( 72 )
الفرع الثاني : آداب القتال أثناء المعركة
أولاً: عدم قتل غير المقاتلين:
الإسلام دين الرحمة والعدل، وهو يعم
بهما – أي بالرحمة والعدل – كل الناس في حالة السلم، وفي حالة الحرب، إلا من
حارب الرحمة و العدل فإن من العدل – حينئذ - في حقه أن ينال جزاءه من القتل
والخزي والعذاب كما قال تعالى: (ألا تقتلوا قوماً نكثوا أيمانهم، وهمّوا
بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة، أَتَخْشَوْنهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم
مؤمنين. قاتلوهم يعذِّبهم الله بأيديكم، ويُخْزِهم، ويَنْصُركم عليهم،
ويَشْفِِ صدور قوم مؤمنين ويُذْهب غيظَ قلوبِهم، ويتوبُ الله على من يشاء
والله عليم حكيم) [التوبة:13-15].
أما الكافر الذي لا يقاتل المسلمين، كالنساء والأطفال ونحوهم – كما سيأتي
بيانهم قريباً – فإن قتلهم يعتبر ظلماً واعتداء لا يرضاه الله، وقد ورد بذلك
الكتاب والسنة، وطبقه المسلمون في حروبهم.
قال تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب
المعتدين) [البقرة: 190].
وقد اختلف العلماء في المعنى المراد بقوله: (الذين يقاتلونكم) فرأى بعضهم أن
معنى ذلك أن يكف المسلمون عن قتال من لم يقاتلهم من الكفار أي لا يقاتلون إلا
من بدأهم بالقتال [انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/347)، والمنار لمحمد
رشيد رضا (2/208)]
ثم من العلماء من رأى أن الآية محكمة، وأن بدأ المسلمين بقتال المشركين يعتبر
اعتداء لا حق لهم فيه، وحمل هؤلاء الآيات التي فيها الأمر بقتال المشركين
كافة وبراءة الله ورسوله منهم، كما في سورة التوبة، حملوها على ناقضي العهد
الذين يبدأون بالاعتداء على المسلمين [انظر تفسير المنار (10/179-199)].
ومنهم من رأى الآية منسوخة بآيات الجهاد التي نزلت في آخر مراحله في سورة
التوبة، مثل قوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة
وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) [التوبة:5].
وقوله: (وقاتلوا المشركين كافة، كما يقاتلونكم كافة) [التوبة: 36].
ومن هؤلاء ابن زيد والربيع [(2/348) تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن)].
وعلى هذا فهذا الحكم، وهو عدم بدء المسلمين بقتال من لم يقاتلهم، كان مرحلة
من مراحل الجهاد، وقد سبق الكلام على ذلك في مبحث: مراحل الجهاد.
وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالآية نهي المسلمين أن يقاتلوا من لم يكن من
أهل القتال، كالمرأة والصبي ونحوهما، وهي محكمة، وليست منسوخة وعلى هذا ابن
عباس، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد والمعنى: قاتلوا الذين هم بحالة من
يقاتلونكم، ولا تعتدوا في قتل الصبيان والرهبان وشبههم، واستدل لهؤلاء
بأمرين:
الأمر الأول: إن القتال يفيد المشاركة، والنساء والأطفال ونحوهم لا يقاتلون،
فلا يقتلون، ولذلك فحمل الآية على نهي المسلمين عن قتال من لم يقاتلهم متعين.
الأمر الثاني: ما ورد في السنة النبوية مفسراً لهذا المعنى حيث نهى النبي صلى
الله عليه وسلم عن قتل النساء، ومن أشبههن ممن ليسوا أهلاً للقتال [انظر
الجامع لأحكام القرآن (2/348)].
والذي يظهر رجحان هذا القول الأخير.
وقد لخص القرطبي رحمه الله من يدخل في هذا النهي في ست صور:
1) النساء 2) الصبيان.
3) الرهبان 4) الزَّمْنَى.
5) الشيوخ 6) العُسفاء والأجراء والفلاحون.[المرجع السابق (2/348)].
( 73 )
1) : النساء والصبيان.
ورد النهي صريحاً عن قتل النساء
والصبيان، كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (إن امرأة وُجِدت في
بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة، فأنكر رسول الله صلى الله عليه
وسلم قتل النساء والصبيان) [البخاري رقم الحديث 3014، فتح الباري (6/148)
ومسلم (3/1364)].
ففي هذا الحديث دليل على عدم جواز قتل النساء والصبيان كما هو واضح.
وفي حديث الصعب بن جثامة ما قد يفهم من ظاهره ما يخالف حديث ابن عمر السابق،
ونصه: مرّ بي النبي صلى الله عليه وسلم بالأبواء أو بودَّان، وسئل عن أهل
الدار يبيتون من المشاركين فيصاب من نسائهم وذراريهم، قال: (هم منهم)
[البخاري رقم 3012، فتح الباري (6/148) ومسلم (3/1364)].
وقد حمل العلماء الحديث الأول - حديث ابن عمر - على العمد، أي لا يجوز
للمسلمين أن يتعمدوا قتل النساء والصبيان، وحملوا الحديث الثاني – حديث الصعب
– على حالة عدم تميز النساء والأطفال، كما في حالة التبييت.
قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم عند الكلام على حديث ابن
عمر: (أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث وتحريم قتل النساء والصبيان ما لم
يقاتلوا، فإن قاتلوا قال جماهير العلماء يقتلون) [شرح النووي على صحيح مسلم
(12/48)].
وقال في شرحه على حديث الصعب: "( والمراد إذا لم يتعمدوا من غير ضرورة وأما
الحديث السابق – أي حديث ابن عمر – في النهي عن قتل النساء والصبيان فالمراد
به إذا تميزوا " [المرجع السابق (12/49)].
2): الرهبان والشيوخ الزمنى والاجراء.
ذهب الحنفيون والمالكيون والحنبليون
إلى أن هؤلاء كلهم لا يقتلون ما لم يقاتلوا [انظر فتح القدير لابن الهمام،
وحواشيه (5/452) فما بعدها، والشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام
مالك (2/277) وكذلك كتاب الكافي لابن عبد البر (1/466) والمغني لابن قدامة
(9/311)].
وذهب الشافعيون إلى أن هؤلاء كلهم يقتلون في أظهر القولين عندهم، من عدا
المرأة والصبي [انظر حواشي تحفة المحتاج على المنهاج (9/240-241) وتكملة
المجموع للعقبي (18/77)]، وهذا ما نصره ابن حزم في المُحَلَّى [(7/297)].
أدلة من رأى عدم قتلهم جميعا
استدل القائلون بعدم قتل الأصناف
المذكورة ما لم يقاتلوا بأدلة:
الدليل الأول:
الآية القرآنية السابقة الذكر (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم)
[البقرة: 190]، قالوا: فكل من لم يقاتل ولم يبد منه ما يضر المسلمين من رأي
يفيد الكفار أو تحريض أو مال ونحوه، فإنه لا يجوز قتله.
الدليل الثاني:
ما ورد في بعض كتب السنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن بعض الصحابة من
النهي عن قتل بعض من ذكر.
ففي حديث رباح بن الربيع رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم في غزوة، فرأى الناس مجتمعين على شيء، فبعث رجلاً، فقال: (انظر على ما
اجتمع هؤلاء؟) فجاء فقال على امرأة قتيل، فقال: (ما كانت هذه لتقاتل وعلى
المقدمة خالد بن الوليد)، قال: فبعث رجلاً، فقال: قل لخالد: (لا تقتلن امرأة
ولا عسيفاً) أخرجه أبو داود [جامع الأصول (2/598) قال المحشي: رقم 2669 في
الجهاد، باب في قتل النساء، وإسناده صحيح].
واستدل بالحديث من وجهين: الوجه الأول قوله صلى الله عليه وسلم: (ما كانت هذه
لتقاتل) فجعل صلى الله عليه وسلم العلة في النهي عن قتلها كونها لا تقاتل،
وهذا يوضح معنى قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم).
الوجه الثاني: النص على العسيف، وهو الأجير، والغالب أنه لا يقاتل كالمرأة
والصبي.
وفي حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (انطلقوا باسم
الله، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً، صغيراً ولا امرأة، ولا تغلوا،
وضموا غنائمكم، وأصلحوا) (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) [سنن أبي داود
(3/86)، وهذا سنده: حدّثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن آدم، وعبيد الله
بن موسى عن حسن بن صالح، عن خالد بن الفزر، حدّثني أنس … إعداد وتعليق عزت
عبيد الدعاس، نشر وتوزيع محمد علي السيد. والآية في سورة البقرة: 195،
والحديث في جامع الأصول (2/596) رقم 1 الحديث 1076 بتحقيق عبد القادر
الأرناؤوط، قال في الحاشية: وفي سنده خالد بن الفزر، الهادي عن أنس، لم يوثقه
غير ابن حبان، وبقية رجاله ثقات، وله شواهد يتقوى بها].
الدليل الثالث: وصية أبي بكر رضي الله عنه لأمير له: (لا تقتلن امرأة ولا
صبياً ولا كبيراً هرماً، إنك ستمر على قوم قد حبسوا أنفسهم في الصوامع، زعموا
لله، فدعهم وما حبسوا أنفسهم له …) [جامع الأصول (2/599) قال المحشي: وفيه
انقطاع لأن يحيى بن سعيد لم يدرك أبا بكر].
( 74 )
أدلة من رأى قتلهم جميعا، ما عدا المرأة
والصبي
واستدل القائلون بقتل من عدا المرأة
والصبي الذي لم يبلغ الحلم بأدلة:
الدليل الأول:
العموم الوارد في النصوص بقتل
المشركين كافة، وبقتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، كقوله تعالى: (فاقتلوا
المشركين حَيْثُ وجدتموهم، وخُذُوهم، واحصُروهم، واقعدوا لهم كل مَرْصَد، فإن
تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلُّوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم)
[التوبة: 5].
وكذلك قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا
يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله، ولا يدينون دينَ الحق من الذين أوتوا الكتاب
حتى يُعْطُوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون) [التوبة: 29].
الدليل الثاني:
الأمر بقتال الشيوخ نصاً، كما في سنن
أبي داود والترمذي عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
(اقتلوا شيوخ المشركين، واستحيوا شرخهم) - أي صغارهم - [الترمذي (4/145)
ومشكاة المصابيح (2/386) والمحلى (7/298)]، والحديث قال الترمذي فيه: (هذا
حديث حسن صحيح غريب).
الدليل الثالث:
ما رواه عطية القرظي قال: (عرضت يوم
قريظة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي
سبيله، فكنت فيمن لم ينبت) [مشكاة المصابيح (2/349) والمحلى (7/299)].
الدليل الرابع:
إقرار النبي صلى الله عليه وسلم قتل
دريد بن الصُّمَّة وكان شيخاً كبيراً [المحلى (7/296-299) وراجع المغني
(9/311) ونيل الأوطار (7/279)].
الدليل الخامس:
ما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أنه (كَتَب إلى أمراء الأجناد ألا يجلبوا إلينا من العلوج أحداً، ولا تقتلوا
من جرت عليه المواسي (كذا ولعله إلا من جرت عليه المواسي) ولا تقتلوا صبياً
ولا امرأة …) [المحلى (7/299)].
وقد شنع ابن حزم – كعادته في التشنيع – على القائلين بعدم قتل من عدا النساء
والصبيان، وضعف كل الأحاديث التي استدلوا بها، وقال بعد أن ذكر رواية عطية
القرظي: (فهذا عموم من النبي صلى الله عليه وسلم لم يستبق منهم عسيفاً، ولا
أجيراً ولا فلاحاً، ولا شيخاً كبيراً).
وقال بعد أن ذكر كتاب عمر إلى أمراء الأجناد: (فهذا عمر رضي الله عنه لم
يستثن شيخاً، ولا راهباً، ولا عسيفاً، ولا أحداً، إلا النساء والصبيان فقط،
ولا يصح عن أحد من الصحابة خلافه، وقد قتل دريد بن الصمة وهو شيخ هرم قد اهتر
عقله فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم …).
وقد رد القائلون بعدم القتل على استدلال الآخرين بالنصوص العامة الواردة في
قتل المشركين، بالنصوص المخصصة لهذا العموم، مثل: (قاتلوا في سبيل الله الذين
يقاتلونكم) [البقرة: 190] والحديث الذي سبق إيراده في النهي عن قتل الشيخ
الفاني وغيره ممن ذكر، مع مراعاة العلة التي نص عليها الرسول صلى الله عليه
وسلم في النهي عن قتل النساء: (ما كانت هذه لتقاتل).[ أحمد في المسند 3/488 )
و أبو داود (3/53) وغيرهما]
أما الأمر بقتل الشيوخ، إذا صح، وكذا إقرار النبي صلى الله عليه وسلم قتل
دريد بن الصمة، وهو شيخ كبير فقد حملوه على الشيخ الذي يكون ذا رأي أو غيره
مما يفيد به المشركين ويضربه المسلمين [المغني (9/312)].
ويؤيد هذا المعنى أن المرأة والصبي اللذين سلم ابن حزم وغيره بتحريم قتلهما
يقتلان إذا قاتلا عند الجميع.
والذي يظهر هو رجحان ما ذهب إليه أهل القول الأول، وهو عدم قتل هؤلاء جميعا،
مالم يقاتلوا، لأن دلالة ما ساقوه من الأدلة خاصة، ودلالة ما ساقه الآخرون
عامة، أو محمولة على معنى خاص، وما ذكره ابن حزم عن عمر رضي الله عنه ليس
منافياً لما ذكر عن أبي بكر رضي الله عنه لأن قوله: (وأن يقتلوا كل من جرت
عليه المواس) دلالته عامة وقول أبي بكر: (لا تقتلن امرأة ولا صبياً ولا
كبيراً هرماً …) دلالته خاصة، والذي يظهر من فعل السلف الصالح يؤيد هذا
المذهب الله أعلم.
وهناك قول يحكي في جواز قتل المرأة والصبي، وهو قول مردود مخالف للنصوص
الشرعية ومذاهب عامة العلماء فلا داعي لمناقشته [انظر بذل المجهود في حل أبي
داود (12/200)].
( 75 )
ثانياً الحذر من جواسيس العدو:
الجاسوس المسلم
يجب على المجاهدين أن يحذروا غاية
الحذر من تسلل جواسيس العدو إلى صفوفهم، لما في ذلك من كشف عوراتهم التي
يترتب عليها إعداد العدو عدته على ضوئها، فإذا بدا لهم اشتباه في بعض الأفراد
ممن هو في صفهم وينتَسب إليهم – أي إلى المسلمين – أو من غيرهم فالواجب
متابعته والحوْلُ بينه وبين نقل المعلومات العسكرية الإسلامية إلى العدو.
قال البخاري رحمه الله: باب الجاسوس، وقول الله تعالى: (لا تتخذوا عدوي
وعدوكم أولياء …) [الممتحنة: 1] وساق بسنده إلى علي رضي الله عنه يقول:
(بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد بن الأسود)، وقال:
(انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ضغينة، ومعها كتاب، فخذوه منها)،
فانطلقنا تعادي بنا خيلنا، حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالضعينة،
فقلنا: اخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين
الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا
فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا حاطب ما هذا؟!)
قال: يا رسول الله لا تعجل علي، إني كنت امرأً ملصقاً في قريش، ولم أكن من
أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة، يحمون بها أهليهم
وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها
قرابتي، وما فعلت كفراً ولا ارتداداً ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (قد صَدَقَكم) فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب
عنق هذا المنافق، قال: (إنه شهد بدراً، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع
على أهل بدر، فقال: (اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم) [البخاري رقم الحديث
3007، فتح الباري (6/143) ومسلم (4/1941) رقم الحديث (4/24)].
فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بمتابعة المرأة وأخذ الكتاب
منها، وفهم المبعوثون لذلك رضي الله عنهم أن لهم الحق في اتخاذ الوسيلة التي
يتمكنون بها من الحصول عليه، ولو كان في ذلك كشف عورة المرأة، لأن المصلحة
الراجحة تقتضي ذلك، وكشف عورتها تعتبر مفسدة ولكن المفسدة التي تترتب على
تركها أكبر، والقاعدة تقديم أعلى المصلحتين، وارتكاب أخف المفسدتين، قال
الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم: (وفيه هتك أستار الجواسيس بقراءة
كتبهم، سواء كان رجلاً أو امرأة، وفيه هتك ستر المفسدة إذا كان فيه مصلحة، أو
كان في الستر مفسدة، وإنما يندب الستر إذا لم يكن فيه مفسدة، ولا يفوت به
مصلحة، وعلى هذا تحمل الأحاديث الواردة في الندب إلى الستر …) [16/55].
وفي قصة حاطب مشروعية عفو القائد عن بعض أفراد الجيش إذا أساء متعمداً ثم ندم
على إساءته واعتذر ودلت القرائن على حسن نيته وكان ذا سابقة طيبة. هذا في
الجاسوس المسلم.
والجاسوس المسلم، قال الشافعي والأوزاعي، وأبو حنيفة، وبعض المالكية وجماهير
العلماء رحمهم الله تعالى: يعزره الإمام بما يرى ضرب وحبس ونحوهما، ولا يجوز
قتله.
وقال مالك رحمه الله يجتهد فيه الإمام، ولم يفسر الاجتهاد.
وقال القاضي عياض رحمه الله، قال كبار أصحابه يقتل …) [شرح الإمام النووي على
صحيح مسلم (12/67)].
والذي يظهر من قصة حاطب رضي الله عنه مشروعية قتل الجاسوس المسلم، لأن النبي
صلى الله عليه وسلم أقر عمر على إرادة القتل وبين له أن المانع كونه شهد
بدراً، وهو أخص من كون المانع هو الإسلام، ولو كان الإسلام هو المانع من قتله
لبيّن صلى الله عليه وسلم ذلك، ولم يعلله بأخص منه، وهذا الأخص لا يظفر به أي
مسلم كان، بل هو خاص بحاطب أو من هو مثله ممن شهد بدراً [راجع فتح الباري
(8/635)].
ولو جعل الإسلام مانعاً من قتل الجاسوس لكان في ذلك فتح للباب لضعاف النفوس
ومرضى القلوب لكشف عورات المسلمين لأعدائهم الذين لا يألون جهداً في محاولة
الاطلاع على أحوال المسلمين قوةً وضعفاً ليبينوا خططهم ويعدوا عددهم على ضوء
معلومات دقيقة يستطيعون بها إنزال الضرر بالمسلمين والانتصار عليهم.
والذي يظهر أن الراجح ما قاله الإمام مالك رحمه الله وهو أن يترك حكمه
لاجتهاد الإمام، فإن رأى أن في قتله مصلحة قتله وإن رأى أن المصلحة في تعزريه
عزره بما يراه.
ولهذا رأى بعض العلماء أنه يقتل إذا كان التجسس له عادة [راجع الجامع لأحكام
القرآن للقرطبي (18/53)].
( 76 )
الجاسوس غير المسلم.
وثبت في الجاسوس غير المسلم ما أخرجه
أحمد والبخاري ومسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: نزل رسول الله صلى
الله عليه وسلم منزلاً، فجاء عين المشركين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه يتصبحون (أي يتناولون طعام الغداء)، فدعوه إلى طعامهم، فلما فرغ
الرجل ركب على راحلته، وذهب مسرعاً، لينذر أصحابه قال فأدركته، فأنخت راحلته،
وضربت عنقه، فغنمني رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه [ترتيب المسند المسمى:
(الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني 14/112)].
هذا سياق أحمد، وهو عند البخاري بلفظ: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين من
المشركين، وهو في سفر، فجلس عند أصحابه يتحدث ثم انفتل، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: (اطلبوه واقتلوه، فقتله فنفله سلبه) [البخاري رقم الحديث 3051،
وهو في الفتح (6/168)].
وهو يوضح أن سلمة رضي الله عنه طلبه وقتله بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم،
والحديث في صحيح مسلم وفيه: (ثم تقدم يتغذى مع القوم، وجعل ينظر، وفينا
ضَعْفَةٌ ورقه في الظهر، وبعضنا مشاة، فأتى جمله، فأطلق قيده، ثم أناخه، وقعد
عليه فأثاره فاشتد به الجمل …الخ) [مسلم (3/1374) رقم الحديث 1754].
وهو بيّن أن الرجل اطلع على عورة المسلمين، كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح
[6/169].
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: (وفيه قتل الجاسوس الكافر الحربي، وهو
كذلك بإجماع المسلمين … وأما الجاسوس المعاهد والذمي فقال مالك والأوزاعي
يصير ناقضاً للعهد، فإن رأى استرقاقه أرقه، ويجوز قتله، وقال جماهير العلماء:
لا ينقض عهده بذلك، قال أصحابنا، إلا أن يكون قد شرط عليه انتقاض العهد بذلك.
وعلى مجاهدي المسلمين أن يحذروا من تسلل عناصر الفساد إلى صفوفهم بإبداء
الولاء لهم، وقصدهم الاطلاع على عورات المسلمين ونقلها إلى عدوهم، وقد يظهرون
أنهم جواسيس للمسلمين على أعدائهم، فينقلون لهم – أي للمسلمين – معلومات
مزيفة، أو ليست ذات بال، وعلى المسلمين أن يبتلوا من أراد الدخول في صفوفهم
بتكليفهم بذل أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، لأن ذلك هو منهج الله الذي يمحص
به المنتسبين إلى الإسلام، فيظهر الصادق منهم من الكاذب. كما قال تعالى: (أم
حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله
ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون) [التوبة: 16]، وقال
تعالى: (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا
الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) [العنكبوت:1-3].
قال الإمام ابن جرير الطبري في تفسير الآية الأخيرة: (يقول الله تعالى ذكره:
(لقد اختبرنا الذين من قبلهم من الأمم، ممن أرسلنا إليهم رسلنا فقالوا مثل ما
قالته أمتك يا محمد بأعدائهم؟ وتمكيننا إياهم من أذاهم، كموسى إذ أرسلناه إلى
بني إسرائيل، فابتليناهم بفرعون وملئه، وكعيسى إذْ أرسلناه إلى بني إسرائيل،
فابتلينا من اتبعه بمن تولى عنه، فكذلك ابتلينا أتباعك بمخالفيك من أعدائك).
(فليعلمن الله الذين صدقوا) منهم في قيلهم آمنا، (وليعلمن الكاذبين) منهم في
قيلهم ذلك. والله عالم بذلك قبل الاختبار، وفي حال الاختبار وبعد الاختبار،
ولكن معنى ذلك: (وليظهرن الله صدق الصادق منهم في قيله آمنا بالله من كذب
الكاذب منهم بابتلائه إياه بعدوه ليعلم صدقه من كذبه أولياؤه) [جامع البيان
عن تأويل القرآن (20/128-129)].
( 77 )
إعداد العيون الساهرة لجمع المعلومات عن
الأعداء
وإذا كان يجب على المجاهدين في سبيل
الله أن يحذروا من جواسيس العدو، ويقطعوا عليهم كل طريق إلى أخذ المعلومات
العسكرية الإسلامية، فإن عليهم أن يعدوا الرجال القادرين على جمع معلومات
العدو بطرق خفية لا يقدر على كشفها، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم،
الذي كان يبعث عيونه في العدو لأخذ أدق المعلومات والأسرار من أعلى مستوى فيه
( مستوى القيادة. )
وهذه أمثلة لحرص القيادة النبوية على جمع أسرار العدو عن طريق عيونه الذين
كان يبعثهم صلى الله عليه وسلم.
عن محمد بن كعب القرظي قال: قال فتى منا، من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا
أبا عبد الله رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه، قال: نعم يا بن
أخي، قال: فكيف كنتم تصنعون قال: والله لقد كنا نجهد، قال: والله لو أدركَنا
ما تركناه يمشي على الأرض، ولجعلناه على أعناقنا، قال: فقال حذيفة: يا ابن
أخي والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق، وصلى رسول
الله صلى اله عليه وسلم من الليل هويّاً، ثم التفت إلينا فقال: من رجل يقوم
فينظر لنا ما فعل القوم –يشترط له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يرجع –
أدخله الله الجنة، فما قام رجل ثم صلى رسول الله صلى اله عليه وسلم هويا من
الليل، ثم التفت إلينا فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع
–يشترط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة – أسأل الله أن يكون رفيقي في
الجنة، فما قام رجل من القوم مع شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد، فلما لم
يقم أحد دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن لي بد من القيام حين
دعاني، فقال: يا حذيفة فاذهب، فادخل في القوم، فانظر ما يفعلون، ولا تحدثَنْ
شيئاً حتى تأتينا.
قال فذهبت، فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل ما تفعل، لا تقر لهم قدر
ولا نار ولا بناء، فقام أبو سفيان بن حرب، فقال: يا معشر قريش لينظر امرؤ مَن
جليسه، فأخذت بيد الرجل الذي جنبي، فقلت: من أنت؟ فقال: أنا فلان بن فلان، ثم
قال أبو سفيان: يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع،
وأخلفتنا بطون قريظة، بلغنا منهم الذي نكره، ولقينا من هذه الرياح ما ترون،
والله ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار ولا يمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني
مرتحل، ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب على ثلاث، فما أطلق
عقاله إلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحدث شيئاً
حتى تأتيني، ثم شئت لقتلته بسهم.
قال حذيفة: ثم رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مربط
لبعض نسائه مرجل، فلما رآني أدخلني إلى رحله، وطرح عليَّ طرف المرط، ثم ركع
وسجد وإنه لفيه فلما سلم أخبرته الخبر (وسمعت غطفان بما فعلت قريش وانشمروا
إلى بلادهم) [المسند (5/392) وهذا سند الحديث (حدثنا عبد الله بن أحمد، ثنا
أبي، ثنا يعقوب، ثنا أبي عن محمد بن إسحاق، حدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن
كعب القرطبي قال …) مع خلاف في بعض الألفاظ. وهو في مسلم (3/1414)].
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: اشتد الأمر يوم الخندق، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (ألا رجل يأتينا بخبر بني قريظة، فانطلق الزبير
فجاء بخبرهم، ثم اشتد الأمر أيضاً، فذكر ثلاث مرات، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ( إن لكل نبي حوارياً، وأن الزبير حواري) [المسند وهو في الفتح
الرباني بترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني للساعاتي (4/49) والبخاري
رقم الحديث 2747 فتح الباري (6/53) مسلم (4/1879)، وفيه ما يفسر قوله ثلاث
مرات (ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، فانتدب الزبير، ثم ندبهم
فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير].
وكذلك بعث صلى الله عليه وسلم عيناً ينظر عبر أبي سفيان، كما في صحيح مسلم عن
أنس قال بعث رسول الله صلى اله عليه وسلم بسيسة عيناً ينظر ما صنعت عير أبي
سفيان، فجاء وما في البيت أحد غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
فحدثه الحديث، قال فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم فقال: (إن لنا
طلبة فمن كان ظهره حاضراً فليركب معنا) [صحيح مسلم (3/1509-1510) رقم الحديث
1901].
ويجب أن يكون عيون المجاهدين في سبيل الله ممن عرفوا بتقوى الله تعالى وقوة
الصلة به، وبالصدق والأمانة والقدرة على أداء واجبهم، دون أن يكشف العدو
عملهم، وذلك يتطلب ذكاء وحكمة بالغتين [انظر الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية
(28/246-247)].
( 78 )
العناية بجرحى المسلمين وموتاهم
ولا بد للمجاهدين من أصطحاب فرق كافية
لخدمة المقاتلين لطهي الطعام ونقل الماء، ومداواة الجرحى، ونقلهم من المكان
الذي يخشى عليهم فيه من إجهاز العدو عليهم، إلى مكان لا يخشى عليهم منهم فيه،
ونقل الموتى كذلك حتى لا يمثل بهم العدو.
ويستعمل في هذه الأمور من لا يجب عليه القتال، فقد كان النساء يقمن بهذه
الأعمال في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ففي حديث أنس رضي الله عنه، قال: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى
الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوب عليه بحجفة
له، وكان أبو طلحة رجلاً رامياً، شديد القدّ، يكسر يومئذ قوسين أو ثلاثاً،
وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل فيقول: انثرها لأبي طلحة، فأشرف النبي
صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: يا نبي الله بأبي أنت
وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك –قال- ولقد رأيت عائشة
بنت أبي بكر، وأم سليم، وأنهما المشتمرتان، أرى خدم سوقهما تنقزان القرب على
متونهما، تفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانه في
أفواه القوم، ولقد وقع السيف من يدي أبي طلحة إما مرتين وإما ثلاثاً [البخاري
رقم الحديث 3811، فتح الباري (7/128) ومسلم (3/1443)].
ففي هذا الحديث قيام النساء بسقي المجاهدين ونقل الماء لهم، ومثله في الحكم
والطعام ونحوه.
وفي حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قيام المرأة بالتمريض ومداواة الجروح
–والأصل أن يكون الجريح الذي تداويه المرأة محرماً لها، كما هو واضح في
الحديث الذي يذكر نصه قريباً، ولكن إذا دعت الضرورة إلى مداواتها غير محرم
فلا مانع من ذلك مع عدم المباشرة [انظر فتح الباري (6/80)] حسب الإمكان.
سئل سهل رضي الله عنه عن جرح النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فقال جرح وجه
النبي صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه، فكانت فاطمة
عليها السلام تغسل الدم وعلي يمسك، فلما رأت أن الدم لا يزيد إلا كثرة، أخذت
حصيراً فأحرقته حتى صار رماداً ثم ألزقته فاستمسك الدم [البخاري رقم 2911،
فتح الباري (6/96) ومسلم (3/1416)].
وفي حديث الربيع بنت معوذ قالت: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فنسقي القوم ونخدمهم، ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة، وفي رواية؛ ونداوي
الجرحى [البخاري رقم الحديث 2883، فتح الباري (6/80)]
وقولها: ونخدمهم عام يشمل كل خدمة يحتاج إليها المجاهد في المعركة.
وفي حديث أم عطية قالت: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، أخلفهم
في رحالهم، فأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى [مسلم
(3/1447)].
قال الحافظ: (وأوضح سعيد بن عبد الرحمن عن أبي حازم فيما أخرجه الطبراني من
طريقه سبب مجيء فاطمة إلى أحد، ولفظه: لما كان يوم أحد، وانصرف المشركون خرج
النساء إلى الصحابة يعينونهم –هكذا- فكانت فاطمة فيمن خرج) [فتح الباري
(7/373)].
هذا وليعلم أن الأصل عدم خروج المرأة مع المجاهدين، لاسيما لإرادة القتال،
لما في ذلك من مخالفة المطلوب منها، وهو سترها ولهذا لما سسأل النبيَّ صلى
الله عليه وسلم أزواجُه أن يأذن لهن في الجهاد قال: (جهادكن الحج) [البخاري
رقم الحديث 2875، 2876، وانظر فتح الباري (6/75، 76)].
وقد كره العلماء أخذ النساء الشواب إلى أرض العدو، لأنهن لسن من أهل القتال،
وقلما ينتفع بهن فيه لاستيلاء الخور والجبن عليهن ولا يؤمن ظفر العدو بهن
فيستحلون ما حرم الله منهن [المغني لابن قدامة (9/ 214-215)].
ولا ينافي ذلك أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم من كانت تقع عليها القرعة من
زوجاته، لأنها زوجة يأخذها لحاجته إليها [نفس المراجع السابقة (9/215) وانظر
حواشي فتح القدير لابن الهمام (5/450) فما بعدها وكذا حاشية ابن عابدين
(4/125)].
وفي هذه النصوص الدالة على أن الأصل في المرأة ألا تخرج مع المجاهدين، إلا
لضرورة مع الحيطة المستطاعة، ما يبين فساد ما عليه الآن كثير من جيوش الشعوب
الإسلامية، التي تجند فيها المرأة في وقت السلم والحرب على السواء، لا للخدمة
والإعانة التي كانت تقوم بها نساء الصحابة رضي الله عنهم، وإنما لإفسادهن
وإفساد رجولة جيوش الشعوب الإسلامية، إذ يختلط النساء – وهن بدون محارم-
بالرجال مدة طويلة ويختلي الرجل بالمرأة، وما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان
ثالثهما، وهذه إحدى المعاصي التي عاقب الله بها المسلمين الذين يرون هذا
المنكر وغيره في أبنائهم وبناتهم فلا ينكرونه، فسلط الله عليهم عدوهم فأذلهم
واستباح حرماتهم فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وليعلم هؤلاء أن الإسلام يقر المرأة عند الضرورة أن تقاتل كالرجال، كما في
حديث أنس بن مالك أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجراً فكان معها، فرآها أبو
طلحة، فقال: يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر، فقال لها رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (ما هذا الخنجر؟) قالت اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين
بقرت به بطنه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك. قالت: يا رسول الله
اقتل مَن بعدنا من الطلقاء انهزموا بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(يا أم سليم إن الله قد كفى وأحسن ) [مسلم (3/1442)].
وإذا دعت الحاجة لخروجها، فإن الإسلام لا يمنعها من ذلك، ولكنه يصونها عن
ذئاب المعاصي والفسق والفجور.
( 79 )
الخيلاء في الحرب
ومن آداب الجهاد الإسلامية: الخيلاء
في المعركة، أي تبختر المجاهد المسلم في ساحة القتال إشعاراً للعدو بعلو
الهمة، والشجاعة، واستقبال الموت في سبيل الله برباطة جأش وسكينة نفس، وفي
ذلك ما فيه من الإغاظة وإرهاب العدو، وإغاظة العدو وإرهابه عبادة يكتبها الله
للمجاهدين، ويعدها من إحسانهم.
كما قال تعالى: {ما كان لأهل المدينة ومن حولها من الأعراب أن يتخلفوا عن
رسول الله، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا
مخمصة في سبيل الله، ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو
نيْلاً؛ إلا كتب لهم به عملٌ صالحٌ، إن الله لا يضيع أجر المحسنين} [التوبة:
120].
وللخيلاء صورتان:
الصورة الأولى: إظهار التجلد للعدو،
حتى ولو كان المجاهد ضعيفاً لمرض أو جوع أو عطش أو كبر أو غير ذلك، ليبدو
للعدو قوياً فيهابه. يدل على هذا أمر النبي صلى اله عليه وسلم أصحابه أن
يسارعوا في طوافهم بالبيت عند قدومهم لأداء العمرة في عمرة القضاء، وقد قال
المشركون أضعفتهم حمى يثرب، ليعلم المشركون أن الصحابة أقوياء وليسوا ضعفاء،
كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وقد وهنهم حمى يثرب، فأمرهم النبي
صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم
يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم [البخاري، رقم
الحديث 1602، فتح الباري (3/ 469)، ومسلم (2/923)].
وقوله: (ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم) يدل
على أن الرمل في الثلاثة أشواط كلها من الحجر إلى الحجر هو السنة، وإنما خفف
الرسول صلى الله عليه وسلم على أصحابه فلم يأمرهم بالرمل بين الركنين، وقد
بينت ذلك رواية جابر بن عبد الله لصفة طوافه صلى الله عليه وسلم في حجة
الوداع، إذ قال جابر: (رمل الثلاثة أطواف من الحجر إلى الحجر) [مسلم
(2/921)].
قال الإمام النووي رحمه الله في تعليقه على رواية جابر هذه: (فيه بيان أن
الرمل يشرع في جميع المطاف من الحجر إلى الحجر، وأما حديث ابن عباس المذكور
بعد هذا بقليل، قال: وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط
ويمشوا ما بين الركنين فمنسوخ بالحديث الأول –يعني حديث جابر- لأن حديث ابن
عباس كان في عمرة القضاء سنة سبع قبل فتح مكة، وكان في المسلمين ضعف في
أبدانهم، وإنما رملوا إظهاراً للقوة، واحتاجوا إلى ذلك في غير ما بين الركنين
اليمانيين، لأن المشركين كانوا جلوساً في الحجر (بكسر الحاء وسكون الجيم)
وكانوا لا يرونهم بين هذين الركنين، ويرونهم فيما سوى ذلك) [شرح النووي على
مسلم (9/9)].
وقول النووي رحمه الله في حديث ابن عباس أنه منسوخ بحديث جابر لا داعي له،
لأنه صرح في حديث ابن عباس نفسه أنه ما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من
أمرهم بالرمل في الطواف كله إلا الإبقاء عليهم، ومعنى هذا أن ضعفهم كان سبباً
في التخفيف عنهم، بل إنه يفهم من حديث ابن عباس شيء آخر وهو أن أمرهم بالرمل
فيما دون ما بين الركنين مع ضعفهم كان من أجل إظهار قوتهم لعدوهم وإشعار
العدو بأن ما توهموه من ضعف الصحابة غير صحيح، ولولا ذلك لرخص لهم في ترك
الرمل أصلاً، وهو مستحب كما صرح النووي بقوله: (باب استحباب الرمل في الطواف
والعمرة) [9/6].
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح: (ويؤخذ منه جواز إظهار القوة بالعدة
والسلاح، ونحو ذلك للكفار إرهاباً لهم، ولا يعد ذلك من الرياء المذموم)
[الفتح (3/470)].
وهذا وإن لم يكن أثناء الحرب في المعركة فإن دلالته باعتبار أن حالة الحرب
كانت قائمة بين الإسلام والشرك وهذه العمرة كانت في وقت هدنة ومصالحة.
الصورة الثانية: أن يختال في مشيته أمام عدوه، ويتبختر تبختراً يظهر به عزته
على العدو: {أعزة على الكافرين} [المائدة: 54].
ففي حديث جابر بن عتيك أن النبي صلى اله عليه وسلم كان يقول: (من الغيرة ما
يحب الله، ومنها ما يبغض الله، فأما التي يحبها الله عز وجل فالغيرة في
الريبة، وأما التي يبغضها الله في غير ريبة، وإن من الخيلاء ما يبغض الله،
ومنها ما يحب الله، فأما الخيلاء التي يحب الله فاختيال الرجل بنفسه عند
القتال، واختياله عند الصدقة، وأما التي يبغضها الله عز وجل فاختياله في
البغي)، قال موسى: والفخر. [مسند الإمام أحمد (5/445) وسنن النسائي (5/58)
وسنن الترمذي رقم الحديث 2642 تحفة الأحوذي (7/320) واللفظ للترمذي ما عدا
لفظة: (بنفسه) فهي في المسند والنسائي، ولفظها في الترمذي: (فاختيال الرجل
نفسه) بدون باء، وسنن أبي داود رقم الحديث 114 (3/114).
وقد ذم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم الخيلاء في غير الحرب، كما قال
تعالى: {ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال
فخور} [لقمان: 18].
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: (من تعظم في نفسه أو اختال في مشيته لقي الله وهو عليه غضبان) [مسند
الإمام أحمد (2/118) وسنده: حدثنا عبد الله، حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن إسحاق،
أنا يونس بن القاسم الحنفي بحامي سمعت عكرمة بن خالد المخزومي يقول: سمعت ابن
عمر يقول، فذكره].
وفي سيرة ابن هشام، عن رجل من الأنصار من بني سلمة قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم حين رأى أبا دجانة يتبختر: (إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا
الموطن) [السيرة النبوية (3/19)].
قال في مجمع الزوائد: (وعن خالد بن سليمان بن خالد بن عبد الله بن خالد بن
سماك بن خررشة عن أبيه عن جده، أن أبا دجانة يوم أحد أعلم بعصابة حمراء، فنظر
إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يختال في مشيته بين الصفين، فقال:
(إنها مشية يبغضها الله إلا في هذا الموضع) رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفه)
[مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (6/109)] ا هـ.
وذكر هذا الحديث الضعيف بهذا السند، وكذا الرواية التي قبله المذكورة في
السيرة النبوية، المقصود منه تفسير الاختيال المشروع والاختيال الممنوع في
حديث جابر بن عتيك.
ومشروعية الاختيال في هذا الموضع مخصصة للحظر العام الوارد في النصوص الأخرى
مثل الآية السابقة {إن الله لا يحب كل مختال فخور...}، وحديث أبي هريرة رضي
الله عنه، ورأى رجلاً يجر إزاره فجعل يضرب الأرض برجله، وهو أمير على
البحرين، وهو يقول: جاء الأمير، جاء الأمير، قال رسول الله صلىى الله عليه
وسلم: ( إن الله لا ينظر إلى من يجر إزاره بطراً) [صحيح مسلم (3/1653)].
ولقد حفظ عمر بن الخطاب لمن خطر واختال على أعداء الله في المعركة حقه بعد
استشهاده، فأكرم من أجل ذلك ابنه، وفضله على غيره معللاً ذلك التفضيل بتلك
المزية التي يحبها الله ورسوله في ذلك المقام، فعن زيد بن أسلم أن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه لما فرض للناس فرض لعبد الله بن حنظلة ألفي درهم، فأتاه
طلحة بابن أخ له ففرض له دون ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين فضلت هذا الأنصاري
على ابن أخي؟ قال: نعم لأني رأيت أباه يستن يوم أحد بسيفه كما يستن الجمل
[الجهاد لابن المبارك (1/74)، ونقل المحشي عن النهاية (2/186) أن معنى يستن
يمرح ويخطر].
( 80 )
عدم الخروج من معسكر المجاهدين بدون إذن
الأمير
وجوب طاعة المأمور لأميره، من الأمور
البدهية في الإسلام، وسيأتي الكلام عن ذلك في موضعه إن شاء الله، في فصل:
صفات المجاهدين، وفي فصل عوامل النصر وعوامل الهزيمة.
ومن طاعة الأمير عدم الخروج من معسكر المجاهدين بدون إذنه، لما في ذلك من
عدمن الالتزام بطاعته من جهة، ولما فيه من المحاذير التي قد يلحق ضررها
بالجنود الذين لم يستأذنوا، وبالجيش الإسلامي كذلك.
فقد يقع الجندي المسلم في كمين من مقاتلي العدو، فيقتلونه أو يأسرونه، وقد
يعذبونه حتى يدلهم على مواقع الجيش الإسلامي، وعددهم، وما عندهم من قوة أو
ضعف في العتاد، وفي ذلك ما فيه من ضرر على الحندي الذي خرج بدون استئذان وعلى
أمتهه.
وليس الأمر كذلك إذا خرج بإذن من قائده، فإن القائد سينصحه بما يجب عليه
عمله، وقد يأمر بأن يصحبه من يحميه من كمائن العدو، وغير ذلك من الأمور
الاحتياطية التي ل تتوافر للفرد وحده.
ولهذا كان من أهم صفات المؤمن الدالة على قوة إيمانه، عدم ذهابه بدون إذن
أميره، في الأحوال التي تستدعي ذلك، كما قال سبحانه: ( إنما المؤمنون الذين
آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن
الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله، فإذا استأذنوك لبعض شأنهم
فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم إن الله غفور رحيم ) [ النور 62 ]
فقد حصر الله تعالى في هذه الآية الكريمة في مطلعها المؤمنين فيمن اتصفوا
بالإيمان به وبرسوله، وبعدم الذهاب بدون إذنه إذا كانوا معه على أمر جامع،
كما جعل الاستئذان في وسط الآية من علامة الإيمان به وبرسوله، وجعل تعالى
الرسول صلى الله عليه وسلم مخيرا في آخر الآية في الإذن لمن شاء، مع
الاستغفار لمن أذن له، لما في استئذانه من تركٍ للشأن العام الذي تعود مصلحته
لعامة المسلمين، بخلاف شأنه الخاص، مهما كانت أهميته.
قال ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية: " يقول تعالى ذكره: ما المؤمنون
حق الإيمان إلا الذين صدقوا الله ورسوله. ( وإذا كانوا معه على أمر جامع )
يقول: وإذا كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ( على أمر جامع ) يقول على
أمر يجمعهم جميعا، من حرب حضرت، أو صلاة اجتمع لها، أو تشاور في أمر نزل ( لم
يذهبوا ) يقول لم ينصرفوا عما اجتمعوا له من الأمر حتى يستأذنوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم. ثم قال: " وقوله: ( إن الذين يستأذنونك أولئك الذين
سؤمنون بالله ورسوله ) يقول تعالى ذكره: إن الذين لا ينصرفون يا محمد إذا
كانوا معك في أمر جامع عنك إلا بإذنك لهم، طاعة منهم لله ولك، وتصديقا بما
أتيتهم به من عندي، أولئك الذين يصدقون الله ورسوله حقا، لا من يخالف أمر
الله ورسوله، فينصرف عنك بغير إذن منك له، بعد تقدمك إليه ألا ينصرف عنك إلا
بإذنك " اهـ. [جامع البيان عن تأويل آي القرآن 18/175-176]
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: ( فأذن لمن شئت منهم ) " فكان النبي صلى
الله عليه وسلم بالخيار، إن شاء أن يأذن، وإن شاء منع ( واستغفر لهم الله )
أي لخروجهم عن الجماعة إن علمت لهم عذرا " اهـ [ الجامع لأحكام القرآن
12/321]
ويفهم مما مضى أن استئذان الجندي للانصراف لبعض شأنه في حال اجتماع المسلمين
مع أميرهم لأمور مهمة مكروه، وإن أذن له الأمير، بدليل أمر الله لرسوله
بالاستغفار لمن أذن له.
والأصل في المؤمن ألا يستأذن أميره في الذهاب في تلك الحال، إلا إذا كان له
عذر يقتضي الاستئذان، وهو لا يستأذن إلا إذا كان صادقا في حصول عذر له، بخلاف
المنافق، فإنه ينتحل الأعذار ويطذب على قائده، من أجل أن يسسوغ هربه من
القيام بواجبه، بإذن أميره، كما قال تعالى: ( ويستأذن فريق منهم النبي يقولون
إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ) [الأحزاب 13]
وفي مختصر الخرقي: " وإذا غزا المير لم يجز أن يتعلف ولا يحتطب، ولا يبارز
علجا، ولا يخرج من المعسكر، ولا يحدث حدثا، إلا بإذنه. " وقال ابن قدامة –
معلقا على هذه الجملة – " يعني لا يخرج من المعسكر... إلا بإذن الأمير، لقوله
تعالى: ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر
جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ) ولأن الأمير أعرف بحال الناس، وحال العدو
ومكامنهم ومواضعهم وقربهم وبعدهم، فإذا خرج خارج بغير إذنه، لم يأمن أن يصادف
كمينا للعدو فيأخذه، أو طليعة لهم، أو يرحل الأمير بالمسلمين ويتركه فيهلك،
وإذا كان الأمير لم يأذن لهم إلا إلى مكان آمن، وربما يبعث معهم من الجيش من
يحرسهم ويطلع لهم... " [ المغني 9/216]
قلت: وقد يعاقب الله تعالى من يخرج من جيش المسلمين، بدون إذن الأمير، بما لا
يدور في ذهنه من أنواع العقاب العاجلة، مع الإثم الذي سيلقى جزاءه في الآخرة.
وتأمل هذه القصة الثابتة من حديث ابي حميد، رضي الله عنه، قال: " خرجنا مع
رسول الله صلى الله علليه وسلم في غزوة تبوك – إلى أن قال – وانطلقنا حتى
بلغنا تبوك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ستهب عليكم الليلة ريح
شديدة، فلا يقم فيها أحد منكم، فمن كان له بعير فليشد عقاله ) فهبت ريح
شديدة، فقام رجل، فحملته الريح حتى ألقته بجبل طيئ... " [صحيح مسلم 4/1785]
قال النووي رحمه الله: " هذا الحديث فيه هذه المعجزة الظاهرة من إخباره صلى
الله عليه وسلم بالمغيب وخوف الضرر من القيام وقت الريح، وفيه ماكان عليه صلى
الله عليه وسلم من الشفقة على أمته والرحمة لهم، والاعتناء بمصالحهم،
وتحذيرهم ما يضرهم في دين أو دنيا - وقال -: وجبلا طيئ مشهوران، يقال لأحدهما:
" أجاء " بفتح الهمزة والجيم وبالهمزة. والآخر " سلمى " بفتح السين، و" طيئ "
بياء مشددة، بعدها همزة، على وزن سيد، وهو أبو قبيلة في اليمن. [شرح المووي
على صحيح مسلم 15/42]
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبلا أصحابه، بالغيب الذي إذا فعلوه
حصل عليهم منه ضرر، فإن الواجب على المسلم أن يحذر مخالفته لأميره، ولو الذي
لا يعلم الغيب، ولا يخرج بدون إذنه، لإغن ذلك معصية قد يعاقبه الله عليها بما
يشاء، مما لا يعلمه الأمير ولا المأمور.
وقد كان جابر بن عبد الله رضي الله عنه، مع رسول الله عليه وسلم، قافلا إلى
المدينة بعد إحدى الغزوات، وكانت نفسه تتوق إلى زوجه، وكان حديث عهد بزواج،
فلم يلب نفسه رغبتها إلا بعد أن استأذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ليسرع، فأذن له. فقد قال: " فقلت: يا رسول الله ! إني عروس، فاستأذنته فأذن
لي، فتقدمت الناس إلى المدينة... " [صحيح البخاري، رقم لحديث 2967 – فتح
الباري 6/121]
(81)
الكف عمن أظهر الإسلام أو شعاره
الهدف الرئيس من الجهاد، هو إعلاء
كلمة الله، وسيأتي الكلام على أهداف الجهاد في موضعه من هذا البحث، فإذا أظهر
بعض الكفار المحاربين أثناء المعركة كلمة الإسلام " الشهادتين " أوقال: أنا
مسلم أو حياهم بتحية الإسلام، وجب على المسلمين الكف عنه وعدم قتله أو قتاله،
وهذا من محاسن الإسلام الذي يوجب على المسلم، أن يكف عن عدوه، وهو في حالة
غليان عليه في وقت مقارعة السيوف، وقد يكون الذي أظهر الإسلام ممن أعمل سلاحه
في المسلمين، وهم يتمنون أن يشفوا صدورهم منه، ويجوز أن يكون في واقع الأمر
غير معتقد ما أظهره، وإنما أراد أن يخلص نفسه من القتل، ومع ذلك أوجب الله
على المسلمين العمل بالظاهر والتثبت من الحقيقة، كما قال تعالى: {يا أيها
الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا، ولا تقولوا لمن ألفى إليكم
السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند فعند الله مغانم كثيرة،
كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيراً }
[النساء: 94].
وفي الآية تذكير للمؤمنين بأن نعمة الإيمان هي نعمة من الله بها عليهم، وقد
كانت هذه النعمة قبل أن يمن عليهم بها مفقودة منهم، والذي من عليه بنعمة
الإسلام، قادر أن يمن على عدوهم في لحظة القتال، فلا ينبغي أن يستبعد
المسلمون أن يهدي الله عدوهم للإسلام في تلك اللحظة.
ولا يجوز لهم أن يتأولوا أن ذلك إنما حصل إتقاء للقتل، فالهداية بيده سبحانه
{إنك لا تهدي من أحببت ولكن اله يهدي من يشاء} [سورة القصص: 56].
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لقي ناس من المسسلمين رجلاً في
غنيمة له، فقال: السلام عليكم، فأخذوه فقتلوه، وأخذوا تلك الغنيمة، فنزلت:
{ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا...}
[ النساء: 94 ] [ والحديث رواه البخاري رقم الحديث 4591، فتح الباري (8/258)
ومسلم (4/2319) رقم الحديث 3024، واللفظ لمسلم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وفي الآية دليل على أن من أظهر شيئاً من
علامات الإسلام، لم يحل دمه حتى يختبر أمره، لأن السلام تحية المسلمين، وكانت
تحيتهم في الجاهلية بخلاف ذلك، فكانت هذه علامة، وأما على قراءة السَّلم –
على اختلاف ضبطه - فالمراد به الانقياد، وهو علامة الإسلام، لأن معنى الإسلام
في اللغة الانقياد، ولا يلزم من الذي ذكرته الحكم بإسلام من اقتصر على ذلك
وإجراء أحكان المسلمين عليه، بل لا بد من اللفظ بالشهادتين..) [الفتح
(8/259)].
وقال الإمام ابن جرير عند تفسير الآية الآنفة الذكر: (فتبينوا ): " يقول
فتأنوا في قتل من أشكل عليكم أمره، فلم تعلموا حقيقة إسلامه، ولا كفره، ولا
تعجلوا فتقتلوا من التبس عليكم أمره، ولا تقدموا على قتل أحد، إلا على قتل من
علمتموه يقيناً حرباً لكم ولله ولرسوله " [جامع البيان عن تأويل آي القرآن
(5/221)].
قال القرطبي رحمه الله في تفسيره: " والمسلم إذا لقي الكافر ولا عهد له، جاز
له قتله، فإن قال: لا إله إلا الله لم يجز قتله، لأنه قد اعتصم بعصام الإسلام
المانع من دمه وماله وأهله، فإن قتله بعد ذلك قتل به. وإنما سقط القتل عن
هؤلاء (يعني بعض الصحابة الذين قتلوا من ألقى إليهم السلام) لأجل أنهم كانوا
في صدر الإسلام، وتأولوا أنه قالها متعوذاً وخوفاً من السلاح، وأن العاصم
قولها مطمئناً، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه عاصم كيفما قالها، ولذلك
قال لأسامة: ( أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا. ) أخرجه مسلم [صحيح
مسلم (1/96)] أي تنظر أصادق هو في قوله أم كاذب، وذلك لا يمكن، فلم يبق إلا
أن يبين عنه لسانه، وفي هذا من الفقه باب عظيم، وهو أن الأحكام تناط بالمظان
والظواهر ، لا على القطع وإطلاع السرائر " [الجامع لأحكام القرآن (5/338)].
(82)
عدم إفساد الأموال
ليس في الأرض من يعمل صالحاً يرضاه
الله ويثيبه عليه إلا المؤمن، كما قال تعالى: {فأما الذين كفروا فأعذبهم
عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين، وأما الذين آمنوا وعملوا
الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين} [آل عمران: 56-57].
ومهما قدم غير المؤمن من الأعمال النافعة المفيدة، فإنه لا قيمة له في ميزان
الله، لعدم وجود الأساس الذي يكون العمل به صالحاً، قال تعالى: {ومن يعمل من
الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً}
[النساء: 124].
وهم –أي المؤمنون- وحدهم الذين لا يضيع أجرهم، لأنهم وحدهم المصلحون: {والذين
يمسِّكون بالكتاب، وأقاموا الصلاة، إنا لا نضيع أجر المصلحين} [الأعراف:
170].
والسبب في ذلك أنهم لا يقدمون على عمل، إلا إذا علموا أن الله تعالى قد أذن
فيه أو أمر به أو سكت عنه، كما أنهم يبتعدون كل الابتعاد عن أي أمر يغضب الله
فعله، ملتزمين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:: {وما
آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله إن الله شديد
العقاب} [الحشر: 7].
وقد ادعى غير المؤمنين لأنفسهم الإصلاح، فكذبهم الله وأكد أنهم هم المفسدون،
كما قال تعالى: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا
إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} [البقرة: 11-12].
والمؤمنون يقدمون ما يحبه الله، ولو كرهته نفوسهم، لعلمهم أن الخير فيما يحبه
الله {كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى
أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة: 216].
لا يختارون غير ما قضى الله فيه من أمرهم، هرباً من معصيته والضلال عن سبيله:
{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم،
ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً} [الأحزاب: 36].
وبناء على ذلك فإن المسلمين حقاً يعتبرون عمارة الأرض وإصلاحها عبادة لله
تعالى، لأنهم ما خلقوا إلا لذلك: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد
منهم من رزق ما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرازق ذو القوة المتين} [الذاريات:
56-58] حياتهم كلها لله، كموتهم: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب
العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} [الأنعام: 163-1674].
ولا يقدمون على ما ظاهره الإفساد مما يعيبهم به المفسدون فعلاً، إلا إذا كان
الله قد أذن لهم فيه، لأنه يؤدي إلى الإصلاح، بل عملهم ذلك يعتبر إصلاحاً:
{ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمةً على أصولها فبإذن الله، وليخزي
الفاسقين} [الحشر: 5].
بعد هذه المقدمة التي لا بد منها والتي تحدد سلوك المسلمين في كل شيء –ولا
سيما في معاملة الأعداء في أنفسهم وأموالهم- يسأل هذا السؤال هل يجوز
للمجاهدين المسلمين تدمير بيوت المحاربين وإتلاف أموالهم والتمثيل بجثثهمم؟
والجواب في الحلقة الآتية.
(83)
الأصل عدم التدمير الاتلاف
يتضح مما مضى أن الأصل عدم مشروعية
التخريب والإتلاف للحيوانات والزروع والمنازل وغيرها، لأن المقصود هو القضاء
على شوكة أعداء الإسلام، وشفاء صدور المؤمنين منهم، وإغاظتهم، فإذا حصل ذلك
بدون تخريب ولا إتلاف كان بها، وإلا فإن للجيش الإسلامي أن يخرب ويتلف كلما
لا يتم الانصار على العدو إلا بتخريبه وإتلافه، كالبيوت التي يتحصنون بها،
وحرق الأشجار التي يندسون فيها، أو ما يوقع الغيظ في نفوسهم، ويجعلهم يخرجون
للدفاع عنه ن ليتمكن المجاهدون من قتالهم والقضاء على شوكتهم.
فقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطعه، كما في حديث
ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع، وهي
البويرة، فنزلت: { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله
وليخزي الفاسقين }[ الحشر: 5 ] والحديث في صحيح البخاري، رقم: 4031، فتح
الباري 7/329 وصحيح مسلم3/1365، ورقمه 1746.
وقد ذكر المفسرون في سبب نزول الآية قولين:
القول الأول: إنه صلى الله عليه وسلم عندما قطع نخل بني النضير، عابه هؤلاء،
واتهموه بأنه ينهى عن الفساد ويأتيه، فنزلت الآية.
القول الثاني: إن بعض الصحابة قطع النخل، وبعضهم توقف، ورأى أنه لا يسوغ
القطع، لأنه مغنم للمسلمين، فنزلت الآية مبيحة فعل القاطعين، وتوقف الكارهين.
[ يراجع تفسير الطبري 28/34 ]
وعلى القول بإباحة ذلك الحنفيون، والمالكيون – في قول – والشافعيون، وأدلتهم
واضحة فيما تقدم.
قال السرخسي رحمه الله: " ولا بأس بأن يحرقوا حصونهم ويغرقوها، ويخربوا
البنيان، ويقطعوا الأشجار – إلى أن قال -: ثم الدليل على جوازه ما ذكره
الزهري رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع نخيل بني
النضير، فشق ذلك عليهم، حتى نادوه: ما كنت ترضى بالفساد يا أبا القاسم، فما
بال النخيل تقطع؟! فأنزل الله ( ما قطعتم من لينة أو تركتموها على أصولها )
الآية ". [ المبسوط 10/31، وحواشي تحفة المحتاج 9/245 ]
وذهب الحنبليون [ قال في المغني: في قول عامة أهل العلم ] إلى عدم جواز ذلك،
واستدلوا بعموم النهي عن الإفساد، كما قوله تعالى: {وإذا تولى سعى في الأرض
ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} [ البقرة 205 ]
واستدلوا بنهي أبي بكر رضي الله عنه، عندما أوصى يزيد بن أبي سفيان، فقال: "
لا تقطعوا شجرا، ولا تخربوا، ولا تفسدوا ضرعا " [المغني لابن قدامة 9/289،
والمبسوط للسرخسي 10/31]
وأيد ابن حزم الظاهري المذهب المذهب الأول، ورد استلال أهل المذهب الثاني
بنهي أبي بكر، فقال: "وجائز تحريق أشجار المشركين وأطعمتهم وزرعهم ودورهم
وهدمها، قال تعالى: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن
الله وليخزي الفاسقين) وقال تعالى: (ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون
من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح) [التوبة: 120] وقد أحرق النبي صلى الله
عليه وسلم نخل بني النضير... وقد روينا عن أبي بكر رضي الله عنه: لا تقطعن
شجرا مثمرا، ولا تخربن عامرا. ولا حجة في أحد مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم. وقد ينهى أبو بكر عن ذلك اختيارا، لأن ترك ذلك أيضا مباح، كما في الآية
المذكورة..." [المحلى 7/294]
وهناك مذهب ثالث يفصل الأمر كما يأتي:
إن علم المسلمون أن ديار العدو وأشجاره وغيرها عائدة للمسلمين، فليس لهم
إحراقها ولا إتلافها، وإن يئسوا منها فلهم ذلك. [يراجع تفسير القرطبي 18/8]
وهو تفصيل لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه، كما قال ابنحزم في نخل بني
النضير: "وقد علم أنها تصير للمسلمين في يومه وغده" [المحلى 7/294]
وبراجعة الأقوال السابقة ووجوه استلال أصحابها، يظهر رجحان القول الأول. وما
ادعي من أن في ذلك إفسادا غير جائز دعوى مردودة، لأن ما أذن الله في فعله لا
يعد فسادا في ميزان الشرع، وبخاصة إذا كان ذلك وسيلة للظفر بالأعداء
والانتصار عليهم.
حكم قتل دواب الكفار المحاربين
أما دواب الكفار كالبقر والإبل والغنم والخيل والبغال والحمير، فللعلماء فيه
ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: عدم جواز قتل الدواب، إلا ما يقاتل عليه الكفار، كالخيل
ونحوها، لما ورد من النهي عن قتل الحيوان صبرا، ولنهي أبي بكر رضي الله عنه:
"ولا تعقرن شجرا مثمرا، ولا دابة عجماء، ولا شاة إلا لمأكلة..." [تكملة
المجموع للعقبي 18/79، والمغني لابن قدامة 9/289، والمبسوط للسرخسي 10/37]
المذهب الثاني: وجوب ذبح الدواب وحرقها معا، حتى لا يتقوى بها المشركون، ولما
في ذلك من الإغاظة لهم، وهي مطلوبة شرعا.
المذهب الثالث: وجوب قتل ما عجز المسلمون عن الانتفاع به، ويحرق ندبا، إن خيف
من انتفاع المحاربين الكفار به، لأن في تركه بدون ذبح أو إحراق إعانة لهم،
وفي ذبحه وإحراقه حرمان لهم من الانتفاع به. [حاشية الدسوقي 2/181]
والراجح عدم جواز القتل إلا في ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يكون المسلمون في حاجة إلى الأكل، فلهم أن يذبحوا ما
يحتاجون إليه من الحيوان المباح لهم، كالبقر والإبل والغنم.
الحالة الثانية: أن يكون الحيوان مما يستعين به الكفار على المسلمين في
القتال، كالخيل التي يقاتلون عليها فعلا.
الحالة الثالثة: أن يكون الحيوان مأذونا في قتله شرعا، كالخنزير، وهذا ما
رجحه ابن حزم وساق أدلته. [المحلى 7/294-296]
( 84 )
عدم جواز قتل المشركين بالنار و التمثيل
بجثثهم.
الظفر بالعدو أمر تتوق له النفس،
والانتقام منه كذلك أمر ينزل البرد على القلوب.
وعندما يكون الظافر صاحب حق – ولا حق سوى الإسلام – والعدو صاحب باطل – وأعظم
الباطل هو الكفر – وعندما يكون هذا العدو الكافر قد عاند الحق وجحده وآذى
صاحبه – المؤمن – ولم يرع في حقه عهداً ولا قرابة، عندما يكون الظافر هو
المسلم المظلوم، والمظفور به هو الكافر الظالم، تكون مسوغات الانتقام في قمة
الحجة والبرهان.
وهنا تتوق النفس إلى استعمال أشد الأساليب انتقاماً.
أليس للمسلم الحق أن يقتل الكافر المحارب الذي لم يأل جهداً في التنكيل
بالمسلم وفتنته وإيذائه؟ وإذا كان للمسلم الحق في قتل هذا الكافر أيقتله
بوسيلة سهلة، لا يذوق بها العذاب الذي أذاق المسلم ما قد يكون أشد منه؟
فتتجاوب العواطف طالبة قتله بأشد أساليب القتل، ولعل حر النار أشفى لقلب
المسلم عندما يراها تلتهم كل جزء من أجزاء بدن عدوه الكافر، فليكن قتله
بالنار، هو الشافي.
ولقد تحركت مشاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم البشرية على رجلين من كفار
قريش كانا شديدي العداوة له – كما يظهر من العقوبة التي أمر بها في حقهما في
أول الأمر – والإيذاء والصد عن سبيل الله، فأمر أصحابه – إذا وجدوهما أن
يحرقوهما بالنار، اجتهاداً منه صلى الله عليه وسلم، فلم يقره ربه على ذلك
فرجع قبل التنفيذ ونهى عن الإحراق بالنار معللاً بأن ذلك من شأن ال،له وليس
من شأن خلقه.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في
بعث، فقال: (إن وجدتم فلاناً وفلاناً، فأحرقوهما بالنار) ثم قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: (إني أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً،
وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما) [البخاري في
الصحيح، الحديث رقم: 3016،فتح الباري (6/149)، وكذا (12/274)].
قال الحافظ: (واختلف السلف في التحريق: فكره ذلك عمر وابن عباس وغيرهما
مطلقاً، سواءً كان ذلك بسبب كفر أو في حال مقاتلة أو كان قصاصاً.
وأجازه علي وخالد بن الوليد وغيرهما... إلى أن قال: وأما حديث الباب فظاهر
النهي فيه التحريم، وهو نسخ لأمره المتقدم سواءً كان بوحي إليه أو باجتهاد
منه. ا هـ) [الفتح (6/150)].
والذي يظهر أن علياً رضي الله عنه لم يبلغه النهي عن الإحراق بالنار للعدو
الكافر، فأحرق بعض الكفار في عهده، كما ثبت أيضاً في الصحيح عن عكرمة، أن
علياً رضي الله عنه حرق قووماً فبلغ ابن عباس، فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم،
ولقتلهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) [البخاري
رقم الحديث 3017، فتح الباري (6/149)].
ولكنه رضي الله عنه عندما بلغه كلام ابن عباس ندم ندماً يدل على رجوعه عن
ذلك، حيث جاء في رواية – في غير الصحيح – (قال فبلغ قول ابن عباس علياً،
فقال: ويح ابن عباس) [هذا على رأي من قال أن (ويح) هنا للمدح والتعجب، ومعناه
أن علياً قالها رضاً بما بلغه عن ابن عباس حيث حفظ ما نسيه، وانظر فتح الباري
(12/271-272)
والرواية المذكورة في سنن أبي داود رقم الحديث4351 (4/520)، وفي المسند
(1/282) وقد أورد الإمام عبد الرزاق الصنعاني الرواية المذكورة في المصنف
(5/2130)].
والراجح عدم جواز الإحراق بالنار للنهي الصريح الوارد في هذه النصوص، فليقتل
العدو بما أذن الله فيه، وليصلَ نار جهنم التي أعدها الله له، والتي {وقودها
الناس والحجارة} [البقرة: 24، والتحريم: 6].
هذا في القتل ابتداءً، أما إذا حرق العدو الكافر مسلماً، فقد أشار الإمام
البخاري رحمه الله إلى أنه يمكن استنباط مشروعية حرق الكافر من حديث
العُرَنِييّن الذين استاقوا إبل النبي صلى الله عليه وسلم وقتلوا راعيها، حيث
قال رحمه الله: باب إذا حرق المشرك المسلم هل يحرق؟ وأورد حديث أنس رضي الله
عنه: (إن رهطاً من عُكْلٍ ثمانية، قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم،
فاجتووا المدينة، فقالوا: يا رسول الله أبغنا رسلاً، قال: (ما أجد لكم إلا أن
تلحقوا بالذود، فانطلقوا فشربوا من أبوالها، حتى صحوا وسمنوا، وقتلوا الراعي،
واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم، فأُتِيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم،
فبعث الطلب، فما ترجل النهار حتى أتِيَ بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، ثم أمر
بمسامير فأحميت فكحلهم بها، وطرحهم في الحرة يستسقون فما يسقون، حتى ماتوا)
[صحيح البخاري رقم الحديث 3018، فتح الباري (6/153) والرسل الدر من اللبن
فتح]
والشاهد في الحديث قوله: (ثم أمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها).
قال الحافظ: [الفتح (6/153)] (وليس فيه التصريح بأنهم فعلوا ذلك بالرعاء،
لكنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه، وذلك فيما أخرجه مسلم من وجه آخر عن أنس،
قال: إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين العرنيين، لأنهم سلموا أعين
الرِّعاء) [مسلم (3/1298) رقم 1671، ونصه (إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم
أعين أولئك لأنهم سلموا أعين الرعاء)].
وفي شرح النووي على صحيح مسلم [11/153]: (قال القاضي عياض رضي الله عنه:
واختلف العلماء في معنى حديث العرنيين هذا، فقال بعض السلف: كان هذا قبل نزول
الحدود وآية المحاربة والنهي عن المثلة، فهو منسوخ، وقيل ليس منسوخاً).
والذي يظهر عدم جواز الإحراق، ولو كان على سبيل القصاص، وذلك لثلاثة أمور:
الأمر الأول: تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الإحراق بالنار.
الأمر الثاني: تصريحه صلى الله عليه وسلم أن النار لا يعذب بها إلا الله.
الأمر الثالث: أن حديث أنس متأخر عن حديث أبي هريرة رضي الله عنهما، وحديث
أبي هريرة فيه جواز الإحراق، ولو جزئياً، وحديث أنس فيه النهي عن الإحراق
بالنار، مع ذكر العلة وهي أن الإحراق بالنار لا يكون إلا لله، والنهي يأتي
بعد الإباحة.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله اختلاف العلماء في المسألة، فقال: (ومال
جماعة، منهم ابن الجوزي إلى أن ذلك وقع عليهم على سبيل القصاص، لما عند مسلم:
إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم لأنهم سملوا أعين الرعاة...
وذهب آخرون إلى أن ذلك منسوخ، قال ابن شاهين، عقب حديث عمران بن حصين في
النهي عن المثلة: هذا الحديث ينسخ كل مثلة، وتعقبه ابن الجوزي بأن ادعاء
النسخ يحتاج إلى تاريخ، قلت: يدل عليه ما رواه البخاري في الجهاد من حديث أبي
هريرة في النهي عن التعذيب بالنار بعد الإذن فيه، وقصة العرنيين قبل إسلام
أبي هريرة وقد حضر الإذن ثم النهي) [فتح الباري (1/240-141)].
وأما المُمُثْلة، فالخلاف فيها كالخلاف في التحريق، وقد وردت في النهي عنها
نصوص كثيرة، منها ما لم ينص فيه على الكافر، ومنها ما ورد في سياق قتال
المسلمين الكفار.
وهذه طائفة من نصوص النوع الأول:
عن سمرة بن جندب وعمران بن حصين رضي الله عنهما، قالا ما خطبنا رسول الله إلا
أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة [المسند (4/436)].
وعن عمران بن حصين، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً
فأمرنا بالصدقة ونهانا عن المُثلة، قال: وقال: (ألا وإن من المثلة أن ينذر
الرجل أن يخرم أنفه، ألا وإن من المثلة أن ينذر الرجل أن يحج ماشياً، فليهد
هداياً وليركب) [المرجع السابق (4/307)].
وعن أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث في خطبته على الصدقة وينهى عن
المثلة [النسائي (7/93)]
وأما ما ورد النهي فيه عن التمثيل بالعدو الكافر، ففي صحيح مسلم عن بريدة عن
أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية
أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: (اغزوا باسم
الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا
تمثلوا...) الحديث [صحيح مسلم (3/1357) رقم الحديث (1731)، وقد فات بعض
الكتاب المعاصرين هذا الحديث الصحيح، فذكر حديث ابن عباس الذي أخرجه أحمد
ولفظه: (اخرجوا باسم الله تعالى، تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، ولا
تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الوِلدان وأصحاب الصوامع) ثم قال:
رواه أحمد وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل، عن أبي جبيبة، وثّقه أحمد وضعّفه
غيره، قال: وعن صفوان بن عسال، قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال: وذكر حديثنا كحديث ابن عباس أهـ من كتاب الجهاد والفدائية في الإسلام
لحسن أيوب، ولو ذكر محل الشاهد من حديث بريدة لكفاه عناء].
ومن الأدلة التي ينبغي إيرادها في هذا الباب حديث أبي يعلى شداد بن أوس رضي
الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب الإحسان على كل
شيء، فإذا قتلتم فاحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم
شفرته فليرح ذبيحته) [صحيح مسلم (3/1548) رقم الحديث 1955].
وهو عام في كل قتل، سواءً كان للكفر أو للقصاص.
قال الحافظ ابن رجب في شرح الأربعين النووية- المسمى بجامع العلوم والحكم-:
(والإحسان في قتل ما يجوز قتله من الناس والدواب إزهاق نفسه على أسرع الوجوه
وأسهلها وأرجاها من غير زيادة في التعذيب، فإنه إيلام لا حاجة إليه، وهذا
النوع هو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث...) [جامع العلوم
والحكم ص: 131].
وهذه النصوص ظاهرة في النهي عن المثلة، والأصل في النهي التحريم فلا يجوز
التمثيل بالكافر، بل يُكتَفى بقتله المعتاد في المعارك بضربه بالسيف أو طعنه
بخنجر أو رميه بحجر أو قذيفة أو نحو ذلك، ولا يزاد على ذلك بقطع بعض أطرافه
أو جذع أنفه وما أشبه ذلك.
ولكن هل يجوز أن يمثل به إذا كان هو قد مثل ببعض المسلمين قصاصاً منه وردعاًً
لبني جنسه من الأعداء؟
يرى بعض العلماء ذلك، وهو الذي يظهر – في غير التحريق بالنار الذي مضى البحث
فيه قبل هذا.
وقد أمر الله تعالى المؤمنين أن يردوا العدوان بمثله، كما قال تعالى: {فمن
اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة: 194]، وقال: {وإن
عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل: 126].
وإنما فرق بين النار وغيرها للعلة الواردة في نصوص النهي عن الإحراق بالنار،
وهي أن النار لا يعذب بها إلا الله، بخلاف غيرها فإنه لم يرد فيها ذلك.
وهنا يجب استدراك النار الناتجة عن استعمال الأسلحة التي لا بد للمسلمين من
استعمالها، لأن أعداءهم يستعملونها، كالصواريخ والقنابل والمدافع وغيرها، إذ
لو ترك المسلمون استعمالها في حال أن عدوهم يستعملها، وهي أفتك من غيرها من
الأسلحة الأخرى، لكان في ذلك فتحاً لباب انتصار الكافرين على المجاهدين،
وذهاب الهيبة من قلوب الكفار، وقد أمر الله المؤمنين بإعداد العدة التي ترهب
عدوهم: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله
وعدوكم والآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} [الأنفال: 60، وانظر
تفسير المنار للأستاذ محمد رشيد رضى (2/212)].
فالنهي عن الإحراق بالنار لا يشمل مثل هذا، لأن المسلمين لم يوقدوا النار
مباشرة لإحراق الكفار بها، وإنما استعملوا السلاح الذي لا مندوحة لهم عن
استعماله فتسبب عنه الإحراق.
وقد تكون في بلاد الكفار مواد قابلة للاشتعال، مثل البنزين والغاز والكهرباء،
فتصيبها قذائف المسلمين، فتشتعل النار وتدمر كل من في المساكن، فهل يجب على
المسلمين الكف عن الهجود على عدوهم خشية وقوع ذلك، حتى يهاجمهم العدو؟ كلا.
ما كان الله ليكلفهم ذلك، مع وضوح جانب المفسدة في حقهم.
وقد أحسن بعض فقهاء الحنفيين في حمل النهي عن المثلة بما بعد الظفر بالعدو
والظهور عليهم، أما قبل ذلك فلا بأس بها.
قال في حاشية رد المحتار عل الدر المختار: "قوله: أما قبله فلا بأس بها، قال
الزيلعي: وهذا حسن، ونظيره الإحراق بالنار، وقد جوزها في الفتح بما إذا وقعت
قتالا، كمبارز ضرب فقطع أذنهن ثم ضرب ففقع عينه، ثم ضرب فقطع يده، وأنفه،
ونحو ذلك " [حاشية رد المحتار 4/131]
(85)
عدم إنزال المحاربين على ذمة الله ورسوله
أو إنزالهم على حكم الله ورسوله
المراد بذمة الله ورسوله، بأن يقول
المجاهدون المسلمون لعدوهم الكافرين: انزلوا من حصونكم واستعصامكم ومحاربتكم،
ولكم عهد الله وعهد رسوله صلى الله عليه وسلم بألا نحاربكم، أو أن الهدنة
بيننا وبينكم كذا وكذا (لمدة محدودة).
والمراد بحكم الله ورسله: أن يقال لهم: انزلوا على أن ننفذ فيكم حكم الله
ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد ورد النهي عن ذلك، من حديث بريدة عن أبيه – وفيه –: وإذا حاصرت أهل حصن
فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه،
ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذممم أصحابكم أهون
من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله.
وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم
الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا. [صحيح
مسلم (3/1357-1358) وانظر مصنّف عبد الرزاق الصنعاني (5/218) الأحاديث رقم:
9428، 9429، 9431].
وقد علل النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الأمرين، فعلل نهيه عن إنزالهم
على ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: (فإنكم إن تخفروا ذممكم
وذممم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله).
ومعنى إخفار ذمة الله وذمة رسوله نقض عهدهما، ومعنى ذلك أن المجاهدين قد
يضطرون لنقض العهد لأي سبب من الأسباب،كأن يروا أن الكفار يعدون العدة لشن
هجوم عليهم – مثلاً – وفي هذه الحال لهم الحق أن بيادروهم بالضربة التي تقضي
على قوتهم، إما بدون إنذار إذا علموا – أي المسلمون – أن الكفار مصرون على
قتالهم، وإما بإنذارهم ونبذ العهد إليهم، إذا ظهرت لهم علامات تدل على عزم
الكفار على قتالهم، كما قال تعالى: {الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل
مرة وهم لا يتقون، فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون،
وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين}
[الأنفال: 56-58].
وعندئذ يكون المسلمون قد نقضوا عهدهم شرعاً، وقد يقع نقض العهد من بعض
المجاهدين المسلمين، إما خطأ، وإما عمداً لسبب من الأسباب، والأصل عدم جواز
ذلك، فيكون نقض العهد هذا نقضاً لعهد المسلمين أنفسهم وليس نقضاً لعهد الله
ورسوله [أنظر نيل الأوطار (7/263)].
وكذلك حكم الله ورسوله، فإن المسلمين قد يصيبوا حكم الله ورسوله فعلاً، وقد
لا يصيبون ذلك، والمجتهد قد يصيب وقد يخطئ، وللمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد،
كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن العاص:
(إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)
[البخاري رقم 7352، فتح الباري (13/1342)].
وما دام المسلم معرضاً للخطأ في حكم الله، فليس له أن ينزل أعداءه على حكم
الله.
ولقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته سنة الحيطة والحذر من الوقوع في
الخطأ أو الحكم في شيء قد يكون – في واقع الأمر صواباً، وقد يكون خطأ – ثم
ينسب إلى الله سبحانه وتعالى، فنبه المتخاصمين على أنه صلى الله عليه وسلم
يحكم بالظاهر له من الأمر، وقد يكون الواقع مخالفاًً لذلك الظاهر، لعدم علمه
صلى الله عليه وسلم به، وإذا كان الأمر كذلك فإن حكمه لا يحل حراماً ولا يحرم
حلالاً، وعلى من غش أن يتحمل الإث،م كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع خصومة بباب حجرته خرج إليهم، فقال:
(إنما أنا بشر، وأنه يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب
أنه صدق، فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار،
فليأخذها أو فليتركها) [البخاري رقم 2458، فتح الباري (5/107)، ومسلم
(3/1337)].
وإن أعداء الله ليحاولون أن يجدوا أي عيب في تصرف المسلمين فينسبوه إلى
الإسلام نفسه، لذلك يجب الاحتياط وعدم إنزال الكفار المحاربين على ذمة الله
وذمة رسوله، أو على حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد طبق صلى الله عليه وسلم ذلك في حياته فأنزل بني قريظة على حكم سعد ابن
معاذ، كما ورد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: لما نزلت بنو قريظة على
حكم سعد، وهو ابن معاذ بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قريباً
منه، فجاء على حمار، فلما دنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى
سيدكم) فجاء فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: إن هؤلاء نزلوا
على حكمك، قال: (فإني أحكم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى الذرية) قال: (لقد
حكمت فيهم بحكم الملك) [البخاري رقم 3043، فتح الباري (6/165)، ومسلم
(3/1388)].
وقد أخذ بعض الحنفية بظاهر الأحاديث الواردة في النهي عن إنزال الكفار على
حكم الله ورسوله، وعليه محمد بن الحسن وقوفاً عند النص.
وأجاز بعضهم إنزال الكفار على حكم الله ورسوله، وعليه أبو يوسف وحملوا هذا
النهي على أنه كان في وقت نزول الوحي، والأحكام تتغير ساعة فساعة، فقد ينزل
حكم ينسخ الحكم الذي أنزلوهم عليه ولو كان منصوصاً عليه، أما بعد استقرار
الحكم بانتهاء الوحي وإكمال الدين فلا مانع من ذلك.
وحكم الله في هذه المسألة هودعاؤهم إلى الإسلام، فإن أجابوا خُلِّيَ سبيلهم
وإن أبوا دعوا إلى التزام الجزية، فإن أبوا قتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم، وعلى
هذا الرأي الحنابلة أيضاً [انظر المبسوط (10/7) وبدائع الصنائع (9/4321 فما
بعدها) ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (2/529)].
وهو مذهب قوي فيما يتعلق بالحكم، فيما فيه نص واضح لا مجال فيه للاجتهاد
والخطأ والصواب، أما الأمور التي قد يبدو فيها مجال للاجتهاد والحكم فيها
يحتمل أن يكون صواباً وأن يكون خطأ، فالنهي فيها قائم، وكذلك ذمة الله ورسوله
فإنها باقية على الحظر والله أعلم.
(86)
دعوة من أسلم من المحاربين إلى الهجرة إلى
بلاد الإسلام
خلق الله الإنسان ليعبد الله تعالى في
الأرض، وجعل الأرض واسعة قسم، فيها الأرزاق، فإذا ضويق أحد بسبب عبادة الله
في بلد، فإن عليه أن يهجر هذا البلد ويتحول منه إلى بلد آخر ينجوا فيه من
المضايقة والصد عن دين الله. (وسيأتي الكلام على الهجرة بالتفصيل إن شاء الله
في فصل أنواع الجهاد).
والمقصود هنا بيان أن من آداب الجهاد، أن يدعوا المجاهدون من أسلم من
المحاربين، إلى ترك بلاد الحرب والتحول إلى بلاد الإسلام، ليؤدي شعائر دينه
في أمان، وليزداد علماً بدينه من إخوانه المسلمين، ويكثر سوادهم بالجهاد في
صفهم.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي بذلك أمراءه عندما يبعثهم للجهاد
في سبيل الله، كما في حديث بريدة عن أبيه: (فإن أجابوك – أي للإسلام – فاقبل
منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن أبوا أن
يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله
الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا
مع المسلمين) [صحيح مسلم (3/1356) رقم الحديث: 1731].
هذا إذا بقيت البلاد بلاد حرب، أما إذا أصبحت دار إسلام كلها فإن الهجرة
حينئذ غير واجبة، وعلى ذلك يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح
ولكن جهاد ونية) [البخاري رقم: 1834، فتح الباري (4/46) ومسلم (2/986)] أي
"لا هجرة بعد الفتح من بلد الفتح" [المغني لابن قدامة (9/294)].
(87)
الرفق بالأسير، والمن عليه إذا رأى الإمام
فيه مصلحة
عندما يواجه المسلم الكافر في
المعركة، يجب عليه أن لا تأخذه فيه رأفة بل عليه أن ينزل به العذاب الذي أمره
الله به والذل ليتحقق عليه – أي على عدو الله الكافر – النصر لعباد الله
المؤمنين، كما قال تعالى: {قاتلوهم يُعَذِبْهم الله بأيديكم، ويُخْزِهم
ويَنْصرْكم عليهم، ويَشْفِ صدور قوم مؤمنين} [التوبة: 14].
وقال: {فاضربوا فوق الأعناق، واضربوا منهم كل بنان} [الأنفال: 12] سواء كان
الخطاب للملائكة أو للمؤمنين [راجع تفسير ابن جرير (9/197)]، وقال تعالى:
{فإذا لقيتُم الذين كفروا فَضَرْبَ الرقاب} [محمد: 4].
فإذا وقع العدو في أيدي المسلمين أسيراً، فإن الأمر حينئذ يختلف عما كان عليه
الحال في وقت المعركة:
فقد يكون الأسير يستحق الرفق به والمن عليه، وإطلاق سراحه، وتكون المصلحة في
ذلك، والإمام الحريص على المصلحة، المجتهد في ذلك بدون شهوة واتباع هوى أولى
بأن يقدر ذلك وينفذه [المغني (9/222)] بعد أن يتشاور مع جنده، كما فعل الرسول
صلى الله عليه وسلم مع هوازن [البخاري 4321، فتح الباري (7/34)] إذا كان
السبي كثيراً أو المسلمون قد حازوا حظوظهم منه أو جمعوه ليقتسموه.
وقد يكون الأسير واحداً ويظهر للإمام عليه بوادر الخير فيبدوا له أن يطلق
سراحه بدون فداء فله ذلك.
ولقد تجلّى رفق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن معاملته للأسير ثم المن
عليه، لما رأى فيه من بوادر الخير، لقد تجلى ذلك في قصة ثُمامة بن أُثال، كما
في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً
قِبَل نجد، فجاءت برجل من بني حَنِيفة يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية
من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ما عندك يا
ثمامة؟) فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على
شاكر، وإن كنت تريد الممال فسل منه ما شئت، حتى كان الغد، ثم قال له: (ما
عندك يا ثمامة؟) قال: ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد
الغد، فقال: (ما عندك يا ثمامة؟) فقال: عندي ما قلت لك، فقال: (أطلقوا ثمامة)
فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد ألا إله
إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه
أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ، والله ما كان دين أبغض
إليّ من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إليّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة
فماذا ترى، فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم
مكة، قال له قائل: صبوت، قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة، حتى يأذن بها النبي صلى
الله عليه وسلم [البخاري رقم 4372، فتح الباري (8/87) ومسلم (3/1386)].
لقد وضع الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد أسيراً ليرى بنفسه ويسمع بأذنه
محاسن دين الإسلام في نبي الإسلام وحَمَلته الأولين أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وكان مسجده صلى الله عليه وسلم مثابة للمصلين والمتعلمين،
والمؤتمرين والمتشاورين في أمور الإسلام العامة، ومقراً للوفود الذين يقدمون
على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتعلم الدين الإسلامي أو تلقي الأوامر
القرآنية والنبوية، لتبليغها إلى الآخرين، كما كان ملجأ للضعفاء والمساكين
والطارقين، ومنطلقاً لأولياء الله المجاهدين الذين يعقد لهم الرسول صلى الله
عليه وسلم الألوية ويبعثهم لجهاد أعداء الله من المشركين.
وكان ثمامة الأسير يشاهد ذلك: فيرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
يصطفون للصلاة، كأنهم بنيان مرصوص، كما يراهم وهم يتكاتفون ويتعاونون ويتآخون
فيما بينهم ويؤثر بعضهم بعضاً، ويتأمل في سرعة تنفيذهم أمر الله وأمر رسوله
والطاعة الكاملة التي لا خيرة لهم فيها. فيلبون الأذان للصلاة كما يلبون
النفير إلى الجهاد.
ويسمع كتاب الله وهو يتلى ويفسر بتلك المعاني الربّانية في كل جانب من جوانب
الحياة.
ثم فوق ذلك يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، القدوة الحسنى الذي يسبق
أصحابه إلى تنفيذ ما يأمرهم به، ويبتعد كل البعد عما ينهاهم عنه، ويشاهده وهو
رسوول الله ينزل عليه جبريل صباح مساء، يشاهده يتفقد عدوه الكافر المأسور
فضلاً عن أصحابه المؤمنين، ويسأله عما عنده كل يوم ويسمع منه، ثم في آخر
الأمر يطلق سراحه، فيؤثر كل ذلك في نفسه، فما يكون بينه وبين الدخول في
الإسلام فعلاً إلا أن يغتسل ثم يعود فيبوح بكل المعاني التي كانت تجيش في
نفسه، وهو مربوط إلى سارية المسجد فيخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ويختلف عنده المقياس لما يحب ويكره فيصبح أبغض الناس إليه أحبهم إليه، وأبغض
الأرض إليه أحبها إليه، وهكذا الإسلام يحول الولاء في لحظة من الولاء للقبيلة
أو الأرض أو الجنس أو غير ذلك، إلى الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، وإن
الكلمات التي صدرت من ثمامة وهو مربوط مثل قوله: (عندي خير) جواباً على قول
الرسول صلى الله عليه وسلم له: (ما عندك يا ثمامة؟) وقوله: (وإن تنعم تنعم
على شاكر) إن تلك الكلمات لتبشر بالخير الذي كان في قلبه، وكأن رسول الله صلى
الله عليه وسلم لحظ فيها معنى قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم
من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم
والله غفور رحيم} [الأنفال: 70].
وقد يرى الإمام أن المصلحة تقتضي أخذ الفداء على الأسير، وإن ادعى الإسلام
بعد الأسر، بأن يفدي به أسيرين مسلمين، وهو إذا كان صادقاً في إسلامه سيجعل
الله له مخرجاً وسيعود إلى المسلمين، ولكنه مع ذلك يظهر العطف عليه ويتفقده
ويعطيه حاجته من الطعام والشراب وغير ذلك، كما ثبت ذلك عن الرسول صلى الله
عليه وسلم من حديث عمران بن الحصين رضي الله عنه، قال: (كانت ثقيف حلفاء لبني
عقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني عقيل، وأصابوا معه العضباء، فأتى
عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق، قال: يا محمد، فأتاه فقال:
(ما شأنك؟) فقال: بم أخذتني، وبم أخذت سابقة الحاج؟ [أراد بسابقة الحاج
الناقة التي أخذها الصحابة معه، وهي ناقة نجيبة كانت لرجل من بني عقيل ثم
انتقلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسمى العضباء، راجع حاشية محمد فؤاد
عبد الباقي على صحيح مسلم (3/1262)] فقال: - إعظاماً لذلك – (أخذتك بجريرة
حلفائك ثقيف) ثم انصرف عنه، فناداه يا محمد يا محمد، وكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم رحيماً رفيقاً فرجع إليه فقال: (ما شأنك؟) قال: إني مسلم، قال: (لو
قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح) ثم انصرف، فناداه فقال: يا محمد،
فأتاه فقال: (ما شأنك؟) قال: إني جائع فأطعمني، وظمآن فاسقني، قال: (هذه
حاجتك) ففدي بالرجلين) [صحيح مسلم (3/1262) رقم الحديث 1641].
وفي هذا الحديث فوائد:
الفائدة الأولى: رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم ورفقه كما هو ظاهر، وقد أشار
إلى ذلك الصحابي، عندما قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً
رفيقاً.
الفائدة الثانية: حرصه صلى الله عليه وسلم على تفقد أحوال من تحت يده ولو كان
عدوه وإعطاؤه حاجته.
الفائدة الثالثة: حلمه وصبره وقد ناداه الأسير عدة مرات باسمه يا محمد دون
صفته يا رسول الله وهو يجيبه في كل مرة ويأتيه ويقول له: (ما شأنك؟).
الفائدة الرابعة: أن الرجل لو أسلم قبل الأسر لما كان عليه من سبيل وأفلح كل
الفلاح، الفلاح عند الله تعالى بإسلامه مطيعاً مختاراً، والفلاح من الأسر
الذي حصل له بسبب أنه لم يسلم قبل ذلك.
الفائدة الخامسة: أنه إذا تعارضت مصلحتان قدم أعلاهما، فالرجل ادعى الإسلام
وهو في الأسر وقبيلته قد أسرت رجلين صحابيين مجاهدين، قد ثبتا على الإسلام
وجاهدا لإعلائه، ففضَّل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفتديهما به، وهو إذا
كان صادقاً في إسلامه سيلحق بالرسول صلى الله عليه وسلم.
هذا مع العلم أنه كان من حق الرسول صلى الله عليه وسلم أن بيقيه رقيقاً، وإن
أسلم بعد الأسر، لأن الإسلام لا يُذهب الرق كما هو معلوم، وإن كان يحث عليه
ويفتح أبوابه على مصراعيها، وفداء صحابيين حرين فيهما تلك الصفات، وهما ممن
يخشى عليهما من غدر المشركين بهما، وهو لا يخشى عليه ذلك أمر لا بد منه
وقد يرى الإمام أن المصلحة في تطهير الأرض من الأسير لخبثه وشركه الذي يظهر
أنه من طبعه، فله أن يقتله ويريح البشرية منه، كما فعل صلى الله عليه وسلم
ببني قريظة الذين حكم فيهم سعد بن معاذ رضي الله عنه بقتل المقاتلة وسبي
الذرية، وكان ذلك هو حكم الله الذي وفق له سعد رضي الله عنه، كما في حديث أبي
سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: لما نزلت بنوا قريظة على حكم سعد بن معاذ،
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قريباً منه، فجاء على حمار، فلما دنى
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى سيدكم) فجاء فجلس إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: (إن هؤلاء نزلوا على حكمك) قال: (فإني
أحكم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى الذرية) قال: (لقد حكمت فيهم بحكم الملك)
وفي رواية عائشة رضي الله عنها أنه قال: (فإني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة
وأن تسبى النساء والذرية، وأن تقسم أموالهم) [البخاري رقم 3043، فتح الباري
(6/165)، ومسلم (3/1388)].
وقد أثبت واقع اليهود في تاريخهم الطويل، قبل الإسلام وبعده إلى هذه الساعة،
أن خير علاج ناجح لوقاية البشرية من شرهم وفسادهم وكيدهم هو هذا الحكم، عندما
يكونون جماعة متكتلة منظمة، أما عندما يكونون أفراداً مشتتين في الأرض أذلاء
لا تجمعهم رابطة تجعلهم متمكنين في الأرض للإفساد فيها، فإنن معاملتهم تختلف
عن هذا.
وإن أي أمة تتساهل في أمر اليهود حتى يتمكنوا من جمع كلمتهم وتنظيم أنفسهم في
أرضها لهي – في تساهلها ذلك – تضع نهاية لوجودها، وهي لا تخلوا من أحد أمرين.
فإما أن تكون متواطئة مع اليهود للقضاء على كيان الإسلام والمسلمين، وإما أن
تكون مغلوبة على أمرها، والأمر الثاني أخف لأن الأمة المغلوبة على أمرها،
يمكنها في يوم من الأيام أن تثب على جرثومة الفساد فتبيدها، وإن طال الزمان
وأما الأمر الأول، فهو الخطر الذي يصعب محوه إلا إذا جاء جيل آخر فصب لعائن
الله على أسلافه الذين أوقعوه في شباك هذا السرطان ثم صمم على استئصاله
فاستأصله.
وقد أجاد الخرقي في مختصره، إذ جمع هذه المعاني كلها بالنسبة للأسير فقال:
"وإذا سبى الإمام، فهو مخير إن رأى قَتَلَهم، وإن رأى منَّ عليهم وأطلقهم بلا
عِوض، وإن رأى أطلقهم على مال يأخذ منهم، وإن رأى فادى بهم، وإن رأى استرقهم،
أيُّ ذلك رأى فيه نكاية للعدو وحظاً للمسلمين فعل" [المغني لابن قدامة
(9/220) وانظر المبسوط (10/63)].
إلا أن النساء والذرية الذين لم يبلغوا، لا يجوز قتلهم والأدلة على ذلك
كثيرة، ومنها حديث أبي سعيد الخدري، وحديث عائشة اللذان مر ذكرهما قريباً في
قصة بني قريظة وفيهما: (وأن تسبى النساء والذرية) [المغني (9/221)].
وهل يجوز لغير الإمام قتل الأسير؟
الراجح عدم جواز ذلك إلا لضرورة، كأن
يستعصي الأسير ولم يقدر على أخذه بدون قتله، أو أنه قد أثخن بالجراحة فلا
يقدر على السير ولم يقدر المسلمون على حمله، أو أنه قد بالغ في إيذاء أهل
الإسلام، ويكون في قتله زجر لأمثاله) [أنظر المغني (9/225].