( 51
)
===== الفرع الأول
المرحلة المكية =====
مرت بالبشرية
فترة انقطع فيها الوحي، وطُمست معالم الرسالة، وانتشرت راية الشرك والظلم
والطغيان، فاختلَّت الموازين والقيم، وبدا الحق في صورة الباطل، والباطل في
صورة الحق.
وأصبح القوي هو الآمر الناهي، والضعيف المنفِّذ المطيع، وكثرت المصائب والفتن
والحروب، وغدت الأرض – على سَعَتها – كسجن ضاق بأهله.
وكانت البشرية في غاية الضرورة لهداية إلهية تنقذها ممّا حل بها من بؤس وشقاء،
فقد حُرِّفت الكتب السماوية السابقة وكتم أهلها الحق الذي بقي عندهم، وألبسوه
بالباطل، فاستحقوا لعنة الله وغضبه.
وكان العرب في الجزيرة العربية أشد أهل الأرض جهلاً وأعظمهم فرقة وتناحراً، كما
كانوا معرَّضين لغزو الفرس والروم والأحباش.
وكان اليهود في يثرب ( المدينة المنورة ) يؤججون نار الحقد بين الأوس والخزرج
الذين لم يلقوا السلاح عن عواتقهم طول حياتهم، كما كانوا – أي اليهود – يهدّدون
الأوس والخزرج بأن نبياً منهم – أي من اليهود – سيبعث قريباً وسيقضون به عليهم.
وفي هذه الفترة ولد محمد صلى الله عليه وسلم، ومات أبوه، وهو في ببطن أمه، ثم
توفيت أمه آمنة قبل أن يبلغ سبع سنين، وكفله جده عبد المطلب الذي توفي وعمر
محمد صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، ثم انتقلت كفالته صلى الله عليه وسلم إلى
عمه أبي طالب الذي طالت به الحياة إلى أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم على رأس
أربعين سنة من عمره، فكان يحميه ويدافع عنه أذى قريش، ولكنه لم يدخل في
الإسلام، بل مات على الشرك، ولله حكمة في ذلك وفي غيره.
حُبِّب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة الخَلاَء، فكان يخلوا بغار
حراء يتعبد فيه، ثم جاءه جبريل بسورة اقرأ فنبَّأه الله بها، ثم يعد ذلك أنزل
الله عليه سورة المدَّثِّر: ( يا أيها المدَّثِّر، قم فأنذِر، وربَّك فكبِّر،
وثيابَك فطهِّر، والرُّجْزَ فاهجر، ولا تَمْنُنْ تستكثرْ، ولربِّك فاصبر ) [
المدثر: 1-7 ] أمره الله بالتبليغ فقام صلى الله عليه وسلم بما أمره به ربه
سبحانه.
====== الدعوة
سرا =========
وكان صلى اله
عليه وسلم في أول الأمر يدعو إلى ربه سراً مَنْ يظن أنه يستجيب له، فاستجاب له
أبو بكر رضي الله عنه، وأخذ يؤازره في الدعوة إلى الله، واستجاب لدعوة أبي بكر
عثمان بن عفان، وطلحة بن عبد الله، وسعد بن أبي وقاص.
وكانت خديجة رضي الله عنها من السابقين إلى الإسلام، كما بادر إلى الإسلام على
بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان ابن ثمان سنوات، وزيد بن حارثة.
ودخل الناس واحداً واحداً في الإسلام وقريش لا تنكر ذلك [ راجع زاد المعاد
(2/47) ].
====== الجهر
بالدعوة ========
ثم أمر الله
نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجهر بالدعوة: ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين،
إنا كفيناك المستهزئين ) [ الحجر: 94-95 ]، وأن يبدأ بعشيرته الأقربين: ( وأنذر
عشيرتك الأقربين، واخفض جناحك لمن اتَّبعك من المؤمنين ) [ الشعراء: 214-215 ]
( وقل إني أنا النذير المبين ) [ الحجر: 89 ].
أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث سنين من أول نبوته مستخفياً، ثم
أعلن في الرابعة، فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين يوافي الموسم كل عام، يتبع
الحاج في منازلهم وفي المواسم بعكاظ ومجنة وذي المجاز، يدعوهم إلى أن يمنعوه
حتى يبلغ رسالة ربه، ولهم الجنة، فلم يجد أحداً ينصره ولا يجيبه حتى إنه ليسأل
عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة ويقول: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله
تفلحوا، وتملكوا بها العرب وتدين لكم بها العجم، فإذا آمنتم كنتم ملوكاً في
الجنة، وأبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه فإنه صابئ كذاب، فيردون على رسول الله
صلى الله عليه وسلم أقبح الرد، ويؤذونه ويقولون أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم
يتبعوك، وهو يدعوهم إلى الله ويقول: اللهم لو شئت لم يكونوا هكذا ) [ زاد
المعاد (2/55) ].
ولقد كان الله تعالى يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالدعوة الحكيمة والموعظة
اللطيفة والمجادلة بالتي هي أحسن، ويأمره بالصبر، وينهاه عن الأسف والحزن على
أولئك القوم الذين يريد لهم السعادة الأبدية، وهم يأبون إلا الشقاء والخسارة،
ويطمئنه بأنه معه ومن كان الله معه فالعاقبة له: ( ادْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة
والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضلَّ عن سبيله وهو
أعلم بالمهتدين، وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير
للصابرين، واصبر وما صبرك إلا بالله، ولا تحزن عليهم، ولا تَكُ في ضَيْق ممَّا
يمكرون، إن الله مع الذين اتَّقوا والذين هم محسنون ) [ النحل: 125-128 ].
وأمره تعالى أن يبلِّغ الناس أنه جاءهم بالحق لهدايتهم، وأن من استجاب له فقد
اهتدى وفائدة اهتدائه عائد إليه، ومن أبى فقد سلك سبل الضلال وعاقبة ضلاله
عليه، وأنه – أي الرسول صلى الله عليه وسلم – ليس وكيلاً عليهم فلا يملك أن
يهدي الضال إذا لم يهده الله، ثم أمره الله أن يتَّبع وحي الله في ذات نفسه،
ويصبر على أذى قومه حتى يحكم الله: ( قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم،
فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضلَّ فإنما يضلُّ عليها وما أنا عليكم بوكيل،
واتَّبع ما يُوحَى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين ) [ يونس:
108-109 ].
وأمره الله بالتذكير وحصر مهمته في ذلك، وأخبره بأنه ليس مسيطراً على القوم، أي
ليست هدايتهم بيده، وأن حسابهم على الله تعالى: ( فذكِّر إنما أنت مذكِّر، لست
عليهم بمسيطر إلا من تولَّى وكفر، فيعذبه الله العذاب الأكبر، إن إلينا إيابهم
ثم إن علينا حسابهم ) [ الغاشية: 21-26 ].
( 52
)
==== استمرار الدعوة
وعناد المدعوين وتسلية الله لنبيه ====
ومضي رسول الله
صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الله، ومضي المشركون في رد دعوته والاستهزاء
به والسخرية منه، فأخذ ربه يسليه بأنه في موكب إخوانه الأنبياء والرسل الذين
استهزئ بهم قبله، ثم دارت الدائرة على المستهزئين، فليصبر فإن الدرب واحد
والعاقبة له: ( ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به
يستهزؤن ) [ الأنعام: 10 ] ( ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم
ما كانوا به يستهزؤن ) [ الأنبياء: 41 ] ( وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك
وإلى الله ترجه الأمور ) [ فاطر: 4 ]، ( يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول
إلا كانوا به يستهزؤن ) [ يس: 30 ].
واشتد حزن الرسول صلى الله عليه وسلم من تكذيب المشركين، وهو يعلم أنه صادق،
وكانوا هم أنفسهم يسمُّونه الأمين، وقالوا له قبل أن يبادئهم بالدعوة ويجاهرهم
بضلال معتقدهم: ( ما جربنا عليك كذباً ) فيسلِّيه ربه بأن القوم يجحدون الحق
وينكرون آيات الله الواضحة وليس ذلك تكذيباً لك، وإذا كذَّبوك فلست أول من
كذَّبه قومه من الرسل، بل سبقك إخوانك في نفس الطريق فكذَّبهم قومهم وصبروا حتى
نصرهم الله، وعليك أن تقتدي بهم فتصبر كما صبروا، وإذا لم تصبر فماذا تستطيع أن
تفعل لتأتيهم بما يطلبون من الآيات وما الآيات بجالبة لهم الهدى وإنما الله هو
الهادي.
ويخبره أن القوم ليسوا بأحياء حتى يستجيبوا لدعوتك وإنما هم موتى – أموات
القلوب – والموتى مرجعهم إلى الله فيجازيهم.
( قد نعلم إنه ليُحزنك الذي يقولون، فإنهم لا يكذِّبوك ولكن الظالمين بآيات
الله يجحدون، ولقد كذبت رسلٌ مِنْ قبلك فصبروا على ما كُذِّبوا وأوذوا حتى
أتاهم نصرنا، ولا مبدل لكلمات الله، ولقد جاءك من نبأ المرسلين. وإن كان كَبُر
عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم
بآية، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكوننَّ من الجاهلين، إنما يستجيب
الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون ) [ الأنعام: 33-36 ].
ويُطمِع المشركون الرسولَ صلى الله عليه وسلم في إيمانهم بشرط أن يأتيهم بآية
كونية، كما جاء الأنبياء قبله بآيات كونية، ويظهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم
لشدة حرصه على إيمانهم كان يتمنَّى لو أنزل الله آياتٍ كما طلبوا، فيخبره ربه
أن الآيات لا تنفع هؤلاء، وأن الهدى بيد الله، ويقطع طمعه في إيمانهم إلا إذا
شاء الله، وأنه ما من نبي إلا ووقف له أعداء من الإنس والجن يُملي بعضهم عل بعض
زخرف القول غروراً ويأمرهم بتركهم وما يفترون
( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنُنَّ بها، قل إنما الآيات عند
الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم
يؤمنوا به أول مرة، ونذرهم في طغيانهم يعمهون، ولو أننا نزَّلنا إليهم الملائكة
وكلّمهم الموتى وحَشرنا عليهم من كل شيء قُبُلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء
الله ولكن أكثرهم يجهلون، وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي
بعضهم إلى بعضهم زخرف القول غروراً، ولو شاء ربك ما فعلوه فذَرْهم وما يفترون )
[ الأنعام: 109-112 ].
ويستمر في الدعوة إلى الله مقيماً على ذلك الحجج الدامغة، لكنهم يصرُّون على
كفرهم وعنادهم لا ينتفعون بسمعهم ولا أبصارهم ولا عقولهم، ويأمره الله بأخذ
العفو وأن يأمر بالمعروف ويعرض عن الجاهلين:
( إن الذين تدعون من دون الله عبادٌ أمثالكم، فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم
صادقين، ألَهُم أرجلٌ يمشون بها، أم لهم أيْدٍ يبطشون بها، أم لهم أعين يبصرون
بها، أم لهم آذانٌ يسمعون بها، قل ادعوا شركاءكم ثم كيدونِ فلا تُنْظرون، إن
وليِّي الله الذي نزَّل الكتاب وهو يتولى الصالحين، والذين تدعون من دونه لا
يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون، خُذِ العفو وأمُرْ بالعُرْف وأعرض عن
الجاهلين ) [ الأعراف: 194-199 ].
ويتعنَّت عليه المشركون طالبين منه أن يأتيهم بغير هذا القرآن أو أن يغيِّره،
فيجيبهم بلطف أن هذا القرآن من عند الله، وأنه لا يقدر على تغييره، وأنه إنما
يتبع وحي الله ويخاف على نفسه إن عصاه، وأنه لولا أن شاء الله أن يتلوه عليهم
ما تلاه، ثم يذكرهم بأنه مضى عليه بينهم وقت طويل من عمره ولم يأتيهم بشيء من
عند نفسه حتى أمره الله بأن يبلِّغ وحيه: ( وإذا تُتلى عليهم آياتنا بينات قال
الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدِّله، قل ما يكون لي أن أبدِّلَه
من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يُوحى إلي، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم،
قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به، فقد لبثت فيكمم عُمُراً من قبله
أفلا تعقلون ) [ يونس: 15-16 ].
ويتهمونه بأنه افترى هذا القرآن فيلزمهم الحجة، إنه بلغتكم وأنتم أفصح العرب،
وإذا كنت افتريته فإنكم تقدرون أن تفتروا كما افتريت فائتوا بسورة مثله، ثم بين
أنه كذبوا بما لم يحيطوا به علماً شأن الجهال الذين يعارضون العلم الحق ( أم
يقولون افتراه، قل فأتوا بسورة مثله، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم
صادقين، بل كذَّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتيهم تأويله، كذلك كذَّب الذين
من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ) [ يونس: 38-39 ].
ويقص الله عليه نبأ نوح وقومه، ثم يعقِّب على ذلك مسلياً له صلى الله عليه وسلم
بقوله: ( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك، ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل
هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين ) [ هود: 49 ].
وهكذا يكرر الله تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم بإخوانه المرسلين قبله الذين
نالهم الأذى كما ناله، ولكن العاقبة لهم والدمار على أعدائهم: ( ولقد استهزئ
برسل من قبلك، فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب ) [ الرعد: 32 ].
وينفي الكافرون أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم مرسلاً نفياً قاطعاً، ويأمره
الله أن يخبرهم بأن الله هو الشهيد بينه وبينهم وشهادته كافية، وكذلك شهادة أهل
الكتاب من الذين صدقوه، أو كذبوه مع علمهم بأنه رسول من عند الله، وقد كانوا
يقرون بذلك فيما بينهم: ( ويقول الذين كفروا لست مرسلاً، قل كفى بالله شهيداً
بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) [ الرعد: 43 ].
ويتهمونه صلى الله عليه وسلم بالجنون، ويتهكمون به فيطلبون منه أن يأتي معه
بالملائكة تشهد له على صدق دعوته، ويجيبهم الله أن الملائكة لا تنزل إلا بالحق
لا للاستجابة للأهواء، وأنه تعالى قد تكفَّل بحفظ هذا الكتاب، ويسلِّي رسوله
بأنه ما جاء رسول إلى قومه إلا استهزءوا به: ( وقالوا يا أيها الذي نُزِّل عليه
الذكر إنك لمجنون لو ما يأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ما ننزل الملائكة
إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون، ولقد
أرسلنا من قبلك في شِيَع الأولين، وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤن ) [
الحجر: 6-11 ].
ويأمره بأن يبلِّغ المشركين ما أمره به جَهْراً وأنه كافيه إياهم، ويأمره بأن
يتزوَّد في طريق دعوته الشاق الذي يضيق فيه صدره من مواقف قومه بعبادة ربه: (
فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين، إنا كفيناك المستهزئين، الذين يجعلون مع
الله إلهاً آخر فسوف يعلمون، ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون، فسبِّح بحمد
ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) [ الحجر: 94-99 ].
ويدعوا الرسول صلى الله عليه وسلم ربه شاكياً قومه الذين هجروا هذا القرآن الذي
لم ينزل للهجر وإنما نزل للعمل به والطاعة لله، فيسلِّيه ربه أنه قد قوبل مَنْ
قبلك من الأنبياء بما قوبلت به، فدع الأمر لله: ( وقال الرسول يا رب إنَّ قومي
اتخذوا هذا القرآن مهجوراً، وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك
هادياً ونصيراً ) [ الفرقان: 30-31 ].
وعليه صلى الله عليه وسلم أن يبلِّغ المشركين بأن مهمته فقط أن يعبد الله وأن
يتلوا عليهم كتابه، فمن اهتدى بهذا الكتاب فهدايته لنفسه، ومن ضلَّ فما على
الرسول إلا إنذاره، وإذ قد أقام الحجة فهو يحمد ربه الذين سيكشف للناس صدق ما
جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وسيجازيهم على موقفهم منه:
( إنما أمرت أن أعبد ريّ هذه البلدة الذي حرَّمها وله كل شيء، وأمرت أن أكون من
المسلمين، وأن أتلو القرآن، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلَّ فقل إنما أنا
من المنذرين، وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عمّا تعملون
) [ النمل: 91-93 ].
وتتطلع نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرى عمه أبا طالب الذي ربَّاه في
صغره وأحاطه بحنانه، وحماه من قريش بعد البعثة ووقف بجانبه فلم يقدروا أن
ينالوه بكيدهم الذي كانوا يودُّون تنفيذه، تتطلع نفس رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى أن يرى عمه أبا طالب مؤمناً برسالته لينال رضا الله وجنته، ولكن الله
قد كتب عليه أن يموت على ملِّة قومه فيقول لنبيه:
( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء، وهو أعلم بالمهتدين ) [ القصص:
56 ].
( 53
)
ويقيم الله الحجج
لنبيه على قومه المكذبين ولكنهم لا يلقون للحجج بالاً مثلهم مثل الموتى أو الصم
المدبرين: (فإنك لا تسمع الموتى، ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولو مدبرين) [الروم:
52] فيسلِّي الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه قد أقام الحجة، وما عليه إلا
أن يصبر حتى يأتي وعد الله: ( ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مَثَل،
ولئن جئتهم بآيةٍ ليقولَنَّ الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون، كذلك يطبعُ الله
على قلوب الذين لا يعلمون، فاصبرْ إنّ وعد الله حقٌ ولا يستخفنَّك الذين لا
يوقنون) [الروم: 58-60].
وفي هذه الفترة التي كانت كلها دعوة إلى التوحيد الخالص من جانب الرسول صلى
الله عليه وسلم كان الكافرون يراودونه من جانبهم على ترك هذه الدعوة والدخول في
دينهم الباطل، ولكن الله يأمره بالمفاصلة التامة مهما كلَّفه ذلك من المشاق
وكلَّف أصحابه معه: (قل أفغير الله تأمرونِّي أعبدُ أيها الجاهلون، ولقد أوحي
إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطنَّ عملك ولتكونَنَّ من الخاسرين، بل
الله فاعبد وكُنْ من الشاكرين) [الزمر: 64-66] (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما
تعبدون) [الكافرون: 2].
ويبشِّر الله رسوله والمؤمنين الذين أعلنوا ألوهية الله وحده ودعوا الناس إلى
ذلك؛ يبشرهم بأن الملأ الأعلى ينزل عليهم يطمئنهم ويبشرهم بالجنة التي فيها ما
لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأنهم أحسن مَنْ على وجه الأرض
لدعوتهم إلى الله وعملهم الصالحات، ويأمرهم أن يدفعوا بالتي هي أحسن لأنها
كفيلة بكسب قلوب الناس، ثم بيّن الله لهم أن تلك الخصلة لا يؤتيها الله إلا
الصابرين ذوي النصيب الوافر العظيم: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا
تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون،
نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم
فيها ما تدَّعون، نزلاً من غفور رحيم. ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل
صالحاً وقال إنني من المسلمين، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفَعْ بالتي هي
أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌّ حميم، وما يُلَقَّاها إلا الذين
صبروا وما يُلَقاها إلا ذو حظ عظيم) [فصِّلت: 30-35].
ويأمره بالصفح عنهم ومتاركتهم وتهديدهم بما ينتظرهم من عقاب الله: (وقِيلِهِ يا
رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون، فاصفحْ عنهم وقُلْ سَلامٌ فسوف يعلمون) [الزخرف:
88-89].
وبعد أن يقيم الله على المشركين الحجج ويدحض شبهاتهم يقول الله لنبيه: (فاصبر
على ما يقولون وسبِّح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، ومن الليل فسبِّحه
وأدبار السجود) [ق:39-40].
ويقول: (نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبّار، فذكِّر بالقرآن من يخاف
وعيد) [ق: 45].
وتنزل سورة البروج مسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأن المؤمنين قبلهم
قد أوذوا وأحرقوا بالنار بسبب إيمانهم، ويهدد الكفار، الذين فتنوا المؤمنين
والمؤمنات بالعذاب، ويبشِّر المؤمنين بالفوز وأن بطش الله شديد، وقد حلّ بمن
قبل أولئك الكفار الذين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(والسماء ذات البروج، واليوم الموعود، وشاهد ومشهود، قتل أصحاب الأخدود، النارِ
ذات الوقود، إذ هم عليها قُعُود، وهو على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وما نقموا
منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، الذي له ملك السماوات والأرض والله
على كل شيء شهيد، إنّ الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب
جهنم ولهم عذاب الحريق، إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من
تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير، إنّ بطش ربك لشديد، إنه هو يبدئُ ويعيد، وهو
الغفور الودود، ذو العرش المجيد، فعَّال لما يريد، هل أتاك حديث الجنود، فرعون
وثمود، بل الذين كفروا في تكذيب، والله من ورائهم محيط، بل قو قرآنٌ مجيد، في
لوحٍ محفوظ) [سورة البروج].
( 54
)
ويظهر لمن تتبع نصوص
الكتاب – التي مضى طرف منها – والسنة، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ
المرحلة المكيّة كانت مرحلة دعوة إلى التوحيد الخالص، ونبذ عبادة الأصنام
ونَفْي الشرك أياً كان نوعه، ومرحلة صبر على الأذى والمحنة، وعدم رد الاعتداء
الذي كان يقع من المشركين على المسلمين، وفي طليعتهم الرسول صلى الله عليه
وسلم.
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (بينا النبي صلى الله
عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش جاء عقبة بن أبي معيط بسَلَى جزور فقذفه على
ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة عليها السلام فأخذته
من ظهره ودعت على من صنع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم عليك الملأ من
قريش: أبا جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشَيْبة بن ربيعة، وأمية بن خلف …
فرأيتهم قَتلوا يوم بدر، فأُلقوا في بئر غير أمية بن خَلَف … تقطعت أوصاله فلم
يُلْقَ في البئر …) [الحديث رقم 3852، فتح الباري (7/164)]. وهو في صحيح مسلم
أيضا.
وفي صحيح البخاري أيضاً يقول خباب: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد
بُرْدة في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله ألا تدعوا
الله لنا، فقعد وهو محمر وجهه فقال: لقد كان من قبلكم ليُمشط بمشاط الحديد، ما
دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ولَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر
حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئاب على غنمه)
[الحديث رقم 3752، فتح الباري (7/164)].
وكان صلى الله عليه وسلم –لشدة ما يلقى أصحابه من أذى المشركين- يأمر من أسلم
أن يكتم إسلامه خشية عليه، وكتم المسلم السر الذي قد يفتح عليه باب الأذى
مطلوب، وكتم السر الذي قد يفتح لأعداء الإسلام الباب للإضرار بالدعوة فرض.
عن ابن عباس قال: (ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ قال: قلنا: بلى، قال: قال أبو ذر:
كنت رجلاً من غفار، فبلغنا أن رجلاً قد خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لأخي: انطلق
إلى هذا الرجل، كلِّمه وائتني بخبره، فانطلق فلقيه ثم رجع فقال ما عندك؟ فقال:
والله لقد رأيت رجلاً يأمر بالخير وينهى عن الشرك، فقلت له: لم تشفني من الخبر،
فأخذت جراباً وعصا، ثم أقبلت إلى مكة فجعلت لا أعرفه وأكره أن أسأل عنه، وأشرب
من ماء زمزم وأكون في المسجد، قال فمرّ بي علي، فقال: كأن الرجل غريب؟ قال: قلت
نعم، قال: فانطلق إلى المنزل، قال: فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره،
فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه وليس أحد يخبرني عنه بشيء، قال: فمرّ بي
علي فقال: ما أنى للرجل يعرف منزله؟ قال: قلت: لا، قال: انطلق معي، قال: فقال
ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلدة، قال: قلت له إن كتمت عليَّ أخبرتك، قال: فإني
أفعل، قال: قلت له: بلغنا أنه قد خرج ههنا رجل يزعم أنه نبي فأرسلت أخي ليكلمه
فرجع ولم يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه فقال له: أما إنك قد رَشَدت، هذا وجهي
إليه فاتبعني، ادخُلُ حيث أدخُلُ فإن رأيت أحداً أخافه عليك قمت إلى الحائط
كأني أصلح نعلي، وامض أنت، فمضى ومضيت معه حتى دخل ودخلت معه على النبي صلى
الله عليه وسلم، فقلت له: اعرض علي الإسلام فعرضه فأسلمت مكاني، فقال لي: يا
أبا ذر اكتم هذا الأمر وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا قأقبل، فقلت: والذي
بعثك بالحق لأصرخنّ بها بين أظهرهم، فجاء إلى المسجد وقريش فيه، فقال: يا معشر
قريش، إني أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فقالوا: قوموا
إلى هذا الصابئ، فقاموا فضربت لأموت، فأدركني العباس فأكبَّ عليَّ، ثم أقبل
عليهم فقال: ويلكم تقتلون رجلاً من غفار ومتجركم وممرّكم على غفار، فأقلعوا
عني، فلما أصبحت الغد رجعت فقلت مثل ما قلت بالأمس، فقالوا: قوموا إلى هذا
الصابئ، فصُنع بي مثل ما صنع بي بالأمس، وأدركني العباس فأكبّ علي وقال مثل
مقالته بالأمس، قال: فكان هذا أول إسلام أبي ذر رحمه الله) [البخاري رقم الحديث
3522، فتح الباري (6/549)، ومسلم (4/1923)].
وهذا الحديث
يصوِّر لنا خوف المسلمين من أذى قريش من وجوه:
الوجه الأول:
مكوث أبي ذر مدة مستخفياً يخاف أن يبوح بما عنده.
الوجه الثاني: تصريحه بذلك عندما قال لعلي إن كتمت علي أخبرتك.
الوجه الثالث: كون على رضي الله عنه يرشد أبا ذر كيف يصنع إذا رآهما أحد، وكيف
يعمل عليٌّ نفسه حتى يعمي على من يراهما.
الوجه الرابع: أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أبا ذر بعد أن أسلم أن يكتم هذا
الأمر وما ذلك إلا خشية عليه.
الوجه الخامس: ما وقع فعلاً من أذى على أبي ذر في اليومين عندما أعلن إسلامه.
ويؤخذ من دعوة النبي – في أول الأمر – سراً، وفي نصيحته لأبي ذر أن يكتم
إيمانه، ومن سيرته في الحروب، أنه يجب على الداعية المسلم والمجاهد في سبيل
الله أن يحيط الأمور المهمة التي لو اطَّلع عليها أعداء الإسلام لألحقوا ضرراً
بالإسلام والمسلمين؛ أن يحيطها بالكتمان، حتى لا يتيح الفرصة للكفرة والمجرمين
الذين لا يألون جهداً في الصدّ عن سبيل الله ومحاولة إطفاء نوره.
والذي يظهر من صنيع أبي ذر في إعلان إسلامه بعد أن أمره الرسول صلى الله عليه
وسلم بالكتمان أن إسلامه لم يكن في وقت السر بالدعوة لأمور:
الأول: أن أمر الدعوة قد انتشر بدليل أن أبا ذر بعث أخاه ليسأل عن النبي صلى
الله عليه وسلم ويأتيه بخبره على أثر ما بلغهم عنه.
الأمر الثاني: أنه لو كان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لمصلحة الدعوة لما
أصرّ أبو ذر على إظهار إسلامه، وقد أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بكتمانه،
لذلك يظهر أن أمره بكتمان إسلامه كان لمصلحة أبي ذر نفسه وللخوف عليه من أذى
قريش، ففضّل أن يعلن إسلامه مضحياً بنفسه، والذي عنده مقدرة على تحمّل الأذى له
أن يصدع بكلمة الحق.
قال الحافظ ابن حجر: (قوله: لأصرخنّ بها، أي بكلمة التوحيد.
والمراد أنه يرفع صوته جهاراً بين المشركين، وكأنه فهم أن أمر النبي صلى الله
عليه وسلم له بالكتمان ليس على الإيجاب، بل على سبيل الشفقة عليه، فأعلمه أن به
قوة على ذلك، ولهذا أقرّه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ويؤخذ منه جواز
قول الحق عند من يخشى منه الأذية لمن قاله، وإن كان السكوت جائزاً، والتحقيق أن
ذلك مختلف باختلاف الأحوال والمقاصد) [الفتح (7/175)].
الأمر الثالث: نبّه عليه ابن حجر أيضاً:- (وفي الحديث دلالة على تقدم إسلام أبي
ذر، لكن الظاهر أن ذلك كان بعد المبعث بمدة طويلة لما فيه من الحكاية عن علي
كما قدمناه) والذي قُدّمه هو: (وهذا يدل أن قصة أبي ذر وقعت بعد المبعث بأكثر
من سنتين بحيث يتهيأ لعلي أن يستقل بمخاطبة الغريب ويضيفه، فإن الأصح في سن علي
حين المبعث كان عشر سنين، وقيل أقل من ذلك وهذا الخبر يقوي القول الصحيح) ا هـ
[الفتح (7/174،176)].
يفهم من تنبيه ابن حجر أن إسلام أبي ذر لم يكن في فترة الدعوة سرا، لأنه لو كان
جهره بذلك في وقت السرية لكان كشف لقريش خطَّة لا يجوز كشفها، والمعروف أن
الفترة السرية لم يكن انتشر فيها خبر الدعوة، وإنما انتشر بعد أن أمره الله
بالصّدع بها كما مضى، وذلك بعد أن انتهت ثلاث سنين من البعثة العالمية الخاتمة.
(55)
هجرة الرسول صلى
الله عليه وسلم وأصحابه بعد اشتداد الفتنة
ويشتد العذاب
والاعتداء عليه وعلى أصحابه فيأتيهم بعضهم شاكياً فيأمرهم بالصبر، وينزل القرآن
منكراً على من يظن أنه يكفيه أن يقول إنه مؤمن وتخلو طريقه من الفتنة
والابتلاء، مبيِّناً لهم أن المؤمنين قبلهم قد فتنوا فالطريق واحد، وأن هذه
الفتنة تميز الصادق من الكاذب. وهنا يسمَّى الثبات على دين الله والصبر على
الفتنة جهاداً يعود نفعه لصاحبه: ( الم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا
وهم لا يفتنون، ولقد فتنَّا الذين من قبلهم فلَيعلمنَّ الله الذين صدقوا
وليعلمنَّ الكاذبين – إلى قوله: - ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن
العالمين ) [ العنكبوت: 1،2،3،6 ].
وتتنوع الفتنة على المؤمنين فتقف الأسرة كلها – وعلى رأسها الأم وما أدراك ما
الأم – ضد المؤمن، فتقسم الأم ألاّ تأكل ولا تشرب ولا تستظل حتى يكفر ابنها
بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيقول لها: لو كانت لك مائة نفس فخرجت الواحدة تلوا
الأخرى ما رجعت عن ديني، ويُنزل الله في ذلك: ( ووصينا الإنسان بوالديه
حُسْناً، وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، إلي مرجعكم فأنبئكم
بما كنتم تعملون ) [ العنكبوت: 8، وراجع القصة في تفسير ابن كثير (3/445 ].
ويضطر عليه الصلاة والسلام أن يترك مكة وهي أحب البقاع إليه، فيولي وجهه شطر
المدينة وهو يلتفت إلى البلد الأمين، فيسلِّيه ربه، ويَعدُه بالعودة إلى بلده
الحبيب: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد، قُل ربّي أعلم من جاء
بالهدى ومن هو في ضلال مبين) [ القصص: 85 ].
ويخرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مضطرين وهي حبيبة إلى نفوسهم،
خائفين مما ينتظرهم بعد تركهم بلادهم، تاركين منازلهم التي ألفوا الراحة فيها،
وأموالهم التي كانوا يتنعمون بها، فيسلِّيهم ربهم أن الأرض أرض الله والمهم أن
يقوموا بعبادته في أي أرض كانت، وأن الموت آت لا محالة لا يؤخره البقاء في
المنزل ولا يقدمه الخروج من البلد، وأن المنازل الحقيقية هي منازل الجنة التي
أعدها الله لعباده العاملين الصابرين، وأن الرزق مضمون لدواب الأرض كلها حتى
التي لا قدرة لها على حمل رزقها:
( يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون، كل نفس ذائقة الموت ثم
إلينا ترجعون، والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنّهم من الجنة غُرَفاً، تجري
من تحتها الأنهار خالدين فيها نِعْم أجر العاملين، الذين صبروا وعلى ربهم
يتوكلون، وكأين من دابة لا تحمل رزقها وإياكم وهو السميع العليم ) [ العنكبوت:
56-60 ].
ويؤكد الله للمجاهدين في سبيله – وكان الجهاد آنئذ: جهاد الدعوة والصبر على
الأذى والمحنة – ليهديَّنهم السُّبُل الموصلة إلى مرضاته، وهو معهم لأنهم
محسنون، ومن كان الله معه فالعاقبة المحمودة له: (والذين جاهدوا فينا
لنهدينَّهم سُبُلنا وإنّ الله لَمَعَ المحسنين) [العنكبوت: 69].