كانت الأسئلة السابقة في الحلقتين: الثالثة
والرابعة، تتعلق ببيان الإرهاب المشروع والإرهاب الممنوع في الإسلام، وعسى أن
يتلقى القراء من أفاضل العلماء ما يشفي صدورهم، ويزيل عنهم الحيرة والاضطراب،
في ذلك.
أما هذه الحلقة:
"الخامسة" فسأبين فيها ما يظهر لي من حكم تحالف المسلمين مع الصليبيين
المعاصرين، بتحريش من اليهود الصهيونيين، للهجوم على دولة أفغانستان الإسلامية،
بحجة أنها تؤوي الإرهابيين الذين دمروا المركز التجاري في نيويورك،
فأقول-وبالله تعالى التوفيق-:
المسلمون فيما بينهم يجب عليهم أن يتعاونوا على البر والتقوى، ولا يجوز لهم أن
يتعاونوا على الإثم والعدوان.
أما تحالف المسلمين مع غير المسلمين،
فقسمان:
القسم الأول:
مشروع، وهو أن يكون القصد من الحلف إحقاق حق وإبطال باطل، ولا فرق بين أن يكون
المتحالفون هم من المسلمين فقط، أو يكون بين المسلمين وغير المسلمين.
ويجب أن يكون الحق معلوما شرعا أنه حق، وليس مجرد دعوى لا برهان عليها.
ومن أمثلة ذلك: أن يعتدي شخص أو أكثر على حق شخص آخر أو أكثر، أو يخشى من ذلك
الاعتداء بوجود قرائن تدل على تلك الخشية، سواء كان المعتدى عليه مسلما أو غير
مسلم، وسواء كان المعتدي مسلما أو غير مسلم، ويكون صاحب الحق غير قادر على أخذ
حقه بدون مناصرة مَن سواه، ومثل ذلك اعتداء دولة أو دول على دولة أخرى أو دول
بغير حق.
فهذا الحلف مشروع دل عليه القرآن والسنة والسيرة النبوية، لأن إحقاق الحق
وإبطال الباطل من مقاصد الإسلام في الحياة.
القسم الثاني:
حلف غير مشروع، وهو أن يكون القصد منه نصر المعتدي من أهل الباطل والظلم على
أهل الحق، سواء كان المعتدي مسلما أو غير مسلم، وسواء كان المعتدى عليه مسلما
أو غير مسلم.
فهذا الحلف منكر غير مشروع في دين الله، لأن تمكين الباطل والظلم في الأرض يعود
بالنقض على الحق والعدل اللذين هما من أهم مقاصد الإسلام.
ثناء الرسول على حلف الفضول.
الدليل على هذا القسم،
ما حصل في حلف الفضول، الذي تحالف فيه عدد من
المشركين على نصرة المظلوم وأخذ حقه من ظالمه، وشهده الرسول صلى الله عليه
وسلم، في دار عبد الله بن جدعان في مكة، قبل الرسالة، ومدحه وأثنى عليه بعد
الرسالة، كما ذكر ذلك ابن إسحاق في السيرة النبوية.
قال القرطبي رحمه الله "ذكر ابن إسحق قال اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله
بن جدعان لشرفه ونسبه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها
أو غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول،
وهو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (لقد شهدت في دار عبد الله بن
جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت) وهذا
الحلف هو المعنى المراد في قوله عليه السلام: وأيما حلف كان في الجاهلية لم
يزده الإسلام إلا شدة، لأنه موافق للشرع إذا أمر بالانتصاف من الظالم. " [جامع
الأحكام: (6/33)]
وقال القرطبي في مكان آخر: (قال العلماء فهذا الحلف الذي كان في الجاهلية هو
الذي شده الإسلام وخصه النبي عليه الصلاة والسلام من عموم قوله: (لا حلف في
الأسلام) والحكمة في ذلك أن الشرع جاء بالانتصار من الظالم وأخذ الحق منه
وإيصاله إلى المظلوم، وأوجب ذلك بأصل الشريعة إيجابا عاما على قدر من المكلفين،
وجعل لهم السبيل على الظالمين، فقال تعالى: ((إنما السبيل على الذين يظلمون
الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم))
وفي الصحيح: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) قالوا: يا رسول الله هذا ننصره
مظلوما، فكيف ننصره ظالما، قال: (تأخذ على يديه) في رواية: (تمنعه من الظلم،
فإن ذلك نصره) وقد تقدم قوله عليه السلام: (إن الناس إذا رأوا الظالم ولم
يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده) [جامع الأحكام: (10/169)]
وحمل العلماء نفي الرسول الحلف في الإسلام-وهو بمعنى النهي-على الحلف الذي يقصد
منه التناصر المطلق على الحق والباطل.
أما الدليل على حرمة القسم الثاني
وعدم مشروعيته، فالأدلة عليه كثيرة، من
القرآن والسنة وقواعد الشريعة العامة:
فمن الأدلة القرآنية الشاملة قوله تعالى: ((ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن
المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم
والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب)) [المائدة: 2]
الآية واضحة في أنه لا يجوز للمسلمين أن يعتدوا على غير المسلمين، وإن كانوا
يكرهونهم، بل يجب أن يعدلوا معهم، كما يعدلون فيما بينهم.
وقوله تعالى: ((إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله
ولا تكن للخائنين خصيما(105)واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما(106)ولا
تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما(107)يستخفون
من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان
الله بما يعملون محيطا))(108) [النساء:]
هذه الآيات واضحة، في عدم جواز النيابة عن الظالم والخصومة عنه، وعدم التعاون
معه على ظلمه، كما ذكر ذلك علماء التفسير، في سبب نزول الآية.
قال القرطبي رحمه الله: " فنهى الله عزوجل رسوله عن عضد أهل التهم والدفاع عنهم
بما يقوله خصمهم من الحجة.
وفي هذا دليل على أن النيابة عن المبطل والمتهم في الخصومة لا تجوز فلا يجوز
لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق.....-إلى أن قال-: المسألة
الرابعة قال العلماء ولا ينبغي إذا ظهر للمسلمين نفاق قوم أن يجادل فريق منهم
فريقا عنهم، ليحموهم ويدفعوا عنهم فإن هذا قد وقع على عهد النبي صلى الله عليه
وسلم، وفيهم نزل قوله تعالى ولا تكن للخائنين خصيما.
وقوله: ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم
والمراد منه الذين كانوا يفعلونه من المسلمين دونه لوجهين: أحدهما أنه تعالى
أبان ذلك بما ذكره بعد بقوله هأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا والآخر
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حكما فيما بينهم..." [الجامع لأحكام القرآن:
(5/377)]
ظاهر من الآيات، ومن تفسيرها، أن مناصرة المسلم للظالم ، مسلما كان أو غير
مسلما، فردا كان أو جماعة، أو دولة لا يجوز، بل هو محرم، فالتحالف مع الظالمين
ظلم، وكلا المتحالفين ظالمان.
والحديث رواه الإمام مسلم، وهو : عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: (لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة)
[مسلم: (4/1961وهو برقم: 2530]
قال القرطبي رحمه الله: (فأما ما كان من عهودهم الفاسدة وعقودهم الباطلة على
الظلم والغارات فقد هدمه الإسلام والحمد لله) [جامع الأحكام: (10/169)]
وفي حاشية ابن القيم رحمه الله على السنن: (وأما الحلف الذي أبطله فهو تحالف
القبائل بأن يقوم بعضها مع بعض وينصره ويحارب من حاربه ويسالم من سالمه، فهذا
لا يعقد في الإسلام.
وما كان منه قد وقع في الجاهلية، فإن الإسلام يؤكده ويشده إذا صار موجبه في
الإسلام التناصر والتعاضد والتساعد على إعلاء كلمة الله تعالى وجهاد أعدائه
وتأليف الكلمة وجمع الشمل) [حاشية ابن القيم على السنن: 8/101]
حلف الرسول مع خزاعة أيام الجاهلية:
عن عكرمة قال: (لما وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة وكانت خزاعة
حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، وكانت بنو بكر حلفاء قريش
فدخلت خزاعة في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في صلح قريش،
فكانت بين خزاعة وبين بكر بعد قتال، فأمدتهم قريش بسلاح عليهم وظهرت بنو بكر
على خزاعة، فقتلوا فيهم، فقدم وافد خزاعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فأخبر بما صنع القوم ودعاه إلى النصرة، وأنشد في ذلك
لا هم إني ناشد محمدا
،،،،،،،،،،،،،،،حلف أبينا وأبيه الأتلدا
والدا كنا وكنت ولدا
،،،،،،،،،،،،،إن قريشا أخلفوك الموعدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا
،،،،،،،،،،،،،،،ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وجعلوا لي بكداء رصدا
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،وهم أذل وأقل عددا
وهم أتونا بالوتير هجدا
،،،،،،،،،،،،،،،،،،وقتلونا ركعا وسجدا
ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا
،،،،،،،،،،،،فانصر رسول الله نصرا أعتدا
وابعث جنود الله تأتي مددا
،،،،،،،،،،،،،،،في فيلق كالبحر يأتي مزبدا
فيهم رسول الله قد تجردا
،،،،،،،،،،،،،،إن سيم خسفا وجهه تربدا
قال حماد وهذا الشعر بعضه عن أيوب وبعضه عن يزيد بن حازم وأكثره عن محمد بن
إسحاق) [شرح معاني الأثار(3/291]
وثيقة المدينة:
ومن الأدلة على الحلف المشروع، الوثيقة التي ربط فيها الرسول صلى الله عليه
وسلم، بين المسلمين من المهاجرين والأنصار، وغيرهم من اليهود والنصارى
والمشركين، عندما بدأ في إرساء الدولة الإسلامية بالمدينة، وهي مدونة في كتب
السيرة النبوية والتاريخ، وفي هذه الوثيقة بين الرسول صلى الله عليه وسلم ما
يجب على المسلمين فيما بينهم إجمالا، وما يجب على كل قبيلة منهم من أحكام
تخصهم، كعقل الديات ونحوها.
كما بين ما يجب بين المسلمين واليهود، وهذا هو الذي يهمنا هنا، فنذكر شيئا من
ذلك: (وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين
عليهم... وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين، ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف
أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من
ظَلَمَ وأَثِمَ، فإنه لا يُوتِغُ _أي يهلك-إلا نفسه وأهل بيته... وإن على
اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه
الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم...)
وبهذا يظهر للمنصف أن تحالف المسلمين مع أمريكا وغيرها من الدول، للاعتداء على
أي جماعة أو دولة مسلمة، أو فرد مسلم، بدون وجه حق ظلم محرم، لا يجوز الإقدام
عليه.
بل يجب مناصرة المعتدى عليه على المعتدي.
وللحديث صلة في الحلقة السادسة بإذن الله.