( 13
)
إضاعة الجهاد بأعمال الفساد
والخلاصة أن جنس
الجهاد فرض عين على كل المسلمين ، وأن الجهاد بمعنى قتا الكفار فرض كفاية ، إذا
قامت به طائفة من المسلمين قياما كافيا لكسر شوكة أعداء الإسلام ، وإعزاز هذا
الدين في الأرض ، وإلا أثم الجميع حتى يقوم به من يكفي على الوجه المذكور ، وأن
الجهاد فريضة من فرائض الإسلام التي لا قيام للإسلام بدونها ، حتى ليكاد يكون
ركنا من أركان الإسلام ، وما ضاعت الأمة الإسلامية وذلت إلا بتركها الجهاد
بمعنييه العام والخاص .
قال أبو بكر أحمد بن علي الرازي المشهور بالجصاص ، رحمه الله : " وليس بعد
الإيمان بالله ورسوله فرض آكد ولا أولى بالإيجاب من الجهاد ، وذلك أنه بالجهاد
يمكن إظهار الإسلام وأداء الفرائض ، وفي ترك الجهاد غلبة العدو ودروس الدين
وذهاب الإسلام ، إلا أن فرضه على الكفاية كما بينا " [ أحكام القرآن 3/15 ]
وإن ترك المسلمين لفريضة الجهاد في سبيل الله ، والتأخر عن إعداد العدة لإقامته
، لجريمة عظيمة في حق دينهم وخيانة لله ولرسوله ولعزتهم ، لا سيما في هذه
الأزمنة التي أصبح الإسلام فيها محاربا في غالب المعمورة ، فخسر بترك الجهاد في
سبيل الله العالم كله بله المسلمين الذين يتحملون إثم تلك الخسارة .
ولقد كان المسلمون الأوائل يتساءلون : أيهما أفضل الجهاد في سبيل الله ، أم طلب
العلم – وطلب العلم جزء من الجهاد بمعناه العام – وهذا التساؤل إنما هو في حال
قيام بعض الأمة الإسلامية بالجهاد قياما كافيا .
ومع هذا نرى اليوم أعداء الإسلام قد هيئوا لشباب الإسلام ميادين كثيرة لتبديد
طاقاته ، وتلهيته عما ينفعه في دينه ودنياه ، لا عن فريضة الجهاد بمعناه الخاص
فقط ، بل عن طاعة الله بعامة ، أي عن فروض العين وفروض الكفاية كلها ، وأصبح
ذلك من الأمور المألوفة لدى عامة المسلمين ، حتى ماتت في نفوسهم الغيرة على
دينهم ، وهان عليهم عزتهم وكرامتهم !
فهناك الأعداد الهائلة من صفوف الرياضة – وحدها – في العالم الإسلامي ، لو ربيت
على طاعة الله ، وأعدت للجهاد في سبيل الله ، وفقهت غايتها في هذه الحياة ،
لكان لهذا للشباب - الضائع الممسوخ الذي أصبح في عداد الحيوان يتسلى بهم
الفارغون ، كما يتسلى أهل أسبانيا بنطاح الثيران – شأن آخر في رفع راية الإسلام
وعزة المسلمين : كما كان لشباب الإسلام في عصوره الزاهرة المفضلة ، إذ كانوا
يتسابقون قبل أن يصلوا إلى سن التكليف إلى خوض المعارك الجهادية ضد أعداء
الإسلام .
وهناك صفوف أخرى لا حصر لها تولى أعداء الإسلام إعدادها لحمل جراثيم الفساد
الخلقي التي تقتحم قلوب أبناء المسلمين ، فتميتها وتحولها من قلوب بشرية مفطورة
على الخير إلى قلوب حيوانية ، ليس لها هم إلا تلبية الشهوات ، لا تفكر إلا في
البطن والفرج والزي ، لا فرق بين أن يأتيها من طريق حلال أو حرام ، مثلها في
ذلك مثل من قال الله تعالى فيهم ) والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل
الأنعام والنار مثوى لهم ( [ محمد 12 ]
ومن أمثلة هذا النوع صفوف الرقص الفاضح ، والغناء الماجن ، والموسيقى الملهية
عن الحق والخير، وسائر الملاهي التي لم يبق منزل في الأرض ولا مكان إلا وصل
فسادها إلى أهله ، إما مباشرة في المراقص والمسارح ودور السينما ، ومراكز الفتن
ونوادي الشر ، وإما عن طريق وسائل الإعلام - كالمذياع وتلفاز وجرائد ومجلات -
التي يديرها ويسيرها من لا يخاف الله ولا اليوم الآخر ، من ذوي الهوى والشهوات
. ولوسائل الإعلام العربية – وبخاصة الفضائيات النصيب الأوفر من الفساد
والإفساد – حتى عم الأرض بلاؤها ، وأصبح متاع الحياة الدنيا ولعبها الذي هو
غاية المفسدين في الأرض ، هو غالب ما يسعى إليه الكثير من المسلمين ، كبارا
وصغارا ، رجالا ونساء ، كما قال تعالى : ) وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور (
[ الحديد 20 ] وقال تعالى : ) اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر
وتكاثر في الأموال والأولاد … ( [ أل عمران 185 ]
لقد أراد أعداء الإسلام أن يصرفوا شبابه بتلك الألعاب ويلهوه بها عن معالي
الأمور ، ومصالح الأمة ، التي لو علمها الشباب حق العلم وتصورها حق التصور وعلم
واجبه نحوها ، لانصرف إلى تحقيقها ، ولَحَرَم أعداء هذه الأمة وأذنابهم ما
يتمتعون به من خيرات بلاد المسلمين التي لا يحصلون عليها إلا بجهل المسلمين
وانحطاطهم ، وسفالة أهدافهم في حياتهم ، وعدم قيامهم بدفع العدوان على دينهم
وحقوقهم .
أين هذا الانحطاط الذي لم يشهد التاريخ مثيلا له في حياة المسلمين ، من طموح
السلف الصالح الذين كانوا يوازنون بين الأعمال الصالحة ، عندما يكون لهم الخيار
في فعل أي منها ، ليعلموا أيها أفضل ، ليتسابقوا غليه ويقدموه على غيره ، طمعا
الطاعة التي هي أرضى لله سبحانه وتعالى . واقرأ لمثل هذا القصة الآتية :
عن النعمان بن بشير الأنصاري ، رضي الله عنه ، قال : " كنت عند منبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه ، فقال رجل منهم : ما أبالي ألا أعمل عملا
بعد الإسلام إلا أن أسقي الحجيج ، وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام ، وقال
آخر : بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم . فزجرهم عمر بن الخطاب رضي الله
عنه ، وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن
إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستفتيته فيما
اختلفتم فيه . قال : ففعل ، فأنزل الله عز وجل ) أجعلتم سقاية الحاج وعمارة
المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله ؟ لا يستوون عند
الله والله لا يهدي القوم الظالمين ( [ التوبة 19 . والقصة في صحيح مسلم 3/1499
، وذكرها ابن كثير في تفسيره 2/342 ]
ويتساءل علماء الإسلام : أي العملين أفضل تعلم العلم أم الجهاد في سبيل الله ؟
ثم يجيبون : " فإن قيل تعلم العلم أفضل أم جهاد المشركين ؟ قيل له : إذا خيف
معرة العدو وإقدامهم على المسلمين ، ولم يكن بإزائه من يدفعه ، فقد تعين فرض
الجهاد على كل أحد ، فالاشتغال في هذه الحال بالجهاد أفضل من تعلم العلم ، لأن
ضرر العدو إذا وقع بالمسلمين لم يمكن تلافيه ، وتعلم العلم ممكن في سائر
الأحوال ، ولأن تعلم العلم فرض على الكفاية ، لا على أحد في خاصة نفسه ، ومتى
لم يكن بإزاء العدو من يدفعه من المسلمين فقد تعين فرض الجهاد على كل واحد .
وما كان فرضا معينا على الإنسان غير موسع عليه في التأخير ، فهو أولى من الفرض
الذي قام به غيره ، وسقط عنه بعينه ، وذلك مثل الاشتغال بصلاة الظهر في آخر
وقتها ، هو أولى من تعلم علم الدين في تلك الحال ، فإن قام بفرض الجهاد من فيه
كفاية وغنى ، فقد عاد فرض الجهاد إلى حكم الكفاية " [ أحكام القرآن للجصاص
3/119 ] .
قارن بين حديث النعمان ، وما ذكره الجصاص ، وبين انصراف كثير من المسلمين اليوم
عن الجهاد بنوعيه العام والخاص ، إلى اللعب واللهو ومتاع الحياة الدنيا ، وكثير
منه من المحرمات ، أو المباحات المبالغ فيها !
وما دامت موازين حياة كثير من المسلمين بعيدة كل البعد عن موازين حياة السلف
الصالح ، فإن حكم الجهاد في سبيل الله – وغيره من الأحكام – سيبقى ليس ذا بال
في نفوسهم ، بل إن نفوسهم لا تزال نافرة من أحكام الله ، ولا سيما الجهاد في
سبيل الله ، الذي يقتضي الجد في الأمور ، وهجر الراحة والترف واسترخاء والتثاقل
إلى الأرض ، نلك النفوس ألفت اللهو والخلود إلى الأرض والهزل في الحياة .
هذه هي فريضة الجهاد في سبيل الله ، وتلك هي حال الأمة الإسلامية اليوم أمة
أضاعت الجهاد ، وأخلدت إلى اللعب واللهو ، ففقدت العزة ، وأصيبت بالذلة ،
فالجهاد فرض عين عليها ، والإثم عام شامل ، حتى يقوم علم الجهاد قياما كافيا .