(150)
وفيه تمهيد
وثلاثة مباحث:
المبحث الأول: إعداد المجاهدين.
المبحث الثاني: الجهاد بالأنفس والأموال.
المبحث الثالث: إنشاء المصانع الجهادية.
تمهيد: الإعداد:
إن ما مضى من الكلام على النوع الأول من أنواع الجهاد، وهو الجهاد المعنوي
يتعلق بإعداد الفرد المؤمن إعداداً توجيهياً، وتزكيته تزكية ربانية تجعله قوي
الصلة بربه يحبه أكثر من محبته لنفسه وولده ووالده والناس أجمعين، وذلك يقتضي
أن يقدم طاعته على طاعة نفسه وطاعة غيره من الناس أجمعين، لأنه عندئذ تحقق
فيه ما كان يبعث الله به أنبياءه ورسله وينـزل عليهم كتبه، من أجل دعوة الناس
إليه وهو تقوى الله وطاعة رسله.
كما قال تعالى على لسان رسله - كل رسول - مخاطبين قومهم: ((فاتقوا الله
وأطيعون )) [الشعراء: 108].
وقال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) [النساء: 64].
والنفس المؤمنة عندما تصفو وتزكو وتقوى صلتها بربها، تشرئب للمزيد من
الارتقاء بصاحبها في سلم طاعة الله، بالتكاليف الربانية التي يُرضِي بها
المؤمن ربه في كل مجال، وفي كل مرحلة من مراحل الجهاد.
فإذا كان قد أذل نفسه لله في ركوعه وسجوده، وكبح جماح نفسه وألزمها الصبر على
طاعته، بالتزام المأمور واجتناب المحظور فيما بينه وبين الله، وذاق حلاوة
الإيمان، وعلم أن هذا الدين لم ينزله الله له فقط، وإنما للبشرية كافة،
لتستضيء بنوره وتنعم بخيره، وتتمتع بميزان عدله وتنال حريتها منه بعبوديتها
لله وحده.
إذا كان المؤمن كذلك، فإنه يتطلع إلى قيادة سفينة حياة البشرية إلى رحاب
إيمانه لتذوق ما ذاق، وتستضيء بما استضاء، وتنعم بما نعم، وتتمتع بما تمتع من
خيرات هذا الدين.
لذلك تجده في حركة دائبة ودعوة دائمة جادة، لإقناع الضالين بدينه وهدايتهم
إليه، لا يهدأ له بال ولا يستقر له قرار، حتى يوصل نداء الله إلى كل نفس
مرغباً ومرهبا، مبشراً ومنذرا، مسروراً غاية السرور بهداية المهتدي، ومشفقاً
كل الإشفاق على الجاحد الشارد عن الله.
((لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رءوف
رحيم)) [التوبة: 128].
((لقد أرسلنا نوحا إلى قومه، فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني
أخاف عليكم عذاب يوم عظيم. قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين. قال يا
قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين. أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم
وأعلم من الله ما لا تعلمون)) [الأعراف: 59ـ62].
ولو أن البشرية تقف موقفاً سلبياً من الدعوة إلى الله، تسمع النداء وتجيب أو
لا تجيب حسب اقتناعها أو عدم اقتناعها، ولم تستعمل القوة ضد الدعاة إلى الله
تعالى، لكان الأمر سهلا على دعاة الإسلام يجوبون الآفاق ويدعون إلى الله
بالحجة الدامغة، والموعظة الحسنة، والحكمة البالغة.
ولكن غالب البشرية، لا تقف ذلك الموقف، بل إنها لتتجمع على ما بينها من خلاف
في الدين والسلوك، لتقف كلها في صف واحد للقضاء على الدعوة الإسلامية والدعاة
إلى الله، تقف بعقائدها الملحدة وشبهاتها المشككة وأخلاقها الفاسدة، وأنظمتها
الجائرة، وقواتها المسلحة، في كل زمان ومكان: ((يا حسرة على العباد ما يأتيهم
من رسول إلا كانوا به يستهزؤون)) [يس: 30].
((ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق، ذلك بما
عصوا وكانوا يعتدون)) [البقرة: 61].
((قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين)) [الأنبياء: 68].
((فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه)) [العنكبوت: 24].
((قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول، وإنا لنراك فينا ضعيفاً، ولولا
رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز)) [هود: 91].
((إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبداً))
[الكهف: 20].
((قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم؟ لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا)) [مريم:
46].
((قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين)) [الشعراء: 116].
((قالوا إنا تطيرنا بكم، لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم))
[يس:18].
((وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون))
[الأعراف: 82].
((قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من
قريتنا أو لتعودن في ملتنا، قال أولو كنا كارهين)) [الأعراف: 88].
(وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا، فأوحى إليهم
ربهم لنهلكن الظالمين))[إبراهيم: 13].
((وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله
والله خير الماكرين)) [الأنفال: 30].
هذا هو موقف الأكثرية من البشر في كل الأزمنة: كفر وجحود، وصد عن سبيل الله،
واعتداء على الأنبياء والمرسلين وأتباعهم، وتعذيب وتهديد بكل أنواع التعذيب:
حرق وإخراج من البلد، ورجم وسجن وقتل وتجمع على ذلك كله.
فهل يكفي المؤمن أن يتعلم من دين الله ما يقدر عليه، ثم يلقي بنفسه في زاوية
من مسجد أو منزل أو شِعب ليصلي ويصوم، ويحج ويعمل ما يقدر عليه من العبادة
التي تكون بينه وبين ربه، دون أن يقوم بدعوة الناس إلى الله؟
وإذا دعاهم، فهل يدَعُونه وشأنَه، أو يكرهونه على أن يعود في ملتهم؟ وهل يليق
به أن يكون ضعيفاً وهم أقوياء، يسخرون منه ومن دعوته ويذيقونه أنواع النكال
هو وأتباعه، وهم عزل لا يملكون شيئا؟
لذلك كله لا بد للمسلمين من إعداد العدة التي ترهب أعداء الله، وتردهم إلى
الصواب أو تردعهم عن الاعتداء، وتجعل كلمة الله هي العليا، وتكون كلمة الذين
كفروا السفلى.
وإعداد العدة يتم بأمرين:
الأمر الأول: إعداد الرجال إعدادا شاملاً.
الأمر الثاني: إعداد المال والعتاد.
(153)
المبحث الأول:
إعداد المجاهدين
وفي هذا المبحث سبعة فروع:
الفرع الأول: ضرورة الإعداد.
إنه إذا كان موقف أغلب البشرية في كل
زمان من الدعاة إلى الله الأنبياء وأتباعهم، هو ذلك الموقف الجاحد المحارب
المهدد، فلا بد أن يُعَدَّ دعاةُ الإسلام إعداداً قوياً، يترقب ذلك الموقف
الظالم، للصبر عند المحنة، والإعداد للمجابهة والمجاهدة الرادعة عند القدرة،
وإذا لم يعد المؤمن لذلك فإنه سيفاجأ به على غرة.
والصبر عند الصدمة الأولى ليس سهلا على كل الناس، ألا ترى أن ورقة بن نوفل
عندما عرض عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاءه من الوحي، كيف أشار لرسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى ما سيواجهه من أذى قومه؟ وتعجب الرسول صلى الله
عليه وسلم من ذلك في أول الأمر!:
"فانطلقت به - أي بالرسول صلى الله عليه وسلم - خديجة حتى أتت به ورقة بن
نوفل... وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: يا بن عم اسمع من ابن
أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه
وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، يا
ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أومخرجي هم؟) قال: نعم، لم يأت رجل قط
بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزرا" [البخاري من
حديث عائشة رقم3، فتح الباري (1/22)].
ولعل الله سبحانه نبه عبده إلى هذا المعنى - وهو يعده – لمواجهة الناس بدعوته
إليه، الدعوة التي تكلف حاملها من المشاق ما يحتاج إلى تنبيه وتهيئه، لأنها
دعوة تواجه عقائد وتصورات، وتواجه أذى وفتنة، وتواجه قوة وحرباً ضروساً.
قال تعالى: (يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلا، نصفه أو أنقص منه قليلا، أو
زد عليه ورتل القرآن ترتيلا، إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلا) [المزمل: 1ـ5].
قال سيد قطب رحمه الله:
"إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا، هو هذا القرآن وما وراءه من التكليف، والقرآن في
مبناه ليس ثقيلاً فهو ميسر للذكر، ولكنه ثقيل في ميزان الحق، ثقيل في أثره في
القلب، ((لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله))
فأنزله على قلب أثبت من الجبل يتلقاه، وإن تَلَقِّيَ هذا الفيض من النور
والمعرفة واستيعابه لثقيل يحتاج إلى استعداد طويل... وإن الاستقامة على هذا
الأمر بلا تردد، ولا ارتياب ولا تلفت هنا أو هناك، وراء الهواتف والجواذب
والمعوقات، يحتاج إلى استعداد طويل" [في ظلال القرآن (29/3645)].
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهيئ أصحابه ويعدهم لمواجهة كل موقف
بما يناسبه.
فقد آذى المشركون أصحابه - كما آذوه - إيذاءً شديداً، فشكا ذلك بعضهم إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلبوا منه أن يدعو لهم الله ويستنصره، فاشتد
غضبه من تلك الشكوى، وذكرهم بإيذاء من سبقهم على هذا الدرب، من أولياء الله
ووعدهم خيراً، وما كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم إلا حفزاً لهمم أصحابه،
وإعداداً لهم وتهيئة لنفوسهم، ليستقبلوا الشدة والضيق وتجمع العدو عليهم وهم،
صامدون يجاهدون في الله لا يخافون فيه لومة لائم.
ففي حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه، قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم
وهو متوسد بردة، وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت يا رسول
الله: ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال":
(لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه
ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه، فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن
دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، ما يخاف
إلا الله.. والذئب على غنمه" [البخاري رقم الحديث 3852، فتح الباري (7/164)].
وقد نفع هذا التوجيه وهذه التهيئة من الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه،
نفعهم ذلك حينما ابتلوا في المال والولد والدار والنفس، فبذلوها كلها رخيصة
في سبيل الله، وهذا ما حفزهم أن يقولوا يوم الخندق، عندما تجمعت عليهم أحزاب
الكفر من كل جانب، وبلغ الحصار مبلغه، أن يقولوا ما حكاه الله عنهم: ((ولما
رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، وما
زادهم إلا إيماناً وتسليما)) [الأحزاب: 22].
ومن أهم ما هيأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للجهاد في سبيل الله،
فراق الأهل والولد والدار: "الهجرة" فإن الذي لا ترضى نفسه بفراق أحبته
وداره، حيث يجد الأنس والراحة والألفة، يصعب عليه أن يلقي بنفسه في ساحة
القتال، باذلا لها في سبيل الله، والذي يؤثر ما عند الله على ذلك كله، فيهجر
المال والولد والأهل والدار، ابتغاء وجه الله، جدير أن يلقى ربه في ساح الوغى
راضياً مطمئناً.
قال أبو وائل: (عدنا خباباً فقال: "هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نريد
وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأخذ من أجره شيئاً، منهم
مصعب بن عمير، قتل يوم أحد وترك نمرة، فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه،
وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي
رأسه، ونجعل على رجليه شيئا من أذخر، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها"
[البخاري رقم الحديث 3897، فتح الباري (7/226)].
وفي قصة أبي سلمة عندما هاجر إلى المدينة تاركاً زوجه، وهي تبكي وطفله
الصغير، حيث حال المشركون بينه وبينهما عبرة في هذا المقام [انظر سيرة ابن
هشام (1/468)].
لذلك كان أول المهاجرين، وحضر أول معركة فاصلة في الإسلام [انظر نفس المصدر
السابق (1/682)].
ومن الأمور التي هيأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للجهاد في سبيل
الله، ذلك الإخاء الذي ربطه بينهم بعد أن هاجر هو وأصحابه إلى المدينة، إذ
آخى بين المهاجرين والأنصار، وهو ربط خاص يشعر كل أخ بأن أخاه مثله في الحقوق
التي يملكها فيؤثره بماله، بل بما لم يخطر بالبال الإيثار به، وفى ذلك إعداد
لهم رضي الله عنهم ليبذلوا ويؤثروا ما عند الله على ما عند أنفسهم، وهذا ما
كان.
قال أنس رضي الله عنه: "قدم علينا عبد الرحمن بن عوف، وآخى النبي صلى الله
عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع - وكان كثير المال -: فقال سعد: قد علمت
الأنصار أني من أكثرها مالاً، سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولي امرأتان،
فأنظر أعجبهما إليك فأطلقها حتى إذا حلت تزوجتها."
فقال عبد الرحمن: "بارك الله لك في أهلك، فلم يرجع يومئذ حتى أفضل شيئا من
سمن وأقط، فلم يلبث إلا يسيراً حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه
وَضَرٌ من صفرة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مهيم) قال: تزوجت
امرأة من الأنصار. قال: (ما سقت فيها؟) قال: وزن نواة من ذهب أو نواة من ذهب،
فقال: (أولم ولو بشاة) [البخاري رقم الحديث 3781، فتح الباري (7/112).
أرأيت مثل هذا الجندي المسلم الذي يتنازل لأخيه في الله عن أعجب زوجتيه،
لتعتد منه ويتزوجها أخوه، إيثاراً منه له في سبيل الله، أرأيت مثله يتأخر عن
بذل ما يملك من مال ونفس في سبيل الله، إذا دعاه الداعي لقتال أعداء الله
إعلاء لكلمة الله؟
ولا غرو فقد كان من نقباء بيعة العقبة الثانية، وممن شهد أول معركة فاصلة
"معركة بدر" [انظر سيرة ابن هشام (1/443، 691)].
وكان ممن قتل يوم أحد وفاضت روحه وهو يوصي من عنده بأمرين:
الأمر الأول يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فأبلغ رسول الله صلى
الله عليه وسلم عنى السلام، وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا
خير ما جزى نبيا عن أمته."
والأمر الثاني يتعلق بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "وأبلغ قومك
عني السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله، إن
خلص إلى نبيكم صلى الله عليه وسلم، ومنكم عين تطرف". [سيرة ابن هشام (2/95)].
(154)
تابع للفرع
الأول: : إعداد المجاهدين
التعرف على الأرض والمسالك التي يغشاها العدو
لمعرفة تحركاته وإرهابه واللْحَوْل
بينه وبين ما يحقق له أي مكسب يضير المسلمين
وبعد أن
يُعَدَّ الرجال المجاهدون ويهيئوا التهيئة الجهادية المتاحة، لا بد أن يفسح
لهم المجال العملي المرحلي، الذي يترقون به في سلم الجهاد في سبيل الله
لإعلاء كلمة الله. ويكون ذلك بأمور:
الأمر الأول:
التعرف على الأرض التي يحتمل أن تكون مجالاً للمعارك الحربية، أو مسالك للعدو
يستفيد منها في تجارته أو غير ذلك.
الأمر الثاني:
التعرف على البشر الذين يسكنون في تلك المناطق، لاستطلاع ما هم عليه من ميل
إلى الإسلام، أو إلى محاربته أو مهادنته.
الأمر الثالث:
معرفة تحركات العدو، ومعرفة مقاصده من تلك التحركات، أهي تجارية، أم
استطلاعية؟ لمعرفة أحوال المسلمين، أو محاولة ضم أهل تلك الأرض إلى صفوفه
لمحاربة المسلمين أو غير ذلك.
الأمر الرابع:
التضييق على العدو وقطع الطرق عليه، حتى يصبح خائفاً غير آمن على نفسه وماله،
لما في ذلك من إلقاء الرعب في قلبه، فيجعله يكف عن البدء بحرب المسلمين أو
يخفف من ذلك.
الأمر الخامس:
جمع المعلومات المفيدة عن العدو، وذلك ييسر على القيادة الإسلامية رسم الخطط
وتنفيذها مستقبلا.
الأمر السادس:
تدريب الجيش الإسلامي على الأعمال الفدائية، وأساليب الحرب القصيرة والطويلة،
وغير ذلك.
الأمر السابع:
التدريب على الكتمان.
الأمر الثامن:
التدريب على الطاعة.
وكان هذا ما عمله الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، حيث بعث السرايا،
وقاد الغزوات ابتداء من السنة الأولى للهجرة النبوية.
فكان مجموع الغزوات في أقل من سنتين - قبل معركة بدر - أربعاً: ومجموع
السرايا كذلك كان أربعاً،تحققت فيها الأهداف السابقة.
والغزوات الأربع هي: غزوة ودان، وغزوة بواط، وغزوة العشيرة، وغزوة صفوان، وهي
بدر الأولى والسرايا الأربع هي: سرية عبيدة بن الحارث، وسرية حمزة بن عبد
المطلب، وسرية سعد بن أبي وقاص، وسرية عبد الله بن جحش. [راجع هذه الغزوات
والسرايا في سيرة ابن هشام (1/590ـ601)].
وقد جاب الجيش الإسلامي في تلك الغزوات والسرايا، المناطق الحجازية من
المدينة إلى قرب الطائف، في الجبال والسواحل، فكانت مقدمات لمعركة الفرقان
[غزوة بدر] التي ارتفعت فيها راية الإسلام وسقطت راية الكفر.
(155)
الفرع الثاني:
مجالات إعداد المجاهدين وشمولها.
وهذه المجالات لا يقتصر إعداد الرجال على تدريبهم فيها على وسائل الحرب
وأساليبها ومعداتها المباشرة للقاء العدو فقط، لأن هذا هو أحد المجالات
الإعداد وهي كثيرة شاملة.
فالأمة الإسلامية يجب أن تسعى للتتفوق على الأمم الأخرى في كل مجال نافع،
لأنها أخرجت للناس لتهديهم وتقودهم إلى الله سبحانه، وهذه القيادة تقتضي
تفوقها على غيرها، تفوق أفرادهم على أفراد الأمم الأخرى، كل في اختصاصه وتفوق
مجتمعهم على المجتمعات الأخرى في العلوم الإنسانية: السياسية والاجتماعية
والاقتصادية والعسكرية وغيرها، وفي العلوم الكونية: الطبية، والفلكية،
والتجارية، والصناعية والجغرافية، وغيرها، لأنها مجالات يكمل بعضها بعضا.
ولا يمكن أن تنهض أمة وتفوق غيرها، أو تلحق بركاب الأمم المتقدمة في مضمار
الحياة، مالم تكن حائزة على قدر كاف من العلوم الإنسانية والعلوم الكونية.
والفرق بين الأمة الإسلامية والأمم الأخرى، أن الأمة الإسلامية تأخذ توجيهها
في علومها الإنسانية من الله الخالق، الذي آمنت به وبكتابه ورسوله، وأيقنت أن
كل توجيه يخالف توجيه الخالق فيه الشقاء والخسران في الدنيا والآخرة،كما أنها
تبني علومها الكونية على إيمانها بخالقها، فتستغل كل طاقاتها في طاعة الله
سبحانه.
بخلاف الأمم الأخرى، فإنها تضع لعلومها الإنسانية أصولا وقواعد من عند نفسها،
ولا تخضع لتوجيه الباري سبحانه، كما أنها تبني علومها الكونية على الفصل بين
الإيمان بالله وتلك العلوم، فتستغل طاقاتها وما سخره الله لها فيما ترسمه لها
أهواؤها بعيدا عن توجيه الله.
وبهذا يظهر أن الأمة الإسلامية يجب أن تجاهد وتكافح في كل مجال من مجالات
الحياة، ولا تقتصر على مجال دون مجال، وإن كان بعض هذه المجالات قد يكون أولى
بالاهتمام من غيره في بعض الأوقات، على حسب الظروف والأحوال.
فلا بدَّ من إعداد رجال مهرة في السياسة الشرعية، وهي السياسة التي رسمها
الكتاب السنة، وشرحها علماء الإسلام قديماً وحديثاً على ضوء المبادئ
الإسلامية، مع تعمقهم في أصول سياسات الأمم، وما يوافق منها الإسلام وما
يخالفه، ومعرفة عيوب تلك السياسات لتجنبها وفضحها وبيان أضرارها.
وكذلك لا بد من معرفتهم بالقوانين الدولية المتعلقة بحالة السلم وحالة الحرب،
وما فيها كذلك من موافقة ومخالفة للإسلام، وما فيها من عيوب تعود بالضرر على
المجتمع الدولي لتعرية ذلك الضرر وكشفه.
ولا بد كذلك من إعداد رجال مهرة في علم الاقتصاد الإسلامي، ليرسموا للأمة
الإسلامية المنهاج الناجح، في استغلال خيراتهم واستثمار أموالهم وتصريفها
والحول بينها وبين استغلال أعداء الله لها، مع اجتناب جمع الأموال من مصادر
محرمة، أو إنفاقها في مصارف محرمة، ويجب أن يكونوا على اطلاع واسع على علوم
الاقتصاد الأجنبية، لمعرفة ما يقره الإسلام منها وما لا يقره، ليكون التعامل
مع غير المسلمين مبنيا ًعلى ما أحله الله ورسوله، لا على ما حرمه الله شرعاً
أو حرمه رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولا بد من إعداد رجال مهرة في التربية والتعليم، يضعون خططا ومناهج مرحلية
مفيدة للمسلمين، تكون مبنية على أصول الإسلام محققة للأهداف التي يصبو إليها
المسلمون، تكتشف بها مواهب الناشئة من أبنائهم التي يوجهون على ضوئها
للتخصصات المتنوعة النافعة، بعد أخذهم جميعا ما يجب عليهم عينا تعلمه في أمور
دينهم.
ولابد من إعداد رجال مهرة في توجيه وسائل الإعلام، يشرفون على الأجهزة
الإعلامية من إذاعة مسموعة، ومرئية، وصحافة مقروءة وغيرها، ليقوموا بوضع خطط
تحقق مناهجها إشباع الرغبات المتنوعة للأمة الإسلامية، في حدود الآداب
الإسلامية البعيدة عن الإفراط والتفريط.
ويجب أن تتعاون أجهزة الإعلام مع مؤسسات التعليم والمجتمع، على تربية الناشئة
على الحقائق الإيمانية والأعمال الصالحة، وتكون وسيلة لتعليم كل أفراد الأمة
على اختلاف مستوياتهم وتخصصاتهم، وتبث فيهم روح الجهاد والتضحية بكل غال
ونفيس في سبيل الله، وتعرفهم على تاريخ أسلافهم الصالحين الذين حملوا راية
الإسلام عالية حتى سلموها إليهم، مع بيان الثغرات التي حصلت في هذا التاريخ
فشوهته أو حطمت بعض معالمه.
وتبث في روح أطفاله حب الله وحب رسوله، والرغبة في دخول الجنة والبعد عن
النار، مع بيان ما يحقق ذلك كله، وترغبهم في حفظ كتاب الله والإكثار من
قراءته والعمل به، وتختار لهم بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي
تحث على الخلق الفاضل والفروسية والرجولة والشجاعة، وتلهب مشاعرهم بالشعر
الحماسي والأناشيد الإسلامية الخفيفة وهكذا.
ولا بد من إعداد رجال مهرة في الطب بكل أنواعه وتخصصاته، كما أنه لا بد من
إعداد رجال مهرة في جميع الصناعات والمهن التي لا يستغنى عنها، وأي تقصير في
أي مجال من هذه المجالات وغيرها، فإنه يؤثر على الأمة الإسلامية ويضر بها وإن
كانت متفوقة في غيره.
ويأتي بعد ذلك إقامة المصانع الحربية وتدريب الرجال على جميع أنواع الأسلحة
قريباً إن شاء الله.