(136)
الجهاد في سبيل الله المطلب الثاني:
محاسبة النفس ومخالفتها
الأمر السادس: غرس حب الله وخوفه في
النفس:
الذي لا يحب الله مطلقاً ليس بمؤمن،
لأن المؤمن لا بد أن يحب الله، كما يحبه الله.
قال تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم
يحبهم ويحبونه )) [المائدة: 54].
والمؤمن يحب ما يحبه الله ورأسه الإيمان، ويبغض ما يبغضه الله ورأسه الكفر،
كما قال تعالى: (( ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم، وكره إليكم
الكفر والفسوق والعصيان )) [ الحجرات: 7 ].
بخلاف الكافر فإنه يحب ما يبغضه الله، ويبغض ما يحبه الله، قال تعالى: (( يا
أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن اسحبوا الكفر على
الإيمان )) [التوبة: 23].
وقال تعالى: (( وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى )) [فصلت:17].
وقد يحب الكافر ربه كما يحب غير ربه، ولكنها ليست المحبة المقصودة هنا، لأن
هذه المحبة محبة شركية، مثل أن يصلي إنسان لله ويصلي للوثن وهكذا..
وإنما المقصود العبودية، التي تقتضي الذل الكامل والخضوع المطلق والطاعة
التامة للمحبوب، والمؤمن الذي يذكر نعم الله عليه وأعظمها هدايته للإسلام
الذي لا يقبل الله ديناً سواه، يجب أن يجتهد ويبذل كل ما في وسعه أن يكون
الله تعالى أحب إليه من كل شئ، وإلا كان في إيمانه دخن.
ففي حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ثلاث من
كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب
المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في
النار) [البخاري رقم16 فتح الباري (1/60) ومسلم (1/66)].
وكل من يحبه الله، مثل الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يحبه الله، مثل
الإيمان، فمحبته تابعة لمحبة الله سبحانه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما
في حديث أنس أيضاً: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس
أجمعين ) [البخاري رقم15 فتح الباري (1/58) ومسلم (1/67)] لأن الرسول صلى
الله عليه وسلم أحب إلى الله من الناس أجمعين.
قال ابن القيم: مقام حب الله:
وأما المحبة الخاصة التي لا تصلح إلا
لله وحده، ومتى أحب العبد بها غيره كان شركاً لا يغفره الله، فهي محبة
العبودية المستلزمة للذل والخضوع، والتعظيم وكمال الطاعة وإيثاره على غيره،
فهذه المحبة لا يجوز تعلقها بغير الله أصلاً، وهي التي سوى المشركون بين
آلهتهم وبين الله فيها. كما قال تعالى: (( ومن الناس من يتخذ من دون الله
أنداداً يحبونهم كحب الله ، والذين آمنوا أشد حباً لله )) [البقرة: 165].
وأصح القولين أن المعنى يحبونهم كما يحبون الله. وسووا بين الله وبين أندادهم
في الحب، ثم نفى ذلك عن المؤمنين فقال: (( والذين آمنوا أشد حباً لله )) فإن
الذين آمنوا أخلصوا حبهم لله لم يشركوا به معه غيره. وأما المشركون فلم
يخلصوه لله.
والمقصود من الخلق والأمر إنما هو هذه المحبة، وهي أول دعوة الرسل وآخر كلام
العبد المؤمن الذي إذا مات عليه دخل الجنة، اعترافه وإقراره بهذه المحبة
وإفراد الرب بها، فهو أول ما يدخل به في الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا
إلى الله.
وجميع الأعمال كالأدوات والآلات لها، وجميع المقامات وسائل إليها، وأسباب
لتحصيلها وتكمليها، وتحصينها من الشوائب والعلل، فهي قطب رحا السعادة، وروح
الإيمان وساق شجرة الإسلام، ولأجلها أنزل الله الكتاب والحديد، فالكتاب هادٍ
إليها ودال عليها، ومفصل لها، والحديد لمن خرج عنها وأشرك فيها، مع الله
غيره، ولأجلها خلقت الجنة والنار.
فالجنة دار أهلها الذين أخلصوها لله وحده، فأخلصهم لها، والنار دار من أشرك
فيها مع الله غيره، وسوى بينه وبين الله، كما أخبر تعالى عن أهلها أنهم
يقولون في النار لآلهتهم (( تالله إن كنا لفي ضلال مبين ، إذ نسويكم برب
العالمين )) [الشعراء: 97ـ98 ، طريق الهجرتين ص225].
وغرس محبة الله تعالى في القلب بهذا المفهوم الشامل الذي وضحه ابن القيم ـ إذ
يعني العبادة بأكملها ـ يثمر في العبد الذي يجاهد نفسه على محبة الله أن
يستجيب لكل أوامر الله فيمتثلها، ولكل نواهي الله فيجتنبها، فلا يراه تاركاً
طاعة ولا آتياً معصيته، لأن تمكن محبة الله من القلب يأبى على صاحبه أن يدع
ما يحبه الله، أو يقدم على فعل ما لا يحبه الله، ولهذا كان دليل محبة الله
طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. كما قال تعالى: (( قل إن كنتم تحبون
الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم )) [آل عمران: 31].
قال ابن كثير:
"هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من
ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس
الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله، كما ثبت
في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من عمل عملاً ليس عليه
أمرنا فهو رد ) ولهذا قال: (( إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )) أي
يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم وهو أعظم من الأول".
[تفسير القرآن العظيم (1/358)].
وقال سيد قطب في ظلال هذه الآية:
"إن حب الله ليس دعوى باللسان، ولا
هياماً بالوجدان؛ إلا أن يصاحبه الاتباع لرسول صلى الله عليه وسلم والسير على
هداه، وتحقيق منهجه في الحياة، وأن الإيمان ليس كلمات تقال، ولا مشاعر تجيش،
ولا شعائر تقام، ولكنه طاعة الله والرسول، وعمل بمنهج الله الذي يحمله الرسول
صلى الله عليه وسلم". [في ظلال القرآن (3/378)].
فوصول العبد بنفسه إلى تقديم محبة الله على محبة غيره مهما كان ذلك الغير، من
أعظم ما يطوع النفس لخالقها سبحانه ويزكيها ويجعلها مهاجرة إليه سبحانه، في
جميع أوقاتها، وعلى قدر كمال المحبة لله ونقصها تكون طاعته تعالى وموافقته في
محبوباته.
قال ابن القيم:
"وكلما كانت المحبة أقوى، كانت
الموافقة أتم، قال الله تعالى: (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم
الله )) قال الحسن: قال قوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: إنا نحب ربنا
فأنزل الله تعالى هذه الآية". [طريق الهجرتين: 535ـ536].
ولا بد ـ مع محبة الله تعالى ـ من تمرين النفس على الخوف منه وحده، وليس
المراد الخوف الطبيعي، كالخوف من السبع ونحوه، إنما المقصود خوف العبودية،
خوف الخضوع الكامل، والذل المطلق، من جبار السموات والأرض، الذي إذا أراد
شيئاً كان، وهذا الخوف يجلبه تأمل المسلم في أسماء الله وصفاته، وآثارها في
الكون في الدنيا، ثم في الآخرة.
فمثلاً إذا تأمل المسلم اسمه "القدير" في مثل قوله تعالى: (( ولو شاء الله
لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير )) [البقرة: 20] وهي واردة في
المنافقين يمتليء قلبه خوفاً ورعباً من الله سبحانه وتعالى، الذي ليس قديراً
فقط على إذهاب ما أنعم به على الإنسان من نعم، كالسمع والبصر، بل إنه على كل
شئ قدير.
كذلك إذا تأمل نفس الاسم في سياق تهديد أعداء الله، الذين يسعون جادين في
الإضرار بأوليائه، حتى إنهم ليكرسون جهودهم متمنين أن يحرموهم أعظم نعمة أنعم
الله بها عليهم وهي نعمة الإسلام، كما قال تعالى: (( ود كثير من أهل الكتاب
لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم
الحق، فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير ))
[البقرة: 109]. إذا تأمل الإنسان ذلك يرتجف قلبه من خشية الله وخوفه سبحانه.
وتأمل قوله تعالى: (( ولكل وجهة هو موليها ، فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا
يأت بكم الله جميعاً، إن الله على كل شيء قدير.. )) [البقرة: 148]. ترى من
غير الله القدير يجرؤ أن يقول لخصمه، أو لمن يريد أن يهدده هذه العبارة؟ إلا
إذا كان أعمى البصيرة قابلاً لأن يكون محل سخرية الناس. فكيف إذا اجتمع مع
هذا الاسم العظيم اسم العليم في مثل قوله تعالى: (( يخلق ما يشاء وهو العليم
القدير )) [الروم: 54].
كذلك إذا تأمل المسلم اسمه الملك واسمه المهيمن واسمه العزيز، واسمه الجبار
واسمه المتكبر عظم في نفسه خوف الله تعالى: (( هو الله الذي لا إله إلا هو،
الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، سبحان
الله عما يشركون )) [الحشر: 23].
واقرأ هذه الآية بتدبر وتأمل، ثم سل قلبك عما اعتراه.. (( إن الذين كفروا
بآيات الله لهم عذاب شديد، والله عزيز ذو انتقام )) [آل عمران: 4].
فإذا لم يهتز اهتزازاً فاقرأ عليه الآية التي تليها.. وهي قوله: (( إن الله
لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء )) [آل عمران: 5].
وكذلك قوله تعالى: (( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من
المجرمون منتقمون )) [السجدة: 22].
وعلامة خوف الله سبحانه، أن يذكره العبد في الوقت الذي تحدثه نفسه بارتكاب ما
نهى الله عنه وليس عنده غير الله تعالى، فيقلع عن ذلك خوفاً منه، قال تعالى:
(( يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم،
ليعلم الله من يخافه بالغيب، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ))
[المائدة:94].
ولما كان الملائكة يخافون الله تعالى خوفاً تاماً لا نقص فيه، كان أثر ذلك أن
يطيعوه طاعة تامة ولا يعصونه مطلقاً، قال تعالى: (( ولله يسجد ما في السموات
وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون ، يخافون ربهم من فوقهم
ويفعلون ما يؤمرون )) [النحل: 49ـ50]. وقال: (( لا يعصون الله ما أمرهم
ويفعلون ما يؤمرون )) [التحريم:6].
ونهى الله تعالى المؤمنين أن يستجيبوا لتخويف أعداء الله عندما يخوفهم
الشيطان، وأمرهم بخوفه وحده، لأن ذلك هو مقتضى الإيمان، فقال تعالى: (( إنما
ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين )) [آل عمران:
175].
والذي يخاف الله في الدنيا يأمن في الآخرة جزاءاً وفاقاً: (( إنا نخاف من
ربنا يوماً عبوساً قمطريراً، فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً
)) [الدهر:10ـ11].
ومن خوف الله خوف عذابه الذي لا يقدر على مثله المخلوقون: (( فيومئذٍ لا يعذب
عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد )) [الفجر: 25ـ36].
قال ابن القيم رحمه الله:
"وقد أمر الله سبحانه بالخوف منه في
قوله: (( فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين )) [آل عمران: 175] فجعل الخوف
منه شرطاً في تحقق الإيمان ـ إلى أن قال ـ والمعنى إن كنتم مؤمنين فخافوني"
[طريق الهجرتين: 502].
فخوف الله تعالى من أعظم الأمور التي تحول بين النفس ومعصية الله سبحانه،
وتعين المؤمن على جهاد نفسه وتزكيتها وتطهيرها، وخشية الله وقاية للمسلم من
دخول النار، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ( لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع،
ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم ) قال الترمذي: "هذا حديث صحيح" [سنن
الترمذي: رقم الحديث 2413 ، تحفة الأحوذي (6/600)].
وها هو هذا الرجل يسيء الظن بعمله، ويسيء الفهم في قدرة الله عليه، فيلقى ربه
فيسأله عما حمله على فعله فيجيب: أن الحامل له مخافة الله، فينال مغفرته
سبحانه، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: ( أسرف رجل على نفسه فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال: إذا مت فأحرقوني
ثم اسحقوني ثم ذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر عليَّ ربي ليعذبني ما
عذاباً ما عذب به أحداً، قال ففعلوا ذلك، فقال للأرض: أدي ما أخذت فإذا هو
قائم، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: خشيتك يا رب، أو قال مخافتك، فغفر
له بذلك ) [صحيح مسلم (4/2110) النسائي (4/91) وانظر صحيح البخاري رقم الحديث
3478 فتح الباري (6/514)].
ومن دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما:
( اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك) قال الترمذي: هذا حديث
حسن غريب [الترمذي: تحفة الأحوذي (9/475) وقال الشارح: وأخرجه النسائي
والحاكم، وقال صحيح على شرط البخاري]. وقال الشارح: المباركفوري ـ : وأخرجه
النسائي والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري.
فإذا جاهد المؤمن نفسه على محبة الله المحبة الحقة، وعلى خوفه الخوف المطلق،
فإنه بذلك يحول بين نفسه وبين شهواتها الموبقة، ويرغمها على طاعة الله
سبحانه، وينتصر عليها وعلى أعوانها، بل ستصبح نفساً مطمئنةً بإذن الله.
(137)
الجهاد في سبيل الله المطلب الثاني:
محاسبة النفس ومخالفتها
الأمر السابع: التوبة إلى الله تعالى.
ومن أعظم الأمور التي تزكى بها النفس
وتطهر، حملها على ترك الذنب والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، فإن الإنسان بشر
والبشر يخطئ ويصيب ويطيع ويعصي، وليس العيب في الخطأ والمعصية مع التوبة،
وإنما العيب في الاستمرار على المعصية، فقد أذنب آدم عندما عصى ربه فأكل من
الشجرة ولكنه تاب، فتاب الله عليه وغفر له، وأذنب إبليس عندما امتنع من
السجود لآدم، وقد أمره الله به ولم يتب إلى الله، فلعنه الله وأبعده من
رحمته، وأطال عمره ليتحمل أوزاره وأوزار من يضلهم، إلى يوم القيامة.
والتوبة من الذنوب واجبة، أمر الله بها في كتابه، فقال: (( وتوبوا إلى الله
جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون )) [النور: 31].
ويجب أن تكون التوبة خالصة لله تعالى، متضمنة الرجوع الصادق إلى الله قال
تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا توبوا الله توبة نصوحا )) [التحريم: 8].
وأمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان هو صلى الله عليه وسلم يداوم عليها،
ففي حديث الأغر بن يسار المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : ( يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم
مائة مرة ) [مسلم (4/2075)].
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)
[البخاري رقم 6307، فتح الباري (11/101)].
وباب التوبة مفتوح، فلا يقنط العاصي من التوبة، ما لم تظهر علامات الساعة
القريبة من وقوعها، كطلوع الشمس من مغربها، وما لم يستيقن الموت كأن يغرغر،
كما في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب
مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها) [مسلم (4/2113)].
وفي حديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم،
قال: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) [الترمذي رقم 3603، تحفة
الأحوذي (9/521) وقال الترمذي حديث حسن غريب].
والتوبة النصوح هي ما توافرت شروطها التي ذكرها العلماء، قال الإمام النووي
رحمه الله: "قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين
العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي، فلها ثلاثة شروط: أحدها أن يقلع عن
المعصية، والثاني أن يندم على فعلها، والثالث أن يعزم أن لا يعود إليها
أبداً، فإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته، وإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي،
فشروطها أربعة: هذه الثلاثة وأن يبرأ من حق صاحبها) [رياض الصالحين: 10].
وتوبة العبد يفرح بها ربه لرحمته إياه، كما في حديث أنس رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم، سقط على
بعيره وقد أضله في أرض فلاة ) [مسلم: 4/2105].
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد فرحه ويعظم سروره لتوبة بعض
أصحابه، كما في قصة كعب عندما نزلت توبة الله عليه، قال رضي الله عنه: (فلما
سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وهو يبرق وجهه من السرور، ويقول:
أبشر بخير يوم مر عليك من يوم ولدتك أمك ) [مسلم (4/2120) وما بعدها].
وهكذا كان أصحابه رضي الله عنهم يفرح بعضهم بتوبة الله على بعض، وفي قصة كعب
قال: " فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا حيث صلى
الفجر فذهب الناس يبشروننا ).
وكان التائب منهم يفرح بتوبة الله عليه فرحاً لا يعدله فرح في الدنيا، ويدلل
على صدق توبته بعمله، فهذا كعب يقول: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من
مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله، ويقول: يا رسول الله إن الله تعالى إنما
أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقاً ما بقيت، ويقول: والله ما
تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى يومي هذا، وإني
لأرجو أن يحفظني الله تعالى فيما بقي". [كل النصوص التي أشير إليها من حديث
كعب تراجع في مسلم (4/2120) رقم الحديث 2769].
فإذا ذَكَّر المسلم نفسَه بوجوب التوبة من الذنب، فعلاً كان أو تركاً، وإذا
ذكرها بفرح الله بتوبتها وبفرح رسوله صلى الله عليه وسلم، وبفرح عباد الله
الصالحين، فإن ذلك يكون من دواعي رجوعها إلى الله وتزكيتها بالتوبة إليه
سبحانه.
قد يكون التائب من الذنب أكثر حذراً من الوقوع فيه مرة أخرى، لأنه قد ذاق
مرارته بالوقوع فيه، وذاق حلاوة التوبة إلى الله بالبعد عن معصيته، كما أنه
يحرص على الفضل العظيم الذي منى الله به عليه، ومنه كون الله يبدل سيئاته
حسنات.
قال ابن تيمية رحمه الله:
" فالعبد المؤمن إذا تاب وبدل الله
سيئاته حسنات، انقلب ما كان يضره من السيئات بسبب توبته حسنات ينفعه الله
بها، فلم تبق الذنوب بعد التوبة مضرة له، بل كانت توبته منها من أنفع الأمور
له، والاعتبار بكمال النهاية، لا بنقص البداية… والله تعالى يبتلي عبده
المؤمن بما يتوب منه، ليحصل له بذلك من تكميل العبودية والتضرع والخشوع
والإنابة إليه، وكمال الحذر في المستقبل والاجتهاد في العبادة، ما لم يحصل
بدون التوبة، كمن ذاق الجوع والعطش والمرض والفقر، ثم ذاق الشبع والري
والعافية والغنى والأمن، فإنه يحصل له من المحبة لذلك وحلاوته ولذته، والرغبة
فيه وشكر نعمة الله عليه والحذر أن يقع فيما حصل أو لا، ما لم يحصل بدون
ذلك.. وينبغي أن يعرف أن التوبة لا بد منها لكل مؤمن، ولا يكمل أحد ويحصل له
كمال القرب من الله، ويزول عنه كل ما يكره إلا بها". [مجموع الفتاوى
(15/55)].
(138)
الجهاد في سبيل الله المطلب الثاني:
محاسبة النفس ومخالفتها
الأمر الثامن: واجب الأمة في محاسبة
النفس عن طريق الحسبة والعقوبات الشرعية:
( 1 ) الحسبة:
كل ما مضى من مجاهدة النفس يتعلق
بالإنسان نفسه، وهو الذي يجاهدها ويحاسبها، ويخالفها حتى يطوعها لربها ،
ولكن مجاهدة النفس ليست من واجب الأفراد فحسب، بل هي من واجب المجتمع أيضاً،
لأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، ومن مستلزمات هذه الولاية، التعاون على البر
والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا فلاح للأمة بدون الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، بل إذا فقد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
تحقق فيهم الخسران في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: (( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون
عن المنكر، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله، أولئك
سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم )) [التوبة: 71].
وقال تعالى: (( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر، وأولئك هم المفلحون )) [آل عمران: 104].
وقال تعالى: (( كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر
وتؤمنون بالله )) [آل عمران: 110].
وقال تعالى: (( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ))
[المائدة: 2].
وقال تعالى: (( والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات
وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر )) [العصر].
ومن أعظم الأحاديث النبوية الزاجرة للأمة الإسلامية عن ترك الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، الدالة على أنه لا عافية ولا نجاة بدونهما، بل يكون
بفقدهما هلاك الأمة كلها، حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهـما عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: ( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم
استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها
إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبناً
خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على
أيديهم نجوا ونجوا جميعاً ) [البخاري رقم الحديث 2493 ، فتح الباري (5/132)
].
ترى هل يقدر المسلمون الآن أن يحصوا خروق سفينتهم؟!
( 2 ) العقوبات الشرعية: (الحدود
والتعزيرات).
إذا قصر الفرد المسلم في حق نفسه فلم
يجاهدها على فعل طاعة الله، وعلى ترك معصيته، وإذا أمر بالمعروف ونهي عن
المنكر، فأصر على عناده وتمادى في طغيانه، فإنه يجب هنا أن يؤخذ على يديه من
قبل السلطة أو الحكومة الإسلامية، فتنفذ فيه أحكام الله سبحانه وتعالى.
فإن أرتكب معصية فيها عقوبة محددة في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم، كالسرقة والزنا، والقتل ونحوها، أقيم عليه ما قدره الله من
العقوبات، ليكف ويتوب ويرتدع غيره ممن تسول له نفسه أن يفعل كفعله، فإن لم
يكن الذنب الذي ارتكبه قد حددت له عقوبة مقدرة، فإن في باب التعزير مجالاً
لردع الآثم المذنب.
إن إقامة الحدود والتعزيرات من أعظم الوسائل الرادعة للعصاة عن الاستمرار في
جرائمهم، التي إذا تركوا وشأنهم فيها انتشرت فواحشهم في المجتمع، وصعب بعد
ذلك إقلاعه عنها أو متابعته من قبل الحكومة.
وقد كانت الجرائم في المجتمع الإسلامي في عصوره الأولى نادرة، بسبب التربية
النبوية وإقامة حدود الله الشرعية، وكلما كانت العقوبات الشرعية قائمة في بلد
ما، قلت فيه الجرائم، وكلما كانت مهملة معطلة، كثرت في البلد الذي تهمل فيه
وتعطل الجرائم، والرحمة كل الرحمة في إقامة شرع الله، لا في التساهل والتهاون
فيه.
قال ابن تيمية رحمه الله:
"وبهذا يتبين لك أن العقوبات الشرعية
كلها أدوية، نافعة يصلح الله بها مرضى القلوب، وهي من رحمة الله بعباده
ورأفته بهم، الداخلة في قوله تعالى: (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ))،
فمن ترك هذه الرحمة النافعة لرأفة يجدها بالمريض، فهو الذي أعان على عذابه
وهلاكه، وإن كان لا يريد إلا الخير، إذ هو في ذلك جاهل أحمق، كما يفعله بعض
النساء والرجال والجهال بمرضاهم، وبمن يربونه من أولادهم وغلمانهم وغيرهم في
ترك تأديبهم وعقوبتهم على ما يأتونه من الشر، ويتركونه من الخير رأفة بهم،
فيكون ذلك سبب فسادهم وعداوتهم وهلاكهم". [الفتاوى (15/290)، الآية من سورة
الأنبياء: 107].
وقال الأستاذ عبد القادر عودة رحمه
الله:
"تعتبر الشريعة الأخلاق الفاضلة، أولى
الدعائم التي يقوم عليها المجتمع، ولهذا فهي تحرص على حماية الأخلاق، بحيث
تكاد تعاقب على كل الأفعال التي تمس الأخلاق، أما القوانين الوضعية فتكاد
تهمل المسائل الأخلاقية إهمالاً تاماً ـ إلى أن قال: ـ والعلة في اهتمام
الشريعة بالأخلاق على هذا الوجه، أن الشريعة تقوم على الدين، وأن الدين يأمر
بمحاسن الأخلاق، ويحث على الفضائل، ويهدف إلى تكوين الجماعة الصالحة
الخيِّرة.
ولما كان الدين لا يقبل التغيير والتبديل، ولا الزيادة ولا النقص، فمعنى ذلك
أن الشريعة ستظل ما بقي الدين الإسلامي حريصة على حماية الأخلاق، آخذة بالشدة
من يحاول العبث بها.
والعلة في استهانة القوانين الوضعية بالأخلاق، أن هذه القوانين لا تقوم على
أساس من الدين، وإنما تقوم على أساس الواقع وما تعارف الناس عليه من عادات
وتقاليد، والقواعد القانونية الوضعية يضعها الأفراد الظاهرون في المجتمع
بالاشتراك مع الحكام، وهم يتأثرون حين وضعها بأهوائهم وضعفهم البشري،
ونزعاتهم الطبيعية إلى التحلل من القيود.
كذلك فإن هذه القواعد قابلة للتغيير والتبديل بحسب أهواء القائمين على أمر
الجماعة، فكان من الطبيعي أن تهمل القوانين الوضعية المسائل الأخلاقية شيئاً
فشيئاً، وأن يأتي وقت تصبح فيه الإباحية هي القاعدة، والأخلاق الفاضلة هي
الاستثناء، ولعل البلاد التي تطبق القوانين الوضعية قد وصلت إلى هذا الحد
الآن.
ويترتب على هذا الفرق بين الشريعة والقوانين الوضعية، أن يزيد عدد الأفعال
التي تُكَوِّنُ الجرائم الأخلاقية ويتسع مداها في البلاد التي تطبق الشرعية،
وأن يرتفع مستوى الأخلاق والقيم الروحية إلى أعلى درجات في هذه البلاد، أما
البلاد التي تطبق القوانين، فإن مستوى الأخلاق فيها ينحط إلى أدنى دركاته،
وترتفع القيم المادية، بينما تنحط القيم الروحية وتتفشى الإباحية البهيمية
وتنكمش الإنسانية، وتقل الأفعال التي تعتبر جرائم أخلاقية حتى لتكاد تنعدم،
[التشريع الجنائي الإسلامي (1/70ـ71)].
وإهمال إقامة العقوبات على مستحقيها، يعمق كثرة الجرائم واستحسانها، وينغص
على الناس حياتهم، ويقلق مجتمعهم، ويسبب الفوضى والاضطراب، ويقضي على الأمن
بكل أنواعه: الأمن على المال، والأمن على الأرواح والدماء، والأمن على
الأعراض والحرم، وإقامة العقوبات تحول بين المجتمع وكل ما ذكر من الشر
والفساد.
وتأمل هذه الجمل من الأستاذ القانوني الكبير عبد القادر عودة رحمه الله:
"ولقد كان الحجاز في يوم مضرب الأمثال في اختلال الأمن والنظام، والجرأة على
ارتكاب الجرائم وترويع الآمنين والحجاج، والمسافرين، وقطع الطريق عليهم، لنهب
مالهم ومتاعهم، ولعل الحالة الاقتصادية والاجتماعية في الحجاز الآن ـ لعله
يقصد الأيام الأولى من حكم الملك عبد العزيز ـ ليست خيراً منها يوم كان
الفساد مستشرياً في الحجاز، والفرق بين الحجاز قديماً وحديثاً هو نفس الفرق
بين مصر والحجاز اليوم، هو وجود العقوبة الرادعة في الحجاز الآن وانعدامها
قديماً، وهو انعدام هذه العقوبة في مصر اليوم، وهذه العقوبة الرادعة هي التي
وطدت الأمن في الحجاز، وقضت على السلب والنهب وقطع الطريق، وجعلت الأمن فيه
مضرب الأمثال، فلا يسقط من مسافر شئ إلا وجده في دار الشرطة، ولا يضيع لأحد
شئ إلا رد عليه حيث كان، ولو لم يبلغ بضياعه، ما دام مع المال ما يدل على اسم
صاحبه". [التشريع الجنائي الإسلامي (1/740)].
وبهذا نكتفي في جهاد النفس البشرية، وهو كما ترى لو طبقه الإنسان على نفسه،
فجاهدها في الله حق الجهاد، وحملها على طاعته سبحانه بما مضى في هذا البحث،
وتعاون المسلمون فيما بينهم فأتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، وأقام حكام
المسلمين شرع الله في رعيتهم فطبقوا الحدود الشرعية والعقوبات الزاجرة ـ لو
تم ذلك ـ لعادت البشرية إلى الله سبحانه وتطهرت النفوس من أدرانها، واتجهت
شاكرة إلى بارئها.