تمهيد
إن أمر التكفير خطير، كما أن التساهل الذي يؤدي إلى عدم تكفير الكافر خطير
كذلك.
والواجب الوقوف عند نصوص الشريعة وقواعدها، دون إفراط أو تفريط، والحكم في
ذلك لله وليس لغيره، والمرجع في تكفير الشخص المعين هم لعلماء الذين تفقهوا
في دين الله، وتمكنوا من معرفة نصوص القرآن والسنة وفقهوا معانيهما،
وتبينوا من واقع الأشخاص الذين يراد الحكم عليهم وظروفهم، ثم التحقق من صحة
تنزيل الحكم على كل شخص بعينه.
ولا يجوز أن يترك الحكم بتكفير المسلم لمن يدعي العلم وهو منه خلي، ممن لم
يتفقهوا على أيدي العلماء الذين أخذوا العلم عن أهله في الكتاب والسنة، وما
يخدمهما من علوم الآلة، كأصول الحديث، وعلوم التفسير، وقواعد اللغة
العربية، وقواعد الضرورات... وأقوال أهل العلم وأوجه استدلالاتهم من
مصادرها الأصلية.
فقد سلط كثير من هؤلاء ألسنتهم الحداد على المسلمين بالتكفير، على جهل
بقواعد التكفير التي بينها علماء المسلمين.
وإن الواجب على علماء المسلمين أن يَقفوا أمثال هؤلاء عند حدهم، ويبينوا
للمسلمين خطرهم ولا يجوز سكوتهم عنهم، لأن ذلك يجرئهم على الاستمرار في
السباحة في هذا البحر المتلاطم الأمواج الذي لا يجيد السباحة فيه إلا أهله.
وقوع التكفير قديما وحدبثا.
بعض المهتمين بالدعوة إلى الإسلام، ممن لم يتعمقوا في العلوم
الإسلامية، وبخاصة العقائد التي تخالف العقيدة الإسلامية الصحيحة التي مضى
عليها أهل القرون المفضلة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان...
بعض هؤلاء ينكرون على من يتعرض لتلك العقائد ويبين فسادها، زاعمين أنها قد
ماتت واندثرت مع الفرق التي كانت تعتقدها وتدعو إليها، وألا فائدة في
الاشتغال بها وإحيائها، وأن الواجب الاشتغال بما يفيد المسلمين مما هو
واقع، من الأفكار والمذاهب المعاصرة، والشئون السياسية والاقتصادية
والإعلامية....
ولقد حصل حوار طويل بيني وبين قائد من قادة الجماعات الإسلامية في موضوع من
هذه الموضوعات، فقال لي: إنكم تريدون نبش الموتى من قبورهم، هذه أمور عفا
عليها الزمن، ولم تعد توجد إلا في صفحات الكتب الصفراء!
ونحن نوافقهم – في الجملة – على أن غالب تلك الفرق لم يعد موجودا باسم
الفرقة، كالمعتزلة والخوارج والمرجئة والقدرية....
ولكنا على يقين من أن غالب تلك العقائد لا زالت موجودة في صفوف المسلمين من
أفراد وجماعات، ولا أظن أن عصرا من العصور خلا من ذلك.
نعم قد تقل تلك العقائد أو بعضها في بلد وتكثر في آخر، وتقل في زمن وتكثر
في آخر، ولكنها لا تندثر اندثارا كاملا.
ولسنا نريد إطالة الكلام في سرد جميع تلك العقائد وإقامة البرهان من الواقع
على وجودها، وإنما نقتصر على ما نحن بصدده هنا، وهو وجود من يغلو في
التكفير بالمعاصي.
وكذلك وجود ما يترتب على هذا الغلو، من معاملة من يُكَفرونه من الحكم عليه
بالردة وما يترتب على ذلك من أحكام المرتد، كعدم استحقاق أقاربه إرثه، وعدم
استحقاقه إرث أقاربه، وعدم تطبيق أحكام الجنازة عليه، فلا يغسل ولا يكفن
ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين...
والغالب أن الأشخاص أو الجماعة الذين يتصفون بهذا الغلو، يستحلون قتل من
يحكمون عليه بالردة بأنفسهم، فيَعْتَدون مرتين:
المرة الأولى: الغلو في التكفير وإخراج كثير
من المسلمين من ملة الإسلام بدون برهان.
والمرة الثانية: إعطاء أنفسهم حق تنفيذ
العقوبات الذي هو حق للجماعة التي ينوب عنها في تنفيذه ولي الأمر، ويكون من
آثار ذلك إهدار ضرورات الحياة التي من أعظمها حفظ النفس، وانتشار الفوضى في
الأرض، وفقد المسلمين أمنهم في ديارهم، كما هو واقع مشاهد اليوم.
[يراجع في من له حق إقامة الحدود كتابنا: "الحدود والسلطان".]
وقد تشعبت آراء الطوائف في هذا الباب:
"فمنهم من أفرط، ومنهم من فرَّط، ومنهم من اعتدل".
[حاشية ابن عابدين (4/229-238) ومجموع فتاوى ابن تيمية (12/466-501)
(10/435)].
والمقصود هنا ذكر هذه الآراء باختصار، ليتضح حكم مرتكب الذنب على اختلاف
أنواعه عند كل طائفة..
وسنبين في هذا البحث ثلاثة مذاهب لثلاث
طوائف:
تابع الموضوع على ملف وورد