(100)
المطلب الثالث
أعوان النفس الأمارة بالسوء
ومع أن النفس منبع الشر ومأوى السوء
في ذاتها، فإن لها من الأعوان، والجنود ما يزيدها شراً على شرها وفساداً على
فسادها. ومن أهم أعوانها على شرها وفسادها ألمور الآتية:
الأمر الأول: الجهل.
والجهل حمأة منتنة، يتفجر منها قيح المعاصي من الشرك بالله إلى أصغر معصية،
والجاهل يقف أمام الحق معانداً وجاحداً ومستكبراً، ولو كانت حجج هذا الحق
أوضح من الشمس في كبد السماء في يوم صحو، كما قال تعالى: {ولو أننا نزَّلنا
إليهم الملائكة، وكلَّمهم الموتى، وحشرنا عليهم كلّ شيء قُبُلاً، ما كانوا
ليؤمنون إلا أن يشاء الله، ولكن أكثرهم يجهلون} [الأنعام: 111]
والجاهل يحجب جهلُه عقلَه أن يفقه أوضح القضايا وأظهرها على الإطلاق، وهي
وحدانية الله، ولو كان الداعي إليها نبياً رسولاً موجودا بين ظهراني الجهال،
قال تعالى: {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم،
قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال إنكم قوم تجهلون} [الأعراف:
138] وقال تعالى عن عاد قوم هود، عندما دعاهم إلى توحيد الله وحذرهم من عذابه
العظيم: {قالوا أجئتنا لتَأفِكَنا عن آلهتنا؟! فأتنا بما تعدنا إن كنت من
الصادقين. قال إنما العلم عند الله وأبلِّغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوماً
تجهلون} [الأحقاف: 22-23] هذا في الشرك بالله تعالى، وقال تعالى في قوم لوط
الذين ارتكبوا أقبح فاحشة من المعاصي بعد الشرك بالله: {ولوطاً إذ قال لقومه
أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون، أئنكم لتأتون الرجال شهوةً من دون النساء!! بل
أنتم قوم تجهلون} [النمل: 54-55].
والجهال لا يكتفون بارتكاب معصية الله بأنفسهم، بل إنهم يأمرون بها أهل العلم
بالله ويدعونهم إليها، ولذلك أمر الله نبيه أن ينكر عليهم هذا الأمر، وأن
يفاصلهم مفاصلة كاملة، كما قال تعالى: {قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها
الجاهلون} [الزمر: 64].
وقال تعالى: {قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون } إلى قوله {لكم دينكم
ولي دين} [الكافرون].
وقد استعاذ موسى عليه السلام بربه أن يكون من الجاهلين، عندما اتهمه قومه
بأنه يستهزئ بهم ويسخر منهم؛ ولم يقل: أعوذ بالله أن أكون من الساخرين أو
المستهزئين، بل قال: {أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} [البقرة: 67] لأن
الجهل سبب الهزء والسخرية في مقام يقتضي الجد، قال القرطبي بعد أن فسر هذه
الآية: "وفي هذا كله أدل دليل على قبح الجهل وأنه مفسد للدين" [الجامع لأحكام
القرآن (1/447)].
وعندما يشتد حزن الرسول صلى الله عليه وسلم لما يرى من عناد قومه وتعنتهم
عليه بأن يأتيهم بآية ليؤمنوا،لم ينهه الله عن الجزع والتحسر الشديدين، وإنما
نهاه عن منبعهما وهو الجهل [انظر الجامع لأحكام القرآن (6/418)] كما قال
تعالى: {وإن كان كَبُر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو
سلماً في السماء فتأتيهم بآية، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى، فلا تكوننَّ
من الجاهلين} [الأنعام: 35].
هذا وليس المقصود بالجهل أن الإنسان الموصوف به غير عالم مطلقاً، بل قد يكون
عنده علم بالحق وأدلته مقنعة لعقله، ولكنه لا يستجيب لذلك الحق، بل يعاديه
ويرده ويحارب أهله، ولذلك صار بمنزلة من لم يعلم لعدم عمله بعلمه، كما ينفي
عن العاقل عقله، لعدم انتفاعه به.
قال ابن تيمية رحمه الله: "فأهل الخوف لله والرجاء له هم أهل العلم الذين
مدحهم الله، وقد روي عن أبي حيان التميمي أنه قال: العلماء ثلاثة: فعالم
بالله ليس عالماً بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس عالماً بالله، وعالم بالله
عالم بأمر الله، فالعالم بالله هو الذي يخافه، والعالم بأمر الله هو الذي
يعلم أمره ونهيه. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (والله إني لأرجو
أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بحدوده) [صحيح البخاري (7/96) وصحيح مسلم
(4/1829) بلفظ آخر مقارب]، وإذا كان أهل الخشية هم العلماء الممدوحين في
الكتاب والسنة،لم يكونوا مستحقين للذم، وذلك لا يكون إلا مع فعل الواجبات،
ويدل عليه قوله تعالى: {فأوحى إليهم ربُّهم لنهلكنَّ الظالمين،
ولَنُسْكِنَنَّكُم الأرض من بعدهم، ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} [إبراهيم:
13-14] وقوله: {ولِمن خاف مقام ربه جنتان} [الرحمن: 46] فوعد بنصر الدنيا
وبثواب الآخرة لأهل الخوف، وذلك إنما يكون لأنهم أدوا الواجب، فدل على أن
الخوف يستلزم فعل الواجبات ولهذا يقال للفاجر: لا يخاف الله، ويدل على هذا
المعنى قوله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم
يتوبون من قريب} [النساء: 17]، قال أبو العلية: سألت أصحاب محمد عن هذه
الآية؟ فقالوا لي: كل من عصى الله فهو جاهل... قال محمد: كل عاص فهو جاهل حين
معصيته، وقال الحسن وقتادة وعطاء والسدي وغيرهم: إنما سُمُّوا جهالاً
لمعاصيهم، لا أنهم غير مميَّزين، وقال الزجاج: ليس معنى الآية أنه يجهلون أنه
سوء، لأن المسلم لو أتى ما يجهله كان كمن لم يواقع سوءا،ً وإنما يحتمل أمرين:
أحدهما أنهم عملوه وهم يجهلون المكروه فيه، والثاني أنهم قدموا على بصيرة
وعلم بأن عاقبته مكروهة، وآثروا العاجل على الآجل فسموا جهالاً، لإيثارهم
القليل على الراحة الكثيرة والعافية الدائمة. فقد جعل الزجاج الجهل إما عدم
العلم بعاقبة الفعل، وإما فساد الإرادة، وقد يقال هما متلازمان...
والمقصود هنا أن كل عاص لله فهو جاهل، وكل خائف منه فهو عالم مطيع ل،له وإنما
يكون جاهلاً لنقص خوفه من ال،له إذ لو تم خوفه من الله لم يعص... وفي الكلام
المعروف عن الحسن البصري -ويروى مرسلاً-عن النبي صلى الله عليه وسلم: (العلم
علمان، فعلم في القلب، وعلم على اللسان، فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم
اللسان حجة الله على عباده).
وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(... ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر...)
وهذا المنافق يقرأ القرآن يحفظه ويتصور معانيه، وقد يصدق أنه كلام الله وأن
الرسول حق، ولا يكون مؤمنا،ً كما أن اليهود يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
وليسوا مؤمنين، وكذلك إبليس وفرعون وغيرهما، لكن من كان كذلك لم يكن حصل له
العلم التام والمعرفة التامة... ولهذا صار يقال لمن لم يعمل بعلمه: إنه جاهل
كما تقدم" [مجموع الفتاوى 7/21-24 باختصار بعض الجمل، ومن أراد مزيداً من
الإيضاح فليراجعه].
وقد جعل رحمه الله الجهل والظلم منشأ جميع السيئات، فقال: "وأما السيئات
فمنشؤها الجهل والظلم، فإن أحداً لا يفعل سيئة قبيحة إلا لعدم علمه بكونها
سيئة قبيحة، أو لهواه وميل نفسه، ولا يترك حسنة واجبة إلا لعدم علمه بوجوبها
أو بغض نفسه لها" [مجموع الفتاوى (14/287)].
وبهذا يتضح خطر الجهل على النفس البشرية التي هي منبع الشر ومأوى السوء في
ذاتها.
(101)
الأمر الثاني من أعوان النفس الأمارة
بالسوء: الغفلة.
والغفلة داء عضال تحجب صاحبها عن
النظر إلى أبواب مفتوحة من الخير، لولاها لولج كل باب فيها ليحقق رضا الله
عنه بفعل طاعته، كما أنها – أي الغفلة – تحجبه كذلك عن رؤية أضرار لا حصر لها
داخل أبواب مغلقة، يحطمها بمطارق شهواته فيلجها، ليحمل نفسه من عظائم
أوزارها، وإن الإنسان الذي يصاب بداء الغفلة لتمر به أيام عمره ولياليه وهو
صاد معرض عن كل خير، منهمك في معاصي الله وسخطه، حتى يأتيه هادم اللذات فينزع
منه روحه وهو في غفلة، فلا يفيق من غفلته إلا في ذلك الوقت الذي يشعر فيه
بالندم ولات ساعة مندم
وهاهو القرآن الكريم ينعى على أهل الغفلة غفلتهم، وينذرهم قرب يوم الحساب على
ما قدموا وهم سادرون، ويرتب على غفلتهم إعراضَهم عن ذكر الله، وموقفهم منه
موفق اللاعب الذي لا يبالي ولا يفكر فيما يضره أو ينفعه: {اقترب للناس حسابهم
وهم في غفلة معرضون، ما يأتيهم من ذِكر من ربهم مُحْدَثٍ إلا استمعوه وهم
يلعبون، لاهيةً قلوبهم وأسرُّوا النَّجْوى الذين ظلموا هَلْ هذا إلا بَشَرٌ
مثلكم؛ أفتأتون السحر وأنتم تبصرون} [الأنبياء: 1-3].
وتتجسم آيات الله للمتقين، فتبهر عقولهم، وتملأ قلوبهم إيمانا،ً وتزيدهم
علماً بالله، ولكن أهل الغفلة يمرون على كل آية وتمر عليهم كل آية دون أن
يستفيقوا من غفلتهم، ولذلك نرى كل تصرفاتهم صادرة عن سكون إلى الدنيا وركون
إليها، وعدم خوف من الله خالقهم وخالق تلك الآيات: {هو الذي جعل الشمس ضياء
والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا
بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون. إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في
السموات والأرض لآيات لقوم يتقون، إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة
الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن ءاياتنا غافلون، أولئك مأواهم النار بما
كانوا يكسبون} [يونس: 5-8].
وإذا كانت سنة الله تعالى في أكثر الناس أنهم لا يؤمنون: {وما أكثر الناس لو
حرصت بمؤمنين} [يوسف: 103] فإن هذه الكثرة هي التي أصيبت بداء الغفلة: {وإن
كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون} [يونس: 92].
وقد يكون الغافل مبدعاً في معايش الدنيا ومصالحها المادية البحتة، في الطب
والهندسة والكيمياء والفلك وأنواع الصناعات وغيرها، وقد يصل إلى اكتشافات
مادية مدهشة يغزو بها الفضاء، ويقرب للناس المسافات البعيدة في الأسفار
والأصوات والرؤية وغير ذلك، كما هو الحال في هذا العصر، ولكن ذلك لا يخرجه عن
كونه غافلاً مصاباً بداء الغفلة، لأن الغفلة الحقيقية هي الغفلة عن آيات الله
التي تجلب الإيمان به وتعمقه وتلفت النظر، وتنبه القلب إلى الإيمان باليوم
الآخر وما أعد الله فيه من الثواب والعقاب لأوليائه وأعدائه، فلا يخرج عن
الغافلين من تعمق في علوم الكون دون أن يستفيد شيئاً من ذلك، لا بل إن كثيرا
ممن يسمون بالعلماء في هذا العصر، ليسوا بعلماء عند الله تعالى، بسبب تلك
الغفلة التي أفقدتهم التفكير في آيات الله العظيمة، قال تعالى: {وَعْدَ الله
لا يخلف الله وَعْدَه، ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون، يعلمون ظاهراً من الحياة
الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، أو لم يتفكَّروا في أنفسهم ما خلق الله
السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى، وإن كثيراً من الناس بلقاء
ربهم لكافرون} [الروم: 6-8].
وقد وصف الله أهل جهنم أنهم لا يستفيدون من قلوبهم ولا من أعينهم ولا من
آذانهم وما خلقها الله من أجله وأنهم أكثر ضلالاً من الأنعام وختم تلك الصفات
بالغفلة بصيغة حصرهم فيها، كما قال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن
والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون
بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} [الأعراف: 179].
وعندما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم – وأمره له أمرٌ لأمته – بذكره،
حذره من الغفلة والكون في عداد أهلها، لأنها تلهي عن ذكر الله المأمور به،
فقال: {واذكر ربك في نفسك تَضَرُّعاً وخِيفةً ودون الجهر من القول بالغدوِّ
والآصال، ولا تكن من الغافلين} [الأعراف: 205].
وإن أهل الغفلة ليتحسرون عند دنو وعد الله – يوم القيامة – ويلومون أنفسهم،
ويقرون أنهم كانوا ظالمين بسبب تلك الغفلة، ولكنه تحسر غير مجدٍ، ولوم غير
مفيد، وإقرار لا يترتب عليه إلا عذاب الله: {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم
من كل حدب ينسلون، واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا
ياويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين، إنكم وما تعبدون من دون الله
حصب جهنم أنتم لها واردون} [الأنبياء: 96-98].
ويتذكر الغافل - يوم القيامة الذي ظل غافلا عن أهواله طيلة حياته- يتذكر
غفلته تلك في وقت زالت فيه الغفلة وانقشع غطاؤها، فإذا هو يعاين كل شيء:
{وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد، لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك
فبصرك اليوم حديد} [ق:21-22].
قال ابن تيمية رحمه الله يصف خطر الغفلة: "فالغفلة عن الله والدار الآخرة تسد
باب الخير الذي هو الذكر واليقظة، والشهوة تفتح باب الشر والسهو والخوف،
فيبقى القلب مغموراً بما يهواه ويخشاه غافلاً عن الله، رائداً غير الله،
ساهياً عن ذكره قد اشتغل بغير الله، قد انفرط أمره قد ران حب الدنيا على
قلبه، كما روي في صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: (تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد القطيفة تعس عبد
الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطي رضي، وإن منع سخط)" [الفتاوى
(10/597)].
ونهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم – وهو نهي لأمته – أن يطيع من أغفل الله
قلبه عن ذكره فقال: {ولا تُطِعْ من أغفلنا قلبه عن ذكرنا، واتَّبع هواه، وكان
أمرُه فُرُطاً} [الكهف: 28].
وعزا ابن القيم رحمه الله الزهد عن الحياة -العليا حياة الأنبياء والرسل
وأتباعهم- إلى أصلين: أحدهما ضعف الإيمان، والثاني جثوم الغفلة على القلب،
وقال في هذا الأخير: "السبب الثاني: جثوم الغفلة على القلب فإن الغفلة نوم
القلب، ولهذا تجد كثيراً من الأيقاظ في الحس نياماً في الواقع..." [مدارج
السالكين (3/284)]
وقال شيخه ابن تيمية رحمه الله: "فالغفلة والشهوة أصل الشر، قال تعالى: {ولا
تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً}" [الفتاوى (14/289)
والآية في سورة الكهف: 28].
ويصف الأستاذ سيد قطب رحمه الله أصحاب الغفلة واللهو في كتابه [في ظلال
القرآن] في مطلع سورة الأنبياء فيقول: "مطلع قوي يهز الغافلين هزاً، والحساب
يقترب وهم في غفلة، والآيات تعرض وهم معرضون عن الهدى، والموفق جد وهم لا
يشعرون بالموقف وخطورته، وكلما جاءهم من القرآن جديد قابلوه باللهو
والاستهتار واستمعوه وهم هازلون يلعبون {لاهية قلوبهم} والقلوب هي موضع
التأمل والتدبر والتفكر، إنها صورة للنفوس الفارغة التي لا تعرف الجد، فتلهو
في أخطر المواقف، وتهزل في مواطن الجد وتستهتر في مواقف القداسة، فالذكر الذي
يأتيهم يأتيهم {من ربهم} فيستقبلونه لاعبين بلا وقار ولا تقديس، والنفس التي
تفرغ من الجد والاحتفال بالقداسة، تنتهي إلى حالة من التفاهة والجدب
والانحلال، فلا تصلح للنهوض بعبء، ولا الاضطلاع بواجب، ولا القيام بتكليف،
وتغدوا الحياة عاطلة هينة رخيصة، إن روح الاستهتار التي تلهوا بالمقدسات روح
مريضة والاستهتار غير الاحتمال، فالاحتمال قوة جادة شاعرة، والاستهتار فقدان
للشعور واسترخاء" [في ظلال القرآن (17/2367) طبع دار الشروق].
وبهذا يظهر كذلك خطر الغفلة على صاحبها وعلى البشرية كلها.
(102)
الأمر الثالث من أعوان النفس الأمارة
بالسوء: الهوى.
"الهوى: ميل النفس إلى الشهوة، ويقال
ذلك للنفس المائلة إلى الشهوة وقيل: سمي بذلك لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى
كل داهية، وفي الآخرة إلى الهاوية، والهوى سقوط من علو إلى أسفل" اهـ
[المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص:3-4].
وإذا كانت النفس كما سبق منبع البشر ومأوى السوء، فإن هواها هو قائدها إلى كل
شر وكل سوء، وهواها محنة لصاحبها مثلها، كلاهما يوبقه إذا استسلم ولم يقاوم
ويسقطه في قعر الخسران وسخط الرحمن.
القرآن الكريم يسلط أضواءه على الهوى فيعريه ليراه صاحبه على حقيقته.
والهوى المردي هو الذي تبرأ منه أولياء الله، لأنه يورث أصحابه الحيرة والقلق
في الأرض، والشيطان هو الذي يزينه ويدعو صاحبه إليه، بخلاف أولياء الله،
فإنهم يدعون إلى هدى الله ويزينونه للناس، حتى لا يُردوا على أعقابهم وقد
أمروا أن يسلموا لربهم، كما قال تعالى: {قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا
ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في
الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا
لنسلم لرب العالمين} [الأنعام: 71].
وفي مقابل استهواء الشياطين من لهم عليهم سلطان، ذكر الله تعالى أن ما جاء به
محمد صلى الله عليه وسلم، إنما هو وحي منه مبرئاً له من أن ينطق بشيء من هوى
نفسه، فقال تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 3-4].
ويشتط صاحب الهوى حتى يسخر من الحق وأهله، وينكر المعروف ويعرف المنكر،
ويبالغ في ذلك، حتى أنه ليحاول أن يثبت للناس أنه صاحب حق أوتي صبراً على
التزامه، وأن صاحب الحق – في الواقع – إنما يريد إضلاله، وهو في الواقع قد
صار إلهه هواه فلا يستحسن إلا هواه، ولا يتنفع بأدوات العلم التي منحه الله
إياها، لأنه فاق في ضلال الأنعام، كما قال تعالى: {وإذا رأوك إن يتخذونك إلا
هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا. إن كاد ليضلنا عن ءالهتنا لولا أن صبرنا
عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا. أرأيت من اتخذ إلهه هواه
أفأنت تكون عليه وكيلا. أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا
كالأنعام بل هم أضل سبيلا} [الفرقان: 41-44]
وإذا اتخذ الإنسان إلهه هواه فمتى يطمع فيه أن يفرق بين الحق والباطل؟ بل متى
يطمع فيه أن يبقى مستحسناً شيئاً مَّا دون أن يستقبحه ويستحسن ضده؟
ولهذا اشتد نهي الله عن اتباع الإنسان هوى نفسه أو هوى غيره من أهل الضلال
والكذب والجهل والكفر والظلم، لأن كل تلك الصفات سببها الهوى فمن اتبع هواه
أو هوى غيره وقع في ذلك ولا بد.
فالهوى سبب في تعاطي الظلم ومجانبة العدل، قال تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا
كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن
غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو
تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} [النساء: 135] وقال تعالى: {بل اتبع
الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين}
[الروم: 29] وقال تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس
بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم
عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} [ص:26].
وقال تعالى: {قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا
تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم
بربهم يعدلون} [الأنعام: 150].
ففي الآية الماضية آية سورة "ص" نهى الله داود عليه السلام عن اتباع الهوى في
حكمه بين الناس، ورتب على اتباع الهوى أنه يضله عن سبيل الله، وفي هذه الآية
"آية الأنعام" نهى الله محمداً صلى الله عليه وسلم عن اتباع أهواء المكذبين
بآيات الله، الذين يحرمون ما شاءوا من عند أنفسهم بدون علم، بل إنهم يتبعون
الظن، ثم ينسبون شركهم وتحريمهم إلى الله لأنه شاءهما هو سبحانه وتعالى عما
يقولون علوا كبيرا.
ومن أعظم النصوص التي وصفت الهوى بالوصف اللائق به آية "المؤمنون" التي نصت
على أن السماوات والأرض ومن فيهما، يصيبها الفساد لو كان الهوى هو قائد الحق،
كما قال تعالى: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل
أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون} [المؤمنون: 71].
قال ابن كثير: "وقوله: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن
فيهن} قال مجاهد وأبو صالح والسدي: الحق هو الله عز وجل، والمراد لو أجابهم
الله إلى ما في أنفسهم من الهوى وشرع الأمور على وفق ذلك لفسدت السماوات
والأرض ومن فيهن، أي لفساد أهوائهم واختلافها..." [تفسير القرآن العظيم
(3/250)].
وقال سيد قطب: "فالحق واحد ثابت، والأهواء كثيرة متقلبة، وبالحق الواحد يدبر
الكون كله، فلا ينحرف ناموسه لهوى عارض، ولا تتخلف سنته لرغبة طارئة، ولو خضع
الكون للأهواء العارضة والرغبات الطارئة، لفسد كله، ولفسد الناس معه، ولفسدت
القيم والأوضاع، واختلت الموازين والمقاييس، وتأرجحت كلها بين الغضب والرضا،
والكره والبغض، والرغبة والرهبة، والنشاط والخمول، وسائر ما يعرض من الأهواء
والمواجد والانفعالات والتأثرات.
وبناء الكون المادي واتجاهه إلى غايته، كلاهما في حاجة إلى الثبات والاستقرار
والاطراد على قاعدة ثابتة ونهج مرسوم لا يتخلف ولا يتأرجح ولا يحيد، وفي هذه
القاعدة الكبرى في بناء الكون وتدبيره جعل الإسلام التشريع للحياة البشرية
جزءً من الناموس الكوني، تتولاه اليد التي تدبر الكون كله وتنسق أجزاءه
جميعاً، والبشر جزء من هذا الكون خاضع للناموسه الكبير، فأولى أن يشرع لهذا
الجزء من يشرع للكون كله ويدبره في تناسق عجيب، بذلك لا يخضع نظام البشر
لأهواء فيفسد ويختل، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن
(إنما يخضع للحق الكلي ولتدبير صاحب التدبير)" [في ظلال القرآن (18/2475)].
(103)
الأمر الرابع : الشهوات.
"أصل الشهوة نزوع النفس إلى ما
تريده... وقد يسمى المُشْتَهى شهوة" [المفردات ص:271].
والنفس نزاعة دائماً إلى الملذات المعنوية والحسية، وإذا لم تكن هذه النفس
مراقبة محكومة بحكم الله عند صاحبها فإنها لا تترك شيئاً مما تشتهيه سواء
أكان نافعاً أم ضاراً – لها أم لغيرها – والشهوات مع كونها مطلوبة للنفس فإن
الشيطان يزينها لها ويلح عليها في أن تطلبها وتتمكن منها، بل إنه ليظهر
الشهوات المحظورة الضارة في صورة أجمل من الشهوات المباحة النافعة.
والشهوة تتحد مع الغفلة فتكونان أصلاً لكل شر [راجع مجموع الفتاوى لابن تيمية
(14/287)]، وهي من أشد جنود النفس الأمارة بالسوء قهراً لصاحبها وأسراً له
[المرجع السابق (10/587، 548)].
والشهوة والهوى تقودان صاحبهما إلى المهالك فيسلس لهما قياده فيصوران له
المعروف منكراً والمنكر معروفاً فيتصورهما كذلك [المرجع السابق ص: 28،147].
وشهوات النفس كثيرة، ويكفي أن يذكر
منها على سبيل المثال الأنواع الآتية:
النوع الأول: العلو في الأرض.
المراد بالعلو في الأرض التجبر
والطغيان والإفساد "والنفس مشحونة بحب العلو والرياسة بحسب إمكانها" [الفتاوى
(14/324)].
وهذه الصفة من صفات أعداء الله، وعلى رأسهم إمامهم إبليس لعنه الله، كما قال
تعالى: {وإذْ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان
من الكافرين} [البقرة: 34]، وقال: {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من
طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين، فسجد الملائكة كلهم
أجمعون، إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين، قال يا إبليس ما منعك أن تسجد
لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين، قال أنا خير منه خلقتني من نار
وخلقته من طين} [ص: 71-76].
وقال تعالى عن فرعون: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة
منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين} [القصص: 4] وقال:
{وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين} [يونس: 83] وقال: {إنه كان
عالياً من المسرفين} [الدخان: 31] وقال: {ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا
وسلطان مبين، إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين}[المؤمنون: 45-46]
وخص الله جنته بمن لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً فقال: {تلك الدار
الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين}
[القصص: 83] وذلك أن مريدي العلو في الأرض يجحدون بآيات الله مع وضوحها، ومع
علمهم بأنها حق، ولذلك فإن عاقبتهم شر عاقبة كما أن عاقبة المتقين خير عاقبة:
{وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين}
[النمل: 14].
قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: "إن فرعون علا في الأرض: أي استكبر وتجبر،
قال ابن عباس والسدي: علا في نفسه عن عبادة ربه بكفره وادعى الربوبية وقيل
بملكه وسلطانه فصار عالياً على من تحت يده" [الجامع لأحكام القرآن (13/248)].
والمتصف بهذه الصفة يجتهد في أن يحافظ عليها بإنكار الحق وجحده، وجمع غوغاء
الناس وضلالهم -ممن يطلبون الزلفى عنده- حوله ليدلوا بأصواتهم معه شاهدين له
بأنه جدير بالعلو، وأن استعلاءه على غيره من أهل الحق دليل فلاحه كما قال قوم
فرعون: {قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا
بطريقتكم المثلى، فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى} [طه:
63-64].
قال ابن تيمية: "وطالب الرئاسة – ولو بالباطل – ترضيه الكلمة التي فيها
تعظيمه وإن كانت باطلاً، وتغضبه الكلمة التي بها ذمه وإن كانت حقاً" [الفتاوى
(10/599)].
وقال رحمه الله – بعد أن ذكر أن الناس فإرادة العلو والفساد أربعة أقسام:
القسم الأول: يريدون العلو على الناس والفساد في الأرض، وهو معصية الله،
وهؤلاء الملوك والرؤساء والمفسدون، كفرعون وحزبه، وهؤلاء هم شرار الخلق، قال
تعالى: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح
أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين} [القصص: 4]، وروى مسلم في صحيحه
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل
الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من
إيمان)) فقال رجل: يا رسول الله إني أحب أن يكون ثوبي حسناً ونعلي حسناً فمن
الكبر ذاك قال: ((لا إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس))
فبطر الحق دفعه وجحده وغمط الناس احتقارهم وازدراؤهم. وهذا حال من يريد العلو
والفساد" [الفتاوى (28/392)].
وكلما يشاهد الآن من فساد في الأرض وظلم وطغيان وقلق واضطراب فإن منشأه من
الطغاة – أمثال فرعون – الذين يريدون في الأرض العلو والإفساد من أولئك
الرؤساء والملوك الذين لا يرضون بإقامة حكم الله في الأرض خشية على عروشهم،
لأنهم بالمحافظة على علوهم وإفسادهم ينشرون الفساد في الأرض في كل مجال: في
الأعراض والأموال والدماء، ويحطمون بقوتهم ونظمهم الكافرة كل قوة تتصدى
لعلوهم وإفسادهم، وبهذا يظهر أن شهوة العلو في الأرض من أخطر جنود النفس
الأمارة بالسوء لأنها لا تدمر صاحبها فحسب، بل تنشر الدمار في الأرض كلها
وتحطم البشرية كلها، والسبب في ذلك أن كل شيء يشتهيه، ذو العلو في الأرض
يفرضه على الناس فرضاً، ولو أزهق بذلك الأرواح وسفك الدماء وانتهك الأعراض،
واغتصب الأموال، يفرضه بالقوى التي بيده، كما فعل فرعون وما أكثر الفراعنة في
الأرض.!!!
( 104)
النوع الثاني من أنواع الشهوة: شهوة
النساء.
ميل الرجال إلى النساء، وميل النساء
إلى الرجال، من الأمور الفطرية التي فطر الله الصنفين عليها، إبقاء لاستمرار
النسل، وعمارة الكون عمارة ترضي الخالق جل وعلا.
وجعل لتحقيق ذلك وسائل شرعية كافية، فصلها القرآن والسنة، ووسعها –استنباطا
منهما-علماء الإسلام المجتهدون، فلا يستنكر ذلك إلا من جهل
ولكن هذا الميل وهذه الشهوة من أشد جنود النفس الأمارة بالسوء، إذا يضبطا بما
شرع الله، ولهذا لجأ يوسف عليه السلام –وهو نبي كريم- إلى ربه سبحانه، ليصرف
عنه كيد النساء، فقال: (وإلاَّ تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين)
[يوسف 33]
ولبشاعة ما يترتب على الاستجابة -غير المشروعة-لهذه الشهوة نهى الله تعالى عن
قرب الزنى، فضلا عن إتيانه، مبينا سبحانه وتعالى أنه من أقبح الذنوب وأفحشها،
وأنه سبيل قبيح مذموم لا يسلكه إلا من استحق الذم والتقبيح، فقال تعالى: (ولا
تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا) [الإسراء 32].
قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى: ناهيا عن الزنا وعن مقاربته ومخالطة
أسبابه ودواعيه: (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة) أي ذنبا عظيما (وساء
سبيلا) أي وبئس طريقا ومسلكا" [تفسير القرآن العظيم (3/38)]
أسباب الزنا المقربة إليه.
وأسباب الزنا ودواعيه المقربة إليه
كثيرة، منها ما يكون من قبل الأفراد-رجالا ونساء- ومنها ما يكون من قبل الأسر
والمجتمع، ومنها ما يكون من قبل الحكومات، ولنذكر شيئا من ذلك:
أ-النظر المتعمد –إلى المرأة
ومفاتنها، وتعمد المرأة النظر بريبة إلى الرجل.
فالنظر سهم من سهام إبليس، وبه ترتسم
الصورة الفاتنة في القلب، فتفتنه وتهيجه، إذا لم يتوقها بالإقبال إلى الله
وطلب العون منه على إزالتها.
قال ابن القيم رحمه الله: "فأما اللحظات فهي رائد الشهوة ورسولها، وحفظها أصل
حفظ الفرج، فمن أطلق نظره أورد نفسه موارد الهلاك، وقد قال النبي صلى الله
عليه وسلم: "يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك
الثانية." [قال في الحاشية "وليست لك الآخرة] وفي المسند عنه صلى الله عليه
وسلم: (والنظر سهم مسموم من سهام إبليس." والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب
الإنسان، فإن النظرة تولد الخطرة، ثم تولد الخطرة فكرة، ثم تولد الفكرة شهوة،
ثم تولد الشهوة إرادة، ثم تقوى فتصير عزيمة، فيقع الفعل، ما لم يمنع منه
مانع" [ كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص 129-130]
قلت: وأعظم الموانع من دواعي الزنا وأقواها، خوف الله تعالى ومراقبته كما
يأتي.
وقال ابن تيمية رحمه الله: "وأما النظر والمباشرة، فاللمم منها مغفور باجتناب
الكبائر، فإن أصر على النظر، أو على المباشرة، صار كبيرة، وقد يكون الإصرار
على ذلك أعظم من قليل الفواحش، فإن دوام النظر بالشهوة، وما يتصل به من العشق
والمعاشرة والمباشرة، قد يكون أعظم بكثير من فساد زنا لا إصرار عليه، ولهذا
قد ينتهي النظر والمباشرة بالرجل إلى الشرك، كما قال تعالى: (ومن الناس من
يتخذ من دون الله أندادا يحبهم كحب الله) [البقرة 165] ولهذا لا يكون عشق
الصور إلا من ضعف محبة الله وضعف الإيمان. والله تعالى إنما ذكره في القرآن
عن امرأة العزيز المشركة، وعن قوم لوط المشركين. والعاشق المتيم يصير عبدا
لمعشوقه، منقادا له، أسير القلب له" [مجموع الفتاوى (15/293].
وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله: في كتابه الإحياء: "فإن العين مبدأ الزنا،
فحفظها مهم، وهو عسر من حيث إنه يستهان به، ولا يعظم الخوف منه، والآفات كلها
منه تنشأ، والنظرة الأولى إذا لم تقصد لا يؤاخذ بها، والمعاودة يؤاخذ بها...
وقال العلاء بن زياد: لا تتبع بصرك رداء المرأة، فإن النظر يزرع في القلب
شهوة، وقلما يخلو الإنسان في تردده عن وقوع البصر على النساء." [إحياء علوم
الدين (3/106]
(105)
ب- مخاطبة المرأة لغير حاجة.
ومن الوسائل والدواعي المقربة إلى
الزنا وتعاطي الفاحشة، تخاطب الرجل والمرأة الأجنبيين لغير حاجة، فإن الكلمة
تجر كلاما، والمخاطبة من الطرفين تفتح بابا لطمع مريض القلب من الجانبين،
ولهذا أباح الله تعالى مخاطبة الرجل المرأة للحاجة-من وراء حجاب-وأمر المرأة
إذا تكلمت مع الرجل، ألا يكون في كلامها رقة تجعل مريض القلب بالشهوة يطمع
فيها، كما قال تعالى: (وإذا سألتموهن فاسألوهن من وراء حجاب، ذلكم أطهر
لقلوبكم وقلوبهن) [الأحزاب 53] وقال تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من
النساء إن اتقيتن، فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وقلن قولا
معروفا) [الأحزاب 32]
وهذا الحكم غير مختص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان السياق ورد
فيهن، وتخصيصهن بالخطاب لبيان فضلهن على غيرهن في تقوى الله، حيث يضاعف الله
لهن الأجر على من سواهن، كما يضاعف عليهن العقاب، إن أتين بفاحشة مبينة، كما
نص على ذلك في الآيتين:(يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها
العذاب ضعفين، وكان ذلك على الله يسيرا. ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل
صالحا نؤتها أجرها كرتين، وأعتدنا لها رزقا كريما) [الأحزاب 30-31]
قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه
مرض): "هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ونساء
الأمة تبع لهن في ذلك" [تفسير القرآن العظيم (3/482)]
وقال سيد قطب رحمه الله: "ينهاهن حين يخاطبن الأغراب من الرجال، أن يكون في
نبراتهن ذلك الخضوع اللين الذي يثير شهوات الرجال، ويحرك غرائزهم، ويطمع مرضى
القلوب ويهيج رغباتهم. ومن هن اللواتي يحذرهن الله هذا التحذير؟ إنهن أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم وأمهات المؤمنين اللواتي لا يطمع فيهن طامع، ولا
يرف عليهن خاطر مريض فيما يبدو للعقل أول مرة، وفي أي عهد يكون هذا التحذير؟
في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعهد الصفوة المختارة من البشرية في جميع
الأعصار، ولكن الله الذي خلق الرجال والنساء، يعلم أن في صوت المرأة حين تخضع
بالقول، وتترقق في اللفظ، ما يثير الطمع في قلوب، ويهيج الفتنة في قلوب، وأن
القلوب المريضة التي تثار وتطمع موجودة في كل عهد وفي كل بيئة، وتجاه كل
امرأة، ولو كانت هي زوج النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-وأم المؤمنين، وأنه
لا طهارة من الدنس، ولا تخلص من الرجس، حتى تمنع الأسباب المثيرة من الأساس"
[في ظلال القرآن 22/2859].
(106)
جـ - الخلو بالمرأة الأجنبية.
ومن أعظم الوسائل والدواعي المؤدية
إلى تعاطي الفاحشة، أن يخلو الرجل الأجنبي بالمرأة الأجنبية، ولهذا حذر
الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الوسيلة، كما في حديث عقبة بن عامر، وفيه:
(إياكم والدخول على النساء" فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟
قال: (الحمو الموت) [البخاري رقم: 5232، وهو في فتح الباري (9/330) و في صحيح
مسلم (4/1711)] والحمو يطلق على أقارب الزوج وأقارب الزوجين من غير المحارم.
وفي قوله تعالى في سورة الأحزاب:(وإذا سألتموهن فاسألوهن من وراء حجاب ذلك
أطهر لقلوبكم وقلوبهن) دليل واضح على عدم جواز الخلوة بالمرأة من غير أزواج
النبي صلى الله علليه وسلم، من باب أولى، لأنه نهى تعالى عن مخاطبتهن دون
حجاب، ولا فرق بين أن يكون الذي يخاطبهن منفردا أو معه غيره، فإن الحجاب
واجب، والسفور محرم، فكيف بالخلوة؟
قال ابن جرير رحمه الله: (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) يقول تعالى ذكره:
"سؤالكم إياهن إذا سألتموهن ذلك من وراء حجاب، أطهر لقلوبكم وقلوبهن، من
عوارض العين فيها التي تعرض في صدور الرجال من أمر النساء، وفي صدور النساء
من أمر الرجال، وأحرى من ألاَّ يكون للشيطان عليكم وعليهن سبيل" [جامع البيان
عن تأويل آي القرآن (22/39)]
وقال سيد قطب رحمه الله في قوله تعالى: (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن): "فلا
يقل أحد غير ما قال الله. لا يقل أحد: إن الاختلاط وإزالة الحجب والترخص في
الحجب، واللقاء والجلوس والمشاركة بين الجنسين، أطهر للقلوب وأعف للضمائر،
وأعون على تصريف الغريزة المكبوتة، وعلى إشعار الجنسين بالأدب وترقيق المشاعر
والسلوك، إلى آخر ما يقوله نفر من خلق الله الضعاف المهازيل الجهال
المحجوبين. لا يقل أحد شيئا من هذا، والله يقول: (وإذا سألتموهن متاعا
فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) يقول هذا عن نساء النبي
الطاهرات وأمهات المؤمنين، وعن رجال الصدر الأول من صحابة رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ممن لا تتطاول إليهن وإليهم الأعناق. وحين يقول الله قولا، ويقول
خلق من خلقه قولا، فالقول لله سبحانه، وكل قول آخر هراء، لا يردده إلا من
يجرؤ على القول بأن العبيد الفانين، أعلم بالنفس البشرية من الخالق الباقي
الذي خلق هؤلاء العبيد. والواقع الملموس يهتف بصدق الله وكذب المدعين غير ما
يقول الله، والتجارب المعروضة اليوم مصدق لما يقول. وهي في البلاد التي بلغ
الاختلاط فيها أقصاه أظهر في هذا وأقطع من كل دليل" [في ظلال القرآن (22/2878
]
(107)
د – اختلاط الرجال بالنساء لغير حاجة
مشروعة.
ومن دواعي الفتنة بين الرجال والنساء،
الاختلاط بين الجنسين، بدون حاجة شرعية أو معاشية، تقرها الشريعة.
فالاختلاط المأذون به شرعا على صفة لا تكون سببا في الفتنة، مثل الحج الذي لا
يمكن أداؤه بدون اختلاط بين الرجال والنساء، لأنهم يؤدون عبادة واحدة، في وقت
واحد ومكان واحد، كالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفات،
والمبيت بمزدلفة، والمبيت بمنى، ورمي الجمرات.
وكذلك اختلاطهما في أرض المعركة، إذا دعت الحاجة أو الضرورة إلى ذلك، فإن
المرأة مدعوة للقيام بالتمريض، وسقي المجاهدين، ونقل جرحاهم مع العناية بهم،
ونقل موتاهم كذلك من المناطق التي يخشى عليهم من عدوان العدو عليهم
بالتمثيل...
وكذلك مشاركتها في صلوات الجمع والجماعات والأعياد، فإنها تختلط بالرجال في
ذهابها وإيابها، وإن كانت مأمورة بالتحرز والبعد عن الرجال حتى في صفوف
الصلاة، وكذلك الرجال مأمورون بذلك، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير
صفوف النساء آخرها وشرها أولها " [رواه مسلم برقم 977]
وقد تحتاج المرأة إلى المشاركة في الأسواق، لبيع أو شراء، عندما لا تجد من
يكفيها المؤنة في ذلك، فتضطر إلى مبايعة الرجال ومماكستهم، وذلك كله مشروع،
وقد حصل في عصور إسلامية متعددة، من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه،
إلى عصرنا هذا، وستبقى حاجتها على ذلك مستمرة.
والواجب في هذه الحالات أن يحترز الرجال والنساء وأن يبتعدوا عن مواطن
الريبة، وأن يعملوا بما شرعه الله في حقهم جميعا، من غض البصر، وعدم قرب
بعضهم من بعض، ما وسعهم ذلك، ولا عاصم لهم جميعا، إلا خوف الله وتقواه.
أما الاختلاط غير المشروع الذي يمكن التحرز منه، وهو الذي يقصد الداعون إليه
الفتنة وجعله ذريعة إلى الفواحش والمنكرات، كاختلاط الجنسين في الفصول
الدراسية، الطالب بجانب الطالبة، وفي أماكن اللهو كالسينما والمسرح، وأماكن
الرقص، وفي الشواطئ، والمخيمات الصيفية الثقافية والرياضية والاجتماعية، التي
تحصل فيها المنكرات وأسباب الرذيلة، وقد عرف ذلك القاصي والداني، وهو يجري
بترتيب وإعداد من قبل بعض الدول التي تحارب الإسلام وما يدعو إليه من الأخلاق
الفاضلة والخلال الطاهرة، وقد ذاق وباله المسلمون في غالب الشعوب الإسلامية،
في كل أنحاء الأرض، حتى أصبحت الدياثة غالبة على كثير من أسر المسلمين
ومجتمعاتهم، بل نال ذلك أسر بعض من يدعون العلم والفقه في الدين.
وإن الفساد الذي أحدثه الاختلاط الذي في شباب المسلمين –فتيانا وفتيات-لكاف
في تمييع هذا الشباب وتحطيم أخلاقه، وجعله في سقط المتاع، لا يغار على دين
ولا خلق، ولا أرض ولا عرض.
والمؤسف أن بعض الجامعات التي كان واجبها أن تكون معاقل للعلم، وإشعاعا
للمعرفة، وموطنا للأخلاق الفاضلة، والحث على القوة والدفاع عن الدين
والمقدسات، يصمم قادتها على مستوى الدولة وعلى مستوى الإدرات الدعوة إلى
الاختلاط المنكر، حتى أصبحت بؤرا للفساد الذي حل محل الإصلاح والهداية اللذين
اعتاد الناس أن يتلقوهما من المعاهد والجامعات.[راجع: الحجاب للأستاذ
المودودي ص: 102، وحصوننا مهددة من داخلها، للدكتور محمد محمد حسين ص 107،
ومجلة المجتمع الكويتية، عدد 32، ص 3، وعدد 9 ص17، وعدد16 ص 20، وعدد 9 ص 12،
وعدد 18 ص 4، وراجع الفصل الثاني من كتاب الخطر الصهيوني على العالم الإسلامي
ص 47-61، لمؤلفه ماجد الكيلاني. ]
(108)
هـ - إثارة الغرائز عن طريق أجهزة
الإعلام.
ويأتي دور أجهزة الإعلام في إثارة
غرائز الشباب –نساء ورجالا-ودعوتهم إلى الرذيلة بشتى الأساليب، وبجميع
الوسائل: الإذاعة، والتلفاز، والسينما، والفيديو، والمسجلات، والصحف
والمجلات، والقصص الغرامية، في الكتب غيرها، والتمثيليات والمسلسلات
الإباحية. [واليوم في الشبكة العالمية: الإنترنت]
فقد تولى أمر هذه الوسائل في غالب الشعوب الإسلامية، من ينفذ توجيهات أعداء
الإسلام من اليهود والنصارى بهذه الوسائل، أو أغرم بتقليدهم، محطمين بذلك
إيمان المسلمين، وعبادتهم، وأخلاقهم وسلوكهم، وعاداتهم الحميدة التي توارثوها
عن آبائهم جيلا بعد جيل،حتى ليراهم الرائي وقد فاقوا في حماسهم لنشر الرذيلة
وأسباب الفساد، أساتذتهم الذين يسمعون لهم ويطيعون، أكثر من سمعهم وطاعتهم
لخالقهم ونبيهم وعلمائهم، فدمروا شباب المسلمين، حتى كادوا يفقدون رجولتهم
التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم الغر الميامين، الذين بذلوا الغالي والنفيس
في سبيل رفع راية الإسلام، حتى فتحوا القلوب بالهدى والرشاد، وحطموا سدود
الطغيان في الأرض بالقوة والعتاد.
وما على المرء إلا أن يستعرض واقع غالب شباب المسلمين، ليرى إلى أين وصلوا من
الميوعة وعبودية الشهوات، ولينظر إلى هذا الشباب الضائع كيف يتسكع في المسارح
والمراقص والشوارع، وكيف يعكفون الأوقات الطوال في دور السينما وأمام شاشات
التلفاز، لمتابعة الموضوعات السافلة، والمناهج القاتلة، كما تراهم قد خلعوا
جلباب الحياء والفضيلة في الحدائق العامة، وعلى شواطئ البحار وأماكن اللهو
والفجور، قل الحياء في وجوههم، وأضحوا مثل الحيوانات السائبة، لا يبالون ما
يصدر عنهم من منكر وسوء، تراهم قد تجمعوا في صفوف طويلة يتزاحمون من أجل
الدخول إلى تلك الأماكن القذرة، كل منهم ينتظر دوره وراء منافسه الذي سبقه
ليأخذ مكانه، في الوقت الذي ينادي منادي الله في مكبرات مآذن المساجد: بـ(حي
على الصلاة حيى على الفلاح) فلا يجيبه إلا النزر اليسير ممن هدى الله، وقد
تجد كثيرا من تلك القطعان البشرية تتهكم بالمؤذن وتهزأ به وتسخر ممن يستجيب
له! كل ذلك وغيره من أهم أسبابه ما غرسته في نفوس الناس وسائل الإعلام تلك
التي اعتلى على كراسي توجيهها أعداء الأمة الإسلامية وهم من أبناء جلدتها،
ويتكلمون بلسانها، تسببوا في انحطاط أخلاق الجيل المسلم ومسخه.
وحدث عن فرق المغنين والمغنيات والراقصين والراقصات، وما جروه على الشباب من
وبال، ولا حرج.
بالله عليك هل ترى مثل هذا الجيل الذي وقع في شباك وسائل الإعلام المفسدة،
فلم يستطع انتشال نفسه من حمأتها القذرة، يستطيع أن يقف أمام العدو للدفاع عن
نفسه، فضلا عن قيامه بالدعوة إلى الله وإبلاغ العالم هذا الدين، والجهاد في
سبيل الله، لرفع راية الإسلام؟ كلا وألف كلا! وهؤلاء اليهود والنصارى وغيرهم
من الكفرة أعداء الله من وثنيين وشيوعيين وعلمانيين يحاربون دين الله في
أرضه، وغالب هذا الشباب لا زال يبتعد عن دينه، غارقا في بحر شهواته، يسوقه
أعداؤه إلى مهاوي سقوطه، وفقده رجولته وميادين حتفه، من تلك الشهوات التي
استعبدته، فاستبدل العزة بالذلة، والشجاعة بالجبن.
[راجع كتاب حصوننا مهددة من داخلها صفحة: 81-صفحة 156]
قال ابن تيمية رحمه الله فيمن يحب شيوع الفاحشة: "وقوله تعالى (إن الذين
يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة)
الآية: [النور 19]: وهذا ذم لمن يحب ذلك، وذلك يكون بالقلب فقط، ويكون مع ذلك
باللسان والجوارح، وهو ذم لمن يتكلم بالفاحشة، أو يخبر بها، محبة لوقوعها في
المؤمنين، إما حسدا أو بغضا، وإما محبة للفاحشة وإرادة لها، وكلاهما محبة
للفاحشة وبغضا للذين آمنوا، فكل من أحب ذِكْرها ذَكَرها" [مجموع الفتاوى
(15/333]
نعم هناك شباب مسلم ملتزم بدينه، غيور على عزته، عنده استعداد للقيام بالجهاد
في سبيل الله، دفعا للعدو، وإعزازا لدين الله، وسيكون قدوة حسنة لغيره من
الشباب البعيد عن طاعة الله والالتزام بدينه، ولكن هذا الشباب الصالح قليل،
وهو مع قلته يحول بينه وبين نصر دين الله غالب من تولوا أمر المسلمين، الذين
هم السبب في نشر الفاحشة والفساد في بلدان المسلمين.
(109)
سفور المرأة المثير للغرائز.
ولقد حملت المرأة قسطا كبيرا من
الإثارة الداعية إلى الوقوع في الفاحشة، استجابة لأعداء الفضيلة والأخلاق
الفاضلة، حيث خرجت عن وظيفتها ومكانتها اللائقة بها، وفطرتها التي فطرها الله
عليها، وهو البقاء في منزلها الذي لو قامت بواجبها فيه حق القيام، من حقوق
زوجها وأولادها وأسرتها، لأسهمت في بناء جيل مثقف قوي، لا ينال منه أعداؤه
إلا ما يسوؤهم، كما كان ذلك شأن المرأة المسلمة في العصور الماضية (يراجع
كتاب المؤلف: المسئولية في الإسلام)
ويكفي نقل هذا المقطع للأستاذ المودودي رحمه الله، لبيان بعض ما قامت به
المرأة المعاصرة من الفتنة، قال فيه: "فالذين قد عزموا على اتباع هذا
الطريق-أي النظام الديمقراطي الغربى، الذي تسبب عنه الجهر بالفواحش-بقلب
مطمئن مقتنع قد اكتمل الانقلاب أو كاد-في حياتهم الخلقية والاجتماعية، فعادت
نساؤهم يخرجن من بيوتهن في ملابس شفافة، عارية، يخيل إلى الناظر كأن كل واحدة
منهن ممثلة من ممثلات "هوليود" وأصبح يرى فيهن كل الجسارة والصفاقة، بل يتبين
المرء من ملابسهن الفاضحة، وألوانهن البراقة، وعنايتهن بالتزين، وحركاتهن من
التشفي والتغنج، أنه لا مطمع أمام أعينهن، إلا أن يكن مغنطيسا جنسيا، يجذبن
الرجال إليهن جذبا. وقد قل الحياء فيهن إلى حد أن عدن لا يستحين من الغسل مع
الرجال شبه عاريات، بل من عرضهن أنفسهن في تلك الحالة، لتؤخذ صورهن، وتنشر في
المجلات. والحياء لم يعد له وجه عندهم حقا" [كتاب الحجاب صفحة: 129]
والمرأة عندما تخرج على تلك الهيئة المثيرة الداعية إلى الفساد، تهيج بذلك من
في قلبه مرض، فيزيد طمعه في تعاطي الفاحشة، وتقوى إرادته لذلك، بخلاف المرأة
المحتشمة عند خروجها، أو التي لم تخرج من بيتها إلا لحاجة، حفاظا على نفسها
ووقاية لأمراض القلوب بالشهوات من فتنتها، فإنهم لا يطمعون فيها، بل قد
يصيبهم اليأس الذي يضعف إرادة الفاحشة.
قال ابن تيمية رحمه الله: "ومن في قلبه مرض من الشهوة وإرادة الصور، متى خضع
المطلوب، طمع المريض، والطمع الذي يقوي الإرادة والطلب، ويقوي المرض بذلك،
بخلاف ما إذا كان آيسا من المطلوب، فإن اليأس يزيل الطمع، فتضعف الإرادة،
فيضعف الحب، فإن الإنسان لا يريد أن يطلب ما هو آيس منه، فلا يكون مع الإرادة
عمل أصلا، بل يكون حديث نفس، إلا أن يكون يقترن بذلك كلام أو نظر، ونحو ذلكن
فيأثم بذلك" [مجموع الفتاوى: (10/132)]
(110)
و – الغناء:
ومن أعظم معاول هدم الأخلاق وإفساد
القلوب التي استطاع أعداء الله أن يقودوا بها الشباب من ذراري المسلمين، إلى
طاعة الشيطان ومعصية الرحمن، وأن يقتلوا فيه الرجولة والإحساس بالمسئولية،
والاعتزاز بدين الله الذي كان أجداده الميامين يعتزون به، أقول: إن من أعظم
تلك المعاول، الغناء الذي يعد الحمأة النتنة التي تمد وسائل الإعلام بمادته
التي لا يكاد يخلو منها لحظة من لحظات نشاطه المفسد للشعوب الإسلامية، وفيه
يجتمع اللفظ القبيح الداعر، والمعنى الخبيث المميت للقلوب، والصوت الرخيم
المفتن الصادر من النساء-وكذلك الرجال المتأنثين- اللاتي أعددن إعدادا خاصا
للإغراء والفتنة، وذللت لهن كل الوسائل والأسباب التي تمكنهن من جعل أوقاتهن
كلها مجالا لهذا الداء العضال، ما بين تعلم من شياطين الفساد الذي يسمونه
بالفن، وما بين تدرب على كيفية النطق بالألفاظ الملحنة، نطقا فيه من التكسر
والتخنث ما لا يرضاه إلا الشيطان الرجيم وأتباعه الخاسرون، فترتب على ذلك
إفساد الشبان والشابات، بل وكبار السن من الرجال والنساء.
ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: "فلعمر الله كم حرة صارت بالغناء من البغايا،
وكم حر أصبح عبدا للصبيان والصبايا، وكم من غيور تبدل به اسما قبيحا بين
البرايا، وكم من ذي غنى وثروة أصبح بسببه على الأرض بعد المطارف والحشايا،
وكم من معافى تعرض له فأمسى وقد حلت به أنواع البلايا، وكم أهدى للمشغوف به
من أشجان وأحزان فلم يجد بدا من قبول تلك الهدايا، وكم جرع من غصة وأزال من
نعمة وجلب من نقمة، وذلك منه من إحدى العطايا، وكم خبأ لأهله من آلام منتظرة،
وغموم متوقعة، وهموم مستقبلة؟!" [إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان]
وإذا كان هذا الوصف الذي سطره ابن القيم وقع في زمنه، قبل ابتكار وسائل
الإعلام التي لا يكاد يخلو منها بيت، منها المسموع، ومنها المرئي، ومنها
المقروء، وقد أسست لها مدارس ومعاهد وكليات، وقد خرَّجت جيوشا من أبناء
المسلمين، وأصبحوا سلعة غالية لدى كثير من جماهير الشعوب الإسلامية، الذين
يؤثرونها على حفظة كتاب الله الكريم، ويحترمونها أكثر من احترامهم لعلماء
المسلمين، لا تتغنى وسائل الإعلام في غالب الدول إلا بتمجيدهم، وإضفاء
الألقاب الفخمة عليهم، من تسميتهم بالنجوم تارة، وبالرواد تارة، وبالمناضلين
مرة، وبالعمالقة ثانية، وبالملهمين حينا، وبالقادة آنا، حتى إنك لتجد قارئ
القرآن يذاع صوته من محطة، ويذاع صوت ابنته المغنية من محطة أخرى، فيقفل
السامعون صوت القارئ، ليتحولوا إلى سماع المغنية.
أقول: إذا كان كلام ابن القيم هذا يحكي واقع الغناء في وقته، ولم توجد بعد
هذه الأدوات، وهذا التكريم العام، فكيف به لو رأى وسمع ما يحدث من الغناء
اليوم، وماذا تراه سيقول لو أنه بقي إلى عصرنا هذا؟
ألا ترى أن كلام ابن القيم قد بلغ ذروته اليوم، فأصبح ما ذكره من أوصاف سامع
الغناء مجسما واضحا، حتى في أبناء البوادي الذين ما كانوا في الأزمنة الماضية
إلا رجال شجاعة وبأس، يرسل الملوك والرؤساء أبناءهم من المدن إليهم، ليكتسبوا
منهم الشجاعة والنخوة والعزة؟ ألا ترى أنه يصدق عليهم قوله: "وكم من حر أصبح
عبدا للصبيان والصبايا؟"
وهل يمكن أن يكون عبيد الصبيان والصبايا قادرين على القيام بالجهاد في سبيل
الله، قبل أن يتحرروا من تلك العبودية الدنسة إلى عبودية الله وحده؟
(111)
ولقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم، من
فتنة النساء تحذيرا شديدا، كما في صحيح مسلم، من حديث زيد بن حارثة، وسعيد بن
زيد بن عمرو بن نفيل، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (ما تركت
بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء) [صحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد
عبد الباقي 4/2098]
وفي حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إن الدنيا حلوة
خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا
النساء) [صحيح مسلم أيضا، نفس الجزء ونفس الصفحة]
هذا، ومع كون النفس أمارة بالسوء، وتواقة إلى ارتكاب المحرمات، والوقوع في
دنس الشهوات، فإن كثيرا من الناس تأصل فيهم حب الشهوات، حتى أصبحوا عبيدا
لها، يتبعونها، ويتخذونها إلها لهم من دون الله يعبدونها ويحثون الناس عليها،
وقد يكونون من رؤساء الناس وحكامهم، ممن بيدهم وسائل الترغيب والترهيب،
فيوقعون عامة الناس في حبائل شهواتهم تلك، لأن نفوسهم لا تهدأ، إذا رأوا في
الأرض من يتطهرون من المعاصي، وقد وقعوا هم في أوحال الفواحش والمنكرات، كما
قال تعالى: ((والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا
ميلا عظيما)) [النساء: 27]
قال ابن جرير رحمه الله-بعد أن ساق أقوال المفسرين للآية-: "وأولى الأقوال في
ذلك بالصواب، قول من قال: معنى ذلك ويريد الذين يتبعون شهوات أنفسهم، من أهل
الباطل وطلاب الزنا، ونكاح الأخوات من الآباء، وغير ذلك مما حرمه الله، أن
تميلوا ميلا عظيما، عن الحق وعما أذن الله لكم فيه، فتجوروا عن طاعته إلى
معصيته، وتكونوا أمثالهم في اتباع شهوات أنفسكم، فيما حرم الله وترك طاعته،
ميلا عظيما" [جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 5/29]
وقال سيد قطب رحمه الله: "وأما ما يريده الذين يتبعون الشهوات، فهو أن يطلقوا
الغرائز من كل عقال، ديني أو أخلاقي أو اجتماعي، يريدون أن ينطلق السعار
الجنسي المحموم، بلا حاجز ولا كابح من أي لون كان، السعار المحموم الذي لا
يقر معه قلب، ولا يسكن معه عصب، ولا يطمئن معه بيت، ولا يسلم معه عرض، ولا
تقوم معه أسرة، يريدون أن يعود معه الآدميون قطعانا من البهائم، ينزو فيها
الذكران على الإناث، بلا ضابط إلا ضابط القوة، أو الحيلة، أو مطلق الوسيلة.
كل هذا الدمار، وكل هذا الفساد، وكل هذا الشر، باسم الحرية-وهي في هذا الوضع
ليست سوى اسم آخر للشهوة والنزوة-وهذا هو الميل الذي يحذر الله المؤمنين
إياه، وهو يحذرهم ما يريده لهم الذين يتبعون الشهوات، وقد كانوا يبذلون جهدهم
لرد المجتمع المسلم، إلى الجاهلية في هذا المجال الأخلاقي، الذي تفوقوا فيه
وتفردوا بفعل المنهج الإلهي القويم النظيف، وهو ذاته ما تريده اليوم الأقلام
الهابطة، والأجهزة الموجهة، لتحطيم ما بقي من الحواجز في المجتمع، دون
الانطلاق البهيمي الذي لا عاصم منه، إلا منهج الله حين تقره العصبة المؤمنة
في الأرض، إن شاء الله" [ في ظلال القرآن: 5/632 دار الشروق]
(112)
النوع الثالث من أعوان النفس الأمارة
بالسوء: الغنى.
ومن أعوان النفس الأمارة بالسوء على
طغيانها، كثرة الأموال التي تلهي صاحبها وتشغله عن ربه سبحانه وتعالى، بسبب
إقباله عليها وجمعه لها، من حلال أو حرام، وصرفها وإنفاقها، في حلال أو حرام،
فإن الأموال الكثيرة، عندما تكون بيد صاحب النفس الأمارة بالسوء، تمكنه من
الحصول على رغبات نفسه التي قد لا يقدر عليها غيره، ممن لا توجد عنده تلك
الأموال.
لذلك كان المال من أهم الأسباب المؤدية إلى تكذيب الحق وأهله، والاستهزاء
بالناس واحتقارهم، ومنع الخير عنهم، والاعتداء على الآخرين، والاتصاف بالصفات
الذميمة، كما قال تعالى: ((فلا تطع المكذبين. ودوا لو تدهن فيدهنون. ولا تطع
كل حلاف مهين. هماز مشاء بنميم. مناع للخير معتد أثيم. عتل بعد ذلك زنيم. أن
كان ذا مال وبنين. إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين.)) [القلم: 8-15]
قال ابن كثير رحمه الله: "وقوله تعالى: ((أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه
آياتنا قال أساطير الأولين)) يقول تعالى: هذا مقابلة ما أنعم الله عليه، من
المال والبنين، كفر بآيات الله عز وجل وأعرض عنها، وزعم أنها كذب مأخوذ من
أساطير الأولين، كقوله تعالى: ((ذرني ومن خلقت وحيدا. وجعلت له مالا ممدودا.
وبنين شهودا. ومهدت له تمهيدا. ثم يطمع أن أزيد...)) وساق الآيات إلى قوله
تعالى: ((عليها تسعة عشر)) [المدثر: 11-30، وتفسير القرآن العظيم: 4/405]
وقال سيد قطب رحمه الله: "ثم يعقب على هذه الصفات الذاتية، بموقفه من آيات
الله، مع التشنيع بهذا الموقف الذي يجزي به نعمة الله عليه بالمال والبنين((أن
كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين)) وما أقبح ما
يجزي إنسان نعمة الله عليه بالمال والبنين، استهزاء بآياته، وسخرية من رسوله،
واعتداء على دينه، وهذه كلها تعدل كل ما مر من وصف ذميم" [في ظلال القرآن:
29/3663]
ويبطر صاحب المال، حتى يفتخر بكثرة ما ينفقه في معاصي الله، من شهوات نفسه،
ويظن بذلك أنه قد استقل عن ربه واستغنى عن خالقه، لا بل يظن أنه لا أحد يقدر
على كبح جماحه، وإيقافه عند حده، كما قال تعالى: ((لقد خلقنا الإنسان في كبد.
أيحسب ألا يقدر عليه أحد. يقول أهلكت مالا لبدا. أيحسب أن لن يقدر عليه
أحد.)) [البلد: 4-7]
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: "ويطغى-يعني الإنسان-ويفتخر
بما أنفق من الأموال على شهوات نفسه، حيث يقول: أهلكت مالا لبدا، أي كثيرا
بعضه فوق بعض، وسمى الله الإنفاق في الشهوات والمعاصي إهلاكا، لأنه لا ينتفع
المنفق بما أنفق، ولا يعود إليه من إنفاقه إلا الندم والخسارة والتعب
والقلة." [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: 8/243]
ويبلغ المال بصاحبه من الإلهاء والاغترار، إلى ألا يكون له هم سواه، فهو يسعى
بكل ما أوتي من جهد وقوة لجمعه بأي وسيلة، ثم يأخذ في تعديده باستمرار، ليعلم
القدر الزائد على ما حصل عليه منه من قبل، وليكاثر به، لا بل إنه لشدة ركونه
إلى المال واغتراره به، ليظن أن ذلك سيخلده في الدنيا الفانية، لكثرة ما يلك
من مساكن وقصور، وما يحوز من المراكب والمآكل والمشارب والملابس وغيرها، وما
سهله له ماله من شهوات الدني، كما قال الله تعالى: ((ويل لكل همزة لمزة. الذي
جمع مالا وعدده. يحسب أن ماله أخلده)) [الهمزة: 1-3]
قال ابن كثير رحمه الله: "وقوله تعالى: ((الذي جمع مالا وعدده)) أي جمع بعضه
على بعض، وأحصى عدده، كقوله تعالى: ((وجمع فأوعى)) [المعارج18] قاله السدي
وابن جرير. وقال محمد بن كعب في قوله: ((جمع مالا وعدده)): ألهاه ماله
بالنهار، هذا إلى هذا، فإذا كان الليل نام كأنه جيفة منتنة. وقوله تعالى:
((يحسب أن ماله أخلده)) أي يظن أن جمعه المال يخلده في هذه الدار" [تفسير
القرآن العظيم: 4/548]
ويأتي المال في طليعة أعذار القاعدين عن الجهاد في سبيل الله، كما قال تعالى:
((سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا، فاستغفر لنا، يقولون
بألسنتهم ما ليس في قلوبهم)) [الفتح: 11]
قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم،
سيقول لك يا محمد الذين خلفهم الله في أهليهم، عن صحبتك والخروج معك في سفرك
الذي سافرت، ومسيرك الذي سرت، إلى مكة معتمرا زائرا بيت الله الحرام، إذا
انصرفت إليهم، فعاتبتهم على التخلف عنك: شغلتنا عن الخروج معك معالجة
أموالنا، وإصلاح معايشنا." [جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 26/77]
وقال سيد قطب رحمه الله: "فالمخلفون من الأعراب... سيقولون اعتذارا عن
تخلفهم: ((شغلتنا أموالنا وأهلونا)) وليس هذا بعذر، فللناس دائما أهل وأموال،
ولو كان مثل هذا يجوز أن يشغلهم عن تكاليف العقيدة وعن الوفاء بحقها، ما نهض
أحد قط بها." [في ظلال القرآن: 26/3321]
(113)
تابع للنوع الثالث من أعوان النفس الأمارة
بالسوء: وهو الغنى.
والأموال في طليعة ما يختبر به العبد،
لأنها تحول بينه وبين طاعة الله تعالى، إما بجمعها من طرق غير مشروعة، وإما
بصرفها في سبل غير مشروعة كذلك، وإما بالطغيان والتكبر بها على الآخرين، وإما
بذلك كله وبغيره. قال تعالى: ((إنما أموالكم وأولادكم فتنة)) [التغابن: 15]
قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى: ((إنما أموالكم وأولادكم فتنة)) أي
اختبار وابتلاء من الله تعالى لخلقه، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه" [تفسير
القرآن العظيم: 4/376]
والأموال من أهم ما يبارز بها إبليس ابن آدم، ويوقعه بها في شباكه، كما قال
تعالى: ((قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا. واستفزز من
استطعت منهم بخيلك ورجلك، وشاركهم في الأموال والأولاد، وعدهم، وما يعدهم
الشيطان إلا غرورا)) [الإسراء: 63-64]
قال ابن كثير رحمه الله: "قوله تعالى: ((وشاركهم في الأموال والأولاد)) قال
ابن عباس ومجاهد: هو ما أمرهم به من إنفاق الأموال في معاصي الله تعالى. وقال
عطاء: هو الربا. وقال الحسن: هو جمعها من خبيث، وإنفاقها في حرام. وكذا قال
قتادة. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أما مشاركته إياهم في
أموالهم، فهو ما حرموه من أنعامهم، يعني من البحائر والسوائب ونحوها. وكذا
قال الضحاك وقتادة. وقال ابن جرير: والأولى أن يقال: إن الآية تعم ذلك كله"
[تفسير القرآن العظيم: 3/50]
ويتعاظم الفراعنة الطغاة أعداء الله، بما يملكون من أموال وأنهار وبساتين،
على غيرهم، ويجعلون ذلك مسوغا لطغيانهم، بسب قدرتهم على التصرف في ذلك كله،
ويحتقرون الحق وأهله، مسوغين ذلك بعدم وجود الأموال الكثيرة معهم.
كما قال تعالى: ((ونادى فرعون قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر، وهذه الأنهار
تجري من تحتي، أفلا تبصرون؟ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين.
فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين.)) [الزخرف:
51-53]
قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى مخبرا عن فرعون وتمرده وعتوه وكفره، إنه
جمع قومه، فنادى فيهم متبجحا مفتخرا بملك مصر وتصرفه فيها: (( أليس ملك مصر
وهذه الأنهار تجري من تحتي)) قال قتادة: كانت لهم جنات وأنهار ماء ((أفلا
تبصرون)) أي أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك؟ يعني وموسى وأتباعه
فقراء ضعفاء" [تفسير القرآن العظيم: 4/129]
ويكون المال سببا في بغي صاحبه-إن لم يكن من عباد الله المؤمنين-وفي فرحه
وإفساده، ونسيان أن الله الذي خلقه هو الذي رزقه، ويفتخر به على الناس،
ويتباهى عليهم بما يقدر على تحصيله بماله، من أنواع الزينة وغيرها، ليشغل
الناس بتمني حصولهم على مثل ما حصل عليه، كما قال تعالى: ((إن قارون كان من
قوم موسى فبغى عليهم وءاتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي
القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين(76) وابتغ فيما ءاتاك
الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ
الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين(77) قال إنما أوتيته على علم عندي
أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا
ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون(78) فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون
الحياة الدنيا باليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم(79) [القصص]
قال سيد قطب رحمه الله: "ذلك كان المشهد الأول-يعني موقف قارون- من مشاهد
القصة، يتجلى فيه البغي والتطاول والإعراض عن النصح، والتعالي على العظة،
والإصرار على الفساد، والاغترار بالمال، والبطر الذي يقعد بالنفس عن الشكران.
ثم يجيء المشهد الثاني-يعني موقف أهل الدنيا وأهل الآخرة من قارون وغناه-حين
يخرج قارون بزينته على قومه، فتطير لها قلوب فريق منهم وتتهاوى لها نفوسهم،
ويتمنون لأنفسهم مثل ما أوتي قارون، ويحسون أنه أوتي حظا عظيما يتشهاه
المحرومون" [في ظلال القرآن: 20/2712]
ولقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته، حين خاطب أصحابه، رضي الله عنهم،
فقال: (فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا،
كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم.)
[البخاري رقم: 3158 وهو في فتح الباري: 6/257 من حديث عمرو بن عوف الأنصاري،
ومسلم: 4/2273]
حذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة المال، أن تهلكهم كما أهلكت من
قبلهم. وهاهي هذه الفتنة تكاد تدمر أهلها في هذا العصر، الذي بلغت فيه عبادة
الناس الدرهم والريال والدينار، والجنيه والين والدولار ذروتها، كما بلغت
تعاستهم بسبب تلك العبادة ذروتها، وتحقق فيهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
(تعس عبد الدينار... ) [صحيح البخاري رقم 2730 من حديث أبي هريرة رضي الله
عنه]
ولا داعي لذكر أمثلة على هذا الأمر، فكل الناس يعلم ما أحدثه الغنى عند كثير
من الناس، من بطر وتكبر وارتكاب معاصي، وظلم وطغيان...
ويكفي هذا القدر من الأمثلة على كون الشهوات من أخطر أعوان النفس الأمارة
بالسوء، على ترك طاعة الله، وارتكاب معاصيه، وأن تلك الشهوات تعتبر عقبات تصد
أهلها عن القيام بالجهاد في سبيل الله، ولا سبيل لهم إلى اجتيازها إلا بإيمان
صادق، وإرادة قوية، وصبر طويل، وعمل متواصل، لتخليص النفس من شرورها والوقوع
في شباكها.
ولقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم الشهوات، بالحواجز التي تحول بين المرء
ودخول النار، فلا يدخل النار إلا من اقتحم تلك الحواجز، فقال صلى الله عليه
وسلم: (وحفت النار بالشهوات) [صحيح مسلم: 4/2174]
والمراد بالشهوات: الملذات المحرمة. قال النووي رحمه الله: "وأما الشهوات
التي النار محفوفة بها، فالظاهر أنها الشهوات المحرمة، كالخمر والزنا، والنظر
إلى الأجنبية، والغيبة، واستعمال الملاهي، ونحو ذلك.
وأما الشهوات المباحة، فلا تدخل في هذه، لكن يكره الإكثار منها، مخافة أن يجر
إلى المحرمة، أو يقسي القلب، أو يشغل عن الطاعات، أو يحوج إلى الاعتناء
بتحصيل الدنيا للصرف فيها، ونحو ذلك.
جهاد
النفس الأمارة بالسوء وأعوانها