مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره،
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن
يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا
عبده ورسوله.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث
منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان
عليكم رقيبا}
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر
لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما}.
ما يراد السباق به إلى العقول.
أما بعد: فإن ما يراد السباق به إلى
العقول هو الحق أو الباطل، فأهل الحق يسابقون بالحق إلى العقول، و أهل الباطل
يسابقون بالباطل إلى العقول.
الله هو الحق.
الله سبحانه وتعالى هو الحق، كما قال سبحانه وتعالى: ( وذلك بأن الله هو الحق،
وأنه يحيي الموتى، وأنه على كل شيء قدير.. )
وقال تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو
العلي الكبير..}
وقال تعالى: {فتعالى الله الملك الحق، لا إله إلا هو رب العرش الكريم } .
وقال تعالى: {يومئذٍ يوفيهم الله دينهم الحق ويعملون أن الله هو الحق المبين..}
خلق الله الكون كله بالحق.
والحق جل وعلا خلق الكون كله: السماوات والأرض، وما بينهما وما فيهما وما فوق
ذلك بالحق. كما قال تعالى: {وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق، ويوم يقول كن
فيكون، قوله الحق وله الملك...}
وقال تعالى: {ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق..}
وقال تعالى: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق..}
وقال تعالى: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق..}
وقال تعالى: {خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عمّا يشركون..}
وقال تعالى: {خلق السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين}
وقال تعالى: {أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما
إلا بالحق..}
وقال تعالى: {خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير}
أرسل الله رسله وأنزل كتبه بالحق.
وأرسل الحق جل وعلا رسله، وأنزل كتبه بالحق. كما قال تعالى: {إنا أرسلناك بالحق
بشيرا ونذيرا}
وقال تعالى: {نزّل عليك الكتاب بالحق، مصدقا لما بين يديه، وأنزل التوراة
والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان}
وقال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا
تكن للخائنين خصيما}
وقال تعالى: {يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرٌ لكم}.
وقال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا
عليه}
وقال تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق}
سعادة أهل الحق بقبول الحق
وشقاوة أهل الباطل برفضه.
وقد سعد قوم بهذه الكتب التي أنزلها الله
تعالى على رسله بالحق لإيمانهم بها، كما سعدوا بأولئك الرسل الذين أرسلهم بالحق
لطاعتهم لهم واتباع منهجهم، ففازوا بالفلاح في الدنيا والآخرة. كما قال تعالى:
((ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة
ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة
هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون)) [البقرة: 1-5]
وشقي آخرون بإنزال تلك الكتب وإرسال أولئك الرسل، لعدم إيمانهم بالحق الذي نزلت
به تلك الكتب، وعدم طاعتهم لأولئك لرسل الذين جاءوهم بالحق من ربهم. كما قال
تعالى: ((وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين..)) [سبأ: 43]
وقال تعالى: ((وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين، ويجادل الذين كفروا
بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا..))[الكهف: 56]
وقال تعالى: ((واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا
يُرجعون..))[القصص: 39
وقال تعالى: ((وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم
فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني
ولوموا أنفسكم، ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل
إن الظالمين لهم عذاب أليم..)) [إبراهيم: 22]
والحق ضد الباطل والضلال. جاء الرسل بالحق ودعوا إليه وجاء الشيطان وأتباعه
بالباطل والضلال ودعوا إليه، والحق تعالى يريد أن يحق الحق ويبطل الباطل.
كما قال تعالى: ((فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون...)) [يونس: 32]
وقال تعالى: ((ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون...)) [الأنفال: 8]
وقال تعالى: ((بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق..)) [الأنبياء:
18]
ويعترف أهل الحق بالحق عندما ينالون رضا الله اعتراف شكر وغبطة وسرور في جنات
عدن. كما قال تعالى: ((والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها
أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون، ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم
الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم
تعملون...))[الأعراف: 43]
ويعترف أهل الباطل بالحق، عندما ينالون جزاء إنكارهم له في الدنيا، وهم في نار
جهنم يتمنون أن يجدوا شفيعا ينفعهم أو إذنا لهم بالرجوع إلى الدنيا ليعملوا
عملا يكون أساسه الحق وليس الباطل. كما قال تعالى: ((يوم يأتي تأويله يقول
الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد
فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون...))
[الأعراف: 53]
والذي كانوا يفتر ونه، هو الباطل الذي آمنوا به في الدنيا، والكفر بالحق الذي
أقروا به بعد دخولهم النار كما قال تعالى: ((والذين أمنوا بالباطل وكفروا بالله
أولئك هم الخاسرون..)) [العنكبوت: 52]
والباطل هو الضلال الذي يقابل الحق والهدى، وكل ما عدا الحق والهدى فهو باطل
وضلال. كما قال تعالى: ((فذلكم الله ربكم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى
تصرفون..))[يونس: 32]
وقال تعالى: ((ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم
الظالمين...)) [القصص: 50]
وقال تعالى: ((أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت
تجارتهم...))[البقرة: 16]
والحق يطلق على الثابت المستقر، والباطل يطلق على نقيض الحق، وهو ما لا ثبات له
عند الفحص عنه [المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني. الطبعة الهندية
ص50]
والضلال أيضا ضد الهداية، وهو العدول عن الصراط المستقيم والزائل المضمحل.
[المرجع السابق، ص299، وكتب اللغة مادة (ض ل ل]
وحيث إن الباطل هو ضد الحق-وكذلك الضلال-فإن بيان الحق يوضح معنى الباطل-وكذلك
الضلال-.
وقد فصل الإمام [العلامة الحسين بن محمد بن المفضل الملقب بالراغب الأصفهاني
المفسر اللغوي، المتوفى سنة 502هـ-. ] رحمه الله معاني الحق في القرآن الكريم،
فقال: (أصل الحق المطابقة والموافقة، كمطابقة رجل الباب في حقه لدورانه على
استقامة. والحق يقال على أوجه:
الأول:
يقال لموجِد الشيء، بسبب ما تقتضيه الحكمة، ولهذا قيل في الله تعالى: هو الحق،
قال الله تعالى: ((و ردوا إلى الله مولاهم الحق...)) وقيل بعيد ذلك: ((فذلكم
الله ربكم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون..)) [يونس: 30-32]
والثاني:
يقال: للموجَد، بحسب ما تقتضيه الحكمة، ولهذا يقال: فعل الله تعالى كله حق.
وقال تعالى: ((هو الذي جعل الشمس ضياءً ا والقمر نورا...)) إلى قوله تعالى:
((ما خلق الله ذلك إلا بالحق...)) [يونس: 5]
وقال في القيامة: ((ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق..)) [يونس: 53]
وقوله عز وجل: ((الحق من ربك..)) [البقرة: 147، آل عمران: 60] ((وإنه للحق من
ربك..)) [البقرة: 149]
والثالث:
في الاعتقاد للشيء المطابق لما عليه ذلك الشيء
في نفسه كقولنا: اعتقاد فلان في البعث والثواب والعقاب والجنة والنار حق، قال
الله تعالى: ((فهدى الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق...)) [البقرة: 213]
والرابع:
للفعل والقول، بحسب ما يجب، وبقدر ما يجب وفي الوقت الذي يجب، كقولنا: فعلك حق،
وقولك حق.
قال الله تعالى: ((كذلك حقت كلمة ربك..)) [غافر: 6] ((حق القول مني لأملأن
جهنم..)) [السجدة: 13]
وقوله عز وجل: ((ولو اتبع الحق أهواءهم...)) [المؤمنون: 71] يصح أن يكون المراد
به الله تعالى، ويصح أن يراد به الحكم الذي هو بحسب مقتضى الحكمة.
ويقال: أحققت كذا، أي أثبته حقا، أو حكمت بكونه حقا.
وقوله تعالى: ((ليحق الحق..)) [الأنفال: 8] فإحقاق الحق على ضربين: أحدهما
بإظهار الأدلة والآيات، كما قال تعالى: ((وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا
مبينا)) [النساء: 91] أي حجة قوية. والثاني: بإكمال الشريعة وبثها في الكافة،
كقوله تعالى: ((والله متم نوره ولو كره الكافرون..)) [الصف: 8] ((هو الذي أرسل
رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله..)) [التوبة: 33 ، الفتح: 28 ،
الصف: 9] انتهى كلام الأصفهاني
ومما ذكره الإمام الأصفهاني رحمه الله يتبين أن الله تعالى هو الحق، كما أطلق
ذلك على نفسه في كتابه، وهو تعالى الموجد للكون كله بحسب ما تقتضيه الحكمة، أي
جميع مخلوقاته تعالى قد أوجدها وفق الحكمة الكاملة التامة. وأن فعله تعالى حق
لأن كل شيء أوجده إنما أوجده بالحق، وأن كل ما جاء به الرسل من عند الله تعالى
حق، من عقيدة وشريعة وخلق....
وأن قوله تعالى وكلماته كلها حق.
وأن كل ما خالف الحق- على تنوع إطلاقاته- ضلال وباطل.
المعنى الشرعي للحق والمعنى الشرعي
للباطل.
فالمعنى الشرعي- وأقصد هنا: المعنى الشرعي
العام للحق، كما يتضح مما مضى ومن الرسالة الربانية، منذ خلق الله تعالى الخلق
وشرع لهم منهاجه الذي فرض عليهم السير عليه- هو الإيمان به وبكل ما أخبر به من
الغيب، وطاعته المطلقة وعبادته واتباع رسله، وعدم معصيته، والكفر بكل من يخالف
منهجه، وتطبيق شرعه، والاستسلام لذلك والرضا به.
أما الباطل، فمعناه الشرعي-وأقصد أيضا المعنى الشرعي العام الشامل لكل ما هو
باطل عند الله- فهو الكفر بالله تعالى، أو بما أخبر به في وحيه المنزل المحفوظ،
وما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم من عنده، والاستكبار عن طاعته وطاعة رسوله
صلى الله عليه وسلم وعدم اتباعه ومحاربة شرعه، وعدم الاستسلام لحكمه وعدم الرضا
به، فكل ذلك باطل.
وقد أجمل الحق عز وجل المعنى الشرعي للحق وللباطل في هذه السورة القصيرة، وهي:
((بسم الله الرحمن الرحيم، والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا
الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)) [رقم السورة في المصحف: 103]
فالإيمان والعمل الصالح يدخل تحتهما كل مفردات الحق، وإنما أفرد التواصي بالحق
والتواصي بالصبر لمزيد الاهتمام بهما، لأن الحق لا يثبت ويقوى إلا بهما، فهما
من ذكر الخاص بعد العام-والعام هنا هو الإيمان الدال عليه الفعل "آمن" والعمل
الصالح. والباطل هو ما كان نقيض ذلك، ولهذا أثبت سبحانه وتعالى لمن لم يكن عنده
هذا الحق الخسران المؤكد، وبهذا يعلم عظم هذه السورة القصيرة التي قال عنها
الإمام الشافعي رحمه الله: "لو لم ينزل الله على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم".
ومن الآيات التي أجمل فيها معنى الباطل قول الله تعالى: ((قل إنما حرم ربي
الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم
ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون..)) [الأعراف: 33
أيهما أسبق وجودا الحق أم
الباطل؟
وما دام الله سبحانه وتعالى هو الحق- و ((هو
الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم..)) [الحديد: 3] وهو الذي خلق
الكون كله بالحق، ولم يعرف من يؤمن بالباطل ويصر عليه وعلى نشره إلا إبليس لعنه
الله ثم من تبعه بعد ذلك- فإن الباطل أمر طارئ والحق هو الأصل الثابت، فالحق هو
الكلمة الطيبة، والباطل هو الكلمة الخبيثة.
والكلمة الطيبة هي كلمة الله ومنهاج رسله، والكلمة الخبيثة هي كلمة الشيطان
وسبل اتباعه، كما قال تعالى: ((ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة
أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال
للناس لعلهم يتذكرون، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها
من قرار، يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة
ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء)) [إبراهيم: 25-27]
تأمل هذه الآيات من سورة إبراهيم الواضحة غاية الوضوح، في ثبات الحق وطيبته
ورسوخه وسمو قه وعلوه وامتداده ودوام آثاره التي لا يخلو زمان من قطوفها
الدانية ومنحها السابغة، ومع ثبات الحق ثبات أهله في الدنيا والآخرة.
أما الباطل، فهو خبيث مقطوع الجذور لا ثبات له ولا قرار، وهكذا أهله مضمحلون
((ويضل الله الظالمين..)).
وقبل هذه الآيات صور سبحانه وتعالى اضمحلال أهل الباطل وأعمالهم و باطلهم أبلغ
تصوير، فقال تعالى: ((مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في
يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد)) [إبراهيم: 18-19]
ثم اتبعها بقوله تعالى مبينا أن الباطل وأهله في شذوذ عن الكون كله: ((ألم تر
أن الله خلق السماوات والأرض بالحق..))
قلت: إنه لم يُعرَف من يؤمن بالباطل ويصر عليه وعلى نشره إلا إبليس لعنه الله،
فالباطل إذًا طارئ طروء إبليس.
وقبل أن يغري إبليسُ آدمَ وزوجه حواء عليه السلام، بأكل الشجرة التي حرم الله
عليهما الأكل منها، نهاهما الله تعالى عن الأكل منها وحذرهما منه، أي إن حفظ
العقول من الباطل كان أسبق من إيصاله إليها، كما قال تعالى: ((وقلنا يا آدم
اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تأكلا من هذه الشجرة فتكونا
من الظالمين)). [البقرة:35]
وكان آدم عليه السلام عندما أهبطه الله هو وزوجه وإبليس إلى الأرض، على الفطرة
والدين والتوحيد الخالص، وكان قائما بالخلافة التي ناطها الله به وأخبر بها
ملائكته، وكان إبليس وحده على الشرك والمعصية، كما سيأتي، وهذا يدل على بطلان
ما يزعم المتخرصون من المؤرخين الذين يفترون على الله بدون علم ولا برهان، أن
الأصل كان عبادة غير الله وأن العقيدة قد تطورت من الشرك والوثنية حتى وصلت إلى
التوحيد، فهذا افتراء وتقوُّل على التاريخ وجهل بالله وبكتبه ورسله ووحيه الذي
لا مستند سواه لأحد في هذا الباب، الذي هو من الغيب، ولا سبيل إليه إلا بوحي من
الخالق، وقد أخبرنا الخالق سبحانه وتعالى أنه جعل آدم خليفة في الأرض، والخليفة
الذي يمنحه الحق تبارك وتعالى الخلافة، لا بد أن يزوده الحق عز وجل بالمنهاج
الحق الذي يقوم بالخلافة على أساسه ((قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني
هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا
أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون..)).[البقرة: 38-39]
ومما يدل على أن آدم وذريته كانوا على هدى من عند الله، ما تضمنته قصة ابني آدم
الذي قتل أحدهما أخاه، فقد دلت القصة على أنهم كانوا يتقربون إلى الله بقرابين،
وأن الله يتقبل من المتقي ولا يتقبل من الظالم، وأن المتقين كانوا يخافون الله
ويتورعون عن معصيته، وأنهم كانوا يؤمنون بالجنة والنار والجزاء، كما قال تعالى:
((واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قرّبا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من
الآخر، قال لأقتلنك، قال إنما يتقبل الله من المتقين، لئن بسطت إليّ يدك
لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين، إني أريد أن
تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين، فطوعت له نفسه قتل
أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين)) إلى قوله تعالى: ((فأصبح من النادمين)).
[المائدة: 27-31]
فآدم وذريته كانوا على التوحيد والطاعة، وكان لهم منهج من عند الله يسيرون عليه
ويتقربون إليه، وكانوا يعرفون الحلال والحرام والجنة والنار والإثم والجزاء،
وكان إبليس نفسه الذي أغوى آدم وزوجه في الجنة أولا وأقسم على ضلال ذرية آدم
بعد طرده من رحمة الله ثانيا، كان يعلم الحق والباطل، وارتكب الباطل وعصى أمر
الله متعمدا متكبرا.
ولسنا في حاجة إلى مناقشة شبهات جهلة التاريخ الغابر، فلا توجد وثيقة أصدق من
كتاب الله ولا أصح منه حتى نحتاج إلى مناقشتهم على ضوئها ((إن هذا القرآن يهدي
للتي هي أقوم)) [الإسراء: 9]
من هم أهل الحق؟
تنبيهات ثلاثة مهمة:
الأول:
يجب أن يعلم أن مرادي بأهل الحق في هذا الكتاب أن صاحب الحق-بل هو الحق-: الله
جل جلاله، ثم أنبياؤه ورسله وكل من تبعهم واهتدى بهديهم، والمسلمون الذين يقرون
ويعترفون بأن الإسلام حق ويدخلون فيه بشهادة ألاّ إله إلا الله محمد رسول الله،
وأنه يجب العمل به وتطبيقه في الأرض، وأنه لم يبق في الأرض بعد بعثة الرسول أي
دين حق يقبله الله من أهله، ويدخل في زمرة أهل الحق من المسلمين الذين تلك
صفتهم من حصل منهم نوع تقصير من ارتكاب بعض المعاصي أو ترك بعض الطاعات-ما عدا
الشرك بالله-التي هي تحت مشيئة الله إن شاء غفرها لهم، وإن شاء عذبهم بها، ثم
أدخلهم الجنة، وقد يكون عند بعض هؤلاء شيء من الباطل الذي يجب الرد عليه،
ولكنهم لا يخرجون من صف أهل الحق-إلا عند الخوارج ومن تبعهم في مذهبهم عالما أو
جاهلا-وأن مرادي بأهل الباطل: كل من لم يدخل في الإسلام، أو انتسب إليه ولكنه
ارتد عنه، أو زعم أنه مسلم وحارب تطبيق شريعة الله في حياة المسلمين وكلَّ من
دعا إلى ذلك التطبيق. ولا يدخل في أهل الباطل من اجتهد من العلماء فأخطأ في نظر
غيره من المجتهدين، فإن للمجتهد أجرين إذا أصاب وأجرا إذا أخطأ، وقد يكون الخطأ
عند من خطَّأه.
التنبيه الثاني:
أني لم أقصد بأهل الحق فئة معينة من المسلمين، ولا أهل بلد معين، كما لا أقصد
من أهل الباطل فئة معينة ولا أهل بلد معين، وإنما قصدت أهل الحق من حيث هم من
أي فئة كانوا، وفي أي أرض من أرض الله حلوا، وقصدت أهل الباطل من حيث هم من أي
فئة كانوا، وفي أي أرض حلوا.
التنبيه الثالث: أن قصدي بالحق هو الحق
الرباني الذي كلف الله عباده التسليم له به، والهدى الإلهي الذي أنزل به وحيه
وبعث به رسله ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، والذي لا يقبل الله من أحد
دينا سواه، وهو الإسلام، وليس مرادي ما وصلت إليه الأمم من التجارب القانونية
والإدارية والكونية التي قد يوجد فيها الحق والباطل وهي أمور تشترك فيها كل
الأمم في كل الأزمان، فلست أنفي وجود حقٍّ مَّا عن أهل الباطل، وإنما أنفي عنهم
الحق الإلهي الذي جحدوه وكفروا به وحاربوه
صاحب الحق الأول هو الحق جل جلاله، فمن أسمائه الحق، كما سبق وخلق السماوات
والأرض وما بينهما بالحق وأنزل كتبه ووحيه بالحق، وبعث رسله بالحق، وكلماته
كلها حق و أفعاله كلها حق.
ثم أنبياء الله ورسله الذين كلفهم تبليغ رسالاته إلى الناس، ومن استجاب لهم من
أقوامهم فآمن بما جاءوا به وعمل به ودعا إليه، وبخاصة من ناصرهم وصار حواريا
لهم، يظهر ذلك من قصص الأنبياء والرسل مع أقوامهم، وقد أمر الله تعالى نبيه
ورسوله الخاتم أن يقتدي بمن سبقه من الرسل-بعد أن ذكر طائفة منهم
بأسمائهم-فقال: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده..} الأنعام: 90 وهم أهل
طاعته الذين أنعم عليهم، ذلك الموكب العظيم الذي قال الله تعالى فيهم: {ومن يطع
الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين وحسن أولئك رفيقا..} النساء: 69 وخير أمم الحق أمة محمد صلى الله
عليه وسلم التي شهد الله لها بالخيرية التي نالتها بما منحها الله تعالى من
المؤهلات {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون
بالله}. آل عمران: 110
وهم حزب الله وأولياؤه الذين يجاهدون في سبيله ويحبهم ويحبونه، ولا يخافون لومة
لائم ويتولونه ويتولون أولياءه، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد
منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على
الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، ذلك فضل الله يؤتيه من
يشاء والله واسع عليم، إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون
الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ومن يتول الله ورسوله والذين أمنوا فإن حزب
الله هم الغالبون..}. المائدة: 54، 56 {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض
يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله
ورسوله، أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم..}. التوبة: 71{أولئك حزب الله
ألا إن حزب الله هم المفلحون..}. المجادلة: 22هؤلاء هم أهل الحق.
فمن هم أهل الباطل؟
وأهل الباطل-على عكس أهل الحق-فقائد هم
وقدوتهم في الباطل هو إبليس، أول من عصى الله واستكبر عن طاعته وكفر به، وأغوى
من أطاع ربه، وحسده وكان سببا في إخراجه من الجنة، وأقسم على الاستمرار في
إضلال ذريته إلى يوم البعث، وهكذا اتباعه الذين يتبعون خطواته ويسيرون في شعاب
كفره لا ينفعهم إنذار، ولا تفيدهم الآيات يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف.
قال تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان
من الكافرين..}. البقرة: 34 وقال تعالى: {ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا
إلا إبليس لم يكن من الساجدين، قال ما منعك ألاَّ تسجد قال أنا خير منه خلقتني
من نار وخلقته من طين}. الأعراف: 11،12
وقال تعالى: {تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو
وليهم اليوم ولهم عذاب أليم}. النحل: 63
وقال تعالى: {والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم
الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا}. النساء: 38
وقال تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء}. البقرة: 268
وقال تعالى: {يا أيها الذين أمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات
الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر}. النور: 21
وقال الله تعالى عن إبليس نفسه: {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم
ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم
شاكرين}. أعراف: 16،17
وقال تعالى عن اتباع إبليس: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم
لا يؤمنون}. البقرة: 6
وقال تعالى: {وما تأتيهم من أية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين، فقد كذبوا
بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون}. الأنعام: 4،5
وقال تعالى : {استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن
حزب الشيطان هم الخاسرون}. المجادلة: 19
هل يعد متبع الباطل عاقلا؟
خلق الله تعالى الإنسان مزودا بآلات حسية
ظاهرة للعيان، أو خفية في داخل جسمه، لتقوم تلك الآلات بما هيأها الله سبحانه
وتعالى من عمل: أسنان تطحن ولسان يخلط ويتذوق وينظف، وجلد يحس ويتألم، ويد تبطش
وتأخذ، وجل تمشي وتسير، وأذن تسمع، وعين تبصر، وأنف تشم وتستنشق الهواء النافع
للجسم من الخارج ويعبر منها الهواء الفاسد من الداخل، وحلق يدخل منه الطعام
والماء والهواء، ومعدة تهضم الطعام، وقلب يضخ الدماء وينقيها، وهكذا: الرئة،
والكلى، والجهاز الإخراجي والجهاز الدوري وغيرها، كل هذه الآلات وأجزائها تقوم
بعمل قد هيأها الله له، فإذا فقد أي منها تعطل عملها الذي هيئت له، فإذا فقد
البصر قيل لصاحبه أعمى، وإذا فقد السمع، قيل لصاحبه أصم، وإذا فقد النطق قيل
لصاحبه أبكم، والبصر قد يفقد والعينان في ظاهرهما سليمتان، والسمع قد يفقد
والأذنان في ظاهرهما كذلك وهكذا....
وهناك آلة معنوية زود الله بها الإنسان، لا يستفيد من كثير من آلاته الحسية،
إذا لم تكن هذه الآلة موجودةً، وهي العقل الذي جعله الله سبحانه وتعالى ميزانا
لإدراك الحق من الباطل، في حدود مجاله الذي خلقه الله للعمل فيه.
وكل هذه الآلات إذا لم يستعملها الإنسان في ما خلقت له، أو لم يستعملها في أهم
ما خلقت له، فإنها تعتبر بمنزلة الآلة المفقودة، ولذلك يصح نفيها مع وجودها
فيقال: فلان لا يسمع، إذا سمع صوتا بدون أن يصغي لذلك الصوت ليفهم معناه،
ويقال: فلان لا يبصر، إذا رأى شيئا دون أن تحصل فائدة من رؤيته، كما يقال: فلان
لا يعقل، إذا لم يستعمل عقله فيما يعود عليه بالفائدة.
ولهذا امتن الله تعالى على الإنسان بتزويده بهذه الآلات النافعة التي تستوجب من
الإنسان شكر ربه تعالى عليها، فإذا لم يشكره بها وعليها فقد أصبح كفاقدها، لأن
شكر الله تعالى هو أهم ما خلقت من أجله.
قال تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع
والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} [ النحل: 78]
ونفى سبحانه عمن لم يشكره بهذا الآلات منافعها، وهي: الإبصار والسمع والفقه-أو
العقل-فقال تعالى: {ولقد ذر أنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس، لهم قلوب لا
يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام
بل هم أضل أولئك هم الغافلون} [ الأنعام: 179]
وقال تعالى: {وإن تدعهم إلى الهدى لا يسمعوا، وتراهم ينظرون إليك وهم لا
يبصرون} [ الأعراف: 198]
بل إن الذين لا ينتفعون بهذه الآلات في الدنيا ينفونها عن أنفسهم، عندما
يعاينون جزاء الله لهم في الآخرة على غفلتهم وعدم استعمالهم لها فيما خلقت له،
كما قال تعالى: {كلما أُلقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور، تكاد تميز من
الغيظ كلما أُلقيَ فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير، قالوا بلى قد جاءنا
نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير، وقالوا لو كنا
نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} [ الملك: 7،10]
ولهذا خص من يعقل الانتفاع بآياته الكونية والشرعية، مع أن تلك الآيات قابلة
لينتفع بها كل الناس، ولكن الذي لا ينتفع بعقله من تلك الآيات ينزل منزلة من لم
تكن تلك الآيات قابلة لانتفاعه منها.
قال تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري
في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد
موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض
لآيات لقوم يعقلون} [ البقرة: 164]
وليس المراد هنا مجرد وجود عقل لهؤلاء القوم، وهو الذي يقابله
الجنون، وإنما المراد عقل يهدي صاحبه إلى الانتفاع بتلك الآيات، بدليل نفي الله
تعالى السمع والعقل عن المكلفين بتصديق الرسالة الذين أنكروها. كما قال تعالى:
{أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو
يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} [ الفرقان: 43،44]
ومثله قوله تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان
يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [ الحج:
46]
فكل من كلف خطاب الله تعالى، فلم يستجب لذلك الخطاب الحق بل اتبع الباطل، يصح
أن ينفى عنه العقل باعتبار أنه لم ينتفع بعقله في أهم ما خلق من أجله.
ولهذا نَفَى عن الكافرين بالحق المؤمنين بالباطل العقلَ، فقال جل وعلا: {ومثل
الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا
يعقلون} [ البقرة: 71]
وقال عن أهل الكتاب الذين يستهزئون بدين الله: {وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها
هزوا ولعبا، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} [ المائدة: 58]
وقال فيمن افترى على الله الكذب فأحل ما حرم الله أو حرم ما أحل الله من
المشركين-وغيرهم مثلهم-{ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام،
ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون} [ المائدة: 103]
وقال تعالى: {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون إن شر الدواب عند
الله الصم البكم الذين لا يعقلون} [ الأنفال: 21،22]
وقال تعالى: {ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون،
ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون} [ يونس: 42، 43]
وهكذا يصح نفي العلم عمن لم يعمل به.
وبهذا يعلم أن الذي يتبع الباطل ويترك الحق غير عاقل، وإن توقّد عقله في كثير
من ظاهر الحياة الدنيا.
وبهذا أيضا نعلم منزلة العقل المهتدي إلى الحق التارك للباطل عند الله تعالى.
منزلة العقل عند الله وأثره في الحياة.
وظاهر من الآيات القرآنية-كما هو الواقع-أن
الإنسان لو لم يمنحه الله العقل، لكان أضل من الحيوان، ولما كان خليفة وسيدا في
الأرض.
ولو أن أهل العقول أعملوها وفكروا بها في المجالات التي وجدت من أجل إعمالها
والتفكير بعقولهم فيها، وعملوا بمقتضى النتائج التي تتوصل إليها على أساس سليم،
لسعد الناس بذلك في الدنيا والآخرة.
ومن تلك الميادين: الكون الذي أبدعه الله في السماوات والأرض وما بينهما، مما
يمكن للعاقل أن يتناوله بالتفكير فيه بعقله، وهو كتاب الله المفتوح الذي فيه من
الدقة والإحكام والإتقان، ما يذهل العقول ويجعلها تستسلم للخالق وتستفيد من
مخلوقاته في تسخيرها لصالح الأمم، بقوانينها ونواميسها التي أودعها الله تعالى
فيها.
ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم
قول الله تعالى: {هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون،
ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية
لقوم يتفكرون 1 وسخّر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن
في ذلك لآيات لقوم يعقلون، وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية
لقوم يذّكرون 2 وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حليةً
تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون..3 وألقى في
الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون.. وعلامات وبالنجم هم
يهتدون... أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون.. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها
إن الله لغفور رحيم }[النحل: 10، 18] [1- ولا تفكر بدون عقل سليم 2- ولا
يتذكرون إلا بالعقول 3- وهل يشكر إلا العاقل]
فترى القرآن الكريم يجول بالعقل في السماء-شمسها وقمرها ونجومها وكواكبها
ومائها-وفي الأرض-بخيراتها، من زروعها و أشجارها وبحارها وأنهارها وجبالها
وسهولها، ويجعل ذلك كله مجالا للعقل ليتفكر فيه ويتذكر ويهتدي ويشكر، ومن شُكْر
ذلك استغلالُ هذا الكون في مصالح العباد على أساس هدي الله تعالى.
ومن تلك الميادين:
فقه نصوص القرآن والسنة، والتعمق في فهمها واستنباط ما تحتاج إليه البشرية
منها، لتتقي ربها وتسير في تصرفاتها على منهجه، مع فهم أسراره وحكمه إن أمكن
ذلك، وإلا فالتسليم المطلق لشرع الله تعالى، فإن التسليم لشرع الله هو عين
الفقه والعقل، وعدم التسليم لذلك هو عين الجهل والخطل.
قال تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين
إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما
ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلك وصاكم به لعلكم
تعقلون، ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل
والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى
وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذّكرون.. وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه
ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} [ والتقوى
تكليف ولا تكليف إلا لعاقل]
فهذه الوصايا العشر الجامعة،
لو تأملها الناس وفكروا في مصالحها التي لا سعادة لهم بدونها وفهموا معانيها
والآثار المترتبة على تطبيقها والعمل بها، لعاشوا عيشة هنيئة في ظلال شرع الله
العظيم.
وقد ختم الله الخمس الأولى منها بقوله تعالى: {لعلكم تعقلون..} إشارة إلى أن
هذه الأمور لا بد أن يسلم العقل بضرورة مراعاتها، و أن من لم يفقه الحكمة من
هذه التكاليف ولا يستسلم لشرع الله ويطبقه، ليس من العقلاء الأسوياء بل هو أضل
من الحيوان.
وختم الأربع الوصايا الأخرى بقوله تعالى: {لعلكم تذكرون..} والتذكر لا يكون إلا
من عاقل يفهم خطاب الله ويعلم أنه لا يأمر إلا بخير ولا ينهى إلا عن شر.
وختم الوصية العاشرة-وهي أشمل الوصايا وأعظمها-بقوله تعالى: {لعلكم تتقون..}
والتقوى هي المقصودة، لأن صاحبها يتورع عن ترك الأمر وفعل النهي، تعظيما لله
ورغبةً فيما عنده وخشية من عذابه.
وقال تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا
قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} [ التوبة: 122]
وقال تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول
وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم..} [ النساء: 13]
والاستنباط: الاستخراج والبحث.
والبحث والاستنباط هنا يعنيان الاجتهاد من أهله للوصول إلى الحكم الواجب تطبيقه
العائد بالخير على الأمة، المرضي لله تعالى، وهذا لا يكون إلا من ذوي العقول
النيرة التي صاغها شرع الله.
ولولا أن الله تعالى هيأ للأمة الإسلامية أمثال هؤلاء العقلاء المستنبطين للأمة
أحكام الله من شريعته، لكان الشيطان قائد هم إلى كل سوء، ولعل ذلك من حكمة هذا
التعقيب الرباني في هذه الآية: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان
إلا قليلا}.
فالعقل السليم له أثره العظيم في حياة
الناس، لأن أهل العقول السليمة يفكرون
في مصالح الأمة ويدعونها إليها، كما يفكرون في المفاسد التي يجب اجتنابها
وينهونهم عنها [ يجب التنبيه هنا على عبارة شائعة متداولة بين عامة الناس،
وأصبحت لكثرة تردادها وتكرارها كأنها قضية مسلمة، وأكثر من يرددها ,, الرياضيون
ومشجعوهم،، وهي: (العقل السليم في الجسم السليم). ولا شك أن في اجتماع سلامة
الجسم وسلامة العقل نعمة عظيمة على صاحبهما، وإذا أريد بسلامة العقل السلامة من
الآفات المعنوية والمادية فالنعمة بذلك أعظم. و لكن هذه العبارة غير مطردة،
لوجود كثير من ذوي الآفات الجسمية-كالعمى، والصمم، والعرج، والشلل-ممن منحهم
الله عقولا سليمة قوية مخترعة مبدعة في العلوم الإسلامية وما يخدمها كاللغة
والأدب والبلاغة والتاريخ وغيرها من العلوم المسماة ب-(الإنسانية)، والعلوم
الكونية المتعددة التي نفع الله بها العالم قديما وحديثا، ولوجود كثير من ذوي
الأجسام السليمة القوية-كمصارعي الثيران والأقران من أبناء جنسهم، وبعض أفراد
الفرق الرياضية الذين لم تتجاوز عقولهم التفكير في تقوية عضلاتهم وإشباع
غرائزهم بما حل وحرم!]
وكفى بالعقل منزلة عند الله معرفة
الأمور الثلاثة الآتية:
الأمر الأول:
أنه مناط التكليف وأن غير العاقل لا ينال شرف التكليف من الله تعالى، ذلك أن
التكليف لا يكون إلا لمن أمكنه علم الحق والعمل به ومعرفة الباطل وتركه، وهذا
لا يمكن إلا من أهل العقول. ولهذا تجد علماء الإسلام يذكرون في كتبهم أصولا
كانت أو فروعا أن من أهم شروط التكليف: العقل، فلا يكلف غير العاقل …
الأمر الثاني:
أن العقل هو إحدى الضرورات الخمس التي لا تكون
الحياة في الأرض مستقرة ولا قائمة بدون حفظها. وهي: الدين، والنفس، والعقل،
والنسل، والمال [راجع كتابنا: الإسلام وضرورات الحياة ص 105 الطبعة الثانية.
نشر وتوزيع دار المجتمع. جدة]
الأمر الثالث:
أن الله تعالى أرسل رسله وأنزل كتبه لإبلاغ
الناس دينه الحق، مبينا لهم بحججه وبراهينه أن ذلك الدين حق وأن ما خالفه باطل،
ملجئا تلك العقول بتلك الجج والبراهين، إلى التسليم الاختياري بأن دين الله حق
وأنه الهدى والرشاد، وأنه جالب لمصالحهم في الدارين، واق لهم من المفاسد فيهما.
ومن هنا لم يأذن الله تعالى بإكراه الناس على الإيمان به، مكتفيا ببيان أن ذلك
الإيمان حق، بيانا قائما على الحجة والبينة التي يقر بها عقل المخاطب-وإن كابر
وعاند-ويتبين بها الرشد من الغي، كما قال تعالى في كتابه الكريم:{لا إِكْرَاهَ
فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ
بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ
الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} البقرة (256) وقال
تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا
أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} يونس (99).
وقد امتلأ كتاب الله بالآيات الدالة على هذا المعنى العظيم الذي يبين عظمَ
منزلة العقل عند الله تعالى، وحفزَه على التأمل والتفكر الموصلَينِ له إلى
معرفة الحق والباطل.
وإن أي إنسان عاقل يستغل طاقته العقلية في تأمل بعض تلك الآيات، لا بد أن يوقن
بأن ما جاءت به رسل الله ونزلت به كتبه حق. و لنذكر بعضا من تلك الآيات بدون
تعليق، ليتأملها طالب الحق ثم يسأل عقله بعد ذلك: هل تبين له أن الله تعالى حق
وأن عبادته حق، وأن الكون كله دال على ذلك، وأن الله تعالى قد أنزل عقله منزلة
عظيمة يجب عليه أن يشكرها ويصون ذلك العقل من عبث المتلاعبين به أو لا؟ من ذلك
قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالفلك الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ
النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ
الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} البقرة: (164) وقوله تعالى: {المر تِلْكَ آيَاتُ
الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الحق وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ
عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ
الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ
الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ
جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ
مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ
وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى
بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)}
الرعد.
وقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(1)يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ
أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ
إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِي (2)خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالحق
تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ
خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ
وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ
تَسْرَحُونَ (6)وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا
بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ
(7)وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ
مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ
وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ(9) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ
مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ
لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ
الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)وَسَخَّرَ
لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ
مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
(12)وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ
لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَهَا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفلك
مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(14)وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا
وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ
يَهْتَدُونَ(16)أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
(17)} النحل.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَسْمَعُونَ(65)وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا
فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا
لِلشَّارِبِينَ(66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ
مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ (67)وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ
الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي
مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ
بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ
يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا
يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)} النحل.
وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ
يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى
الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} الحج.
وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا
وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) الروم.
وقوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا
مَلَكَتْ إيمانكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ
سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ
الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) الروم.
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ
لِلْمُؤْمِنِينَ(3)وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ
لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ(4)وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ
اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)} الجاثية.
وقوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ
وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) البقرة.
وقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ (2)} يوسف.
وقوله تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا
تَعْقِلُونَ(10) الأنبياء.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (80) المؤمنون.
وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ
مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ
ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ
وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)} غافر.
وقوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ
بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)} الحديد.
وبهذا يعلم إجرام قادة الباطل وجنايتهم على أنفسهم وعلى غيرهم، وتمسكهم بتقليد
الآباء والمتبوعين الذين عطلوا نعمة الله عليهم بتلك العقول، ليميزوا بها الحق
ويتبعوه، ويعرفوا بها الباطل ويجتنبوه، فحرموا أنفسهم وأتباعهم من هدى الله
الذي لا يُحْرمه إلا من لا عقل له، بل عطلوا بذلك كل المنافذ المحسوسة، كالسمع
والبصر التي تعرض على عقولهم ما تسمع وما تبصر من آيات الله في أنفسهم وفي
الكون الكبير، وأنزلوا أنفسهم منزلة أحط من منزلة الحيوان.
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ
نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ
يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ (170) البقرة.
وقال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا
يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا
يَعْقِلُونَ(171)} البقرة.
وقال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ
الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ(22)} الأنفال.
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ
قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا
وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ
أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ(179)} الأعراف.
وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ
الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)} يونس.
وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ
الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)}العنكبوت.
وقال تعالى: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ
مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا
وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ(14)} الحشر.
ولما كانت العقول والفطر السليمة، ترفض الباطل لفساده ومجافاته للحجج والبراهين
التي تسند الحق وتظاهره، لجأ أهل الباطل إلى إسناده وتأييده بالقوة والإكراه
والتضليل والاستخفاف.
وقد دلت على ذلك أدلة كثيرة، لا تخفى على من تأملها في جميع حقب التاريخ
الممتدة منذ أوجد الله الخليقة إلى يومنا هذا، وستبقى كذلك إلى قيام الساعة.
كما دلت على ذلك سير قادة الباطل وأساليبهم، منذ أن خلق الله آدم السلام
وابتلاه بقائد قادة الباطل: إبليس لعنه الله.
وبهذا يظهر السبب الذي جعل أهل الحق وأهل الباطل يتسابقون إلى العقول: أهل الحق
بحقهم، وأهل الباطل بباطلهم، لأن من سبق إلى العقول بما عنده ملك زمام أصحابها،
وقادهم إلى غايته بوسائله المتاحة واستثمرها وحظي بنتائجها، ومن كان أكثر سبقا
إلى العقول كان-في الغالب-أكثر أنصارا وأعوانا، فإن كثر أهل الحق وقويت شوكتهم،
أقاموا الحق في الأرض ونشروه وحموه من اعتداء أهل الباطل عليه، وإن كثر أهل
الباطل وقويت شوكتهم، أقاموا الباطل في الأرض ونشروه وحموه وحاربوا به وبأعوانه
الحق، وأحاطوا باطلهم بِجُدُرٍ من الحواجز الحسية والمعنوية ضد هجمات الحق عليه
ودحضه وكشف عواره للناس.