( 56 )
الفرع الثاني : المرحلة المدنية
يتضح من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم
في المرحلة المكية أنها كلها كانت جهاد تربية وتزكية للرسول صلى الله عليه وسلم
وأصحابه، على إخلاص العبادة لله وحده والطاعة الكاملة لأوامر الله سبحانه
وتعالى، وترك كل أوضار الجاهلية وعاداتها، والدعوة إلى وحدانية الله تعالى
وتسفيه أحلام المشركين والصمود أمام الأذى والمحنة، والتضحية في سبيل الله
تعالى بالنفس والمال والأهل والولد، والانضباط الكامل تحت قيادة الرسول صلى
الله عليه وسلم، فتحقق في أصحابه الركنان الأساسيان في دعوة الرُسل عليهم
الصلاة والسلام، وهما التقوى والطاعة، إذ ما من نبي إلا دعا قومه إلى تحقيقهما:
(فاتقوا الله وأطيعون) [الشعراء: 108]، فكوَّن بذلك صلى الله عليه وسلم القاعدة
الصلبة التي أرسيت عليها دولة الإسلام العظيمة في كل أقطار الدنيا بعد ذلك.
وبعد أن أبلى المؤمنون في مكة بلاءً حسناً، وضُيِّق عليهم الخناق، وعلم الله
تعالى أنهم ثبتوا على دينه الحق ثبوت الجبال الرواسي؛ قيض الله لهم نواة كتيبة
الأنصار في السنة الحادية عشرة من البعثة المحمدية، إذ كان رسول الله صلى الله
علليه وسلم يعرض نفسه على الناس في المواسم ليقبلوا دعوته ويحموه ليبلِّغ رسالة
ربه، فوجد رهطاً من الخزرج فطلب منهم أن يجلسوا إليه ليسمعوا منه، فشرح لهم
الإسلام ودعاهم إليه فأجابوه وقالوا له: (إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من
العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى
أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه في هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل
أعزّ منك) [السيرة النبوية (1/429)، الطبعة الثانية-الحلبية].
ودعوا قومهم بعد رجوعهم فأجابهم كثير منهم، حتى فشا فيهم الإسلام، فلم تبقَ دار
من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي العام المقبل وفد اثنا عشر رجلاً من الأنصار، فلقيهم الرسول صلى الله عليه
وسلم عند العقبة فبايعوه، قال عبادة بن الصامت: (فبايعناه على أن لا نشرك بالله
شيئاً، ولا نسرق ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين
أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف). وقال لهم: (فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن
غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله عزّ وجلّ، إن شاء عذّب وإن شاء غفر)
[السيرة النبوية (1/433)].
وبعث صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير يقرؤهم القرآن ويصلي بهم، ويظهر من هذه
البيعة تعميق معاني المرحلة المكية في نفوس المسلمين، وهي الإخلاص لله وحده،
وتزكية النفوس وصقلها من الأخلاق السيئة التي اعتادها المشركون.
وفي العام المقبل وفدت كتيبة الله من أنصاره إلى مكة في موسم الحج، فواعدهم
الرسول صلى الله عليه وسلم عند العقبة من أوسط أيام التشريق ليلاً، حيث تسللوا
إليه بعد مضي ثلث الليل حتى اجتمعوا عند العقبة، وكان عددهم ثلاثة وسبعين رجلاً
وامرأتين، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا إلى الله ورغَّب في
الإسلام، ثم قال: (أُبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم)
فبايعوه على ذلك، ودار بينهم حوار واستيثاق، وكان مما قاله أبو الهيثم بن
التيِّهان: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها –يعني
اليهود- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (بل الدم بالدم، والهدم بالهدم،
أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم) [نفس المصدر (1/442)]
وأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُخرِجوا منهم اثني عشر نقيباً، ففعلوا،
وكان تسعة منهم من الخزرج وثلاثة من الأوس، وكانت شروط هذه البَيْعة تختلف عن
شروط بيعة العقبة الأولى، وهي كما قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (بايعنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عُسرنا ويُسرنا، ومنشطنا
ومكرهنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق أينما كنّا لا
نخاف في الله لومة لائم) [السيرة النبوية (1/454)].
ويظهر في هذه البيعة العظيمة معانٍ
جديدة تعتبر منطلقاً للمرحلة المدنية الجديدة:
1 )
فالرسول صلى الله عليه وسلم بايعهم على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم
وأولادهم، ومعنى هذا أنه تارك مكة ومهاجر إلى المدينة، وقد فهم ذلك الأنصار:
(فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟).
2 )
كانت البيعة – أيضاً – على السمع والطاعة، في العسر واليسر والمنشط والمكره،
والإيثار على أنفسهم، وعدم منازعة الأمر أهله، وقول الحق أينما كانوا، وألا
يخافوا في الله لومة لائم.
3 )
كان فيها أيضاً توحيد الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، ومقاطعة أعداء الله: (إن
بيننا وبين الرجال حبلاً وإنا لقاطعوها).
هذه المعاني مشبعة بالروح الجهادية والتحفز لبذل النفوس والأموال في سبيل نصرة
الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنها كذلك.
وظهرت فيها الدقة في التنظيم حيث جعل على كل طائفة منهم نقيباً يسمعون له
ويطيعون، وجعل الموعد بينه وبينهم في ساعة غفلة عن أعين المشركين، تمكن فيها
صلى الله عليه وسلم من تحقيق هدفه دون مضايقة أو أذى له أو لأنصاره المبايعين.
كما كان ترتيب لقائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم دليلاً على الانضباط وكتم
السر مع كثرة عددهم وإحاطة المشركين بهم.
ظهرت آثار ذلك كله عندما علمت قريش فأُسقط في أيديها وقد فات الأوان: (فرجعنا
إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى إذا أصبحنا غَدَت علينا جلّة من قريش فقالوا: يا
معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه من بين أظهرنا
وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حيّ من العرب أبغض إلينا أن تنشب بيننا
وبينهم منكم، فانبعث مَنْ هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان منا هذا
الشيء وما عملناه، وقد صدقوا لم يعملوه، قال: وبعضنا ينظر إلى بعض) [السيرة
النبوية (1/440-448)].
( 57 )
تابع للمرحلة المدنية
فكان إسلام الأنصار ومبايعتهم الرسول
صلى الله عليه وسلم على حمايته ومقاطعة أعدائه منطلقاً لإقامة أول مجتمع إسلامي
متميز على وجه الأرض بعد البعثة النبوية.
وأذن الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة من مكة إلى المدينة، فخرجوا
جماعات وأفراداً، تاركين أشرف بقعة على وجه الأرض، بها ديارهم وأموالهم
وأهلوهم، طمعاً فيما عند الله تعالى من إعزاز دينه وإعلاء كلمته وإذلال أعدائه
ورضاه عن أوليائه المؤمنين.
واستقبلهم إخوانهم الأنصار فآواهم ووفوا ببيعة نبيهم صلى الله عليه وسلم،
والتحمت الكتيبتان: كتيبة المهاجرين وكتيبة الأنصار، وأخذ دين الله ينتشر في
أهل المدينة حتى أصبح ذكر الله وتوحيده والإقرار برسالة نبيه محمد صلى الله
عليه وسلم يتردد في كل بيت وفي كل مكان، وبلغ الأنصار القمة في الإيثار وتحقيق
الأخوة الإسلامية.
وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة إلا أن أذن الله له في الهجرة، وفي
أثناء مدة انتظاره صلى الله عليه وسلم اشتد خوف مشركي قرشي من قاعدة تجمُّع
المسلمين الجديدة، وأخذوا يتشاورون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم
من رأى حبسه حتى يموت، ومنهم من رأى إخراجه من البلاد ونفيه، واستقر أمرهم بعد
ذلك على قتله، كما قال تعالى لنبيه –بعد ذلك مذكِّراً له وللمسلمين بنعمته
تعالى عليهم حيث أنجاه من مؤامراتهم-: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك، أو
يقتلوك، أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) [الأنفال: 30].
وخطَّط رسول الله صلى الله عليه وسلم لهجرته التي رافقه فيها أبو بكر الذي كان
يتلهَّف للَّحاق بإخوانه المهاجرين، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأذن له
بالهجرة ليكون معه في أحرج المواقف المكية وآخرها، وهي الهجرة، وأمر الرسول صلى
الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه بالنوم على سريره ليلة الهجرة، وخرج هو وأبو
بكر رضي الله عنه، فاختفيا في الغار (غار ثور) ثلاثة أيام والمشركون يبحثون
عنهما، وقد خصَّصوا مكافآت ثمينة لمن يقبض على رسول الله صلى الله عليه وسلم
ورفيقه.
ولكن الله كان معهما، ومن كان الله معه فلا غالب له: (إلا تنصروه فقد نصره
الله، إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار، إذ يقول لصاحبه:: لا
تَحزنْ إن الله معنا، فأنزل الله سكينته عليه وأيَّده بجنود لم تروها، وجعل
كلمة الذين كفروا السفلى، والله عزيز حكيم) [التوبة: 40].
وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبله جند الله من المهاجرين والأنصار،
وأحاطوا به إحاطة الهالة بالقمر، يأمرهم فيستبقون لتنفيذ أمره، وينهاهم
فيجتنبون ما نهاهم عنه.
وبدأ صلى الله عليه وسلم يُرسي دعائم الدولة الجديدة التي لا يدري الناس في
الجزيرة العربية، فَضْلاً عن بلاد فارس والروم وغيرهما من ممالك الدنيا، ما
كانوا يدرون ماذا يكمن وراء تلك الدولة الناشئة من عواصف قصف لمعاقلهم وحصونهم،
وسيوف حتف لرقاب طغاتهم وجبابرتهم، وأنوار هداية لشعوبهم.
( 58 )
تكوين نواة الأمة الإسلامية وأسسه
الأساس الأول: بناء المسجد
وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم في
تأسيس دولة الإسلام فبدأ ببناء مسجده الشريف في عاصمة الإسلام الأولى، شارك في
بنائه بنفسه مع أصحابه، وفي مشاركة القائد أصحابه حافز لهم على العمل الجاد،
كيف والذي يعمل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يتلقّى الوحي من ربه كل
يوم، والسفير بينه وبين ربه جبريل عليه السلام؟ لذلك كان الصحابة رضي الله عنهم
يردّدون في سرور واعتزاز ونشاط:
لئن قعدنا والنبي يعملُ
======== لذاك منّا العمل المضلِّلُ
وكان المسجد – في مظهره – في غاية التواضع، فأعمدته من جذوع النخل، وسقفه من
سَعَفه وجريده، وفرشه من الرمل والحصباء.
ولكنه كان مثابة لجبريل ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم فيه بالوحي، وكان
محلاً لرفع كلمة التوحيد التي كان ينادي بها بلال خمس مرات في اليوم والليلة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم فيه أصحابه في الصلاة، ويقرئهم القرآن،
ويعلمهم أحكام دينهم التي بدأت تتنزل من السماء ليطهرهم الله ويزكيهم، فيعود كل
واحد منهم إلى منزله كل يوم بعلم جديد يتلقاه مباشرة من في رسول الله صلى الله
عليه وسلم أو من عمله فيعلمه أهله وجيرانه، والرسول صلى الله عليه وسلم يتلقاه
من جبريل، وجبريل يتلقاه من ربه.
وكان المسجد مكاناً لاجتماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لمُدارسة
القرآن الكريم والسنة النبوية وتطبيقهما.
كما كان مقراً للفتوى والسؤال عمّا يُشْكِل على الصحابة رضي الله عنهم، وكان
منطلقاً لبعث الدعاة إلى الله، وساحة للتدريب على الفروسية، ومؤتمراً لمدارسة
أمور الحرب والحراسة وبث السرايا وعقد الألوية للغزاة المجاهدين في سبيل الله.
وكان مأوى لمن لا منزل له من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينامون فيه
ويتناولون طعامهم، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض فيه الأموال من
المتصدقين بها على المحتاجين، وأموال الغنيمة والفيء، ويقسمها على الناس فيه.
هكذا كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجمعاً لكل أجهزة الدولة الإسلامية
الجديدة، وكل ما يفعل فيه كان يعتبر عبادة يقصد بها وجه الله. الصلاة،
والتعليم، والنوم، كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (أما أنا فأنام وأقوم،
وأرجو في نومتي ما أرجو في قَوْمَتي) [مسلم (3/1456)] هذا مع صغره وتواضعه في
مواد البناء، حيث كان إذا نزل المطر تقاطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم
يسجد فيه على الماء والطين. ولكنهم كانوا يتزكون فيه بالقرآن والسنة فتمتلئ
قلوبهم إيماناً، ويحملون دعوة الله إلى خلقه بالتبليغ والموعظة أو بالسيف
والحربة.
فأين مساجد المسلمين اليوم من ذلك المسجد؟ إن مساجد المسلمين التي أصبحوا
يتباهون بتشييدها بأغلى مواد البناء، وبنقوشها وزخرفتها وفرشها وقناديل ضيائها
ومراوحها ومكيفات هوائها؛ وشبابهم بل وبعض كهولهم لا يدخلها كثير منهم.
بل إنك لتجد في بعض بلدان المسلمين صفوفاً من البشر مصطفين في مساحة قد تصل
ميلاً أو أكثر ينتظرون دخول دور السينما أو المسرح والمرقص، في الوقت الذي يقول
فيه المؤذن حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح، وتجد كثيراً من الشباب في الملاعب
الرياضية يتبارون كالحُمُر في أوقات الصلاة دون حياء أو خجل، وحولهم عشرات
الآلاف بل مئاتها من المتفرجين تضرب لهم الطبول وهم يرقصون ويصفقون يتمايلون
هاهنا وهاهنا كأنهم سكارى.
أين المسلمون اليوم في مساجدهم من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في مسجده
ذاك؟ إن المصلين في المساجد اليوم – في الأغلب الأعم – ذو أرواح خاوية، وقلوب
قاسية، ومعاملات خائبة.
قال محمد الغزالي: (وتم محمد في حدود البساطة: فراشه الرمال، وسقفه الجريد،
وأعمدته الجذوع، وربما أمطرت السماء فأوحلت أرضه، وقد تفلت الكلاب إليه فتغدوا
وتروح.
هذا البناء المتواضع الساذج هو الذي ربّى ملائكة البشر ومؤدبي الجبابرة، وملوك
الدار الآخرة، في هذا المسجد أذن الرحمن لنبي يؤم بالقرآن خيرة من آمن به،
يتعهدهم بأدب السماء من غبش الفجر إلى غسق الليل. إن مكانة المسجد في المجتمع
الإسلامي تجعله مصدر التوجيه الروحي والمادي، فهو ساحة للعبادة، ومدرسة للعلم،
وندوة للأدب، وقد ارتبطت بفريضة الصلاة وصفوفها أخلاق وتقاليد هي لباب الإسلام،
لكن الناس لمّا أعياهم بناء النفوس على الخلائق الجليلة استعاضوا عن ذلك ببناء
المساجد السامقة تضم مصلِّين أقزاماً، أما الأسلاف الكبار فقد انصرفوا عن زخرفة
المساجد وتشييدها إلى تزكية أنفسهم وتقويمها فكانوا أمثلة صحيحة للإسلام) [فقه
السيرة ص: 190].
وبهذا تعلم أن المسجد النبوي كان مجمع الدولة الإسلامية الأول.
( للكاتب رسالة بعنوان دور المسجد في التربية، وقد طبعت أكثر من مرة )
( 59 )
الأساس الثاني: لتكوين الأمة: المؤاخاة بين
المهاجرين والأنصار
كانت الأنانية طاغية على العرب في
جاهليتهم: القبيلة تترفع عن القبيلة، والبطن يفخر على مثيله، والأسرة تتكبّر
على الأسرة، والفرد يتعالى على الفرد، وكان من حصاد هذه الأنانية ظلم القوي
للضعيف واستئثاره عليه في كل شيء، ممّا سبَّب الإحن والعداوات والغارات والحروب
الدائمة لأتفه الأسباب.
والأمة التي تصاب بالأنانية وما يتبعها أمة تافهة مهيضة الجناح خائرة القوى،
تكون دائماً محلاً لمطامع الآخرين واستعبادهم لها.
فلما جاء الإسلام أحدث انقلاباً في نفوس المسلمين هو استسلام المسلم لربّه
وطاعته لقيادته، وفي وحي الله وسنة رسوله ما يكفي لتواضع المؤمن وذلّته لله
تعالى وحبه لإخوانه وإيثاره إياهم على نفسه.
وكان هذا المعنى ثابتاً في نفوس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي
جعل أبا بكر رضي الله عنه يبذل ماله في شراء المسلمين الذين كانوا عبيداً لبعض
المشركين الذين عذّبوهم وحاولوا صدّهم عن دينهم، ومن أولئك المسلمين بلال رضي
الله عنه، وهو كذلك الذي جعل النفر الذي كانوا أول من لقيهم الرسول صلى الله
عليه وسلم، وهم من الخزرج، يقولون بعد أن استجابوا لدعوته: (إنّا قد تركنا
قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك … فإن
يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزّ منك) [السيرة النبوية 429]، بل هو الذي جعل
الأنصار يتسابقون إلى إيواء المهاجرين حتى كانوا يقترعون على المهاجرين.
ولكن مع ثبات هذا المعنى في نفوسهم أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعقمه
بجعله بيعة وعقداً بين المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأهلهم في سبيل
الله، والأنصار الذين آوَوْهم ونصروهم، فآخى صلى الله عليه وسلم بينهم اثنين
اثنين، أي كان يجعل رجلاً من المهاجرين أخاً لآخر من الأنصار، وهو إخاء خاص غير
الإخاء العام. الإخاء العام: كل مؤمن أخ لكل مؤمن، والإخاء الخاص: فلان أخ
فلان، وفَرْقٌ بين الأمرين، فالإخاء العام لا يثمر ما يثمره الإخاء الخاص من
الحب العميق.
والتواضع والإيثار إذ قام على القواعد الشرعية فإنه يجعل الأخ يؤثر أخاه فيما
لا يطرأ على الخيال، فضلاً عن التفكير فيه، فضلاً عن العزم عليه وتنفيذه.
وإليك الدليل: في صحيح البخاري: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد
الرحمن بن عوف وسعد بن ربيعة، فقال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالاً،
فإني أقسّم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمِّها لي أطلقها،
فإذا انقضت عدّتها فتزوجها. قال عبد الرحمن بارك الله لك في أهلك ومالك، أين
سوقكم؟ فدلُّه على سوق بني قينقاع، فلما انقلب إلا ومعه فضل من أقطٍ وسمن، ثم
تابع الغدوَّ، ثم جاء يوماً وبه أثر صفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مهيم؟)
قال: تزوجت [البخاري رقم 3780].
ولهذا امتن الله على المؤمنين بهذا الإخاء العظيم فقال: (واعتصموا بحبل الله
جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم،
فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفى حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين
الله لكم آياته لعلكم تهتدون) [آل عمران: 103]
ومن المهاجرين والأنصار كوَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم القاعدة الصلبة
التي قامت عليها دولة الإسلام في الجزيرة ثم في شرق الدنيا وغربها، وهم الذين
قال الله فيهم: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل
الله، والذين آوَوا ونصروا أُولئك بعضهم أولياء بعض) [الأنفال: 72].
وقال: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من
الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله، أولئك هم الصادقون، والذين تبوَّءوا الدار
والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة ممّا أوتوا،
ويؤثرون على أنفسهم ولو كانوا بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)
[الحشر: 8-9].
وقال تعالى فيهم: (محمد رسول الله، والذين آمنوا أشدّاء على الكفار رحماء
بينهم، تراهم ركَّعاً سجَّداً، يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، سيماهم في
وجوههم من أثر السجود، ذلك مثلهم في التوراة، ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه
فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه، يعجب الزُرَّاع ليغيظَ بهم الكفار، وعد الله
الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً) [الفتح: 29].
ومن هنا يعلم أنه لا بدّ للدعوة الإسلامية – حتى تنطلق في الأرض – من قاعدة
حصينة تنطلق منها، وهي ما تسمَّى في اصطلاح الفقهاء: (دار الإسلام) ومن قائد
قدوة يتصف بكل الأخلاق الفاضلة المبنية على الإيمان العميق، ومن جنود تسود
بينهم الأُخوة والمحبة ويتحقق فيهم الاقتداء بقيادتهم، وهذا ما حصل للرسول صلى
الله عليه وسلم وأصحابه في المدينة، فتوطَّدت بذلك الجبهة الداخلية للدولة
الإسلامية، وأمنت التصدّع والخلل الذي يستطيع أعداء الله التسلل منهما إلى صفوف
المسلمين لصدعها وتفريقها.
( 60 )
الأساس الثالث: وضع ميثاق ينظم الأمة وتحمي
وحدتها
أصبح المسلمون في المدينة هم أهل الحل
والعقد، وهم الأجدر بقيادة الناس في المدينة وما حولها، لأنهم أهل الحق الرباني
الذي كُلِّفوا تطبيقه في أنفسهم ودعوة الناس إليه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى
فإنهم أصبحوا يملكون أزمّة الأمور في البلاد بنظام وطاعة تحت قيادة واحدة،
بخلاف غيرهم من اليهود والمشركين، فقد كانوا يعيشون في فوضى وتطاحن فيما بينهم،
وكذلك اليهود لم يكن في استطاعتهم جمع كلمة الناس، بل إنهم كانوا يؤججون بينهم
نار الحرب ويبثون بينهم الضغائن، وكان همهم ابتزاز الأموال والسيطرة على الناس
عن طريق نشر تلك الفوضى وذلك الحقد.
وكان المشركون من قريش يتربّصون بالمسلمين للقضاء عليهم قبل أن تتوطد دعائم
قوتهم وإحكام سيطرتهم على قاعدتهم الجديدة، ولازالت الجزيرة العربية تدين
بالشرك وعبادة الأوثان، وينظر سكانها إلى قريش نظر إكبار وإجلال، ويرون في
الاقتداء بهم ما يؤهلهم للتقدم والظهور.
ولازال في المدينة نفسها مشركون، بل ظهر عنصر خبيث ماكر وهم المنافقون الذين
أظهروا الإسلام خشية من أن تفوتهم بعض المصالح المادية، وهمم في واقع الأمر شر
من المشركين.
كما كان بالمدينة يهود الذين كانوا يتوقعون أن يكون الرسول الجديد منهم، فلما
بعث من غيرهم امتلأت قلوبهم غيظاً وحقداً، خاصة بعد أن سبقهم إلى الإيمان به
الأُميون من أهل يثرب: الأوس والخزرج، الذين كان يهود يهدِّدونهم بأن نبياً
سيبعث، فيتبعونه – أي اليهود – ويقتلونهم قتل عادٍ وإرم [تفسير ابن كثير
(1/124)]، كما قال تعالى عنهم: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مُصدِّق لما معهم،
وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة
الله على الكافرين) [البقرة: 89].
وهكذا كان الشرك مطبقاً على الجزيرة العربية، وكانت قريش تتربص بالمسلمين
الدوائر مع وجود المشركين والمنافقين واليهود في المدينة، وفي كل ذلك خطر على
المسلمين القليلي العَدَد والعُدَد، ولا يستبعد اتصال قريش بمشركي المدينة
ومنافقيها ويهودها أو العكس للتآمر على المسلمين والقضاء عليهم.
لذلك كان لابد من الإسراع إلى وضع ميثاق توضِّح فيه معالم وحدة الأمة
الإسلامية، وصلة غيرها من مشركين ويهود بها، على أن تكون القيادة للأمة
الإسلامية لا لأعداء الله من مشركين ويهود الذين لا يؤمن جانبهم، بخلاف
المسلمين فإن الوفاء بالعهد عندهم من الدين الذي أنزله الله على رسوله صلى الله
عليه وسلم.
فقد جعل الميثاقُ المسلمين أمة واحدة، من أي جنس كانوا: -( هذا كتاب من محمد
النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم:
إنهم أمة واحدة من دون الناس).
ولكنه أبقى ما كان معمولاً به في القبائل العربية من التكافل والعَقْل وفداء
العاني: (يتعاقلون معاقلهم، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين
المؤمنين).
ودعا الميثاق إلى إعانة من أثقله الدين وكثر عليه العيال: (وأن المؤمنين لا
يتركون مَفْرحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف والقسط بين المؤمنين). وألزم المؤمنين
الوقوف صفاً واحداً ضد البغاة الظالمين الآثمين ولو كانوا من ألصق قراباتهم
(وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو
فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم).
وقرر المساواة بين المؤمنين: (وأن ذمة الله واحدة يجير عليها أدناهم) وسدّ
الباب على المشركين في المدينة على أن يتعاونوا مع مشركي قريش: (وأنه لا يجير
مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن) وقرر القصاص في القتلى
حتى لا يتعدى أحد على أحد، وحتى لا تعود فوضى الغارات والعداوات والإحن التي
كانت ضاربة أطنابها قبل الإسلام بين القبائل: (وأنه من اعتبط [أي قتل بدون حق]
مؤمناً قتلاً عن بينه فإنه قَوَد به، إلا أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين
عليه كافة ولا يحل لهم إلا القيام عليه).
وألزمهم ملاحقة المجرمين وعدم إيوائهم حتى ينال كل خارج عن نظام الدولة
الإسلامية جزاءه وليرتدع الناس عن الإجرام: (وإنه لا يحل لمؤمن أقرّ بما في هذه
الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً ولا يؤويه، وأن من نصره أو
آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل).
وقرر تبعية اليهود للأمة الإسلامية مع السماح لهم بالبقاء على دينهم، وألزمهم
إعانة المسلمين بالمناصرة وبالإنفاق في الحرب، أما في حالة السلم فعلى كل فريق
الإنفاق على نفسه: (وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يهود
… أمة مع المحاربين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من
ظلم وأثم فإنه لا يوتغ [أي يهلك، راجع النهاية لابن الأثير] إلا نفسه وأهل بيته
… ).
(وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل
هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الإثم).
وقرر قاعدتي النصر والمسئولية، فلم يَبْقَ ذلك العمل الجائر من نصر القبيلة
كلها لأي فرد منها سواء كان ظلماً أو مظلوماً كما قال الشاعر الجاهلي:
وهل أنا إلاّ مِنْ غزيِّة أن غوت
===== عويتُ وإن ترشد غزية أرشد
كما لم يبق ذلك الاعتداء على البريء بجريرة غيره، بل كل واحد مسؤول عن عمله:
(وأنه لم يأثم امروء بحليفه، وأن النصر للمظلوم).
وقرر حق الجار: (وأن الحار كالنفس غير مضارٍ ولا آثم).
وقرر حرية البقاء في المدينة أو الخروج منها ( حرية الإقامة وحرية التنقل ) ما
لم يصب الباقي أو الخارج ظلماً: (وأنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة إلا من
ظلم وأثم).
وكانت أهم قواعد هذا الميثاق جعل القيادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورد
الحكم إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم حيث خاطب المؤمنون بقوله: (وأنكم
مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عزّ وجلّ وإلى محمد صلى الله عليه
وسلم).
ونصّ في أثناء المعاهدة مع اليهود على ذلك: (وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة
من حَدَث أو اشتجار يُخاف فساده فإن مردّه إلى الله عزّ وجلّ وإلى محمد رسول
الله صلى الله عليه وسلم) [النص الكامل لهذا الميثاق في السيرة النبوية (1/501)
وما بعدها].
وبهذا الميثاق العظيم أحاط النبي صلى الله عليه وسلم الأمة الإسلامية بسياج قوي
منيع داخليّ وخارجيّ، ووطّد دعامة الحكم بما أنزل الله، وأصبحت بذلك دولة
الإسلام قائمة على أقوى الدعائم التي يجب توافرها لقيام الدولة العالمية
الشرعية الخاتمة. بقيادتها النبوية، وأمتها المطيعة المقتدية، ومنهجها الشامل
الواضح.
فإذا أضيف هذا إلى المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وبناء المساجد النبوي
الشريف الذي كان منطلق الدعوة والتعليم والجهاد والمواساة، ومركز التجمع لكل ما
يعنُّ من أمور الدولة الإسلامية من الشورى وغيرها، مع كونه مقراً لأداء الشعائر
العبادية، فإن مقومات الدولة تكون قد اكتملت.
وأصبح المسلمون أمة تتربص بها قريش وأهل الجزيرة كلِّهم من ورائها، بل تتربص
بها دول الكفر في الشرق والغرب. فماذا بعد؟
( 61 )
الإذن قي القتال
كان قتالُ المسلمين أعداءهم الكافرين في
مكة دفاعاً عن أنفسهم محرّماً عليهم على الرغم من شدة الاعتداء عليهم كما مضى،
وعندما فكّروا في ردّ الاعتداء عن أنفسهم أمر الله بكفِّ أيديهم، كما قال
تعالى: (ألم تَر إلى الذين قيل لهم كُفُّوا أيديَكم، وأقيموا الصلاة وآتوا
الزكاة، فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يَخْشَون الناس كخشية الله أو أشد
خشية، وقالوا ربَّنا لِمَ كتبت علينا القتال؟ لولا أخَّرتنا إلى أجل قريب؟ قل
متاع الدنيا قليل والآخرة خيرٌ لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً) [النساء: 77].
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: (كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة
مأمورين بالصلاة والزكاة، وإن لم تكن ذات النُّصُب، وكانوا مأمورين بمواساة
الفقراء منهم، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين، والصبر إلى حين،
وكانوا يتحرَّقون ويودُّون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم، ولم يكن الحال
إذ ذاك مناسباً لأسباب كثيرة، منها قلة عددهم إلى كثرة عدد عدوهم) [تفسير
القرآن العظيم (1/525)].
فالآية مدنية تحكي ما كان من أمر المسلمين في مكة من تحرقهم واشتياقهم لإذن
الله تعالى لهم في قتال عدوهم دفاعاً عن دينهم وأنفسهم وأعراضهم، وتُعَجِّب من
فريق منهم - وليس كلهم - تَقاعَس عندما فرض الله القتال في المدينة.
ويعقب سيد قطب رحمه الله على تعجيب الله من هذا الفريق المتحمِّس قبل فرض
القتال، المتقاعس بعد فرضه فيقول: (وأغلب الظن أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه
الآيات كان من ذلك الصنف الذي يلذعه الأذى في مكة فلا يطيقه، ولا يطيق
الهوان،وهو ذو عزة فيندفع يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بدفع
الأذى، أو حفظ الكرامة، والرسول صلى الله عليه وسلم يتبع في هذا أمرَ ربه
بالتريُّث والانتظار والتربية والإعداد وارتقاب الأمر في الوقت المقدّر
المناسب، فلمَّا أن أمن هذا الفريق في المدينة ولم يعد هناك أذى ولا إذلال … لم
يعد يرى للقتال مبرراً … وقد يكون هذا الفريق مؤمناً فعلاً بدليل اتجاههم إلى
الله في ضراعة وأسى، وهذه الصورة ينبغي أن تكون في حسابنا فالإيمان الذي لم
يتضح بعد … ليبلغ بالنفس إلى إخراج ذاتها من الأمر والاستماع فقط إلى أمر الله
واعتباره هو العلة والمعلول والسبب والمسبِّب والكلمة الأخيرة، سواء عرف المكلف
حكمتها أم لم تتضح له … لا جرم ينشأ عنه مثل هذا الموقف الذي يصوِّره السياق
القرآني هذا التصوير، ويعجب منه هذا التعجب، وينفِّر منه هذا التنفير) [في ظلال
القرآن (5/712،713) طبع دار الشروق] إهـ مع تصرّف واختصار.
حكمة الأمر بكف المسلمين أيديهم عن
القتال في مكة
وأمر المسلمين بكف أيديهم عن القتال في
مكة – على الرغم من تعدي المشركين عليهم وإيذائهم بكل ألوان الأذى – كان هو
المناسب صدوره من العليم الحكيم وقد أشار ابن كثير رحمه الله إلى ما ظهرله من
الحكمة في ذلك: (ولم يكن الحال – أي الأمر بالقتال – إذ ذاك مناسباً لأسباب
كثيرة: منها قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم. ومنها كونهم كانوا في
بلدهم، وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداءً كما
يقال فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة لمّا صارت لهم دار ومنعة وأنصار …)
[تفسير القرآن العظيم (1/525)].
وقد تعرض سيد قطب لذلك في كتاب (في ظلال القرآن) – بعد أن بيّن أنه يجب على
المسلم أن يتأدب مع القرآن فلا يجزم أن هذه هي الحكمة أو تلك وأنها أمور
اجتهادية تخطئ وتصيب - فبيّن أن الفترة المكية كانت فترة إعداد وتربية للفرد
على الصبر وضبط النفس، والبقاء ضمن مجتمع منظم وقيادة تطاع في بيئة كان ذلك
مفقوداً فيها. وأن الدعوة السلمية في المجتمع الجاهلي كانت أشد تأثيراً من
الصراع المسلح، وأنه لو أذن للمسلمين في القتال لقامت معركة بين القريب وقريبه
في كل بيت لعدم وجود سلطة نظامية متميّزة، وقد يكون ذلك سبباً في نفور الناس من
الإسلام، كما أن الله تعالى قد علم أن كثيراً من المعاندين الذين كانوا يفتنون
المؤمنين سيكونون بعدُ من جنود الإسلام.
يضاف إلى ذلك أنه كان يوجد في المجتمع الجاهلي من ينصر المظلوم وقد كان أبو
طالب، بل وغيره من بني هاشم وبني عبد المطلب، يحمون رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وفي نقض الصحيفة الآثمة ما يدل على ذلك.
وكان عدد المسلمين قليلاً وعدد عدوهم كثيراً.
وأخيراً فإن المرحلة كانت مرحلة دعوة إلى الله وهي محققة دون قتال، فقد كان
الرسول صلى الله عليه وسلم يعرض دعوته على الناس في كل مكان [انظر في ظلال
القرآن (5/513-514)]إهـ.
والخلاصة: أن الفترة المكية كانت مرحلة دعوة وابتلاء وصبر وكان جزء منها مرحلة
إعداد لإقامة الدولة الإسلامية، ويبدأ هذا الجزء من بدء إسلام أول فوج من
الأنصار في منى، أما القتال فكان في ذلك الوقت محرماً لما سبق ولغيره مما لا
يعلمه إلا الله، وفي أول نزول الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة باشر تأسيس
قيام الدولة وقد مضى الكلام على ذلك كله مفضلاً.
وبعد أن قامت الدولة الإسلامية أذن الله للمسلمين المظلومين بأن يُقاتلوا
الكافرين الظالمين، الذين أخرجوهم بغير حق سوى أنهم يقولون: (ربنا الله)،
ووعدهم سبحانه في الآية بنصره فقال: (أُذن للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلِموا وإن
الله على نصرهم لقدير) [الحج: 39].
وكون هذا الإذن وقع في المدينة بعد الهجرة هو الصواب، لا كما قال ابن هشام من
أن الإذن وقع في مكة، وبعده أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى
المدينة [انظر السيرة النبوية (2/79-80)].
وقد ردّ هذا الرأي شمسُ الدين ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد فقال: (فلما
استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وأيده الله بنصره وبعباده
المؤمنين وألّف بين قلوبهم، بعد العداوة والإحن التي كانت بينهم، فمنعه أنصار
الله وكتيبة الإسلام من الأسود والأحمر، وبذلوا نفوسهم دونه وقدموا محبته على
محبة الآباء والأبناء والأزواج، وكان أولى بهم من أنفسهم، رمتهم العرب واليهود
عن قوس واحدة، وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة، وصاحوا بهم من كل جانب،
والله سبحانه يأمرهم بالصبر والعفو والصفح حتى قويت الشوكة واشتد الجناح، فأذن
لهم حينئذ في القتال ولم يفرضه عليهم فقال تعالى: (أُذن للذين يُقاتلون بأنهم
ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير) [الحج: 39]. وقالت طائفة: (إن هذا الإذن كان
بمكة والسورة مكية. وهذا غلط لوجوه: أحدها أن الله لم يأذن بمكة لهم في القتال،
ولا كان لهم شوكة يتمكنون بها من القتال بمكة.
الثاني: أن سياق الآية يدل على أن الإذن بعد الهجرة وإخراجهم من ديارهم فإنه
قال: (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) [الحج: 40]
وهؤلاء هم المهاجرون.
الثالث: قوله تعالى: (هذان خصمان اختصموا في ربهم) [الحج:19]، نزلت في الذين
تبارزوا في يوم بدر من الفريقين.
الرابع: أنه قد خاطبهم في آخرها بقوله: (يا أيها الذين آمنوا) والخطاب بذلك كله
مدني، فأما الخطاب بـ (يا أيها الناس) فمشترك.
الخامس: أنه أمر فيها بالجهاد الذي يعمّ الجهاد باليد وغيره ولا ريب في أن
الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة. فأما جهاد الحجة فأمر به في مكة
بقوله: (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به) أي بالقرآن (جهاداً كبيراً …) [الفرقان:
52].
السادس: إن الحاكم روى في مستدركه من حديث الأعمش … عن ابن عباس قال: (لما خرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا
إليه راجعون، ليهلكن فأنزل الله عزّ وجلّ: (أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا)
وهي أول آية نزلت في القتال) وإسناده على شرط الصحيحين [زاد المعاد (2/65)].
فهذه المرحلة هي مرحلة إباحة الله للمؤمنين بأن يقاتلوا عدوهم لظلمهم إياهم.
( 62 )
فرض القتال على المسلمين
كانت المرحلة الأولى من مراحل القتال –
الذي هو جزء من الجهاد في سبيل الله – هي الإذن والإباحة، كما مضى.
أما المرحلة الثانية، فهي فرض القتال على المسلمين، كما قال تعالى: (وقاتلوا في
سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، واقتلوهم حيث
ثَقِفْتُموهم، وأخرجوهم من حيثُ أخرجوكم، والفتنة أشدُّ من القتل، ولا تقاتلوهم
عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه، فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاءُ
الكافرين، فإن انتهَوا فإن الله غفورٌ رحيم، وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكونَ
الدين كله لله، فإن انتهَوا فلا عدوان إلا على الظالمين. الشهرُ الحرام بالشهر
الحرام والحرماتُ قِصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم،
واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين) [البقرة: 190-194].
وللعلماء في هذه المرحلة رأيان:
الرأي الأول: أن الله تعالى فرض على المسلمين أن يقاتلوا أعداءهم الكفار إذا
بدأ هؤلاء بقتال المسلمين فقط، مستدلين بأدلة من نفس هذه الآيات.
أولاً: قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) أي الذين يبدءونكم
بالقتال.
ثانياً: قوله تعالى: (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) والمراد بالاعتداء
المنهي عنه على هذا الرأي أن يبدأ المسلمون بقتال الكافرين الذين لم يقاتلوهم.
ثالثاً: قوله تعالى: (فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم) أي إذا انتهى الكافرون من
قتال المؤمنين.
رابعاً: قوله تعالى: (فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين)
وفي الجملة فالآيات تدل بظاهرها على وجوب رد العدوان الذي يبدأ به الكافرون على
المؤمنين
وعلى هذا فقد كان القتال فرضاً على المسلمين في حالة بدء الكفار بقتالهم،
ومحظوراً عليهم بالنسبة لمن سالمهم ولم يقاتلهم.
ويبني أهل هذا الرأي عليه أن هذه المرحلة – التي كان محظوراً فيها قتال من لم
يبدأ المسلمين بالقتال – نُسخت بالآيات التي نزلت بعد ذلك، وهي صريحة في الأمر
بقتال الكفار حتى يسلموا أو يعطوا الجزية وهم صاغرون، كما في سورة التوبة، وعلى
هذا الرأي الربيع وابن زيد وابن القيم، فتكون مراحل القتال عندهم أربعاً:
الأولى: حظره على المسلمين عندما كانوا في مكة.
الثانية: إباحته لهم في أول الأمر بالمدينة.
الثالثة: فرض عليهم بالنسبة لمن بدأهم بالقتال.
الرابعة: فرضه عليهم مطلقاً وهي المرحلة الأخيرة.
الرأي الثاني: أن فرض القتال كان عاماً في قتال الكفار، من بدأ منهم بالقتال
ومن لم يبدأ، فكل من كان في حالة من يقاتل المسلمين يجب قتاله، لأن الأصل فيهم
عدم المسالمة، بل المقاتلة والفتنة، ولا يقفون عن هذا الأصل إلا إذا عجزوا،
وذلك لا يقتضي كف المسلمين عنهم حتى يعدوا العدّة وتقوى شوكتهم على المسلمين.
والدليل على عدم مسالمتهم قوله تعالى: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردّوكم عن
دينكم إن استطاعوا) [البقرة: 217].
ويفسر أهل هذا الرأي الاعتداء المنهي عنه، بتجاوز المسلمين القادرين على القتال
من الكفار إلى غيرهم ممن لا يقاتلون ولا يعينون على القتال، كالنساء والصبيان
والشيوخ والرهبان الذين انقطعوا للعبادة، فإن قتال هؤلاء لا يجوز كما ورد النهي
عنه في نصوص أخرى ستأتي في مكانها. ويفسرون الانتهاء في قوله: (فإن انتهَوا فإن
الله غفور رحيم) وقوله: (فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) بترك الكفر
والدخول في الإسلام، أو إعطاء الجزية والكفّ عن محاربة الله ورسوله.
وعلى هذا الرأي لا يوجد نسخ، وإنما زيد حكم الجزية الذي لم تتعرض له سورة
البقرة، في سورة التوبة.
وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وعمر بن عبد العزيز، واختاره ابن جرير الطبري
وابن كثير في تفسيريهما.
وتكون مراحل القتال ثلاثاً فقط:
الأولى: الحظر عندما كان المسلمون في مكة.
الثانية: الإباحة في أول الأمر بالمدينة.
الثالثة: فرضه مطلقاً [راجع هذه الأقوال في: جامع البيان عن تأويل آي القرآن
للطبري (2/189-200) والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/237-260) وتفسير القرآن
العظيم لابن كثير (1/226)، وفي ظلال القرآن لسيد قطب (2/187) وزاد المعاد لابن
القيم (2/65). الآية من سورة البقرة: 192]
والظاهر أنّ هذا هو أرجح الأقوال، لأن الاعتداء المنهي عنه في الآيات، فسّر
بنصوص السنة التي نهت عن قتال النساء والصبيان والشيوخ والرهبان.
والكفار الذين ليسوا من هذه الأصناف، هم في حالة من يقاتل المسلمين ولا يكفّون
عن ذلك إلا لعجز، وعجزهم لا يسوغ كفّ المسلمين عنهم حتى يستعدوا لقتالهم، بل
يجب مبادرتهم لإعلاء كلمة الله وخضد شوكة أعدائه.
( 63 )
وتتضمن آيات سورة التوبة هذه
المرحلة الأخيرة من مراحل الجهاد وتوضحها أكمل توضيح، قال تعالى: (براءةٌ من
الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر،
واعلموا أنكم غيرُ مُعْجزي الله وأن الله مُخْزي الكافرين. وأذانٌ من الله
ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريءٌ من المشركين ورسولُه، فإن تبتم
فهو خير لكم، وإن توليتم فاعلموا أنكم غيرُ مُعْجزي الله، وبشِّر الذين كفروا
بعذاب أليم. إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا
عليكم أحداً، فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين. فإذا انسلخ
الأشهر الحُرُم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخُذوهم واحصروهم واقعدوا لهم
كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلُّوا سبيلهم إن الله غفور
رحيم. وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجِرْه حتى يسمعَ كلام الله، ثم أبلغه
مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يؤمنون. كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا
الذين عاهدتم عند المسجد الحرام، فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب
المتقين) [التوبة:1-7].
وأضيفت الجزية في قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر،
لا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله، ولا يَدينون دينَ الحقِّ من الذين أوتوا
الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون) [التوبة: 29].
فأصبح المسلمون مكلَّفين أن يقاتلوا كفّار أهل الأرض حتى يسلموا أو يؤدوا
الجزية – على خلاف في أخذها من الوثنيين.
وقد لخّص ابن القيم رحمه الله مراحل الجهاد – بمعناه العام – من حين بعث الرسول
صلى الله عليه وسلم إلى أن لقي ربه، فقال: (أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى
أن يقرأ باسم ربه الذي خلق، وذلك أول نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يأمره
إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه: (يا أيها المدّثر قم فأنذر) فنبّأه بقوله: (اقرأ)
وأرسله بقوله: (يا أيها المدثر) ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر
قومه، ثم أنذر من حوله من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين، فأقام
بضع عشرة سنة بعد نبوته بالدعوة بغير قتال ولا جزية، ويؤمر بالكف والصبر
والصفح.
ثم أذن له في الهجرة، وأذن له في القتال، ثم أمره الله أن يقاتل من قاتله ويكف
عمن اعتزله ولم يقاتله ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله.
ثم بين رحمه الله أقسام الكفار بعد الأمر بالجهاد وأحكامهم في الإسلام بعد
توضيح آخر مرحلة من مراحل الجهاد، فقال: (ثم كان الكفار معه بعد الجهاد ثلاثة
أقسام: أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة، فأمر أن يتم لأهل العهد والصلح
عهدهم وأن يوفى لهم به ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم
عهودهم، ولما نزلت سورة براءة نزلت بيان حكم هذه الأقسام كلها، فأمر فيها أن
يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوه الجزية أو يدخلوا في الإسلام، وأمره بجهاد
الكفار والمنافقين بالحجة واللسان، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ
عهودهم إليه – إلى أن قال: - فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول سورة براءة على
ثلاثة أقسام: محاربين له وأهل عهد، وأهل ذمة، ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى
الإسلام، فصاروا معه قسمين: محاربين وأهل ذمة، فصار أهل الأرض معه ثلاث أقسام:
مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب) [زاد المعاد (2/90-92)].
ففرض المسلمين إذاً أن يجاهدوا حتى يحققوا هذه المرحلة من مراحل الجهاد في سبيل
الله، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتثالاً لأوامر الله ولا يجوز
لهم الوقوف عند المراحل السابقة عليها.
قال سيد قطب رحمه الله: (والعبرة بنهاية المراحل التي وصلت إليها الحركة
الجهادية في الإسلام بأمر من الله، لا بأوائل أيام الدعوة ولا بأوسطها، ولقد
انتهت هذه المرحلة كما يقول الإمام ابن القيم: (فاستقر أمر الكفار معه …) [في
ظلال القرآن (9/1446) ويراجع أيضاً (10/1581) من نفس الكتاب ] إلى آخر الفقرة
التي سبق ذكرها في كلام ابن القيم رحمه الله.
(64)
الفرع الثالث : حكم المراحل
الجهادية
بدأت الدعوة بعد البعثة النبوية سراً،
ثم أمر صلى الله عليه وسلم بالجهر بها فبلغ ما أمره به ربه، وأمر خلال ذلك
بالصبر على الأذى والصفح والكفّ عن القتال، إلى أن هاجر هو وأصحابه إلى
المدينة، ثم أذن لهم في قتال الظالمين، ثم فرض عليهم قتالهم – إذا بدأوا
بالقتال، أو مطلقاً كما مضى – وكانت أخر مراحل الجهاد – بمعناه الخاص – قتال
الكفار كافة، ونبذ عهودهم إليهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية وهم صاغرون – على
خلاف في غير أهل الكتاب – فما حكم هذه المراحل الجهادية التي مرّت بها الدعوة
الإسلامية؟
عندما يمر القارئ بنصوص القرآن المتضمنة للمراحل المذكورة يجد أن كثيراً من
المفسرين والمؤرخين، وغيرهم من العلماء ينصون على نسخ المراحل كلها بنصوص
المرحلة الأخيرة التي يطلقون عليها آية السيف.
ومعنى هذا أنه يجب على المسلمين أن يقاتلوا كفار الأرض كلهم حتى يسلموا أو
يعطوا الجزية وهم صاغرون، لأن هذه هي المرحلة الأخيرة وقد نسخت ما قبلها من
المراحل، والمنسوخ لا يجوز العمل به.
ولكن رجح كثير من المحققين عدم النسخ لأي مرحلة من المراحل الجهادية وهو الظاهر
[راجع جامع البيان للطبري (10//34) والجامع لأحكام القرآن (8/39)، (20/37)
وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/322)].
وعلى ذلك فإن للمسلمين أن يعملوا بحكم أي مرحلة منها، إذا كانت ظروفهم فيها
مشابهة للظروف التي نزلت فيها آياتها، والقول بغير هذا يؤدي إلى مواجهة الواقع
بما لا يكافئه، وبالتكليف بما هو فوق الطاقة.
فالمسلمون القادرون على الدعوة سراً فقط، لا يجوز تكليفهم الجهر بها كما هو
الحال في الدول الشيوعية، وغيرها من الدول الكافرة التي لا تأذن بالدعوة إلى
الله، بل تنزل العقاب على من يتصدى لذلك.
وإذا كانت بعض الدول تأذن بتبليغ بعض أمور الإسلام، كالعبادات الظاهرة، مثل
الصلاة والصيام والحج، وتحظر غيرها، كالزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
والدعوة إلى الجهاد، وعدم موالاة الكافرين وتحكيم شرع الله، فيجب على الدعاة
إلى الله أن يدعوا جهراً إلى الأمور المأذون فيها، ويدعوا إلى غيرها سراً.
فإذا آذاهم أعداء الله وامتحنوهم بسبب دينهم، فإن كانوا قادرين على الدفاع عن
أنفسهم بدون إلحاق الضرر القاضي عليهم وعلى أهليهم، فعليهم أن يدافعوا، وإذا لم
يكونوا قادرين، لقلة عددهم وسيطرة عدوهم على أجهزة الدولة، فعليهم أن يصبروا
حتى يحكم الله بينهم وبين عدوهم.
فإذا أصبحوا قادرين على قتال الكافرين وإخضاعهم لكلمة الله تعالى، بأن قامت لهم
دولة أو ما يشبهها فيجب أن يبدءوا أعداء الله بالقتال وهكذا … كل مرحلة يحتاج
المسلمون إلى تطبيقها جاز لهم ذلك. ولكن يجب عليهم السعي المتواصل لتطبيق
المرحلة الأخيرة.
قال سيد قطب رحمه الله: (ولكنا فقط نبادر فنقول: إن تلك الأحكام المرحلية ليست
منسوخة بحيث لا يجوز العمل بها في أي ظرف من ظروف الأمة المسلمة، بعد نزول
الأحكام الأخيرة في سورة التوبة، ذلك لأن الحركة في الواقع الذي تواجه في شتى
الظروف والأمكنة والأزمنة هي التي تحدد، عن طريق الاجتهاد المطلق، أي الأحكام
هو الأنسب للأخذ به في ظرف من الظروف … مع عدم نسيان الأحكام الأخيرة التي يجب
أن يُصار إليها، متى أصبحت الأمة المسلمة في الحال التي تمكنها من تنفيذ هذه
الأحكام، كما كان حالها عند نزول سورة التوبة وما بعدها، ذلك أيام الفتوحات
الإسلامية التي قامت على أساس من هذه الأحكام الأخيرة النهائية سواء في معاملة
المشركين أو أهل الكتاب …) [في ظلال القرآن (10/1580)].