بسم الله الرحمن الرحيم

الحوار الإداري


إن انطلاق الحوار الوطني في بلاد الحرمين الشريفين ـ في المملكة العربية السعودية ـ واستمراره بين المواطنين على تنوع فئاتهم، أمر له أهميته نظرا إلى الهدف منه، وهو أن يعيش سكان ها البلد الحبيب في وئام وأمان، وبخاصة إذا وفق المتحاورون لإصغاء بعضهم لبعض، لفهم كل منهم ما عند الآخر من حجج على مبدئه أو رأيه، سواء كان عقديا أو عباديا أو سياسيا أو غيرها من المبادئ والآراء ثم –بعد الإصغاء والفهم – تحمل كل فئة أو فرد من المتحاورين أنفسهم على الإنصاف وقبول ما ظهر لهم أنه حق، ولو كان خلاف مبدئهم أو رأيهم الذي كانوا يرون أنه هو الصواب قبل الدخول في الحوار، لأن الحق أحق أن يتبع، ومن أجله كان الحوار في القرآن الكريم سواء كان بين الرسل وأتباعهم، أو بين بعض الأفراد والفئات.

وبذلك يكون كل من المتحاورين فائزا في حواره مع الآخر صاحب الحق فاز ما معه من الحق، بدون نظر إلى شخصه، وصاحب الباطل فاز بنجاته من الاستمرار على الباطل، وبتوفيقه للحق الذي كان يفقده بصرف النظر عن شخصه.

فإذا ظهر لصاحب الباطل الحق ببرهانه، ولم يتواضع ويأخذ به ازدادت خسارته عما كان عليه من باطل قبل الحوار، لأن الحجة قد قامت عليه بعد الحوار، وقد علم الله من قلبه ما أخفاه على غيره من الخلق وبه يؤاخذه الله تعالى.

ومع ذلك فإنه يجب على الجميع أن يحققوا أحد أهداف الحوار الذي يعيشون بدونه في صراع وفقد وئام، وهو قبول الآخر على ما هو عليه من حق أو باطل، لأن كلا من المتحاورين لا قدرة له على إجبار الآخر على التنازل عن مبدئه أو رأييه.

وقبول كل منهما للآخر ليس معناه قبول مبدئه أو رأيه إذا كان يعتقد أنه باطل فإن قبول الباطل باطل، ولا يجوز لمن ظهر له الباطل أن يقبله، ومن هنا تكون العبارة التي يرددها بعض الإعلاميين والكتاب والمتحاورين أحيانا، وهي "قبول الرأي والرأي الآخر" عبارة فاسدة، فأنا أقبل وجود صاحب الرأي الباطل في مجتمعي بعد أن أبين له بالحجة أن رأيه باطل، ولكني لا أقبل رأيه الباطل.

هذه مقدمة ذكرتها قبل البدء بالكلام على الموضوع وهو الحوار الإداري الذي أرجو أن يكون المسئولون عن الحوار الوطني قد وضعوه نصب أعينهم وفي موضوعات حواراتهم المستقبلية، لأنه أمر تتمناه كل الفئات وكل الأفراد في الشعب، لأنه يمس حياتهم جميعا ولأن فيه إيصال الحقوق إلى أهلها بيسر وسهولة وبدون تأخير، وهو ما يفقده كثير من الناس ويشكون من بطئه ومشكلاته.

و لا شك أن القضاء على الإدارة الفاسدة مهما كان ذلك الفساد وفي أي مؤسسة من المؤسسات في غاية الصعوبة، لأن الإداري الفاسد قد استمرأه وشب عليه وهرم، وأصحاب الحق قد تجرعوا كأسه وصبروا عليه حتى أصبح عندهم شبيها بالنظام الذي لا انفكاك منه.

ولكن إرادة المسئولين إذا اتجهت للإصلاح الإداري ومحاربة الفساد الذي قد تأصل في بعض الناس، إما لجهل وإما لهوى وعدم مبالاة، سيذللون الصعاب، بما يملكون من إمكانات من الوسائل لأن مرافق الدولة على تنوعها بأيديهم وتحت تصرفهم، وما عليهم إلا أن يخططوا ويكلفوا الخبراء العلماء بأصول الإدارة وفروعها العملية الناجحة باقتحام العقبة ويذللوا لهم السبل التي تؤدي إلى تحقيق الأهداف المرجوة المريحة لعامة الشعب.

إن أصول الإدارة وفروعها وغاياتها ووسائلها، خطت خطوات في بعض الدول المتقدمة ماديا ومرت بتجارب اختصرت على الدول والشعوب كثيرا من الأوقات التي كانت تضيع، والحقوق التي كانت تهدر، وهي لا زالت تتطور وتقدم المفيد، والتجارب البشرية ليست ملكا لدولة أو لشعب أو لشركة بل هي ملك للبشرية كلها، ومن حق الشعوب أن تنعم بما يحقق مصالحها وأهدافها ويمكنها من الوسائل التي توصلها إليه، ولا يمكن للشعوب أن تحقق ذلك بدون إرادة دولها وسعيها إلى توفير الإمكانات المتاحة التي لا يُنال الإصلاح الإداري بدونها.

الإصلاح الإداري ليس في تحقيقه صعوبة إذا قويت إرادة المسئولين عنه بتصميم و عزم على جلب أسباب التيسير، ودك صخور التعسير لأن ما وجد من الوسائل المعينة الإدارة الناجحة في هذا العصر لا يدع لمقصر فيها من عذرا، سواء في النظريات الإدارية أو في وسائل تنفيذها من الاتصالات والمواصلات وغيرهما.

وها نحن اليوم نشاهد الشركات الخاصة والعامة حققت من التقدم في الخدمات العاجلة ما لم يكن الناس يحلمون به، ولنضرب أمثلة بالخطوط الجوية في العالم، يستطيع عملاؤها أن يحجزوا ويؤكدوا حجزهم من منازلهم عن طريق الهاتف أو الإنترنت، ويسحبوا بطاقات صعودهم بأنفسهم عن طريق الآلات التي وضعت في المطارات، ويمكن لشركات الخطوط أن تخطو خطوات أكثر تيسيرا للناس بوسائل تقنية جديدة... إذا أرادت.

ونضرب مثلا كذلك بالبنوك والمصارف المالية التي جعلت المشترك يودع نقوده أو يسحبها في أي لحظة من ليل أو نهار، بحسب حاجته ووقته، دون أن يقف في صفوف الانتظار أمام الموظفين، كما يستطيع أن يسدد فواتير شركات الاتصالات أو الكهرباء وغيرها من شراء أسهم وبيعها عن طريق هاتفه في منزله ويثبت ذلك برقم كل فاتورة أو وثيقة يسمعها من الصوت المسجل عن طريق هاتفه.

ومن أظهر الأمثلة على ذلك ما حققته وزارات الداخلية في جميع الدول من وثائقها فلا ينزل ضيف في فندق، ولا يسافر إلى الخارج أو يعود إلى بلده، أو يودع مالا في بنك أو يخرج شيئا منه، أو يهمس لصديقه في أي مكان في داخل البلد أو خارجه في جوال أو هاتف ثابت أو رسالة في بريد أو في جوال أو فاكس إلا وهي مضبوطة عندها في أجهزتها، كما أن كل حادث مروري أو حريق أو غيرهما إلا وأجهزتها توصله إليها أولا بأول، عن طريق الاتصالات أو المواصلات... وهكذا نجد كثيرا من الشركات الكبرى في العالم تدير موظفيها في مكاتبهم أو في منازلهم عن طريق الكمبيوتر من بلدان مختلفة.

فلماذا لا زال بعض الموظفين شبه الأميين في بعض الإدارات الحكومية يتحكمون في معاملات الناس تحكما يضيع عليهم أوقاتهم ويؤخر حقوقهم، وأصبحت عبارات: "تعال بكرة" أو "راجعنا بعد أسبوع" أو "المعاملة ما هي عندي" أو "راجع الصادر" أو "الوارد" تواجه كثيرا من المراجعين؟!
والموظف الجيد من هؤلاء يجمع أمامه الملفات التي يتطاير منها الغبار إذا حاول البحث فيها عن معاملة، هل يليق أن يحصل كل ذلك في عصر الكمبيوترات التي تحفظ فيها ملايين الملفات، ويستطيع الموظف طلب أي ملف في أي لحظة و يخبر المراجع أو يسلمه معاملته في نفس الوقت، وإذا كانت عند زميل له في مكتبه أو في مكتب آخر في إدارته يمكنه إرسال إشارة في الكمبيوتر يسأله عن المطلوب فيرد عليه وكل منهما على مكتبه والمراجع واقف.

وقد دأب كبار الموظفين في المدن على تقليد جيد، وهو أنهم يخصصون وقتا قصيرا للمراجعين وسماع شكاواهم وأخذ أوراقهم منه مباشرة، ولكن ذلك غير كاف، لأن تلك الأوراق غالبا تحول إلى موظف آخر أو إدارة فرعية، ويكون مصيرها مصير غيرها من المعاملات التي لا تقع في يد كبير الموظفين، والمراجعون الذين يحضرون قليلو العدد، والعشرات غيرهم قد لا يحضرون.

والأولى من ذلك أن يعقد حوار جاد بين الموظفين كبارا وصغارا وبين ذوي الحاجات المفترضة لا الواقعة فقط لتكون الأمور واضحة، وتتخذ الإجراءات التي تقضي على السلبيات الإدارية من الأساس، وتتابع متابعة دقيقة لتصبح عادة لدى جميع الموظفين.

ولقد هالني موقف إداري في إدارة دار الهجرة الأسترالية في مدينة مالبورن يوم الأربعاء 19/10/1404هـ: فتاة تقف في وسط قاعة الموظفين تراقبهم في سير أعمالهم، وتسأل صاحب كل معاملة، يغادر القاعة بعد انتهاء معاملته: عن رضاه بالوقت الذي قضاه في المراجعة وهل هو مناسب أو فيه تأخير، وفي يدها ملف فيه أوراق استبيان بلغات متعددة ومنها اللغة العربية، وتقدم لك الاستبيان للجهات المسئولة عن الإدارة، وجميع الموظفين يعلمون أنها مراقبة لسير أعمالهم وأن الاستبيان يرفع أولا بأول إلى المسئولين عنهم، ليجازى كل بما يستحق على عمله إيجابيا أو سلبيا وهذا أمر لا يحتاج إلى جواسيس سريين يقدمون تقارير عن المقصرين ليجازوا على تقصيرهم، ألسنا أحق بذلك منهم؟

إنه إشراف مباشر ومتابعة ميدانية، وهي خير من حسن ظن الذي دلت التجارب في كثير من الأوقات على أنه في غير محله، لأن نتائجه مضرة بحقوق الناس بدون سبب إلا عدم مبالاة كثير من الموظفين.

فهل سيتحقق هذا الحوار الذي يحتاجه جماهير المواطنين؟ أرجو!
 

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل

الصفحة الرئيسة    |    صفحة الشيخ