(121)
الجهاد في سبيل الله (جهاد النفس-المحافظة
على الفرائض)
[تابع لملأ الفراغ بمنهج الله]
فريضة الصلاة:
الصلاة هي الركن الثاني من أركان
الإسلام، كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدا
رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج ، وصوم رمضان) [اللؤلؤ
والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان: (1/3)]
وفي حديث عمر بن الخطاب-المشهور بحديث جبريل-قال: "يا محمد أخبرني عن
الإسلام؟" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام أن تشهد ألا إله إلا
الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج
البيت إن استطعت إليه سبيلا) قال: "صدقت..." [[مسلم: (1/37)]
وقد وردت نصوص القرآن التي توجب الصلاة بأساليب متنوعة:
منها الأمر بإقامتها، مثل قوله تعالى: ((وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي
إليه تحشرون)) [الأنعام: 72]
ومنها الأمر بالمحافظة عليها، مثل قوله تعالى: ((حافظوا على الصلوات والصلاة
الوسطى)) [البقرة: 238]
ومنها ذم ووعيد من أضاعها وفرط في أدائها، كما قال تعالى: ((فخلف من بعدهم
خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا)) [مريم: 59]
ومنها جعلها قرينة لبعض أصول الإيمان التي لا فلاح لمن لم يتصف بها، كما قال
تعالى: ((الم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. الذين يؤمنون بالغيب
ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل
من قبلك وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون))
البقرة: 1-5] وغير ذلك من الآيات التي لا يقصد هنا استقصاؤها.
أما أثر الصلاة في تزكية المسلم وتربيته، فهو من الأمور التي يمكن معرفته من
النصوص الكثيرة، من الكتاب والسنة، ولكن العلم الحق بذلك الأثر، لا يؤتاه إلا
من ذاقه حقا في نفسه، بإقامتها، كما كان يقيمها رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ويحافظ عليها كما كان يحافظ عليها، مع الإقبال على إليه وخشيته
والإنابة إليه، وتدبر آياته وذكره فيها، فهي ركن من أركان فلاح المسلم، ولا
فلاح له بدو نهاكما مضى في الآيات الأولى من سورة البقرة قريبا.
وكذلك قوله تعال: ((قد أفلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى.)) [سورة الأعلى:
14-15] فقد علق سبحانه الفلاح بتزكية النفس، وذكر ما يتزكى به المؤمن، وهما
ذكر الله والصلاة.
كما ذكر الله تعالى الصلاة، على رأس صفات المؤمنين المفلحين، في الدنيا
والآخرة، بذكر بعض صفاتها، وهو الخشوع فيها، وختم بها كذلك تلك الصفات، بذكر
بعض صفاتها الأخرى، وهو المحافظة عليها، مبينا سبحانه آثارها في المقيم لها،
ومنها الفلاح ووراثة الفردوس والخلود فيه.
كما قال تعالى: ((قد أفلح المؤمنون(1)الذين هم في صلاتهم خاشعون(2)والذين هم
عن اللغو معرضون(3)والذين هم للزكاة فاعلون(4)والذين هم لفروجهم حافظون(5)إلا
على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين(6)فمن ابتغى وراء ذلك
فأولئك هم العادون(7)والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون(8) والذين هم على
صلواتهم يحافظون(9)أولئك هم الوارثون(10)الذين يرثون الفردوس هم فيها
خالدون(11)) [المؤمنون: 1-11]
ويظهر من اكتناف ذكر الخشوع في الصلاة، وذكر المحافظة عليها، أن الصفات
الحميدة التي ذكرت بينهما لا تصدر إلا من مقيم الصلاة، ومما يدل على ذلك ـ
وهو من آثار إقامة الصلاة والمحافظة على كونها تنهي عن الفحشاء والمنكر _
قوله تعالى: (اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن
الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر . والله يعلم ما تصنعون) [العنكبوت: 45]
وهذه من أعظم علامات إقامة الصلاة كما أمر الله ومن أهم ثمارها وأثرها في
تزكية نفس المسلم وتربيتها.
ومن آثارها أنها قرينة الصبر في استعانة المؤمن بها على طاعة الله واجتناب
معصيته، كما قال تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على
الخاشعين) [البقرة: 45] وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر
والصلاة إن الله مع الصابرين) [البقرة: 153].
ومن آثار إقامة الصلاة أنها من أسباب الإحسان إلى الناس ولذلك تجد الإنفاق
وإيتاء الزكاة مقترنين بها في أغلب أي القرآن، كقوله: (ويقيمون الصلاة ومما
رزقناهم ينفقون) [البقرة: 3].
وقوله: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة
وإيتاء الزكاة) [الأنبياء: 73].
ولقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر الصلاة في تزكية النفس البشرية
وتطهيرها من أدناس الشهوات والمعاصي فشبهها، في تكفير السيئات ومحو الخطايا،
بنهر جارٍ بباب المسلم ـ وفي قرب النهر منه إغراء على كثرة الاغتسال والتطهر
ـ وهو يغتسل فيه كل يوم خمس مرات فلا يبقى على جسمه شيء من الأوساخ.
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمساً ما تقول ذلك؛
يبقى من درنه قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو
الله بهن الخطايا". [البخاري: رقم528، فتح الباري: 2/11 ، ومسلم: 1/462].
ولا يزال المؤمن يزكي نفسه بالصلاة حتى تصبح ملجأ له، يستريح بها من الهموم
والأتعاب كما في الحديث: (يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها) [أبو داود: 5/263،
قال في عون المعبود: والحديث سكت عنه المنذري ـ 13/231 ، وذكر الحديث صاحب
كشف الخفاء ـ 1/108 ـ ولم يزل عنه الإلباس].
وتتوق نفس المؤمن إلى الطيبات التي أحلها الله له فيحبها، ولكن عينه لا تقر
إلا عندما يقف أمام ربه مستقبلاً القبلة مكبراً خاشعاً في صلاته، كما قال صلى
الله عليه وسلم: "حبب إليَّ من ديناكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في
الصلاة" [الجامع الصغير ورمز لمن أخرجه بـ(ح م ، ن ، ك ، هـ ق) ولدرجته ب ، ح
أي حسن ، وذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته، وقال: صحيح3/87].
والنفس البشرية التي يجاهدها صاحبها حتى تصل إلى هذه الدرجة، فلا ترتاح إلا
بطاعة الله تعالى ولا تقر عينه، إلا في مناجاة ربه والتقرب إليه، جديرة أن
تكون نفس من يجاهد في سبيل الله جعلنا الله ممن يصل إلى تلك الدرجة أو يقرب
منها.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفذ أمر الله سبحانه بالاستعانة
بالصلاة فكان إذا نزل به ما يهمه لجأ إليها مستعيناً بها كما في حديث حذيفة
الذي رواه أبو داود: (كان إذا حزبه أمر صلى) [أبو داود (2/78) صحيح الجامع
الصغير للألباني (4/215) وقال: (حسن)]. وهذا أمر زائد على الصلاة المفروضة
لكنه يظهر تعلق المؤمن بها تعلقاً يجعله جديراً بأن يكون من المجاهدين في
سبيل الله.
(122)
أثر الزكاة في جهاد النفس
[تابع لملأ الفراغ بمنهج الله]
سبق ذكر بعض النصوص الدالة على أن الزكاة ركن الإسلام الثالث، ويكفي ذلك في
إثبات وجوب أدائها.
أما أثر أدائها في تزكية المسلم وتطهيره من الذنوب والمعاصي لتسمو نفسه حتى
يصبح أهلاً للانخراط في سلك المجاهدين في سبيل الله فمنها ما يأتي:
قال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلِّ عليهم إن صلاتك سكن
لهم والله سميع عليم) [التوبة: 103].
وتظهر آثار الزكاة في النفس البشرية من هذه الآية، حيث جعل الله تعالى الزكاة
سبباً في التزكية والتطهير لتلك النفس التي كان من أهداف بعث الله تعالى
رسوله إلى الناس تزكيته إياهم وتطهيرهم من كل دنس في حياتهم كلها، كما قال
تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم
ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) [الجمعة: 2].
قال سيد قطب في قوله : "(ويزكيهم): وإنها لتزكية، وإنه لتطهير، ذلك الذي كان
يأخذهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ تطهير للضمير والشعور، وتطهير
للعمل والسلوك، وتطهير للحياة الزوجية، وتطهير للحياة الاجتماعية، تطهير
ترتفع به النفس من عقائد الشرك إلى عقيدة التوحيد، ومن التصورات الباطلة إلى
الاعتقاد الصحيح، ومن الأساطير الغامضة إلى اليقين الواضح، ويرتفع به من رجس
الفوضى الأخلاقية إلى نظافة الخلق الإيماني، ومن دنس الربا والسحت إلى طهارة
الكسب الحلال..
إنها تزكية شاملة للفرد والجماعة، ولحياة السريرة وحياة الواقع، تزكية ترتفع
بالإنسان وتصوراته عن الحياة كلها، وعن نفسه ونشأته إلى آفاق النور التي يتصل
فيها بربه ويتعامل مع الملأ الأعلى، ويحسب في شعوره وعمله حساب ذلك الملأ
العلوي الكريم) [في ظلال القرآن: (28/3565)].
وإنما كانت الزكاة سبباً في التزكية والتطهير؛ لأنها دليل على صدق إيمان
العبد الذي تغلب على شح نفسه، فأخرج من ماله الذي تعب في جمعه ما أمره الله
تعالى به، ولأنها دليل على أن المؤمن الذي أداها قد فاز في المعركة مع عدوه
الذي يخوفه من الفقر ويأمره بالفحشاء، لنجاحه في طاعة ربه الذي أمره بالإنفاق
ووعده بالفضل الجزيل من عنده، كما قال تعالى: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم
بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم) [البقرة:268].
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: (أي الصدقة أعظم أجراً؟) قال: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر
وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم) قلت: (لفلان كذا ولفلان كذا، وقد
كان لفلان) [البخاري: رقم1419 فتح الباري (3/284) ومسلم (2/716)].
ويظهر من هذا الحديث أن بذل المال وإخراجه طاعة لله تعال،ى أمر شاق على النفس
يحتاج إلى جهادها حتى تسمح به.
قال النووي رحمه الله: (فمعنى الحديث أن الشح غالب في حال الصحة، فإذا سمح
فيها وتصدق كان أصدق في نيته وأعظم لأجره، بخلاف من أشرف على الموت وأيس من
الحياة ورأى مصير المال لغيره) [شرح النووي على صحيح مسلم (7/123)].
وقال الحافظ ابن حجر: (ولما كانت مجاهدة النفس على إخراج المال مع قيام مانع
الشح دالاً على صحة القصد وقوة الرغبة في القربة، كان ذلك أفضل من غيره) [فتح
الباري: (3/285)].
وفي صحيح مسلم [ (1/203)]: (والصدقة برهان) وفي رواية للنسائي[(5/5)]
(والزكاة برهان)
وفي شرح النووي على مسلم لهذا الحديث: (معناه: الصدقة حجة على إيمان فاعلها
فإن المنافق يمتنع منها لكونه لا يعتقدها، فمن تصدق استدل بصدقته على صدق
إيمانه. والله أعلم) [شرح النووي على مسلم (3/101)].
وقال ابن رجب: (فكذلك الصدقة برهان على صحة الإيمان، وطيب النفس بها علامة
على حلاوة الإيمان وطعمه) [جامع العلوم والحكم (ص19)].
وإذا عرف هذا علم أن من لم يجاهد نفسه حتى تسمح بإخراج جزء من ماله لله
تعالى، فإنه لا يقدر على بذل نفسه في سبيل الله لأن بذل النفس أشق من بذل
المال، فكيف ترضى نفس أن تتقدم لأسنة رماح الأعداء انتصاراً لدين الله ورفعاً
لكلمته، وهي لا ترضى ببذل جزء من المال؟.
(123)
أثر الصوم في جهاد النفس
[تابع لملأ الفراغ بمنهج الله]
ولسنا في حاجة إلى ذكر أدلة فرضية الصيام، لأن ذلك معلوم من الدين بالضرورة،
ويكفي أن يعلم المسلم أنه أحد الأركان الذي بني عليها الإسلام.
والمقصود هنا بيان أثر الصيام في تزكية النفس وتطهيرها، وكونها أهلا لطاعة
الله والبذل في سبيله، لقد بين الله سبحانه وتعالى أن القرآن العظيم، لا
ينتفع به ويهتدي بهداه إلا المتقون.
فهو-وإن نزل للدعوة الناس كلهم إلى طاعة الله وتقواه-لا يهتدي به في الواقع
إلا أهل التقوى، كما قال تعالى: ((الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين))
[البقرة: -2]
ومن أهم العبادات التي تكسب المؤمن تقوى الله الصيام، وبخاصة صيام شهر رمضان،
كما قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من
قبلكم لعلكم تتقون)) [البقرة: 183]
وإنما يثمر الصيام التقوى، لما فيه من إلزام الإنسان نفسه بطاعة ربه في
اجتناب المباحات التي أصبحت محرمة عليه، بعد شروعه في الصيام. وحقيقة التقوى،
امتثال أمر الله بفعله، وامتثال نهية باجتنابه
.......
والإنسان عندما يدع ما تشتهيه نفسه من المباحات والطيبات، طاعة لربه سبحانه،
يكون أكثر بعدا عما هو محرم عليه في الأصل، وأشد حرصا على فعل ما أمره الله
به.
أقوال العلماء في حكمة فرضية الصوم وأثره في حياة المسلم:
قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى مخاطبا للمؤمنين، من هذه الأمة، وآمرا
لهم بالصيام، وه الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع، بنية خالصة لله عز وجل،
لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق
الرذيلة- إلى أن قال-في قوله تعالى ((لعلكم تتقون)): لأن الصوم فيه تزكية
للبدن، وتضييق لمسالك الشيطان، ولهذا ثبت في الصحيحين: (يا معشر الشباب من
استطاع منكم الباءة، فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)"
[تفسير القرآن العظيم01/213)]
..........
وقال في تفسير المنار على قوله تعالى: ((لعلكم تتقون)): "هذا تعليل لكتابة
الصيام، ببيان فائدته الكبرى وحكمته العليا، وهو أنه يعد نفس الصائم لتقوى
الله تعالى، بترك شهواته الطبيعية المباحة الميسورة، امتثالا لأمره، واحتسابا
للأجر عنده، فتتربى بذلك إرادته على ملكة ترك الشهوات المحرمة والصبر عنها،
فيكون اجتنابها أيسر عليه، وتقوى على النهوض بالطاعات والمصالح والاصطبار
عليها، فيكون الثبات عليها أهون عليه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الصيام
نصف الصبر) رواه ابن ماجه، وصححه في الجامع الصغير) [تفسير المنار: (2/145)]
وقال سيد قطب، رحمه الله في قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم
الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)): "
وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم... إنها التقوى، فالتقوى هي التي تستيقظ
في القلوب، وهي تؤدي هذه الفريضة، طاعة لله وإيثارا لرضاه، والتقوى هي التي
تحرس هذه القلوب، من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس بالبال،
والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله ووزنها في ميزانه، فهي
غاية تتطلع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداة من أداتها وطريق موصل إليها، ومن
ثم يرفعها السياق أمام عيونهم، هدفا وضيئا يتجهون إليه عن كريق الصيام" [في
ظلال القرآن: (2/168)]
وهنا نلفت النظر إلى الارتباط بين قوله تعالى في أول سورة البقرة: ((هدى
للمتقين)) [الآية: 2] وبين قوله تعالى في أول آيات الصيام: ((لعلكم تتقون))
وقوله في آخر هذه الآيات: ((ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم
ولعلكم تشكرون)) [البقرة: 185]
فقوله تعالى: (( هدى للمتقين)) بين فيها أن هداية هذا القرآن، لا ينالها
حقيقة إلا أهل التقوى.
وقوله: (( لعلكم تتقون)) بين فيها أن الصيام طريق من الطرق الموصلة إلى
التقوى.
وقوله تعالى: ((ولتكبروا الله على ما هداكم...)) بين فيها أن الهداية قد حصلت
للصائمين الذين منحهم الله بصومهم التقوى، والمتقي المهتدي جدير بأن يشكر
الله على منحه التقوى والهداية: ((ولعلكم تشكرون))
قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: ((لعلكم تشكرون)) : "أي إذا قمتم بما
أمركم الله، من طاعته بأداء فرائضه وترك محارمه، وحفظ حدوده، فلعلكم أن
تكونوا من الشاكرين بذلك" [تفسير القرآن العظيم: (1/218)]
وقال سيد قطب رحمه الله في ظلال هذه الآية ((ولتكبروا الله على ما هداكم
ولعلكم تشكرون)): "فهذه غاية من غايات الفريضة، أن يشعر الذين آمنوا بقيمة
الهدى الذي يسره الله لهم، وهم يجدون هذا في أنفسهم في فترة الصيام، اكثر من
كل فترة، وهم مكفوفو القلوب عن التفكير في المعصية، ومكفوفو الجوارح عن
إتيانها.
وهم شاعرون بالهدى ملموسا محسوسا، ليكبروا الله على هذه الهداية، وليشكروه
على هذه النعمة، ولتفيء قلوبه إليه بهذه الطاعة، كما قال لهم في مطلع الحديث:
((لعلكم تتقون))
وهكذا تبدو منة الله في هذا التكليف الذي يبدو شاقا على الأبدان والنفوس،
وتتجلى الغاية التربوية منه، والإعداد من ورائه للدور العظيم الذي أخرجت هذه
الأمة لتؤديه، أداء تحرسه التقوى ورقابة الله وحساسية الضمير" [في ظلال
القرآن: (2/172)]
ولما كانت النفس البشرية تتوق إلى تناول ما تشتهيه، وتنفر عن ترك ذلك، فإن من
أعظم ما يزكيها ويطوعها لطاعة ربه، أن تُدَرَّب على الصبر عن تناول الطيبات
التي أباحها الله تعالى لها، إذا أمرها بتركها.
ومن أعظم شهوات النفس الطعام والشراب والجماع، وقد حرم الله على المؤمن هذه
الأمور المهمة في حياته كلها، في نهار شهر رمضان بأكمله، فإذا تركها مخلصا
لله في تلك المدة من الزمن، فإنه بذلك يكون جديرا بأن يكون من المجاهدين
لأعدائه الملازمين، وهم نفسه الأمارة بالسوء، والهوى المردي، والشيطان
الرجيم.
والذي ينجح في هذا الجهاد، يسهل عليه الجهاد الخاص، وهو قتال عدوه الخارجي من
اليهود والنصارى والوثنيين، ومن لم ينجح في جهاد عدوه الملازم، يصعب عليه هذا
الجهاد، لأن الذي لم يروض نفسه على طاعة الله بامتثال أمره واجتناب نهيه،
فيما هو أخف عليه، كالصيام مثلا، فمن الصعب عليه أن يقف في الصف لمقارعة
الأعداء يستقبل بصدره ونحره قذائف المدافع ورصاص البنادق، وأطراف الرماح وحد
السيف.
وإن صبر في من لم يجاهد نفسه بطاعة الله على قتال عدوه، فالغالب أنه لا يصبر
مجاهدا الجهاد الشرعي، وهو الجهاد في سبيل الله، وإنما يقاتل رياء وسمعة،
ليقال عنه: إنه شجاع، أو للحصول على مغنم.
وتأمل الأسلوب الذي فرض الله به القتال على المسلمين، تجده نفس الأسلوب الذي
فرض الله به الصيام، إلا أنه بين في الصيام أنه أداة لتقواه، وبين في فريضة
القتال، انه فرضه عليهم وهو كره لهم، ومعلوم أن التقوى هي التي تعين المسلم
على الصبر على ما تكرهه نفسه، وهو الجهاد في سبل الله، قال تعالى: ((كتب
عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شبئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا
شيئا وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون)) [البقرة: 216]
(124)
أثر الحج في جهاد النفس
[تابع لملأ الفراغ بمنهج الله]
والحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، قال تعالى: (ولله على الناس حج
البيت من استطاع إليه سبيلاً، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين). [آل عمران:
97]. وسبقت الأحاديث الدالة على كونه خامس أركان الإسلام.
أما أثر الحج في تزكية النفس وتطهيرها، فإنه يؤدي بها إلى تقوى الله كالصيام،
مع شيء من التفصيل في امتثال الأوامر المقربة إلى الله، واجتناب النواهي
المبعدة عنه سبحانه، فالحاج مأمور بذكر الله سبحانه، إذ يدخل في الإحرام
بقوله: (لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك.
لا شريك لك) [البخاري رقم1549 ـ فتح الباري (3/408) ومسلم (2/841)].
وهو مأمور بالمداومة على هذا الذكر وغيره أثناء إحرامه [راجع البخاري
رقم1670، فتح الباري (3/519) ومسلم (2/931)].
وله في كل نسك يؤديه، ذكر عام أو خاص، كما أنه يدرب النفس على طاعة الله
تعالى بعدم تعاطي بعض الطيبات والمباحات في الأصل، كالجماع وما يؤدي إليه
والألبسة المعتادة غير ثوبي الإحرام ـ بالنسبة للرجال ـ والطيب، وتغطيته
الرأس، وقص الشعر ونتف الإبط وتقليم الأظافر، ونحو ذلك من المحظورات التي
وردت بها النصوص.
كذلك قتل صيد البر وأكله ـ مطلقاً أو إذا صيد من أجله ولو صاده غيره.
فالحاج مأمور بترك الرفث وهو الجماع وما يتصل به ـ فتكون زوجه معه في سفره
يجمعهما مكان واحد وقت النوم ووقت اليقظة فلا يمد يده إليها إلا لحاجة كما
يمد يده لعامة الناس، ولا يتكلم معها بكلام تشم منه رائحة التعريض، بما كان
يباح له التصريح به.
كما أنه مأمور بترك الفسوق من قول أو فعل ـ وهو مأمور بذلك كل وقت ولكنه في
الحج أعظم وآكد ـ وهو مأمور بترك الجدال، إلا إذا دعت الحاجة لمصلحة.
وبذلك يكون الحاج قد تزود من زاد التقوى، كما قال تعالى: (الحج أشهر معلومات
فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، وما تفعلوا من خير
يعلمه الله، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) [البقرة:
197].
والحاج أهل لهداية الله بعد أن تزود من تقواه: (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا
الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين)
[البقرة: 198].
وزاد التقوى الذي يمنحه الله للحاج من حجه، يزيده تقرباً إلى الله ودواماً
على طاعته، حتى تصبح طاعته لربه أحب إليه من أي محبوب آخر، ولذلك لا يفتأ
ذاكراً له: (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذركم آباءكم أو أشد ذكراً)
[البقرة:200].
والحاج يؤدي ما أمر به من الأنساك في الحج ـ عبادة لربه ـ وهو يعلم أن كل ذلك
لا ينفعه عند الله، إلا إذا اتجه بقلبه وقالبه إلى الله، وامتلأ قلبه بتقوى
الله وخشيته: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى منكم، كذلك
سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين) [الحج:37].
ويذهب الحاج إلى بيت الله الحرام لتأدية مناسك الحج، وقد أثقلته الذنوب
والمعاصي ورانت على قلبه محبة الشهوات، فيزكيه حجه ويطهره، ويدرب نفسه على
طاعة ربه في فترة زمنية معينة، فيترك ما نهاه الله عنه من الرفث والفسوق،
فيعود وقد غفر الله له حتى غدا مثل من ولد لتوه لا ذنب له ولا إثم، بل طاعة
وأجر وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه).
وكما في حديثه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: (العمرة إلى
العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاءاً إلى الجنة) [البخاري
رقم 1773 ـ فتح الباري (3/597) ورقم 1820 فتح الباري (4/20) ومسلم (2/983)].
ولما كان الحج فيه مشاق النفقة والسفر والتعرض للمخاطر المتعددة، كالخوف
والجوع والعطش والحر والبرد والزحام وغير ذلك، جعله صلى الله عليه وسلم
للنساء بمنزلة الجهاد للرجال، كما في حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا
رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: (لا، ولَكُنَّ أفضلُ
الجهاد حجٌ مبرور) [البخاري رقم الحديث 1520 ، فتح الباري (3/381)].
قال الحافظ: (وسماه جهاداً لما فيه من مجاهد النفس) [فتح الباري (3/382)].
والذي وفقه الله تعالى لأداء مناسك الحج يعلم سبب تسمية الرسول صلى الله عليه
وسلم الحج جهادا،ً فإن سفر الحج فيه شبه كبير بسفر الجهاد، لما يلتزم به
الحاج من التقشف، ولما يقتضيه أداءه من الإلتزام بالنظام، والسير مع عامة
الناس في وقت واحد، وفي مكان واحد، لا سيما يوم التروية وما بعده، إذ ترى
الناس يصعدون إلى منىً في وقت واحد، وينزلون بها لأخذ أماكنهم ويصلون بها
الصلوات الخمس: الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم الفجر مستعدين لمغادرتها
صبيحة اليوم التاسع كلهم إلى عرفات.
وهناك يقفون كلهم بعد أن يصلوا الظهر والعصر قصراً وجمع تقديم في وقت واحد،
ثم إذا غربت الشمس تحركوا جميعاً نحو مزدلفة ينزلون بها جميعاً، ويصلون بها
المغرب والعشاء جمع تأخير قبل أن ينزلوا متاعهم، ثم ينامون مبكرين استعداداً
لأعمال يوم النحر.
فإذا أصبحوا صلوا الفجر ودعوا الله وذكروه حتى يسفروا ثم يتجهون جميعاً إلى
منىً فيبدءون برمي جمرة العقبة ضحى يوم النحر، ثم يذهب من عليه نحر لينحر ثم
يحلقون ثم يطوفون طواف الإفاضة ثم يعودون إلى منىً للبقاء فيها ذاكرين الله
تعالى رامين الجمرات في اليومين التاليين ليوم النحر أو الثلاثة.
ثم يتجهون إلى بيت الله لطواف الوداع، وفي التزامهم كلهم بذلك النظام ما فيه
من المشقة والزحام وغير ذلك، والحاج الذي يقوم بذلك كله مع التزامه بطاعة
الله في نيته وفي سلوكه، لا يعود إلا وقد هذبت نفسه وألفت الطاعة والجندية
الإسلامية.
ولعل ذلك يبين شيئاً من حكمة ذكر الجهاد في سبيل الله بعد ذكر الآيات
المتعلقة بالحج كما قال تعالى: ((إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا
يحب كل خوان كفور، أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير.
الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله . ولولا دفع الله
الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً
، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز)) [الحج: 38 ـ40].
الحج والأقصى الأسير!
إن حجاج بيت الله الحرام ليبذلون المال، ويعدون العدة للسفر،ويحرمون،
ويلبون-والتلبية عهد على طاعة الله ورسوله-ويطوفون ويسعون، ويقومون بكل مناسك
الحج _ومنها ركنه الأعظم الوقوف بعرفات.
ثم يؤدون ركن الحج العظيم-طواف الإفاضة- ويزورون مسجد رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وبعض الأماكن التي تذكرهم برجال الجهاد، كالبقيع، وأحد،
والخندق....
فهل يتذكرون صنو المسجدين العظيمين وثالثهما: ذلك المسجد الأسير " الأقصى"
الذي يدنسه أبناء القردة والخنازير.
فهل تذكرتم يا حجاج بيت الله الحرام، أبناء الصحابة والتابعين في الأرض
المباركة، الذين يقذفهم اليهود بالقنابل والرشاشات والمدافع، والطائرات
والدبابات، ويهدمون منازلهم ويخرجونهم منها في العراء، ويحاصرونهم في قِطَع
من الأرض، حتى لا يقدر القريب أن يزور قريبه، ويمنعون عنهم وصول الغذاء
والدواء والملبس والمشرب؟
هل تذكرتم قبلتكم الأولى، ومسرى نبيكم صلى الله عليه وسلم ومعراجه؟
هل تذكرتم أن من أهم ثمرات حج بيت الله الحرام أن الله قد أذن للذين يقاتلهم
أعداء الله بقتال الأعداء؟ وأن من ثمرات الحج دفع العدوان عن المساجد
والمعابد.
اقرؤوا بتدبر وتفكروا في هذه الآيات الواردة في الحج، وكيف ختمت بقتال
المسلمين من يقاتلهم ظلما وعدوانا، وبدفع المسلمين الاعتداء على المساجد
والمعابد من أن تهدم أو تمس بسوء.
اقرؤوا هذه الآيات، واصبروا على قراءتها تقبل الله حجكم، ورزقكم الجهاد في
سبيل الله لرد العدوان عن أنفسكم وإخوانكم، ودفع العدو عن تدنيس المساجد
وتهديمها، وبخاصة المسجد الأقصى الأسير الذي دنسه أرذل خلق الله في الأرض
"اليهود" فدفع العدوان عن إخوانكم، ودفعه عن مساجدكم ينبغي أن يكون من ثمرات
حجكم:
بدأت الآيات المتعلقة بالحج من الآية السادسة والعشرين من سورة الحج، وهي
قوله:
((وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين
والقائمين والركع السجود)) (26)
وانتهت بالآية السابعة والثلاثين، وهي قوله تعالى:
((لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم
لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين)) (37)
وأتبعها تعالى بقوله :
((إن الله يدافع عن الذين ءامنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور(38) أذن للذين
يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير(39) الذين أخرجوا من ديارهم
بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت
صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن
الله لقوي عزيز)) (40)
وإنه ليبدو لي من ذكر هذه الآيات الأخيرة بعد آيات الحج، أن من أهم آثار الحج
في حياة المسلمين، أن يقاتلوا من يقاتلهم من الأعداء، وأن يحموا بيوت الله من
عدوان من أراد إفسادها ماديا أو معنويا، لأن في مناسك الحج تدريبا على التعب
والصبر والنظام والانضباط، وبذل المال، وشد الرحال، وأهم من ذلك كله التزكية
الإيمانية والطاعة لله والإخلاص له، وفي ذلك كله شبه بمشاق الجهاد ونظامه
....
هل تذكرتم أن الجبن عن دخول الأرض المقدسة لإخراج العدو منها، هو من صفات
اليهود، وليس من صفات المسلمين؟!
فقد حكى الله موقف اليهود عندما أمرهم موسى عليه السلام بدخول الأرض المقدسة
في هذه الآيات، وهي واضحة في الدلالة على جبنهم:
((وإذ قال موسى لقومه ياقوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء
وجعلكم ملوكا وءاتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين(20) ياقوم ادخلوا الأرض
المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين(21) قالوا
يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها
فإنا داخلون)) [المائدة:22]
هاهو الأقصى الحزين يذكرنا، إن لم نكن قد تذكرنا. فهل من سامع للتذكير، وهل
من مجيب لمستغيث؟؟؟!!!
اللهم امنح حجاج بيتك الحرام والمسلمين في الأرض قائدا يؤمهم في المسجد
الحرام، ومسجد نبيك الكريم، ثم يقودهم تحت رايتك لتحرير بيتك الثالث: "المسجد
الأقصى" من أعدائك اليهود، الذين احتلوه وأحرقوه ودنسوه، وداسوا كرامة أهله،
ليؤمهم فيه، كما أمهم في صنويه: البيت الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه
وسلم. يارب العالمين، يا أرحم الراحمين.
لقد فتح القدس في صدر الإسلام عمر، وحررها من الصليبيين صلاح الدين، فهل سيجد
من قادة المسلمين السياسيين والعسكريين شبيها لهما أو لأحدهما؟
لعل الله يأتي باليوم الذي ينطلق فيه حجاج بيت الله الحرام من أول المساجد
الثلاثة بعد أداء مناسكهم، لتحرير بيته الثالث "المسجد الأقصى" ليتحقيق هذا
الترتيب الرباني في كتابه في واقع المسلمين اللهم آمين.
وبهذا يظهر أثر الحج في تزكية النفس وتطهيرها وتضحيتها وأهليتها لتكون مجاهدة
في سبيل الله.
(125)
أثر صلة الرحم في جهاد النفس
[تابع لملأ الفراغ بمنهج الله]
المقصود بالرحم ـ هنا ـ القرابة، والمقصود بالصلة البر والإحسان، أي البر
بذوي القربى والإحسان إليهم، وهذه الصلة تتفاوت درجات وجوبها بحسب درجة ذي
القربى قرباً وبعداً، والصلة قد تكون صلة بتعليم ذوي القربى أمور دينهم التي
يجهلونها ـ لا سيما الواجبات العينية ـ وقد تكون بالإحسان المادي إليهم أو ما
شابه ذلك.
والإنسان الذي يقطع رحمه ولا يصلها، عاصٍ لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم،
مرتكب لما حرم الله سبحانه وتعالى عليه، قاطع ما أمر الله به أن يوصل، وقد
ذمه الله تعالى ذماً شديداً، وأوجب عليه لعنته، وجعله معرضاً لطمس بصيرته،
كما قال تعالى: ((فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم.
أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم)) [محمد: 22 ـ23].
وقد أخذت الرحم وعداً من الله تعالى ـ والله لا يخلف وعده ـ بأن يصل من وصلها
ويقطع من قطعها، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (خلق الله الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن، فقال
لها: مه قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: ألا ترضين أن أصل من وصلك
وأقطع من قطعكِ؟ قالت: بلى يا رب. قال: فذاك) [البخاري رقم4830 فتح الباري
(8/579) ومسلم (4/1980)].
وفي حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
(ألا لا يدخل الجنة قاطع) [البخاري رقم 5984 فتح الباري (10/415) ومسلم
(4/1981)].
والنصوص في الواردة في صلة الرحم والنهي عن قطعها كثيرة منها العام، كما مضى
ومنها الخاص بنوع من القرابة، (كالوالدين) وغيرهما.
والمقصود أن الذي لا يجاهد نفسه على صلة أرحامه، ليس أهلاً للجهاد في سبيل
الله، لأنه عاصٍ لله ولرسوله قاطع لرحمه، وقد يكون سبباً في منع الله نصر
المؤمنين على أعدائهم، وقد يكون غير قادر على الصبر والمصابرة أمام الأعداء.
لهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من استأذنه في الجهاد معه دون أن
يستأذن والديه، أن يرجع إليهما ويجاهد في طاعتهما والقيام بحقوقهما، كما في
حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: جاء رجل النبي صلى الله عليه
وسلم فاستأذنه في
الجهاد، فقال: (أحي والداك) قال: نعم، قال: (ففيهما فجاهد) [البخاري رقم 3004
فتح الباري (6/140) ومسلم (4/1975)].
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: (هذا كله دليل لعظم فضيلة برهما وأنه آكد
من الجهاد، وفيه حجة لما قاله العلماء أنه لا يجوز الجهاد إلا بإذنهما إذا
كانا مسلمين، أو بإذن المسلم منهما.. هذا كله إذا لم يحضر الصف ويتعين
القتال، وإلا فحيئذٍ يجوز بغير إذن، وأجمع العلماء على الأمر ببر الوالدين
وأن عقوقهما حرام من الكبائر. [شرح النووي على صحيح مسلم (16/104)].
وقد يعرض عاق والديه نفسه لغضبهما عليه ودعائهما، ودعوة المظلوم مستجابة ولو
كان كافراً، والعدل واجب ولو لكافر، كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: (اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافراً، فإنه ليس دونها حجاب) [أحمد في
المسند (3/153) والأحاديث الصحيحة للألباني (2/407)].
وقال تعالى في وجوب العدل ـ ولو لمن يبغضهم المؤمن في الله وهم الكفار ـ:
((يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله، شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم
على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما
تعملون)) [المائدة: 8].
ولقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنه بقصة جريج الراهب ـ وهو رجل من بني إسرائيل
_محذراً إياهم من عقوق الوالدين، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال:
(لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى، وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج،
كان يصلي جاءته أمه فدعته، فقال: أجيبها أو أصلي؟ فقالت: اللهم لا تمته حتى
تريه وجوه المومسات.
وكان جريج في صومعته، فتعرضت له امرأة وكلمته فأبى، فأتت راعياً فأمكنته من
نفسها، فولدت غلاماً، فقالت: من جريج، فأتوه فكسروا صومعته فأنزلوه وسبوه.
فتوضأ وصلى، ثم أتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام، قال: الراعي، قالوا نبني
صومعتك من ذهب، قال: لا إلا من طين) [البخاري رقم 3436 فتح الباري (6/476)
ومسلم (4/1976)].
(126)
أثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: في جهاد النفس
[تابع لملأ الفراغ بمنهج الله]
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قاعدة من أهم قواعد الإسلام التي لا قوام
لأمته إلا بها، وهو عنوان فلاح المسلمين وفوزهم ومنطلق أهليتهم لقيادة
البشرية، فإذا حققوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أنفسهم كانوا أهلاً
لتحقيقه في سواهم من أمم الكفر والضلال، وإلا كانوا أهلاً لغضب الله وسخطه
ولعنته، ومن كان معرضاً لسخط الله وعظيم عقابه، كيف يكون جديراً بالكون في صف
المجاهدين في سبيل الله.
فالمؤمنون لا ينجيهم من الخسران أن يقوم كل واحد منهم بما كلفه الله إياه،
دون أن يتواصى مع غيره من إخوانه المؤمنين بالحق والصبر، قال تعالى: ((والعصر
إن الإنسان لفي خسر . إلا الذين أمنوا، وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق
وتواصوا بالصبر)) [العصر].
وكيف يقف الصف المخلخل الذي يبتعد أفراده عن الله بترك طاعته والولوغ في
مستنقع معاصيه، ولا يوجد فيه من يغضب لله فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟
كيف يقف هؤلاء في هذا الصف في وجه عدوهم مجاهدين في سبيل ربهم، ولم تتوافر
فيهم صفات عباد الله المؤمنين الذين قال تعالى عنهم: : ((والمؤمنون والمؤمنات
بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون
الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم)) [التوبة:
71].
وهم الذين قصر الله الفلاح عليهم، كما قال: (( ولتكن منكم أمة يدعون إلى
الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون)) [آل عمران:
104].
وأوضح سبحانه أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان به هي موجبات
قيادة هذه الأمة لغيرها من الأمم قال تعالى: ((كنتم خير أمة أخرجت للناس؛
تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله..)) [آل عمران: 110].
يظهر من هذا أن النصر على الأعداء لا يكون إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، لأن الخيرية المذكورة لا تتم بدون موجباتها المذكورة بعدها.
وقد لعن الله بني إسرائيل الذين لم يتناهوا فيما بينهم عن المنكر، وإذا عملت
هذه الأمة مثل عمل بني إسرائيل فحكمها حكم بني إسرائيل، قال تعالى: ((لعن
الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا
يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون)) [المائدة: 78
ـ79]
ومما يدل على ذلك ما أورده ابن كثير في تفسير الآية، قال: (وقال الإمام أحمد
رحمه الله: حدثنا شريح ـ وساق سنده إلى أن قال ـ : عن أبي عبيدة عن عبد الله
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لما وقعت بنوا إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم
ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم") قال يزيد وأحسبه قال: (في أسواقهم وآكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم).
((ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس، فقال: (لا
والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطراً) [تفسير القرآن العظيم ( 2/82 ـ
83 ) ].
والأمة التي يستشري فيها الشر والفساد مثل السفينة التي ألقي بها في بحر لجي
لتمخر عبابه، وهي مخرقة تقذف أمواج البحر بمياهه بداخلها من تلك الخروق، فهل
يقدر ربانها على قيادتها إلى شاطئ الأمان، وهل يستحق أهلها الذي ألقوها في
ذلك البحر اللجي وهم يعلمون ما بها من خروق أن ينالوا النجاة، كيف الأمر لو
كانت سليمة قادرة على مصارعة الأمواج فأرادت فئة من ركابها أن تخرقها وهي
تمخر عباب البحر وسكت عنهم بقية الركاب؟
والجواب في الحديث الصحيح الذي رواه النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (مثل
القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم
أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من
فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم
وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً) [صحيح
البخاري رقم الحديث 2493، فتح الباري (5/132)]. قال الحافظ بن حجر: (وفيه
استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) [الفتح (5/296)]،
فأثر القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الفوز والقيادة للبشرية وأثر
تركه الهلاك والخسران والذل.
(127)
أثر المحافظة على نوافل الطاعات: في جهاد النفس
[تابع لملأ الفراغ بمنهج الله]
ما سبق من الكلام يتعلق بالمحافظة على الفرائض وأثر ذلك في تربيته النفس
وتزكيتها وتطهيرها، وقد ضربت لذلك ستة أمثلة هي: الصلوات الخمس، وصيام رمضان
والزكاة، والحج وصلة الرحم، (وهذه الخمسة من فروض العين) ثم الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر وهو من فروض الكفاية.
وآن الأوان لذكر المحافظة على نوافل الطاعات وأثرها في تزكية النفس وتطهيرها،
وتأهيل صاحبها للبذل والتضحية بالنفس والمال والولد والجاه والمنصب، في سبيل
الله تعالى.
والكلام في النوافل من وجهين:
الوجه الأول: النوافل العامة ، وكونها مطلوبة المحافظة عليها، وأثرها كذلك في
التزكية والتطهير.
الوجه الثاني: ذكر بعض النوافل بعينها وبيان أثرها.
الوجه الأول: الحث على المحافظة على النوافل عموماً وبيان أثرها في تزكية
النفس وتطهيرها.
حث الله سبحانه وتعالى في كتابه عباده المؤمنين على فعل الخير، والعمل الصالح
والتنافس في ذلك، ورغب في ذلك كله بوعده مَن عمله بالثواب الجزيل.
قال تعالى: ((و أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه
عند الله، إن الله بما تعملون بصير)) [البقرة: 110].
فقوله تعالى: ((وما تقدموا لأنفسكم من خير)) الآية شامل لكل عمل صالح يقدمه
العبد طاعة لله، واجباً كان أم تطوعاً.
قال ابن جرير رحمه الله: (فإنه يعني جل ثناؤه بذلك ومهما تعملوا من عمل صالح
في أيام حياتكم فتقدموه قبل وفاتكم ذخراً لأنفسكم في معادكم، تجدوا ثوابه عند
ربكم يوم القيامة فيجازيكم به. والخير هو العمل الصالح الذي يرضاه الله)
[جامع البيان عن تأويل القرآن (1/491)].
وقال تعالى: ((ولكل وجهة هو موليها، فاستبقوا الخيرات..)) [البقرة: 148].
وهو كذلك أمر بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة والتنافس فيها، كما قال ابن
جرير: (فبادروا بالأعمال الصالحة شكراً لربكم، وتزودوا في دنياكم لأخراكم)
[جامع البيان عن تأويل آي القرآن (2/29)].
وقال تعالى: ((ليسوا سواء، من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء
الليل وهم يسجدون، يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر، ويسارعون في الخيرات، وأولئك من الصالحين، وما يفعلوا من خير فلن
يكفروه، والله عليم بالمتقين) [آل عمران: 113ـ 115].
والشاهد من هذه الآيات ـ هنا ـ قوله: ((ويسارعون في الخيرات)) وقوله: ((وما
يفعلوا من خير)) فإن الخيرات والخير المذكورين فيها شاملان لكل عمل صالح
يتسابق فيه عباد الله الصالحون.
قال ابن جرير: ((ويسارعون في الخيرات)) يقول: ويبتدرون فعل الخيرات خشية أن
يفوتهم ذلك قبل معالجتهم مناياهم-إلى أن قال في قوله تعالى-: ((وما يفعلوا من
خير فلن يكفروه)) : وما تفعل هذه الأمة من خير وتعمل من عمل لله فيه رضا، فلن
يكفرهم الله ذلك، يعني بذلك فلن يبطل الله ثواب عملهم ذلك، ولا يدعهم بغير
جزاء منه لهم عليه ولكنه يجزل لهم الثواب عليه ويسني لهم الكرامة والجزاء)
[جامع البيان عن تأويل آي القرآن (4/56ـ57)].
وقال تعالى: ((من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة،
ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)) [النحل: 97].
وفي هذه الآية وعد من الله تعالى لعبده المؤمن الذي يعمل الصالحات ـ وهي
شاملة لكل عمل يرضي الله تعالى ـ بأن يحييه حياة طيبة، وهي حياة العز
والاطمئنان والطاعة والرضا والخير والنصر على الأعداء وغير ذلك من الحياة
الموصوفة بأنها طيبة.
قال سيد قطب رحمه الله: (وأن العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه
الأرض، لا يهم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال، فقد تكون به وقد لا يكون
معها، وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة في حدود
الكفاية فيها الاتصال بالله والثقة به والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه،
وفيها الصحة والهدوء والرضا والبركة وسكن البيوت ومودات القلوب، وفيها الفرح
بالعمل الصالح وآثاره في الضمير وآثاره في الحياة، وليس المال إلا عنصراً
واحداً يكفي منه القليل حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند الله وأن
الحياة الطيبة في الدنيا لا تنقص من الأجر الحسن في الآخرة) [في ظلال القرآن
(14/2193)].
يظهر من هذه الآية الكريمة أن ثمار العمل الصالح. ومنه التطوع ـ تعود إلى
صاحبها في الدنيا والآخرة، ومن أعظم ما تكون به الحياة طيبة بالنسبة للمؤمن
أن ترتفع راية الإسلام ويعز أهله، وتهوي راية الكفر ويذل أهله، ولا يكون ذلك
إلا لعباد الله الصالحين المحافظين على الأعمال الصالحة، كما أن من أفضل
الأجر عند الله أجر الشهيد في سبيل الله الذي يتمنى أن يعود إلى الدنيا ليقتل
مرات لما رآه من الثواب الذي اختصه الله به، وقد مضى.
ولقد جعل الله تعالى التقرب إليه بالنوافل سبباً في حبه لعبده المتقرب إليه،
الحب الذي يصل معه العبد إلى درجة التوفيق والتسديد لقلبه وجوارحه، ولا يفكر
إلا في طاعة الله ولا يتحرك إلا فيما يرضيه عز وجل، كما قال صلى الله عليه
وسلم فيما يرويه عن
ربه: (وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه
الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها،
ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) [البخاري 6502 فتح الباري
(11/340)].
وإن الذي يحافظ على نوافل الطاعات، لا بد أن يكون قد حافظ على الفرائض من باب
أولى، لما يعلم من العقاب على تركها، بخلاف النوافل فإنها يثاب عليها ولا
يعاقب عليها. وقد مضى في نفس الحديث الآنف الذكر قوله تعالى: (وما تقرب إليّ
عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه).
لذلك كانت نوافل الطاعات بمنزلة الحائط الذي يبنى خارج الدار لسترها وصد
اللصوص المقتحمين، والفرائض بمنزلة الدار، والذي بنى الحائط من أجل الدار لا
يفرط في الدار وصيانتها وإحكام بنائها.
و الذي يحافظ على النوافل يصد عن نفسه الشيطان من أن يوسوس له بترك الفرائض
أو النقص منها، لأنه إذا كان ملازماً للنافلة –التي لا عقاب عليه - لأجل
ثوابها لا بد أن يلازم الفرائض ملازمة أشد، لما يخافه من العقاب على تركها أو
نقصها.
ولكنه مع ذلك الحرص وتلك الملازمة بشر، قد تحصل له غفلة فيفوته إتمام بعض
الفرائض، فإذا فاته شيء من ذلك فإن ربه سبحانه يتفضل فيجبر له ذلك النقص بما
قدمه في حياته من تطوع.
قال ابن حجر رحمه الله: "وأيضاً فإن من جملة ما شرعت له النوافل جبر الفرائض
كما صح في الحديث الذي أخرجه مسلم: "انظروا هل لعبدي من تطوع فتكمل به
فريضته" الحديث بمعناه، فتبين أن المراد من التقرب بالنوافل أن تقع ممن أدى
الفرائض لا من أخل بها) [فتح الباري (11/343)].
ونص الحديث الذي أشار إليه الحافظ رحمه الله ـ وهو من حديث أبي هريرة : (إن
أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح،
وإن فسدت فقد خاب وخسر، وإن انتقص من فريضة قال الرب: انظروا هل لعبدي من
تطوع فيكمل بها ما انتقصت من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك) [أبو داود
(1/540) والترمذي رقم الحديث 411، تحفة الأحوذي (2/462) صحيح الجامع الصغير
للألباني (2/184)
هذا ولم يهتد الكاتب إلى الحديث في صحيح مسلم الذي عزاه إليه الحافظ رحمه
الله].
والإكثار من الأعمال الصالحة ـ النافلة ـ مطلوب، ولكنه يجمل بمن أراد دوام
القرب من ربه أن يداوم على طاعته، ولا ينبغي أن يأتي بعمل صالح يرضي به الله
تعالى ثم ينقطع عنه، لا سيما إذا كان من النوافل المؤكدة والمرغب فيها.
لذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته أن يعملوا ما هو في وسعهم حتى يداوموا عليه، ولا
يملوا فينقطعوا عن ذلك، وهذا الانقطاع يحرم المؤمن من الاتصال الدائم بالله.
ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنهـا أنها قالت: كان لرسول الله صلى الله
عليه وسلم حصير وكان يحجره من
الليل (أي يتخذه حجرة) فيصلي فيه فجعل الناس يصلون بصلاته، ويبسطه بالنهار
فثابوا ذات ليلة فقال: (يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله
لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل) (وكان آل
محمد إذا عملوا عملاً أثبتوه) [صحيح مسلم (1/540)].
قال النووي رحمه الله: (وفيه الحث على المداومة على العمل، وأن قليله الدائم
خير من كثير ينقطع، وإنما كان القليل الدائم خيراً من الكثير المنقطع، لأن
بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والإخلاص والإقبال على
الخالق سبحانه وتعالى، ويثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع
أضعافاً كثيرة) [شرح النووي على مسلم (6/71)].
هذه هي ثمار المحافظة على نوافل الطاعات: دوام الطاعة والذكر والمراقبة
والنية والإخلاص والإقبال على الخالق وزيادة الأجور ومضاعفتها، والذي يجاهد
نفسه على ذلك جديرٌ أن يجاهد في سبيل الله.
الوجه الثاني: ذكر بعض النوافل بأعيانها وبيان أثرها في تزكية النفس
وتطهيرها:
طرق الخير التي يثاب المسلم على فعلها لا تحصى كثيرة. وقد عني بها علماء
المسلمين في كتبهم مستدلين عليها من الكتاب والسنة. وقد سبق الكلام على حث
الكتاب والسنة على فعل الخير عموماً، وقد ذكر الإمام النووي رحمه الله في أول
باب: "بيان كثرة طرق الخير" في كتابه رياض الصالحين هذه الآيات: ((وما تفعلوا
من خير فإن الله به عليم)) [البقرة: 215]، ((وما تفعلوا من خير يعلمه الله))
[البقرة: 197]. ((من عمل صالحاً فلنفسه)) [الجاثية: 15]. ثم ذكر أحاديث شاملة
لكثير من أفراد الطاعات [رياض الصالحين ص68].
وهي تعتبر أمثلة، وإلا فإن النصوص في ذلك لا تحصى كما سبق، وبمراجعة أبواب
رياض الصالحين ـ وحده يظهر للقارئ تلك الكثرة فكيف وهو ـ أي رياض الصالحين قد
اختصرت فيه نصوص قليلة من القرآن الكريم وكذلك أحاديث من كتب قليلة من كتب
الحديث.
لذلك لا يتحمل هذا البحث التنصيص على كثير من طرق الخير التي تزكي المسلم
وتصله بربه، فيكون بذلك أهلاً للانخراط في سلك المجاهدين في سبيله، ولكن لا
بد من التنصيص على بعض تلك الطاعات وحكم غير ما لم يذكر حكم ما ذكر، وإن
تفاوتت الطاعات في الثواب بحسب الوقت والحاجة وما أشبه ذلك.
(128)
أثر قراءة القرآن بتدبر وسماعه في جهاد النفس
[تابع لملأ الفراغ بمنهج الله]
تلاوة القرآن الكريم مأمور بها عبادة الله، إذ هو أفضل كلام يتعبد به في
الصلاة وغيرها، لأنه كلام الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ((إنما أمرت أن
أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين وأن
أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين))
[النمل: 91ـ92].
وتلاوته شاملة لقراءته مطلقاً، وإن كان السياق هنا يدل على قراءته على الناس
لتبليغهم وإنذارهم [انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/378)].
وإذا كانت تلاوة القرآن وسيلة الدعوة إلى الله فإن كونها وسيلة لتزكية نفس
القارئ من باب أولى [انظر في ظلال القرآن (20/2670)].
ولقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة قارئ القرآن الحاذق في حفظه وقراءته، كما بين
الثواب الذي يجزله الله لقارئه الذي يشق عليه، كما في حديث قالت: (قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع
فيه (أي في تلاوته لضعف حفظه أو قراءته) وهو عليه شاق له أجران" [البخاري:
رقم 4937 فتح الباري (8/691) ومسلم (1/459)]. وفي رواية "والذي يقرأ وهو يشتد
عليه أجران").
ويكفي قارئ القرآن فضلاً استماع الله لصوته الحسن بكلامه تعالى، كما في حديث
أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لم يأذن الله لشيء ما أذن لنبي
أن يتغنى بالقرآن) (يريد يجهر به) [البخاري رقم 5023 ، فتح الباري (9/68)].
وتأمل الفرق البعيد بين قارئ القرآن (لا سيما العامل به) وغيره في هذا المثال
النبوي الذي تضمنه حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : (مثل
المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا
يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي لا يقرأ
القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر) [البخاري رقم 5427 ، فتح الباري
(9/555) ومسلم (1/549)].
وعن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: (تعلموا هذا القرآن فإنكم تؤجرون بتلاوته بكل
حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول: بألم، ولكن بألف، ولام، وميم، بكل حرف عشر
حسنات…) [الدارمي (2/308) قال المحشي: الحديث هنا موقوف على عبد الله بن
مسعود وقد روى نحوه الترمذي مرفوعاً، وقال: حسن صحيح غريب، وهو قطعة من حديث
طويل، رواه الحاكم عن إبراهيم البري عن أبي الأحوص عنه مرفوعاً، وقال: تفرد
به صالح بن عمر عنه، وهو صحيح].
ولقد أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الفضل العظيم لقراءة كتاب الله، فبالغ بعضهم
في قراءته ليستكثر من الحسنات، وكان يقرأه كله في ليلة واحدة ـ فأنكر ذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، لما فيه من تفويت بعض حقوق نفسه وحقوق أهله، وما ينبني
عليه من أثر العجز عنه والاستمرار عليه، وسبق أن أحب العمل أدومه وإن قلَّ ـ
فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأه في شهر فقال: إنه يطيق أكثر من ذلك، فأمره أن
يقرأه في سبع ونهاه عن أن يزيد عليها.
عن عبد الله بن عمرو عنهـما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اقرأ القرآن في شهر) قلت: إني
أجد قوة… حتى قال: (اقرأه في سبع ولا تزد على ذلك) [البخاري رقم 5054، فتح
الباري (9/95) ومسلم (3/814)].
وفي رواية (قال: وكيف تختم؟ قلت: كل ليلة) الحديث [البخاري (9/94)].
ولا بد للقارئ أن يتدبر كلام الله ويتفهم مراميه، ليحقق الحكمة من إنزاله،
كما قال تعالى: ((كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته، وليتذكر أولوا
الألباب)) [سورة ص: 29].
و بتدبر المؤمن كتاب الله ينجو من مشابهة أولئك المنافقين الذين أنكر الله
عليهم عدم تدبرهم الذي كان من أثره تغييرهم أوامر الله ورسوله، التي تعلمونها
منه صلى الله عليه وسلم قال تعالى: ((أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه
اختلافاً كثيراً)) [النساء: 82].
وقال تعالى: ((أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها)) [محمد: 24].
وقال تعالى: ((وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون)) [الأعراف:
204].
وبمداومة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قراءة القرآن وتدبره والإنصات له وتطبيقه،
وصلوا إلى تلك القمة العالية في التربية والتزكية.
قال محمد رشيد رضا ـ رحمه الله ـ: فتربيته الصحابة التي غيرت كل ما كان
بأنفسهم من مفاسد الجاهلية، وزكتها تلك التزكية التي أشرنا إليها آنفاً
وأحدثت أعظم ثورة روحية اجتماعية في التاريخ، إنما كانت بكثرة تلاوة القرآن
في الصلاة وتدبره في غير الصلاة (وفي الصلاة أيضاً من باب أولى) وربما كان
أحدهم يقوم الليل بآية واحدة يكررها متدبراً لها، وكانوا يقرؤونه في كل حال
حتى مستلقين ومضطجعين كما وصفهم الله بقوله: ((الذين يذكرون الله قياماً
وقعوداً وعلى جنوبهم)) [آل عمران:191]. وأعظم ذكر الله تلاوة كتابه المشتمل
على ذكر أسمائه الحسنى وصفاته المقدسة وأحكامه وحكمه وسننه في خلقه وأفعاله
في تدبير ملكه كما تقدم) [الوحي المحمدي ص163].
عرض الإنسان نفسه على القرآن
ليعلم ما يرضى الله منه فيعمله، وما يغضبه فيتجنبه:
وعندما يقرأ المؤمن القرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى لهداية البشرية في
هذه الحياة إلى صراطه المستقيم، كما قال تعالى: ((إن هذا القرآن يهدي للتي هي
أقوم)) [الإسراء: 19]، عندما يقرأ المؤمن هذا القرآن، وهو يذكر صفات المؤمنين
ويمدحها ويثني عليها ويدعو للاتصاف بها، وكذلك يذكر صفات أعداء الله من
الكافرين والمنافقين ويذمها ويحذر منها، فإنه بذلك يعلم أهو من عباد الله
المؤمنين؟ أهو سائر في طريقهم، أم يزوغ عنه هنا وهناك؟ وبذلك يستطيع أن يقوم
نفسه في إيمانه وسلوكه ومعاملاته، وفي كل شأن من شؤون حياته.
قال شيخنا العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: (وهذه الآية -يعني
آية الإسراء التي سبق ذكرها قريباً- الكريمة أجمل الله جلّ وعلا فيها جميع ما
في القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها، فلو تتبعنا تفصيلها على
وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى
خيري الدنيا والآخرة). [أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/409)].
ألا ترى ماذا قالت عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن خلق رسول الله صلى الله
عليه وسلم ؟
قالت للسائل: ألست تقرأ القرآن؟ قال: قلت: بلى، قالت: (فإن خلق نبي الله صلى
الله عليه وسلم
كان القرآن) [صحيح مسلم (1/513) وأورد ذلك بن كثير في تفسير قوله تعالى:
(وإنك لعلى خلق عظيم) في أحاديث متعددة].
وقال ابن كثير رحمه الله: ومعنى هذا أنه عليه الصلاة والسلام صار امتثال
القرآن أمراً ونهياً سجية له وخلقاً تطبعه وترك طبعه الجبلي، فمهما أمره
القرآن فعله ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم،
من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكل خلق جميل) [تفسير القرآن العظيم
(4/402)].
وفي القرآن الكريم ما يقوي الإيمان، ويدعو إلى البذل، ويبين صفات المجاهدين
التي يجب أن يتحلى بها من يريد أن يقوم بالجهاد في سبيل الله… وكلما أكثر
الإنسان من قراءة القرآن ازداد علماً وعملاً، وحصلت له التزكية التي نزل
القرآن الكريم من أجلها، وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم للقيام بها، كما قال تعالى: ((هو الذي
بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليه آياته ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب
والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)) [الجمعة: 2].
وهذا ما دعا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن يقول: (إذا سمعت الله يقول: ((يا أيها
الذين آمنوا..)) فأصغ لها سمعك، فإنه خير تؤمر به أو شر تصرف عنه) [زاد
المعاد لابن القيم (1/113)].
(129)
أثر صلاة التطوع في جهاد النفس
[تابع لملأ الفراغ بمنهج الله]
الصلوات المفروضة فرض عين هي الصلوات الخمس التي فرضها الله على هذه الأمة
خمساً، وجعل ثوابها خمسين ـ الحسنة بعشر أمثالها ـ وقد سبق أنها ركن من أركان
الإسلام، وهي الركن الوحيد الذي ربط الله به المسلم خمس مرات في يومه وليلته.
ولعظم شأن الصلاة وما تشتمل عليه من معانٍ تزكي المؤمن وتطهره، شرع الله
سبحانه للمؤمن غيرها من الصلوات التي ترافقها قبل الفرض وبعده أو قبله فقط،
وهي التي تسمى بالسنن الراتبة، لتكون القبلية مهيئية صاحبها للإقبال إلى الله
تعالى في الفريضة، ولتكون البعدية مذكرة له بدوام ارتباطه به سبحانه، ولتكون
كلها ـ القبلية والبعدية ـ مكملة لما قد يحصل عليه من نقص في فريضته كما مضى.
قال ابن قدامة رحمه الله ـ مبيناً السنن الراتبة ـ (وهي عشر ركعات: ركعتان
قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان
قبل الفجر) [زاد المعاد (2/102) المغني (2/93)]…
ورأى بعض العلماء أن الراتبة قبل الظهر أربع، ورأى بعضهم أن للعصر راتبة وهي
أربع، ورجح ابن قدامة أن لا راتبة للعصر، وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم حث عليها. [المغني
(2/93)]
وعلى كلٍ فهي عشر على القول الأول، و أربع عشرة أو ست عشرة ركعة، على ما ذكر
بعده، ومن السنن الراتبة ركعتان أو أربع ركعات بعد صلاة الجمعة.
كما شرع للمؤمن صلوات أخرى غير الراتبة، مثل قيام الليل، وصلاة التراويح في
رمضان، والوتر، وسنة الضحى، وصلاة العيدين، وصلاة الاستسقاء، وصلاة الكسوف،
وصلاة الجنازة ـ وهي فرض كفاية ـ ولكنها تصبح في حق من لم تجب عليه تطوعاً،
وركعتين قبل صلاة المغرب بعد الأذان، وركعتي تحية المسجد لمن أراد الجلوس
فيه، وركعتي صلاة الاستخارة. [المغني (2/93ـ100)].
ولا حاجة لذكر النصوص الواردة في هذه النوافل ومن أراد أن يطلع عليها فليرجع
إلى كتب الحديث وكتب الفقه التي فصلت ذلك تمام التفصيل. [انظر مثلاً زاد
المعاد (2/102 ـ 121) وكذا (2/150ـ156)].
و المقصود ذكر تلك النوافل التي شرعها الله تعالى لعبده المؤمن، منها ما هو
متكرر مع الفرض وبعضها آكد من بعض، ومنها ما يتكرر كل يوم ليلاً أو نهاراً،
ومنها ما يشرع لسبب من الأسباب ويشمل الجميع وصف التعيين فهي معينة كما ترى.
ولم يقتصر الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك، بل حثَّ أمته صلى الله عليه
وسلم على الإكثار من الصلاة ـ غير
المفروضة وغير النافلة المعينة ـ وبين صلى الله عليه وسلم أن الصلاة ترفع الدرجات، وتمحو
الخطايا، وتؤهل المكثر منها لمرافقته صلى الله عليه وسلم في الجنة.
كما ثبت في صحيح مسلم عن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال: (لقيت ثوبان مولى
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة، أو قال: قلت:
بأحب الأعمال إلى الله، فسكت، ثم سألته فسكت، ثم سألته الثالثة، فقال: سألت
عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا
رفعك الله بها درجة وحطّ عنك بها خطيئة"، قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء،
فسألته فقال لي مثل ما قال لي ثوبان.
وفي حديث ربيعة بن كعب الأسلمي، قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأتيته بوضوئه،
وحاجته فقال لي: "سل" فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: "أو غير ذلك" قلت:
هو ذاك، قال: "فأعني على نفسك بكثرة السجود". [الحديثان في صحيح مسلم
(1/353)].
ومع ملازمة الرسول صلى الله عليه وسلم التقرب إلى ربه بصلاة النافلة، إذ كان يقوم حتى ترم
قدماه، كما في الصحيحين من حديث المغيرة قال: إن كان النبي صلى الله عليه
وسلم ليقوم ليصلي حتى
ترم قدماه أو ساقاه فيقال له: فيقول: "أفلا أكون عبداً شكوراً" [البخاري رقم
1130 فتح الباري (3/14)، ومسلم (4/2171)].
مع ذلك كان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على أن ينال أصحابه هذا الفضل العظيم، لتزكية نفوسهم
وفوزهم بالقرب من الله تعالى وبحبه وتوفيقه، فكان يحذرهم من أن يثبطهم
الشيطان عن التنفل بالصلاة ـ ولا سيما صلاة الليل ـ فقد ذكر عنده صلى الله
عليه وسلم رجل نام
ليله حتى أصبح (أي لم يقم الليل) فقال: "ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه".
[البخاري رقم 3270 فتح الباري (6/335) ومسلم (1/537)].
وأوضح صلى الله عليه وسلم حرص الشيطان على حرمان المسلم من هذا الفضل العظيم فقال: "يعقد
الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدةٍ: عليك
ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن
صلى انحلت عقده، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان".
[البخاري رقم 1142 فتح الباري (3/24) ومسلم (1/538)].
وكان صلى الله عليه وسلم لشدة حرصه على أن لا يحول الشيطان بين أصحابه وبين فضل الله العظيم
يتفقد أقرب المقربين إليه، ويحثهم على قيام الليل، كما في حديث علي بن أبي
طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت النبي عليه السلام ليلة،ً فقال: "ألا
تصليان" فقلت: يا رسول الله أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا،
فانصرف حين قلنا ذلك، ولم يرجع إليّ شيئاً، ثم سمعته وهو مولٍ يضرب فخذه وهو
يقول: (وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً) [البخاري رقم 1127، فتح الباري (3/10)
ومسلم (1/537) والآية من سورة الكهف رقم: 54].
ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسارعون إلى الإكثار من صلاة التطوع حتى تتعب
أجسامهم، فيكاد يسقط أحدهم من الإعياء، ولكنه يشعر بالراحة والاطمئنان، فلا
يبالي تعب جسمه، فيمد الحبل ليتعلق به عند الإعياء، فيشفق عليهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ويأمرهم بفعل ما يطيقون.
ففي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين ساريتين، فقال:
"ما هذا الحبل"؟ قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : "لا،
حلوه ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد". [البخاري رقم 1150، فتح الباري
(3/36) ومسلم (1/541)].
والأحاديث والآثار الواردة في حرص الرسول صلى الله عليه وسلم وحرص أصحابه على صلاة النافلة
أكثر من أن تحصى فليعد إليها من أراد. [انظر مثلاً أول الجزء السادس من كتاب
جامع الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم للعلامة الأثير الجزري مطبعة الملاح1392هـ.
ويتضح مما مضى أن من آثار المحافظة على صلاة التطوع محبة الله تعالى لعبده
وتوفيقه إياه لعمل ما يرضيه عنه، وأنها تحقق للعبد شكر لله سبحانه، وترفع
درجاته عنده، وتمحو خطاياه، وتؤهله للنعيم الدائم: الجنة التي فيها ما لا عين
رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأنها من أهم أسباب مرافقة الرسول صلى
الله عليه وسلم
وكفى بذلك وغيره تزكية للنفس وتطهيراً لها وإعدادها للجهاد في سبيل الله ورفع
رايته.
هذا وإن من أراد أن ينصب نفسه للجهاد في سبيل الله والدعوة إليه، فلا بد أن
يعلم أنه معرض للابتلاء وكره الناس ووقوفهم ضده ومحاولتهم إغراءه بشتى أنواع
المغريات، ليسكت ويعرض عنهم ويتركهم وما يشتهون، فإن لم يفد معه الإغراء
والترغيب فإنهم لا بد منتقلون إلى الوعيد والتهديد، ووضع كل العراقيل في
سبيله، بل سيعتدون على ماله وعرضه ونفسه، فلا يدعونه وشأنه، كما كان أمر جميع
الأمم مع الأنبياء، وكما وقع من كفار قريش والجزيرة العربية مع الرسول صلى
الله عليه وسلم،
والصبر على ذلك ليس سهلاً بل هو أمر شاق، بل إن البشر لا يطيق ـ بدون سند
رباني ـ مواصلة الدعوة والجهاد مع تكالب الأعداء عليه، والأعداء دائماً
كُثُر، وأعدى أعداء الإنسان وأقربهم إليه نفسه وهواه وشيطانه.
لذلك لا بد من زاد للصبر وعدة للسير ووقود للاستمرار، وما ذلك الزاد وتلك
العدة وهذا الوقود إلا اللجوء إلى الله والاعتماد عليه، وطلب العون منه
بالتقرب إليه، ولا سيما ـ في جوف الليل ـ عندما يأوي إلى فراشه بعد الأتعاب
والهموم والأحزان والعراك المتنوع، في هذا الوقت الذي يأخذ الإنسان يحدث نفسه
عما لاقاه وتحاول تثبيطه وتوهينه لتحول بينه وبين مواصلة الجهاد والكفاح
الدائمين حتى يلقى ربه.
هنا لا بد له أن يفزع إلى ربه ويقف بين يديه طالباً منه المدد والعون،
مستمداً منه القوة والعزم على الجهاد في سبيله، ذاكراً له بالتكبير الذي يملأ
جوانح نفسه بربه، فلا يهاب إلا إياه راكعاً وساجداً له، فلا يخضع لسواه،
مناجياً له بكتابه متدبراً معانيه فاقهاً لأوامره ونواهيه، عالماً أسراره
وحكمه، فيذهب عنه التعب، لارتياح نفسه بطاعة مولاه وتنزاح الوحشة عنه لأنسه
بمن يناجيه في جوف الليل الذي سكن فيه الناس إلى مضاجعهم نائمين غافلين عن
الله، أو صاخبين فيه على منكراتهم غير مبالين.
عند ذلك تتجدد الهمة وتقوى العزيمة وتخلص النية، فيتمثل أمامه أنبياء الله
ولسان حالهم جميعاً يقول للأعداء: ((إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما
تشركون من دونه، فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم،
ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم)) [هود: 54ـ56].
قال سيد قطب رحمه الله ـ عند قوله تعالى: ((إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً)) [المزمل:
5]: (وإن قيام الليل والناس نيام والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفاسفها،
والاتصال بالله، وتلقي فيضه ونوره والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه، وترتيل
القرآن والكون ساكن، وكأنما هو يتنزل من الملأ الأعلى، وتتجاوب به أرجاء
الوجود في لحظة الترتيل بلا لفظ بشري ولا عبارة، واستقبال إيحاءاته وإيقاعاته
في الليل الساجي.
إن هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل والعبء الباهظ والجهد المرير الذي
ينتظر الرسول وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل، وينير القلب في الطريق
الشاق الطويل، ويعصمه من وسوسة الشيطان، ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا
الطريق المنير). [في ظلال القرآن (29/3745)].
(130)
أثر صوم التطوع في جهاد النفس
[تابع لملأ الفراغ بمنهج الله]
سبق أن ذكرنا أن صيام رمضان أحد أركان الإسلام، وأنه ذو أثر عظيم في تزكية
النفس وتطهيرها، وأنه يؤدي بالصائمين إلى تقوى الله.
وإن نفل الصوم كذلك، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر من صيام التطوع، ففي حديث أنس
رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر من الشهر حتى يظن أنه لا يصوم منه، ويصوم حتى
نظن أنه لا يفطر منه شيئاً، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصلياً إلا رأيته،
ولا نائماً إلا رأيته). [البخاري رقم 1972 فتح الباري (4/115) ومسلم
(2/812)].
وصام صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وحث على صيامه، كما في حديث ابن عباس عنهـما قال: قدم
النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: "ما هذا"؟ قالوا:
قالوا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال:
"فأنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه". [البخاري رقم 2004 فتح الباري
(4/244) ومسلم (2/795].
وكان صلى الله عليه وسلم يكثر الصيام في شهر شعبان، كما في حديث عائشة رضي
الله عنهـا قالت: (كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في
شعبان). [البخاري رقم 1969 فتح الباري (4/213) ومسلم (2/810)].
وحث صلى الله عليه وسلم على صيام ست من شهر شوال، وبين أن من صامها بعد رمضان فكأنما صام
الدهر، ففي حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه : أن رسول صلى الله عليه
وسلم قال: "من صام رمضان وأتبعه
بست من شوال كان كصيام الدهر" [مسلم (2/822)].
كما كان صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم الإثنين ويوم الخميس، كما في حديث عائشة. [جامع
الأصول (ت م س) (6/322)]. وكان يأمر أصحابه صلى الله عليه وسلـم بصيام أيام
الليالي البيض، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر. [جامع
الأصول (6/325) ومسلم (2/817)]، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "صوم ثلاثة أيام صوم الدهر كله"
[البخاري رقم 1979 فتح الباري (4/224)].
وللصيام أثر كبير في تزكية النفس وتطهيرها، لما فيه من التزام المؤمن وصبره
عما هو حلال له في الأصل من أجل الله سبحانه، ولذلك أبهم الله أجر الصوم وكان
فضل الصوم عند الله عظيماً.
كما أن الصائم القادر على منع نفسه من الطعام والشراب والجماع التي هي من
أكثر الأمور التي تتوق إليها نفس المسلم ـ لا سيما عند حاجته إليها ـ قادر
كذلك على الصبر على أذى الناس وعدم الرد بالمثل، والصوم يقي صاحبه من الأوضار
في الدنيا ومن النار في الآخرة.
ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصيام جنة، فإذا كان صوم يوم
أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم، والذي
نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشهوته من
أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها" [البخاري رقم 1894 فتح
الباري (4/103) ومسلم (2/806ـ807)].
وخص الله الصائمين في الدنيا، بباب في الجنة، إكراماً لهم لا يدخله سواهم،
جزاء لهم وميزه باسم: "الريان"، كما في حديث سهل رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: "إن في
الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد
غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق
فلم يدخل منه أحد". [البخاري رقم 1896 وفتح الباري (4/111) ومسلم (2/808)].
ولما في الصوم من تزكية وتطهير وأجر عظيم، اشرأبت نفوس أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم
إليها، أراد بعضهم أن يصوم الدهر كله، فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك رفقاً بأصحابه
من أن لا يطيقوا ذلك كغيره من العبادات، وبين لهم صلى الله عليه وسلم أن صوم ثلاثة أيام من كل
شهر صوم الدهر كله (أي لأن الحسنة بعشر أمثالها)
فلما لم تطب النفس بذلك، ألزمهم بعدم الزيادة على صوم داود: صيام يوم وإفطار
يوم، وأخبرهم أن ذلك هو أحب الصيام إلى الله، ففي حديث عبد الله بن عمرو بن
العاص عنهـما قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : "إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل"؟ فقلت:
نعم، قال: إنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونفهت له النفس (أي تعبت) لا صام
من صام الدهر، "صوم ثلاثة أيام صوم الدهر كله". قلت: فإني أطيق أكثر من ذلك،
قال: فصم صوم داود عليه السلام، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ولا يفر إذا
لاقى" [البخاري رقم 1979 فتح الباري (4/224) ومسلم (2/814)]. وفي رواية:
"وأحب الصيام إلى الله صيام داود"
تأمل كيف ربط النبي صلى الله عليه وسلم بين جهاد النفس بالعبادة وجهاد الأعداء في سبيل الله.
فقال: "ولا يفر إذا لاقى"، فإن في ذلك تنبيهاً على أن التقرب إلى الله إذا
أداه صاحبه على الوجه المطلوب الذي يرضي ربه، فإنه يثمر القيام بحق الله في
الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله مع الثبات وعدم الفرار.
وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يبيتون ركعاً سجداً، مبتلة لحاهم بدموعهم
خشية من الله، فإذا أصبح الصباح فلاقوا العدو استبطأ أحدهم أكل تمرات في يده
تشوقاً إلى لقاء الله، فيرمي تمراته ويدخل في الصف ويقاتل حتى يقتل، والذين
كانوا يتزاحمون على الصف الأول في الصلاة، كانوا يتزاحمون على الصف الأول عند
اللقاء أيضاً.
وفي الصيام ـ كالحج ـ شبه بالجهاد في سبيل الله، لما فيه من الجوع والعطش
والبعد عن الأهل وغير ذلك مما يحتاج إلى صبر وجهد كثير.
(131)
أثر تطوع الحج والعمرة في جهاد النفس
[تابع لملأ الفراغ بمنهج الله]
فُرِض الحج على المسلم بشروطه المبينة في كتب الفقه مرة واحدة في العمر، أما
العمرة فاختلف في وجوبها، وليس البحث الآن بصدد بيان حكمها، ولكن على القول
بوجوبها فإنها كذلك واجبة مرة واحدة في العمر، ويبقى باب التطوع مفتوحاً
بالحج كل عام، وبالعمرة في أي وقت من الأوقات ـ وإن كره بعضهم تكرارها في
العام وكره بعضهم فعلها في بعض الأوقات، كأيام التشريق مثلاً.
والحديث الصحيح يدل على أن الإكثار من العمرة مُزَكٍّ ومطهر وسُلَّمٌ إلى
ثواب الله.
ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) [البخاري رقم 1773 فتح الباري
(3/597) ومسلم (2/983)].
وفي حديثه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق
رجع كيوم ولدته أمه). [البخاري رقم 1819 فتح الباري (4/20) ومسلم (2/983)].
هذا مع ما يشتمل عليه الحج والعمرة من مشاق السفر ومفارقة الأهل والوطن، وما
يتضمنه كل منهما من أذكار وطاعات كثيرة.
والحديثان شاملان لحج الفرض وحج التطوع لعموم لفظهما، وإذا كانت العمرة إلى
العمرة تكفران ما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، والحاج الذي
يؤدي حجه كما يرضي ربه يرجع كيوم ولدته أمه، فإن ذلك يظهر ما للحج والعمرة من
التزكية والتطهير للنفس البشرية.
(132)
أثر ذكر الله تعالى في جهاد النفس
[تابع لملأ الفراغ بمنهج الله]
وذكر الله تعالى من أعظم الطاعات التي تجعل العبد متصلاً بربه في كل أوقاته،
وليس المقصود به تحريك اللسان بالأذكار الواردة شرعاً فقط، بل ذلك مع تأمل
الأذكار بالقلب وتفهم معانيها والاستفادة منها بامتثال أوامر الله واجتناب
نواهيه، وامتلاء القلب من خوف الله ومحبته سبحانه.
وقد لا يتحرك اللسان بالذكر، ولكن القلب لا يغفل عن الله، وعلامة ذلك أن
يتقيد المسلم في كل أعماله بما شرع الله، فإذا حدثته نفسه بترك واجب ذكر ال،له
فأدى ذلك الواجب، وإذا حدثته نفسه بارتكاب محرم ذكر الله، فأقلع عن ذلك
المحرم، وهكذا تجده ذاكراً لله في كل أحيانه ولعل هذا من معاني قوله تعالى:
((واذكر ربك إذا نسيت..)) [الكهف: 24].
ولهذا أمر الله تعالى المؤمنين بالإكثار من الذكر، كما قال تعالى: ((يا أيها
الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً. هو الذي يصلي
عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور، وكان بالمؤمنين رحيماً))
[الأحزاب: 41ـ43].
وتأمل كيف ينقلب مَن يذكر ربه من حالةِ مرتكبٍ للفاحشة، إلى حالةِ مطيعٍ عامل
مستغفر مغفور له، مثابٍ عند ربه، قال تعالى: ((وسارعوا إلى مغفرة من ربكم
وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين. الذين ينفقون في السراء والضراء
والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين، والذين إذا فعلوا
فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا
الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ، أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات
تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين)) [آل عمران: 133-136].
وكلما ذكر المؤمن ربَّه ذكره ربُّه، وأين ذكر العبد المخلوق الفقير إلى الله
ربه من ذكر الله الخالق الغني عبده؟ قال تعالى: ((كما أرسلنا فيكم رسولاً
منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم، ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم
تكونوا تعلمون، فاذكروني أذكركم ، واشكروا لي ولا تكفرون)) [البقرة: 152].
وفي الحديث القدسي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه
وسلم : يقول الله تعالى: (أنا
عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن
ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منهم. وإن تقرب إليّ شبراً تقربت إليه
ذراعاً، وإن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته
هرولة). [البخاري رقم 7405 ، فتح الباري (13/384) ومسلم (4/2061)].
وذكر الله تعالى يلين قلوب المؤمنين ويجعلها ساكنة مطمئنة إلى ربها، كما أنه
يذكرها عظمته فتخافه، ويترتب على ذلك المسارعة بطاعته والبعد عن معصيته. قال
تعالى: ((الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين
يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ، ذلك هدى الله يهدي به من
يشاء ، ومن يضلل فما له من هادٍ)) [الزمر: 23].
وقال تعالى: ((فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين ، الذين إذا ذكر
الله وجلت قلوبهم، والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم
ينفقون)) [الحج: 34 ـ 35].
وقال تعالى: ((إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت
عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون)) [الأنفال: 2].
وقال تعالى: ((الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن
القلوب)) [الرعد: 28]
وكما حث الله تعالى على ذكره عموماً في الآيات السابقة وأمثالها مثل قوله:
((إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب،
الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السموات
والأرض: ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك..)) [آل عمران: 190 ـ191].
فإنه سبحانه قد حث على ذكره في عبادات كثيرة مثل الحج كما قال تعالى: ((وأذن
في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فجٍ عميق، ليشهدوا
منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام))
[الحج/ 27 ـ 28].
وقال تعالى: ((فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ، واذكروه
كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين)) [البقرة: 198]، وقال: ((فإذا قضيتم
مناسككم فاذكروا الله كذركم آبائكم أو أشد ذكراً)) [البقرة: 200]
ومثل الجهاد في سبيل الله كما قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم
فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون)) [الأنفال: 45].
وذكر الله تعالى من أهم أسباب طلب مرضاة الله ومغفرته، ومن أعظم ما يدفع
العبد إلى الإكثار من طاعة الله والبعد عن معصيته، ولذلك كان من أعظم
العبادات تزكيةً للنفس وتطهيراً لها وعوناً عليها وعلى أعوانها.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن لله ملائكة يطوفون في الطرق
يلتمسون أهل الذكر، فإن وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم،
قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم وهو أعلم منهم:
ما يقول عبادي؟ قالوا: يقولون يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك، قال:
فيقول: هل رأوني، قال: فيقولون: لا والله ما رأوك، قال: فيقول: وكيف لو
رأوني؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيداً وأكثر لك
تسبيحاً، قال: يقول: فما يسألوني؟ قال: يسألونك الجنة، قال: يقول: وهل رأوها؟
قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ قال:
يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصاً وأشد لها طلباً وأعظم فيها
رغبة، قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال:
يقولون: لا والله ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها
كانوا أشد منها فراراً وأشد لها مخافة، قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم،
قال: يقول: ملك من الملائكة فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة، قال: هم
الجلساء لا يشقى بهم جليسهم) [البخاري رقم 6408 فتح الباري (11/208) ومسلم
(4/2069)]
والذكر رافع للدرجات محَّاءٌ للخطايا، والذي ترفع درجاته وتمحى خطاياه
باستمرار مفلح مزكٍ نفسه ومطهرها، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال:
(من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)
[البخاري رقم 6405 فتح الباري (11/206) ومسلم (4/2071)].
وفي حديثه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال (لا إله إلا الله وحده لا شريك
له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في كل يوم مائة مرة كانت له عدل
عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من
الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر
من ذلك) [البخاري 3293 فتح الباري (6/338) ومسلم (4/2071)].
وهنالك أذكار كثيرة شرع للمؤمن المحافظة عليها، منها المطلق ومنها المقيد
بعدد أو وقت أو بهما، كالذكر عند النوم والاستيقاظ منه، وأذكار الصلاة
كالتكبير والتسبيح والتحميد، والذكر بعد الصلاة، أو عند دخول المسجد أو
الخروج منه.
أو عند دخول المرحاض و عند الخروج منه، وعند السفر وعند الرجوع منه، وعند
النزول بمكان في السفر، وعند تناول الطعام والشراب أو الفراغ منهما. وعند
مباشرة الزوجة وعند دخول المنزل وركوب الدابة أو نحوها.
وفي مناسك الحج من وقت الإحرام إلى الانتهاء منه وهكذا... لو أراد الإنسان أن
يجمع تلك الأذكار ويحفظها ويعمل بها لما وجد وقتاً يخلو من ذكر الله، مع أن
ذلك ميسر وسهل لا يقتضي منه ترك عمله. وإذا ملّ من الذكر باللسان فإنه يستطيع
أن يذكر الله في كل حين بقلبه وسلوكه.
[يرجع في هذه الأذكار إلى الأمهات الست وغيرها من كتب الحديث، حيث تفرد لها
أبواب خاصة، وهناك كتب عني مؤلفوها بجمع الأذكار خاصة مثل الأذكار للنووي
والكلم الطيب لابن تيمية والوابل الصيب من الكلم الطيب لابن القيم وغيرها].
والذاكر الصادق النية هو رجل الجهاد في سبيل الله.
قال ابن القيم رحمه الله: (وفي الترمذي أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أنه
يقول: "إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاقٍ قرنه") [الوابل الطيب صفحة
50].
وقد عني ابن القيم رحمه الله ببيان فوائد الذكر في كتابه المذكور، ويكفي أن
تذكر منه هذه الجملة قال: (الخامسة والثلاثون أن الذكر ييسر للعبد وهو في
فراشه وفي سوقه وفي حال صحته وسقمه وفي حال نعيمه ولذته، وليس شيء يعم
الأوقات والأحوال مثله، حتى أنه ييسر للعبد وهو نائم على فراشه، فيسبق القائم
مع الغفلة فيصبح هذا وقد قطع الركب وهو مستلق على فراشه، ويصبح ذلك القائم
الغافل في ساقة الركب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) [الوابل الطيب صفحة64].
وقال رحمه الله: (ومن منازل ((إياك نعبد وإياك نستعين)) منزلة الذكر، وهي
منزلة القوم الكبرى التي منها يتزودون، وفيها يتجرون، وإليها دائماً يترددون.
والذكر منشور الولاية الذي من أعطيه اتصل ومن منعه عزل، وهو قوت قلوب القوم
الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبوراً، وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه
صارت بوراً ، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطرق، وماءهم الذي يطفئون به
التهاب الطريق، ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب والسبب
الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب.
وهو جلاء القلوب وصقالها، ودواءها إذا غشيها اعتلالها، به يزول الوقر عن
الأسماع والبكم عن الألسن، وتقشع الظلمة عن الأبصار، وبالذكر يصرع العبد
الشيطان كما يصرع الشيطان أهل الغفلة والنسيان.
قال بعض السلف: إذا تمكن الذكر من القلب، فإن دنا منه الشيطان صرعه كما يصرع
الإنسان إذا دنا منه الشيطان، فيجتمع عليه الشياطين يقولون ما لهذا؟ فيقال:
قد مسته الإنس وهو روح الأعمال الصالحة، فإذا خلا العمل عن الذكر كان كالجسد
الذي لا روح فيه) [مدارج السالكين (2/423)].