حرص الإنسان فردا كان أو أسرة أو حماعة- على حفظ حقوقه والدفاع عنها، أمر فطري
في كل الأزمان.
ويترتب على عدم حفظ الإنسان حقوقه والتفريط فيها،
آثار خطيرة، ومنها:
الأثر الأول:
جرأة أعدائه على ظلمه، وتسلطهم عليه.
الأثر الثاني:
ازدراؤه وسقوطه في أعين أصدقائه و عدم اهتمامهم
بمصالحه.
الأثر الثالث:
أنه يألف الذل والجبن ويستمرئهما ويألف النوم على الضيم.
وهذه الآثار لا ترضى بها لنفسها كثير من الحيوانات، لذلك ترى الحيوان –من كل
جنس-لا يستسلم لعدوان حيوان آخر، بل يدافع عن نفسه، حتى ينتصر أو يعجز عن
مقاومة المعتدي عليه.
بل إنك لترى فصيلا من جنس واحد من الحيوان، تتصارع بعض أفراده فيما بينها، فإذا
رأت حيوانا أجنبيا يهم بالاعتداء على بعض أفرادها، نسيت ثأرها فيما بينها،
واجتمعت لطرد العدو الأجنبي ودفع عدوانه.
فكيف بالإنسان الذي رزق العقل المفكر الذي يفرق بين المصالح والمفاسد، ويعرف ما
له وما عليه، هل يليق به أن يكون الحيوان أكثر حرصا منه على منافعه؟
ثم إن حفظ الحقوق والدفاع عنها، غير ممكن بغير اتخاذ أسباب القوة التي يحفظ بها
حقه ويدافع بها أعداءه.
وهاهو الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى يرسل حكمته مبينا أن الحق الذي لا يحميه
صاحبه يضيع:
وإذا كان الشاعر أراد من الجملة الأخيرة: (ومن لا يظلم الناس يظلم) أن صاحب
الحق ينبغي أن يسرع بظلم الناس قبل أن يسرعوا هم بظلمه، مبالغة منه في حماية
حقه، فإن ذلك غير مشروع في الإسلام، بل المشروع معاملة الناس-الولي منهم
والعدو-بالعدل، كما قال تعالى: ((ولا يجرمنكم شنآن قوم ألا تعدلوا اعدلو هو
أقرب للتقوى)) [المائدة: 8]
والمسلمون أولى الناس بحفظ الحق والدفاع عنه، لأنهم على بينة أن ما يقومون
بحفظه ويدافعون عنه، هو حق فعلا، وليس بباطل ولا ظلم، لتقيدهم في الحفظ والدفاع
بشرع الله الذي بينه لهم كتابه وسنة رسوله، بخلاف غير المسلمين، فإنهم كثيرا ما
يتعمدون حفظ الباطل والدفاع عنه، بل ويعتدون على الحق وأهله، لأنهم يشرعون
لأنفسهم ما يجوز وما لا يجوز، وتشريعهم معرض للغفلة والهوى والنسيان والجهل،
بخلاف تشريع الله في ذلك كله.
وقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يحفظوا حقوقهم ويحرصوا على مصالحهم، وذلك
أن يقوموا بتنفيذ ما أمرهم الله به من الفرائض-العينية والكفائية-وما يتبعها من
السنن والمباحات النافعة، وأن يتركوا ما نهاهم عنه من المحرمات والمكروهات.
ويدخل ذلك كله في فعل طاعة الله وتقواه، وترك ارتكاب نهيه ومعاصه.
فأمرهم بالإيمان أصوله وفروعه، وأمرهم بالتفقه في دينه والعمل بما فقهوه،
ونهاهم عن الشرك أصوله وفروعه، ووعد من أطاعه بثوابه الجزيل وجنته التي فيها ما
لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأوعد من عصاه وتعدى حدوده بدخول
نار جهنم والخلود الدائم والعذاب المهين فيها، كما قال تعال: ((ومن يطع الله
ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم(13)ومن
يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين)) [النساء]
كما أمرهم بالدفاع عن تلك الحقوق والمصالح، إذاما اعتدى عليها غيرهم.
ولهذا الدفاع بابان، هما: "باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" و"باب الجهاد
في سبيل الله" وقد فصلت القول في الباب الأخير في كتاب: "الجهاد في سبيل الله
–حقيقته وغايته" وهو ذروة سنام الإسلام.
فهل حفظ المسلمون حقوقهم ومصالحهم فيما بينهم؟ وهل ذادوا أعداءهم الظلمة
ودفعوهم عن الاعتداء على تلك الحقوق؟
لقد فرط المسلمون في كثير من طاعات الله تعالى، فتركوها، كما أفرطوا في كثير من
معاصيه فارتكبوها، فأضاعوا بسبب ذلك كثيرا من حقوق الله، وحقوق أنفسهم فيما
بينهم، أفرادا وجماعات، وترتب على ذلك ضعف صلتهم بربهم، الذي هانوا عنده
فعاقبهم بتسليط أذل أعدائه عليهم، وهو اليهود.
لقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بما يصل إليه المسلمون من الذل والمهانة،
وإنزال الرعب في قلوبهم من عدوهم مع كثرتهم، وتداعي أعدائهم من الأمم عليهم،
كما تتداعى الأكلة على قصعتها، وأن قلوب أعدائهم تخلو من المهابة منهم، وبين أن
السبب في ذلك، هو حب المسلمين للحياة الدنيا وكراهيتهم للموت، كما في حديث باب
ثوبان رضي الله عنه الذي عنون له أبو دود بقوله: "باب تداعي الأمم على الإسلام"
قال ثوبان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم، وفي
رواية أحمد: (من كل أفق)كما تداعى الأكلة إلى قصعتها) فقال قائل: ومن قلة نحن
يومئذ؟ قال: (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من
صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن) فقال قائل: يا رسول
الله وما الوهن؟ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت) [رواه أحمد: 22450 وأبو داود:
4297]
وقد ذكر الحديث شيخنا العلامة الألباني رحمه الله في صحيح أبي داود (3/810)
الباب الخامس من كتاب الملاحم.
ولو أن أعداء الإسلام تداعوا على هذه القصعة مع ضعف أهلها، بدون تعاون منهم مع
أعدائهم على اغتصابها، لكان الأمر أهون، ولكن المسلمين هم الذين بسطوا
قصعتهم(أي حقوقهم المتنوعة) ودعوا أعداءهم إلى اغتصابها والسيطرة عليها.
حارب كثير من المسلمين هذا الدين والدعاة إليه، ونبذوا كتاب الله وسنة رسوله
وراء ظهورهم، واستبدل غالبهم ما شرعه البشر بما شرعه الله، واتخذوا كل سبب يؤدي
إلى تنازعهم وتمزيق صفوفهم، ورفع بعضهم سلاحه ضد بعض، بدلا من رفعهم ذلك السلاح
في وجه عدوهم الذي احتل أرضهم، ودنس مساجدهم، وقتل إخوانهم وأخرجهم من ديارهم،
وسامهم سوء العذاب،استجابوا في ذلك كله لرغبة اليهود والصليبيين وحققوا به
أهدافهم.
أغروا دولتي العراق وبعض الدول العربية بالحرب الخليجية الأولى مع إيران، فقتل
فيها الملايين من المسلمين وصرفت فيها أموال هائلة من أموال المسلمين، وبدد
فيها سلاح فتاك كثير من أسلحة المسلمين، وتلك كلها كانت رصيد نصر وردع لليهود
أعداء المسلمين.
ثم أغروا نظام العراق بغزو الكويت واحتلالها، لتنفيذ حرب الخليج الثانية التي
خططوا لها قبل ذلك بأكثر من عشر سنين، فاستجاب النظام لذلك الإغراء، فكان سببا
في تداعي الأكلة على قصعتها، وبذلك حطموا ما بقي من مال واقتصاد للمسلمين،
ودمروا ما بقي من سلاح وعتاد للمسلمين، وأزهقوا الكثير من أرواح المسلمين،
ووسعوا دائرة النزاع والخلاف بين المسلمين، ولا زالت آثار تلك الحرب المدمرة
تخيم على المسلمين، وكانت فاتحة للاعتراف بشرعية الدولة اليهودية المغتصبة
لأرضنا في فلسطين.
وهاهما اليهودية الصهيونية، والصليبية المعاصرة الغربية، قد دبرتا خطة جديدة
لمزيد من ضرب المسلمين ببعض، وهاهي غالب حكومات المسلمين تستضيف الأمم
المتداعية إلى قصعتهم متعاونين مع تلك الأمم على إخوانهم في أفغانستان،
يحاصرونهم من كل جانب، لا يجدون طعاما يأكلون، ولا ماء يشربون، ولا كساء
يلبسون، ولا علاجا به يتداوون، ينتظرون الموت بالحصار، قبل أن ينزل بهم عن طريق
إطلاق النار.
والمسلمون يعلمون أن امرأ عذبت بسبب هرة حبستها، فلا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي
أطلقتها لتأكل من خشاش الأرض.
تجتمع حكومات البلدان الإسلامية عندما تدعوها الأمم المتداعية إلى قصعتها، لضرب
بلد إسلامي، أو جماعة إسلامية تقاوم عدوها المغتصب لأرضها، ولا تجتمع كلمة تلك
الحكومات للدفاع عن المستضعفين من إخوانهم المسلمين، والشواهد على
للتَّصَرُّفَيْنِ كثيرة، وأقربها مؤتمر قمة شرم الشيخ لاستئصال إرهاب المجاهدين
في فلسطين، وما يجري اليوم في بلاد الأفغان.
وكأن لسان حالنا يقول للأمم المحاربة للإسلام: " هلموا إلى قصعتنا الشهية!"
ولا توجد حجة صحيحة تسوغ لنا التعاون مع الصليبيين واليهود، ضد دولة إسلامية،
غير ما يصرحون به بعض الزعماء، من الخوف على مصالحهم أن ينالها الضرر من قوة
عظمى لا طاقة لهم بها، وهي دعوى لا تصدر ممن قويت ثقته بالله وثبت توكله عليه،
وقد رد الله هذه الدعوى على مدعيها في كتابه الكريم: ((يا أيها الذين آمنوا لا
تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء بعضهم أولى ببعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله
لا يهدي القوم الظالمين. فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن
تصيبنا دائرة عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في
أنفسهم نادمين)) [المائدة: 50-51]
ومن أغرب الغرائب أن تظهر المعارضة الأفغانية-وعلى رأسها العالم الأزهري برهان
الدين رباني-مسرورة بالحملة الصليبية على بلادهم، ظانين أن هذه الحملة ستعينهم
على خصومهم (طالبان) ليطردوهم ويتربعوا على كراسي الحكم المحطمة!
فما واجب المسلمين في الحملة اليهودية
الصهيونية، والغربية الصليبية؟
الجواب في حلقة قادمة، إن شاء الله.