( 65 )
المبحث الخامس : آداب الجهاد في سبيل الله
وفيه أربعة فروع:
الفرع الأول : آداب الجهاد قبل خوض المعركة.
الفرع الثاني : آداب الجهاد أثناء المعركة.
الفرع الثالث : آداب الجهاد بعد المعركة.
الفرع الرابع : بعض آداب الجهاد العامة.
آداب الجهاد في سبيل الله
يمتاز الجهاد في سبيل الله كغيره من
فرائض الإسلام وتشريعاته، عن الحروب الجاهلية ونظمها وقوانينها في الأهداف
والوسائل وغيرها، لأن فرائض الإسلام ومنها الجهاد في سبيل الله، من عند الله
تعالى، ونظم الجاهلية ومنها الحروب، من عند البشر، والفرق بين شريعة الله،
وقوانين البشر كالفرق بين الخالق والمخلوق.
وآداب الجهاد في الإسلام ويعني بها ما يطلب فعله وما يطلب تركه، فمنها ما هو
فرض يجب أداؤه، ومنها ما هو محرم يجب تركه، ومنها ما هو مندوب يسنّ الإتيان به.
ثم منها ما يكون قبل المعركة، ومنها ما يكون في أثنائها، ومنها ما يكون، بعدها،
وقد يكون يعض الآداب مشروعا على أي حال – مثل أن إخلاص المجاهد جهاده لله
تعالى.
وعلى هذا الأساس الأخير يرتب هذا المبحث.
الفرع الأول : آداب الجهاد المشروعة قبل
خوض المعركة
1 ) الإخلاص لله تعالى في أداء هذه
الفريضة:
والإخلاص، معناه تصفية العمل من شوائب
الشرك كبيره وصغيره، وهو مطلوب من المسلم في كل أعماله، كما قال تعالى: (وما
أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) [البينة: 5] وقال تعالى: (قل إنما أنا
بشر مثلكم يُوحى إليّ إنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً
صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) [الكهف: 110].
وقال تعالى في الحديث القدسي: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)
[مسلم (4/2289) من حديث أبي هريرة].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيّة ولكل امرئٍ ما نوى، فمن
كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا
يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) [البخاري رقم 53، فتح الباري
(1/135)، ومسلم (3/1515)].
وقال الفُضَيل بن عياض في قوله تعالى: (ليبلوكم أيّكم أحسن عملاً) أخلصه
وأصوبه، قيل: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: أنّ العمل لا يقبل حتى يكون خالصاً صواباً،
والخالص ما ابتغى به وجه الله، والصواب ما كان موافقاً لسنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم [ [الفتاوى لابن تيمية (10/173). والآية في هود: 7، والملك: 2] ]
والنصوص في هذا المعنى كثير من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال
السلف الصالح.
وهي عامّة في كل عمل يتقرب به الإنسان إلى ربه تعالى.
وقد خصّت فريضة الجهاد بالتأكيد على الحرص على إخلاص المجاهد نيته لله تعالى،
لأن تسرب الرياء إلى المجاهد أسرع منه إلى غيره، ولهذا عنيت النصوص بذلك غاية
العناية.
فالجهاد نفسه يرد في كتاب الله وسنّة رسوله مقيّداً بهذا القيد: (في سبيل الله)
وسيأتي ذلك مفصلاً أن شاء الله في مبحث: أهداف (الجهاد في سبيل الله) مقارناً
بأهداف الحروب الجاهلية.
ويكفي أن يُساق هنا ما كان يوصي به النبي صلى الله عليه وسلم أمراءه وجيوشه إذا
جهزهم للجهاد في سبيل الله.
ففي حديث بريدة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر
أميراً على جيش أو سرية [الجيش هو الجمع العظيم الذي يجيش بعضهم في بعض،
والسرية عدد قليل يسيرون بالليل ويكمنون بالنهار إهـ من المبسوط (10/4)] أوصاه
في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً)، ثم قال: (اغزوا باسم
الله …) [رواه مسلم (3/1356) وانظر جامع الأصول (2/589)] فالغزو ابتداءً يُراد
به وجه الله تعالى، لأنه يغزو باسمه لا باسم غيره.
وكذلك جوابه صلى الله عليه وسلم عندما سُئل عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية،
ويقاتل رياء: أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون
كلمة الله هي العليا: فهو في سبيل الله) [البخاري رقم الحديث 2910، فتح الباري
(6/27) ومسلم (3/ 1512، (2/589)]. ) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ]
لذلك يجب على المجاهدين في سبيل الله أن يتذكروا هذا الأمر العظيم عند خروجهم
حتى تكون جميع أعمالهم وحركاتهم في سبيل الله، كما قال تعالى: (ما كان لأهل
المدينة ومن حَوْلهم من الأعراب أن يتخلَّفوا عن رسول الله ولا يَرْغبون
بأنفسهم عن نفسه، ذلك بأنهم لا يصيبهم ضمأ ولا نَصَب ولا مَخْمصة في سبيل الله،
ولا يطئون مَوْطئاً يَغِيض الكفار، ولا ينالون من عدو نَيْلاً إلا كتب لهم به
عمل صالح، إن الله لا يضيع أجرَ المحسنين، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبير ولا
يقطعون وادياً إلا كتب لهم، ليجزيَهم الله أحسن ما كانوا يعملون) [التوبة: 120،
121، وانظر المبسوط للسرخسي (10/5)].
2 ) ومن آداب الجهاد الحفاظ على تقوى
الله تعالى والازدياد منها:
وقد أمر الله بتقواه عموماً في نصوص
كثيرة من كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل مدح التقوى وأثنى على
أهلها، وجعلهم أهلاً للاهتداء بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم دون غيرهم
من الناس.
فأمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها النبي اتَّقِ الله ولا تُطِع
الكافرين والمنافقين، إن الله كان عليماً حكيماً) [الأحزاب: 1].
بل إن الله تعالى جعلها وصيته للأولين والآخرين، فأمرهم بها جميعاً، كما قال
تعالى: (ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله)
[النساء: 131].
وكل رسول أمر بها قومه: (فاتقوا الله وأطيعون) [الشعراء: 108 وما بعدها].
ومدح التقوى، فقال: (ولباس التقوى ذلك خير) [الأعراف: 26].
وقال: (وتزوّدذا فأن خير الزاد التقوى واتَّقون يا أُولي الألباب) [البقرة:
197]، وأثنى على أهلها وجعلهم أحقّ بها وأهلها، فقال: (فأنزل الله سكينتَه على
رسوله والمؤمنين، وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحقَّ بها وأهلها) [الفتح: 26].
وقال تعالى: (ألم ذلك الكتاب لا رَيْب فيه هُدَىً للمتقين) [البقرة: 201].
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمراً عاماً، فقال: (اتِّقِ الله حيثما كنت)
[الترمذي وقال: حديث حسن (4/335) وهو في جامع العلوم والحكم لابن رجب ص:136].
وأوصى بها المجاهدين عند تشييعهم كما سبق من حديث بريدة قال: (كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى
الله …) [مسلم (3/1356) وهو في جامع الأصول (2/589)].
والحد الأدنى من تقوى الله أن يأتي الإنسان بالفرائض التي فرضها الله، وأن
يجتنب المعاصي التي حرّمها الله تعالى، وذلك موجب للجنة، كما ثبت في صحيح مسلم
في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أن رجلاً سأل رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فقال: (أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال،
وحرّمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئاً أدخل الجنة؟ قال: نعم) [مسلم (1/44) من
حديث جابر وانظر جامع العلوم والحكم لابن رجب ص:179)].
وفي حديث أبي ثعلبة الخُشني رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (إن الله فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرّم أشياء
فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها) قال النووي:
(حديث حسن، رواه الدار قطني وغيره) [جامع العلوم والحكم لابن رجب 242].
والحدّ الأعلى للتقوى أن يصل المسلم في وَرَعه إلى ملازمة نوافل الطاعات
واجتناب المكروهات، بل أن يصل إلى ترك بعض المباحات خشية من الوقوع في
المكروهات أو المحرمات، كما في الحديث القدسي الذي رواه البخاري أن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى قال: من عادَى لي ولياً
فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا
يزال عبدي يتقرَّب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به
وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني
لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه) [البخاري رقم 6502 فتح الباري (11/340)].
وفي حديث عطية السعدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبلغ العبد
أن يكون من المتَّقين حتى يدع ما لا بأس به حَذَراً مما به بأس)، قال ابن كثير
بعد أن ساق إسناد الحديث ومتنه: قال الترمذي: حسن غريب [تفسير القرآن العظيم
لابن كثير (1/40)].
وفي المبسوط للسرخسي: (وإنما يوصيه يتقوى الله تعالى، لأنه بالتقوى ينال النصرة
والمدد من السماء، قال تعالى: (بل إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا
يمددكم ربكم) [آل عمران: 125]، وبالتقوى يجتمع للمرء مصالح المعاش والمعاد)
[المبسوط (10/4)، وبدائع الصنائع (9/430)].
وسيأتي مزيد من الكلام على التقوى في بعض الفصول القادمة إنشاء الله ولا سيما
فصل عوامل النصر والهزيمة.
والمقصود هنا بيان تذكير المجاهد بما يشرع له قبل بدئه في قتال عدوه بهذا الأمر
العظيم الذي لا يصلح للجهاد من فقده.
( 66 )
3) اجتماع القائد بالجيش للتشاور في الأمور
المهمة قبل خوض المعركة:
ومن الآداب التي يجب مراعاتها قبل لقاء
العدو اجتماع القائدة بالمجاهدين للتشاور في الأمور التي تهمهم قبل لقاء العدو،
كتعيين ميدان المعركة، والموضع الذي يصلح مركزاً للقيادة، والوسائل التي يجب
اتخاذها للقضاء على العدو أو ردّ عدوانه كما حصل ذلك في غزوة بدر وأحد والخندق
وغيرها من الغزوات [انظر سيرة ابن هشام (2/188)، (3/16،27) وكذلك المغني لابن
قدامة (9/215)].
وسيأتي مزيد بيان لهذا الأدب العظيم في فصل: صفات المجاهدين إنشاء الله، إذ
المقصود هنا التذكير به قبل خوض المعركة مع الإعداد.
4 ) تشييع الغزاة عند خروجهم للجهاد في
سبيل الله:
ومن آداب الجهاد: تشييع المقيمين – وعلى
رأسهم الأمير إن كان مقيماً – الغزاة في سبيل الله، وتشجيعهم بذكر فضل الجهاد
والمجاهدين وإظهار إكرامهم لحفز هممهم وهمم المقيمين على الاستعداد لقتال العدو
عاجلاً أم آجلاً [انظر سيرة ابن هشام (4/8،9) وكذلك زاد المعاد (2/173)].
وفي ترتيب المسند: (باب تشييع الغازي، واستقباله، ووصية الإمام له) عن سهل بن
معاذ بن أنس الجهني عن أبيه رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال: (لأن أشيع مجاهداً في سبيل الله، فأكفه [قال في الحاشية: (بكسر الكاف أي
أخدمه وأعينه في حوائجه)] على راحلة غدوة أو روحة أحب إلي من الدنيا وما فيها)
[ الحديث رواه أحمد ز انظر ترتيب مسند الإمام أحمد، المسمّى (بالفتح الرباني
لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني) لأحمد عبد الرحمن البنا والد الإمام
حسن البنا (الساعاتي (14/51) وقال في الحاشية: (تخريجه: جه، ك، وفي إسناده ابن
لهيعة وشيخه زبان بن فايد، وكلاهما فيه كلام. ورواه ابن ماجه وغيره ].
وفي الموطأ عن مالك عن يحيى بن سعيد أنّ أبا بكر الصديق بعث جيوشاً إلى الشام،
فخرج يمشي مع زيد بن أبي سفيان، وكان أمير ربع في تلك الأرباع، فزعموا أن يزيد
قال لأبي بكر، إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال أبو بكر: (ما أنت بنازل وما أنا
براكب إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله …) [الموطأ (2/448) رقم 10].
5 ) مبايعة الجيش على الثبات وعدم
الفرار:
ومن آداب الجهاد أن يبايع أمير الجيش
جنده على الثبات قببل الشروع في القتال، تذكيراً لهم بحق الله تعالى عليهم من
بذل النفس في سبيله، وحضاً لهم على عدوه بعزم وتصميم وعدم تردد أو تهيّب.
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه على أمور كثيرة من أمور
الإسلام، ومن ذلك البيعة على عدم الفرار من العدو:
كما في حديث جابر رضي الله عنه قال: (كنّا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة
فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة، وهي سمرة)، وقال: (بايعناه على ألاّ نفر،
ولم نبايعه على الموت) [حديث جابر في صحيح مسلم (3/1483) وما بعدها].
قال النووي رحمه الله: (وفي رواية سلمة أنهم بايعوه يومئذ على الموت) [البخاري
رقم الحديث 2960/ فتح الباري (6/117)] وهو معنى رواية عبد الله بن زيد بن عاصم،
وفي رواية مجاشع بن مسعود: (البيعة على الهجرة، والبيعة على الإسلام والجهاد)
[البخاري رقم الحديث 2962، فتح الباري نفس الجزء والصفحة]، وفي حديث ابن عمر
وعبادة: (بايعناه على السمع والطاعة وألاّ ننازع الأمر أهله – كل هذه الروايات
في صحيح مسلم – قال: وفي رواية عن ابن عمر في صحيح مسلم البيعة على الصبر)
[البخاري رقم الحديث 2958، فتح الباري (6/117)] قال العلماء: (هذه الرواية تجمع
بين المعاني كلها وتبين مقصود كل الروايات: فالبيعة على الموت على ألا نفر
معناه الصبر حتى نظفر بعدونا أو نقتل، وهو معنى البيعة على الموت، أي الصبر وإن
آل بنا ذلك إلى الموت، لا أن الموت مقصود في نفسه، وكذلك البيعة على الجهاد، أي
والصبر فيه) [شرح النووي على صحيح مسلم (13/2-6) وانظر حواشي تحفة المحتاج على
المنهاج (9/238)].
( 67 )
6 ) إتفاق الغزاة في سبيل الله على شعار
يميّز المسلمين من غيرهم:
ومن آداب الجهاد أن يتفق المجاهدون على
كلمة سر لا يعلمها غيرهم، تكون شعاراً لهم ليميز بعضهم بعضاً عندما تلتقي
صفوفهم بصفوف عدوهم حتى لا يختلطوا بالمشركين، ويختلط المشركون بهم، لأن تمييز
المسلمين عن المشركين فيه فوائد عظيمة منها: عدم استطاعة المشركين الاختلاط بهم
للتجسس عليهم، أو الغدر بهم، ومنها عدم قتل المسلم أخاه المسلم خطأ منه أنه من
أفراد العدو.
وغير ذلك من الفوائد، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه قبل
أن يلتقي بهم العدو، شعاراً خاصاً بهم، كما في حديث المهلَّب بن أبي صُفْرة
رحمه الله عمّن سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بيَّتكم العدو، فقولوا
حم لا ينصرون) وروي عن المهلب مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه
الترمذي [جامع الأصول (2/573) رقم الحديث 1053، وقال المحشي: الترمذي، رقم
1682، في الجهاد، باب ما جاء في الشعار وأبو داود رقم2597 في الجهاد، باب في
الرجل ينادي بالشعار، وأخرجه أحمد في مسنده 45/65 و 5/377، وذكره ابن كثير في
تفسيره عن أبي داود والترمذي، وقال: هذا إسناد صحيح] وكان أصحابه رضي الله عنهم
يطبقون ذلك في غزوهم.
وفي حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: أمّر علينا رسول الله صلى الله عليه
وسلم مرة أبا بكر، فبيَّتنا ناس من المشركين نقتلهم، وقتلت بيديّ تلك الليلة
سبعة أهل أبيات من المشركين، وكان شعارنا: " أمِتْ " وفي رواية أخرى: يا منصور
أَمِتْ، أخرجه أبو داود، وانتهت روايته عند أمت الأولى، وفي أخرى لأبي داود
أيضاً قال: (غزونا مع أبي بكر زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان شعارنا:
أمِتْ … أمِتْ) [جامع الأصول (2/573) رقم الحديث: 1052، قال المحشي: أبو داود
رقم 2596 في الجهاد باب ما جاء في الرجل ينادي بالشعار . ورقم 2638، في الجهاد،
في البينات من حديث عكرمة بن عمار بن إياس بن سلمة عن أبيه، وسنده حسن، وأخرجه
أحمد في مسنده 4/64، والدارمي في سننه 2/219 من حديث ابن عميس عن إياس بن سلمة
بن الأكوع عن أبيه قال: بارزت رجلاً فقتلته فنفلني رسول الله صلى الله عليه
وسلم سلبه، فكان شعارنا مع خالد بن الوليد: أمت، يعني أقتل، وإسناده صحيح.
وانظر (الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني للشيخ أحمد
بن عبد الرحمن الساعاتي (13/56)].
ويظهر من الحديثين: حديث المهلب، وحديث سلمة أن الشعار كان مما يداوَم عليه في
الغزو.
( 68 )
7) تنشيط المجاهدين بالأناشيد
ومن آداب الجهاد مشاركة القائد جيشه في
العمل والإعداد لقتال العدو والترويح عنهم، بترديد بعض الأناشيد الإسلامية
المشجعة مع رفع الصوت بذلك، لما فيه من جلب النشاط والتشجيع على العمل والتهييج
على العدو، وما ورد من كراهة رفع الصوت عند القتال لا ينافي رفع الصوت عند
الإعداد.
ففي حديث البراء رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
الخندق، وهو ينقل التراب حتى وارى التراب شعر صدره، وكان رجلاً كثير الشعر وهو
يرتجز برجز عبد الله:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ========= ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ============ وثبِّت الأقدام أن لاقينا
أنّ العِدا قد بَغَوا علينا ============ وإن أرادوا فتنةً أبينا
يرفع بها صوته [الحديث في صحيح البخاري ]
قال الحافظ: (وجرت عادة العرب باستعماله – الرجز – في الحرب ليزيد في النشاط،
ويبعث الهمم، وفيه جواز تمثل النبي صلى الله عليه وسلم بشعر غيره … إلى أن قال:
وكان المصنف – يعني البخاري – أشار في الترجمة بقوله: رفع الصوت في حفر الخندق
إلى أن كراهة رفع الصوت مختصة بحال القتال، وذلك فيما أخرجه أبو داود من طريق
قيس بن عبادة قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند
القتال). [ يراجع مع تعليق الحافظ ابن حجر المذكور في الفتح (6/160،161).
وقال محمد بن شمس الحق العظيم آبادي نقلاً عن الشوكاني: (لعل وجه كراهتهم لذلك
أن التصويت في ذلك الوقت ربما كان مشعراً بالفزع والفشل بخلاف الصمت، فإنه دليل
الثبات ورباط الجأش) [عون المعبود شرح سنن أبي داود (7/319) ورقم الحديث فيه
2639].
8) تقسيم الجيش تحت نقباء
من الضروري للقائد أن يكون جيشه منضبطاً
منظماً تنظيماً يمكنه من تبليغ ما يريد تبليغه إياهم بأقصى سرعة ممكنة، كما أنه
قد يحتاج إلى إقناعهم بأمر ما من أمور الحرب، ويصعب إقناع كل فرد على حدة
لكثرتهم، وقد يظهر بعضهم رضاه بما يأمرهم به القائد، فيظن القائد أن الجيش كله
قد وافق على ذلك، مع أن بعضهم قد يكون غير راضٍ، وفي ذلك ما فيه من الخطر الذي
قد يقع ممن لم يرضَ بذلك الأمر في وقت يصعب فيه تدارك الأمر، لذلك يجب أن يقسم
القائد المسلم جنده إلى مجموعات طبقاً لما تقتضيه المصلحة، ويؤمر على كل مجموعة
عريفاً أو نقيبا يكون مسئولاً عنهم، وعن طريقه تكون البلاغات والأوامر
والمشاورة، وغير ذلك من الأمور.
ففي غزوة حُنَيْن: جاءه هوازن يطلبون منه صلى الله عليه وسلم أن يرد إليهم ما
أخذ من أموالهم، وسبي من مواليهم ونسائهم، فخطب في أصحابه قائلاً: (أما بعد فإن
إخوانكم قد جاؤونا تائبين، وإني قد رأيت أن أردّ إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن
يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء
الله علينا فليفعل). فقال الناس: (قد طيبنا ذلك يا رسول الله) فقال رسول الله
صلى اله عليه وسلم: (إنا لا ندري من أذِن منكم في ذلك ممن لم يأذن فارجعوا حتى
يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم) فرجع الناس، فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا [البخاري رقم 4321، فتح
الباري (7/34)].
وقال الحافظ: (وهو – أي العريف – القائم بأمر طائفة من الناس من عرُفت بالضم
وبالفتح على القوم أعرُف بالضم فأنا عارف وعريف أي وليت أمر سياستهم وحفظ
أمورهم، وسمى بذلك لكونه يتعرف أمورهم حتى يُعَرَّف بها من فوقه عند الاحتياج
[فتح الباري (13/168)]إهـ.
ووجه الدلالة من هذا الحديث وجود عرفاء في المعركة بمقتضى تنصيبهم قبل البدء
فيها، بأن يكون لكل مجموعة منهم عريف يرعى شؤونهم ويبلغهم أوامر القائد
وتعليماته ويرفع إليه ما هم في حاجة إليه.
وفي هذا الحديث الشريف تربية عملية من الرسول صلى الله عليه وسلم لمن ولي أمور
المسلمين ألا يتصرف في حقوقهم بدون إذنهم، فهو صلى الله عليه وسلم ولي أمر
المسلمين وكان أصحابه رضي الله عنهم يقدمون طاعته على رغبات أنفسهم، ويقدمون
محبته على محبة أرواحهم، يتسابقون لإنفاذ أوامره، وهو صلى الله عليه وسلم معصوم
من أن يظلم أو يجور أو يتبع هوى أو شهوة، ومع ذلك يطلب من أصحابه أن يردوا سبي
هوازن فيلبون طلبه، ولكنه يخشى أن يكون بعض الأفراد غير راضين، فلا يبتُّ في
الأمر حتى يرد الأمر إلى عرفاء الناس الذين يستطيعون أن يعرفوا رأي كل واحد من
جماعتهم، ليستيقن صلى الله عليه وسلم أن القوم راضون غير مكرهين ولا محرجين.
فأين هذا الأدب النبوي العظيم مما يعمله من ولاّهم الله رقاب المسلمين من
الزعماء الذين يغتصبون حقوق الناس بدون حق، ويعملون شتى أنواع الحيل للوصول إلى
ذلك، إما في صورة قانون جائر، وإما عن طريق بطش ظالم...
( 69 )
9) ومن آداب الجهاد اتخاذ الألوية والرايات
واللواء أو الراية أو العلم يتخذها
المجاهدون، وكان الأصل أن يمسكها رئيس الجيش، ثم صارت تحمل على رأسه رمزاً لرفع
كلمة الله التي ينضوي تحتها المؤمنون، ويشدون على أعداء الله الذين يريدون
إطفاء نور الله وتحطيم راية الإسلام ورفع راية الكفر.
وقد كان إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم الراية لأحد أصحابه، دليلاً على محبة
الله ورسوله له ومحبته لله ورسوله، ولذلك كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم
يتمنى كل واحد منهم أن ينال شرفها.
ففي صحيح البخاري عن أبي حازم قال: أخبرني سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: (لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يفتح الله
على يديه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله) قال: (فبات الناس يدوكون ليلتهم
أيّهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم
يرجوا أن يعطاها)، فقال: (أين علي بن أبي طالب؟ )، فقيل: هو – يا رسول الله –
يشتكي عينيه، قال: (فأرسلوه إلي) فأُتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم
في عينيه ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: (يا
رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟) فقال: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم
ثم ادعهم إلى الإسلام، واخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي
الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم) [البخاري رقم 4210، فتح الباري
(7/476) ومسلم (4/1871)].
قال الحافظ: (وفي هذه الأحاديث استحباب اتخاذ الألوية في الحروب، وأن اللواء
يكون مع الأمير أو من يقيمه لذلك عند الحرب)، وقد تقدم حديث أنس: (أخذ الراية
زيد بن حارثة فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، الحديث) [الفتح (6/129)].
وكما يتنافس المجاهدون في حمل راية الإسلام والإنضواء تحتها، فإن عليهم أن
يبتعدوا عن راية الجاهلية، أو الرايات العمياء التي لا يعرف هدفها، خشية من أن
يقادوا إلى ما يسخط الله، وهم إنما يريدون وجهه ورضاه، عن أبي هريرة رضي الله
عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة،
فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب للعصبية، أو يدعوا إلى
عصبية أو ينصر عصبية، فقتل، فَقِتْلَةٌ جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها
وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه) [صحيح
مسلم (3/1476)].
[قال النووي في معنى عمية: " هي بضم العين وكسرها، لغتان مشهورتان، والميم
مكسورة ومشددة، والياء مشددة أيضاً، قالوا هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه، كذا
قاله أحمد بن حنبل والجمهور، قال إسحاق بن راهويه، كتقاتل القوم للعصبية إهـ.
من شرح النووي على صحيح مسلم (12/238)]
والظاهر من قوله: (يغضب لعصبية، أو يدعو إلى عصبية، أو ينصر عصبية، إنه تفسير
لهذه الراية العمية، والمراد أنه لا يقاتل لإعلاء راية الإسلام وإنما لإتباع
هوى أو نصر ذي هوى، فلا يدخل في ذلك من قاتل تحت راية حاكم جائر ضد احتلال عدو
كافر لأرض المسلمين والسيطرة عليهم لأن الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر، كما مضى،
إلا أن يشترط في هذا الفجور ألا يصل إلى الكفر البواح، فإن كان الحاكم كافراً
كفراً بواحاً عند المسلمين فيه من الله برهان فعندئذ يجب أن يبدءوا به فيقاتلوه
هو وأعوانه وينصبوا من يحكم فيهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، لأن
الكافر الذي اتضح كفره قد يخدع المسلمين ويتعاون مع أعدائهم ضدهم.
ومن الكفر البواح: تحليل ما حرّم الله أو تحريم ما أحلّ الله، مثل أن يبيح
لنفسه وضع قوانين تخالف أحكام الكتاب والسنّة، أو يعتقد عدم صلاح الحكم
بالإسلام، وكذا من أجاز له ذلك من أعوانه ورعيته فإنه كافر بالله تعالى.
قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي
صليب من ذهب) فقال: (يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك) قال: (فطرحته وانتهيت
إليه، وهو يقرأ سورة براءة )، فقرأ هذه الآية: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم
أرباباً من دون الله)، قال: (قلت يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم)، فقال: (أليس
يحرمون ما أحلّ الله فتحرمونه ويحلّون ما حرّم الله فتحلونه؟) قال: قلت بلى،
قال: (فتلك عبادتهم) [جامع البيان عن تأويل آي القرآن (10/114) الآية في
التوبة:31].
( 70 )
10) اللجوء إلى الله تعالى والاستغاثة به:
ومن آداب الجهاد في سبيل الله اللجوء
إلى الله لدعائه والاستغاثة به وطلب نصره على الأعداء، وهذه سنة مضى عليها
أولياء الله من الأنبياء والرُسل وأتباعهم، كما فعل نوح عليه السلام عندما شعر
بقوة قومه المادية: (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر) [القمر:2] وقال تعالى: (وكأي
من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما
استكانوا والله يحب الصابرين، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا
وإسرافنا في أمرنا وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) [آل
عمران:146-147].
وقال عن جنود طالوت: (ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً
وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله) [البقرة:
250-251].
وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من دعاء الله والاستغاثة به، وبه
اقتدى أصحابه كما قال تعالى: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من
الملائكة مردفين) [الأنفال: 9].
وعن طارق بن شهاب قال: (سمعت ابن مسعود يقول: شهدت من المقداد بن الأسود مشهداً
لأن أكون صاحبه أحب إليّ مما عدل به، أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يدعو
على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: (فاذهب أنت وربك) ولكنا نقاتل
عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه
وسرّه يعني قوله) [البخاري رقم 3952، فتح الباري (7/287)].
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى المشركين وعدّتهم، ونظر إلى أصحابه نيّفاً على ثلثمائة، فاستقبل
القبلة، فجعل يدعو ويقول: اللهمّ أنجز لي ما وعدتني، اللهمّ إن تهلك هذه
العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض، فلم يزل كذلك حتى سقط رداؤه، وأخذه
أبو بكر الصديق رضي الله عنه فوضع رداءه عليه، ثم التزمه من وراءه ثم قال: كفاك
يا نبي الله بأبي وأمي مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك)، فأنزل الله (إذ
تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدّكم بألفٍ من الملائكة مردفين) [جامع البيان
عن تأويل آي القرآن لابن جرير الطبري (9/189) وهو في صحيح مسلم (3/1383) مع
الاختلاف في بعض ألفاظه].
وقد دلّ حديث أنس الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي على مداومة الرسول صلى
الله عليه وسلم على الدعاء إذا غزا، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
غزا قال: (اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول ولك أصول، وبك أقاتل) – هذه رواية
أبي داود – وفي رواية الترمذي: (أنت عضدي وأنت نصيري وبك أقاتل) [جامع الأصول
(5712) رقم الحديث 1049، قال المحشي: (وإسناده صحيح، وحسّنه الترمذي].
وسيأتي مزيد بيان عن الدعاء وفوائده إن شاء الله في فصل عوامل النصر وعوامل
الهزيمة.
( 71 )
11 ) دعوة الكفار إلى الإسلام قبل القتال:
المقصود من الجهاد في سبيل الله تعالى:
رفع راية الإسلام، وهداية الناس إلى الله، وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة
الله، والأصل في ذلك أن يبلّغ الناس هذه الدعوة بالوسائل الممكنة ويشرح لهم
محاسن الإسلام، وأنه فرض على كل الناس أن يدخلوا فيه، وأنه لا دين حق في الأرض
سواه (ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)
[آل عمران: 85] (إن الدين عند لله الإسلام) [آل عمران: 19].
حكم الدعوة قبل القتال
واختلف العلماء في حكم الدعوة قبل القتال.
فذهب الحنفيون إلى وجوبها على المجاهدين في حق من لم تبلغهم الدعوة، وإلى أنها
أفضل في حق من بلغتهم الدعوة، وإلى جواز تركها في حق من بلغتهم وخشي تحصنهم إذا
أنذروا، معاجلة المسلمين بالحرب [انظر المبسوط (10/6،30) وشرح فتح القدير
(5/444)].
وقريب من هذا ما ذهب إليه الشافعيون، إلا أن الحنفيين قالوا إذا قاتل المسلمون
الكفار الذين لم تبلغهم الدعوة فقتلوهم لم يضمنوا، وقال الشافعيون يضمنون [انظر
حواشي تحفة المحتاج على المنهاج (9/242)].
والظاهر من مذهب الحنابلة وجوب الدعوة أيضاً في حق من لم تبلغهم واستحبابها في
حق من بلغتهم، وفرق بعضهم بين أهل الكتاب والمجوس فيقاتلون بدون دعوة لأن
الدعوة بلغتهم، وبين الوثنيين فيجب دعوتهم [انظر المغني (9/210)].
ولا دليل على هذا التفريق، لأن المدار على بلوغ الدعوة وعدمه، والأمة التي
بلغتها الدعوة الآن، قد يأتي زمان عليها لم تبلغها الدعوة فيه، ومما يدل على
عدم صحة هذا التفريق قصة سلمان الفارسي مع قومه (وهم مجوس) كما في الترمذي، عن
أبي البحتري (سعيد بن فيروز رحمه الله) أن جيشاً من جيوش المسلمين كان أميرهم
سلمان الفارسي، حاصروا قصراً من قصور فارس، فقال المسلمون: (ألا ننهد إليهم؟)
قال: (دعوني أدعوهم،كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو، فأتاهم) فقال:
(إنما أنا رجل منكم فارسي، وترون أن العرب يطيعونني، فإن أسلمتم فلكم مثل الذي
لنا وعليكم مثل الذي علينا، وإن أبيتم إلا دينكم تركناكم عليه وأعطونا الجزية
عن يد وأنتم صاغرون، ورطن إليهم بالفارسية: وأنتم عير محمودين، وإن أبيتم
نابذناكم على سواء)، قالوا: (ما نحن بالذي نعطي الجزية، ولكننا نقاتلكم، قالوا:
يا أبا عبد الله: ألا ننهد إليهم)، قال: (لا فدعاهم ثلاثة أيام إلى مثل هذا، ثم
قال [ جامع الأصول رقم 1075، وقال المحشي: رقم 1548 في السير باب ما جاء في
الدعوة قبل القتال، وقال: وفي الباب عن بريدة والنعمان بن مقرن، وابن عمرو وابن
عباس، وحديث سلمان حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث عطاء بن السائب، سمعت محمداً
– يعني البخاري – يقول البحتري لم يدرك سلمان، لأنه لم يدرك علياً، وسلمان مات
قبل علي]: انهدوا إليهم، فنهدوا إليهم، ففتحوا ذلك القصر (أخرجه الترمذي)..
أما المالكيون فذهبوا إلى وجوب الدعوة قبل القتال مطلقاً، أي سواءً بلغتهم أم
لم تبلغهم [انظر الشرح الصغير على اقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك (2/275)].
ومحصَّل الأقوال: أن الحنفيين والشافعيين والحنابلة يرون التفصيل: وجوب الدعوة
في حق من لم تلبغهم، وعدم وجوبها في حق من بلغتهم، وأن المالكين يرون وجوب
الدعوة مطلقاً، إلا أن الذي نص عليه ابن عبد البر في الكافي يوافق ما نص عليه
في المذاهب الثلاثة حيث قال: (وكل من بلغته دعوة الإسلام لم يحتج إلى أن يدعى،
وكل من لم تبلغه لم يقاتل حتى يدعى إلى الإسلام، وكان مالك يستحب ألا يقاتل
العدو حتى يدعوا إلى الإسلام بَلَغَتْهُم الدعوة أو لم تبلغهم إلا أن يعجلوا عن
ذلك فيقاتلوا) [الكافي (2/466) لابن عبد البر].
ويحكى قول ثالث وهو عدم الوجوب مطلقاً [غزوة بني المصطلق لإبراهيم القريبي ص:
45].
وأرجح الأقوال - فيما يظهر – التفصيل، وهو وجوب الدعوة إلى الإسلام في حق من لم
تبلغهم قبل القتال، لأنهم حينئذ لا يدرون على ماذا يقاتلون؟ وقد يفسرون مقاتلهم
أنها من أجل نهب أموالهم ونحو ذلك، وإقامة الحجة واجبة: (وما كنا معذبين حتى
نبعث رسولاً) [الإسراء: 15].
ويدل على هذا حديث بريدة: (إذا لقيت عدوك، فادعهم إلى ثلاث خصال … ادعهم إلى
الإسلام، فإن أجابوك فكف عنهم واقبل منهم …) [صحيح مسلم رقم الحديث 1731، وهو
في جامع الأصول (2/589) رقم 1073] واستحباب الدعوة إلى الإسلام قبل القتال في
حق من بلغتهم قبل ذلك ولم يخشَ معاجلتهم المسلمين أو فواتهم عليهم، مبالغة في
الإنذار الذي قد يهدي الله به القوم، ويدل على هذا أن يهود خيبر كانوا قد
بلغتهم الدعوة، ومع ذلك فقد سأل علي رضي الله عنه عندما أعطي الراية وأمره
النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم فقال: (يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا
مثلنا؟) فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (انفذ على رسلك حتى تنزل
بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه …
الحديث) [البخاري رقم 4210، انظر فتح الباري (7/476) ومسلم (4/1872)].
فإن كانوا قد بلغتهم الدعوة ودلّت القرائن على أنهم يبيتون للمسلمين شراً أو
يجمعون جموعهم لقتال المسلمي، فالذي يظهر أنه يجب في هذه الحالة على المسلمين
أن يغيروا عليهم دون إنذار سابق، لأن المسلمين على حق والكفار على باطل،
والفرصة إذا سنحت للمسلمين يجب عليهم اغتنامها وعدم تفويتها والرسول صلى الله
عليه وسلم يقول: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله) [مسلم (4/2052)].
ولعل إغارة الرسول صلى الله عليه وسلم على بني المُصْطَلِق وهم غارُّون – أي
غافلون – من هذا الباب، لأنهم كانوا ضمن الأحابيش الذين غزو الرسول صلى الله
عليه وسلم في غزوة أحد، كما أنهم كانوا يجمعون لقتاله قبل أن يغزوهم [راجع
المبسوط (10/30-31) وزاد المعاد (2/125) وغزوة بني المصطلق لإبراهيم القريبي
مخطوطة ص:48].
وكذلك غزوة تبوك إذ كان الروم يتحفزون لغزو المسلمين.
ويحصل بلوغ الدعوة بانتشارها، وعلم الناس عنها في الجملة، لأن سماعهم بها يلزم
الاستفسار عنها وتعلمها، وقد كان كثير من المشركين يبعثون من يأتيهم بخبرها أو
يسافرون بأنفسه لسماعها.
وقد توافرت في هذا العصر الوسائل التي يمكن تبليغ الدعوة بها إلى كافة الناس
بلغاتهم: مثل الإذاعة والتلفاز، والهاتف والأشرطة المسجلة، والكتب المترجمة،
والصحف والمجلات والإنترنت … وغيرها.
ويكفي أن يبلغ زعماء الأمم تلك الدعوة ويطلب منهم أن يبلغوا قومهم وأن يدخلوا
جميعاً في الإسلام، وهم الذين يتحملون بعد ذلك مسئولية قومهم إن لم يبلغوهم،
كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم عندما كاتب الملوك والرؤساء.
كما في كتابه صلى الله علسه وسلم إلى هرقل ما نصه: (بسم الله الرحمن الرحيم. من
محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني
أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن
عليك إثم الأريسيين [الأريسيون: الفلاحون والزارعون والمقصود رعاياه شرح النووي
على مسلم (12/109)] (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا
نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن
تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) [البخاري رقم 2940 فتح الباري (6/109) ومسلم
(3/1393) وقال النووي: في هذا الكتاب جمل من القواعد وأنواع من الفوائد، منها
دعاء الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم وهذا الدعاء واجب، والقتال قبله حرام إن لم
تكن بلغتهم دعوة الإسلام، وإن كانت بلغتهم فالدعاء مستحب، هذا مذهبنا وفيه خلاف
للسلف سبق بيانه في أول كتاب الجهاد إهـ (12/107-109) شرح النووي على مسلم
والآية في آل عمران:64].
وفي حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى، وإلى
قيصر، وإلى النجاشي، وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله وليس بالنجاشي الذي صلى عليه
النبي صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم [(3/1397) وهو في مشكاهة المصابيح برقم
3926 (2/381)].
وهكذا فعل أصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم: عن أبي وائل قال: كتب خالد بن
الوليد إلى أهل فارس (بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى رستم
ومهران في ملأ فارس، سلام على مكن اتبع الهدى، أما بعد فإنا ندعوكم إلى
الإسلام، فإن أبيتم فاعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، فإن أبيتم فإن معي قوماً
يحبون القتال قي سبيل الله، كما تحب فارس الخمر، والسلام على من اتبع الهدى)
[مشكاة المصابيح (2/383)].