع سبله تعالى،
ولهذا قال الإمامان عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما: إذا اختلف
الناس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر، فإن الحق معهم، لأن الله يقول:
(والذين جاهدوا فينا لنهديَّنهم سبلنا) [ العنكبوت: 69].
وفي الجهاد أيضاً حقيقة الزهد في الحياة الدنيا وفي الدار الدنيا، وفيه أيضاً
حقيقة الإخلاص، فإن الكلام فيمن جاهد في سبيل الله، لا في سبيل الرياسة ولا في
سبيل المال، ولا في سبيل الحميِّة، وهذا لا يكون إلا لمن قاتل ليكون الدين كله
لله ولتكون كلمة الله هي العليا.
وأعظم مراتب الإخلاص تسليم النفس والمال للمعبود كما قال تعالى: ( إن الله
اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله
فيَقتُلون ويُقتَلون) [التوبة: 111]. والجنة اسم للدار التي حوت كل نعيم أعلاه
النظر إلى الله، إلى ما دون ذلك ممَّا تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مما قد تعرفه
وقد لا تعرفه، كما قال تعالى: فيما رواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: (أعددت
لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) [مجموع
الفتاوى (28/42) والحديث في مسلم (4/2174)].
(50)
فما هي إلا ساعة ثم
تنقضي !
هذا، ولو أراد
الباحث تتبُّع نصوص فضل الجهاد من الكتاب والسنة والواقع التاريخي لكان ذلك
جديراً بمؤلف خاص، ولكنه أراد في ختام هذا المبحث أن يحدو بالمسلمين إلى هذا
الفضل العظيم والتسابق فيه، فأحس بالعجز عن أن يؤثِّر حُداؤه، لأن الحادي الذي
يؤثر حداؤه لا بدّ أن يكون من أهل المعنى الذي يحدو بالناس إليه، والباحث ليس
كذلك، ويأبى الله أن يكون هذا من باب التواضع، ولكنه الواقع وما للواقع من
دافع، لذلك عاد الباحث إلى أحد أئمة الجهاد فوجد بغيته عنده مما حدا به في زاد
المعاد.
قال ابن القيم رحمه الله: (وأخبر سبحانه أنه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم
بأن لهم الجنة، وأعاضهم عليها الجنة، وأن هذا العقد والوعد قد أودعه أفضل كتبه
المنزلة من السماء، وهي: التوراة، والإنجيل، والقرآن. ثم أكّد ذلك بإعلامهم أنْ
لا أحد أوفى بعهده منه تبارك وتعالى، ثم أكّد ذلك بأن أمرهم بأن يستبشروا
ببيعهم الذي عاقدوه عليه، ثم أعلمهم أن ذلك هو الفوز العظيم. فليتأمل العاقد مع
ربه عقد هذا التبايع ما أعظمه وأجله، فإن الله عز وجل هو المشتري، والثمن جنّات
النعيم والفوز برضاه والتمتع برؤيته هناك)..
والذي جرى على يده هذا العقد أشرف رسله وأكرمهم عليه من الملائكة والبشر، وأن
سلعة هذا شأنها لقد هيئت لأمر عظيم وخطر جسيم:
قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَل
مهر المحبة والجنة بذل النفس والمال لمالكهما الذي اشتراهما من المؤمنين، فما
للجبان المعرض المفلس وسَوْم هذه السلعة. بالله ما هزلت فيستامها المفلسون، ولا
كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون، لقد أقيمت للعرض في سوق من يزيد، فلم يَرْض
ربها لها بثمن دون بذل النفس فتأخر البطَّالون، وقام المحبون ينتظرون أيهم يصلح
أن يكون نفسه الثمن، فدارت السلعة بينهم ووقعت في يد (أذلة على المؤمنين أعزة
على الكافرين) [المائدة: 54].
لما كثر المدّعون للمحبة طولبوا بإقامة البيّنة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس
بدعواهم لادّعى الخلي حرفة الشجي، فتنوّع المدّعون في الشهود، فقيل لا تثبت هذه
الدعوى إلا بينة: (قا إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) [آل عمران:
31]، فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الرسول في أفعاله وأقواله وهديه وأخلاقه،
فطولبوا بعدالة البيّنة، وقيل لا نقبل العدالة إلا بتزكية (يجاهدون في سبيل
الله ولا يخافون لومة لائم) [المائدة: 54] فتأخر أكثر المدعين للمحبة وقام
المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبِّين وأموالهم ليست لهم فسلموا ما وقع عليه
العقد (فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) [التوبة
111] وعقد التبايع يوجب التسليم من الجانبين، فلما رأى التجار عظمة المشتري،
وقدر الثمن، وجلالة قدر من جرى عقد التبايع على يديه، ومقدار الكتاب الذي أثبت
فيه هذا العقد، وعرفوا أن للسلعة قدراً وشأناً ليس لغيرها من السلع، فرأوا من
الخسران البيِّن والغبن الفاحش أن يبيعوها بثمن بخس دراهم معدودة تذهب لذاتها
وشهواتها، وتبقي تبعتها وحسرتها، فإن الفاعل ذلك معدود في جملة السفهاء؛ فعقدوا
مع المشتري بيعة الرضوان رضاء واختياراً من غير ثبوت خيار، وقالوا: والله لا
نقيلك ولا نستقيلك.
فلما تمّ العقد وسلّموا المبيع قيل لهم: قد صارت أنفسكم وأموالكم لنا، والآن
فقد رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعاف أموالكم معها: (ولا تحسبن الذين قتلوا
في سبيل الله أمواتاً، بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون) [آل عمران: 169] لم نبتع
منكم بنفوسكم وأموالكم طلباً للربح عليكم، بل ليظهر أثر الجود والكرم في قبول
المعيب والإعطاء عليه أجلُّ الأثمان، ثم جمعنا لكم بين الثمن والمثمن.
تأمل هنا قصة جابر، وقد اشترى منه صلى الله عليه وسلم بعيره ثم وفّاه الثمن
وزاده ورد عليه البعير، وكان أبوه قد قتل مع النبي صلى الله عليه وسلم في وقعة
أحد، فذكَّره بهذا الفعل حال أبيه مع الله، وأخبره أن الله أحياه وكلّمه
كفاحاً. وقال: يا عبدي تمنَّ علي.فسبحان من عظم جوده وكرمه أن يحيط به علم
الخلائق، فقد أعطى السلعة وأعطى الثمن، ووفَّق لتكميل العقد، وقبل المبيع على
عيبه، وأعاض عليه أجلَّ الأثمان، واشترى عبده من نفسه بماله، وجمع له بين الثمن
والمُثَمَّن، وأثنى عليه ومدحه بهذا العقد، وهو الذي وفقه الله له وشاءه منه:
فحيهلا إن كنت ذا همة فقد ========= حدابك حادي الشوق فاطو المراحلا
وقل لمنادي حبهم ورضاهمُ ============== إذا ما دعا لبيك ألفا كواملا
ولا تنظرِالأطلال من دونهم فإن ========== نظرتَ إلى الأطلال عُدْنَ حوائلا
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد ============ ودَعه فإن الشوق يكفيك حاملاً
وخُذ منهمُ زادا إليهم وسِرْ على ========== طريق الهدى والحب تصبح واصلاً
وأحيِ بذكراهم شراك إذا دانت =========== ركابك فالذكرى تعيدك عاملاً
وإما تخافنَّ الكلال فقل لها ============= أمامك وِرْدُ الوَصل فابغي المناهلا
وخُذْ قبساً من نورهم ثم سِرْ به ============ فنورهم يهديك ليس المشاعلا
وحيِّ على وادي العراك فقِلْ به =========== عساك تراهم ثَمَّ إن كنت قائلا
وإلا ففي نعمانَ عندي معرف الـ ========= ـأحبة فاطلبهم إذا كنت سائلا
وإلا ففي جمع بليلته فإن ============== تفُتْ فمني يا ويح من كان غافلا
وحيِّ على جنات عَدْن فإنها ============== منازلك الأولى بها كنت نازلاً
ولكن سباك الكاشحون لأجل ذا ========= وقفتَ على الأطلال تبكي المنازلا
وحيّ على يوم المزيد بجنة الـ ========= ـخلود فجد بالنفس إن كنت باذلاً
فدَعْها رسوماً دارساتٍ فما بها ============= مقيل وجاوزها فليست منازلا
رسوماً غَفَت ينتابها الخَلْق كم بها =========== قتيل وكم فيها لذا الخلق
قاتلا
وخُذْ يمنة عنها على المنهج الذي ============= عليه سرى وفد الأحبة آهلا
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة =========== فعند اللقاء الكد يصبح زائلا
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ============ ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا
لقد حرك الداعي إلى الله وإلى دار السلام النفوس الأبية والهمم العالية، وأسمع
منادي الإيمان من كانت له أذن واعية، وأسمع الله من كان حيا، فهزه السماع إلى
منازل الأبرار، وحدا به في طريق سيره، فما حطت به رحاله إلاّ بدار القرار،
فقال: (انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن
أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة، أو أدخله الجنة، ولولا أن أشقّ على أمتي ما
قعدت خَلْف سرية، ولوددت أني أُقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا)
انتهى كلام ابن القيم من [زاد المعاد في هدي خير العباد (2/66-67)].
وساق رحمه الله بعض الأدلة على فضل الجهاد في سبيل الله.