سبقت ثلاث حلقات، وهذه هي الحلقة الرابعة والأخيرة.
الحلقة الأولى: هل تقرأ ؟(1)
الحلقة لثانية: هل تقرأ؟ ماذا تقرأ؟(2)
الحلقة الثالثة : هل تقرأ؟ لماذا تقرأ؟ (3)
هل تقرأ ؟ كيف تقرأ ؟ (4)
1- تصور
أن هذا اليوم يكمل من عمرك ست سنوات، وقد أمن لك والداك ملابس المدرسة، وكتبها
ومستلزماتها، من أقلام ودفاتر، وقد حببا إليك المدرسة منذ فترة، وذكرا لك ما
ستجده فيها، من مدرسين وزملاء، وألعاب، وقراءة وكتابة...
وفي هذا الصباح بادرت أمك –على غير العادة- بإيقاظك في وقت مبكر، وأنت تغط في
نوم عميق، تحت غطائك الدافئ، فنظرت إليها متعجبا من إزعاجها لك، فصحت باكيا
قائلا: ماما دعيني أنام! فقالت لك: لا يا بابا يا حبيبي، اليوم هو أول يوم من
الدراسة! اصح. قم اغتسل وتوضأ وصل، والبس ثيابك وخذ حقيبتك، لا تتأخر، زملاؤك
كلهم في طريقهم إلى المدرسة، فأخذت تختفي تحط غطائك، وأخذت أمك ترفعه، وتصر على
قيامك، فقمت غاضبا، محدقا بعينيك في وجه أمك التي ألفت منها الرحمة واللين وعدم
الإزعاج! ثم قربت إليك-على غير العادة أيضا-طعام الإفطار، وقالت لك: يالله
حبيبي أفطر! فنظرت إليها في عجب! قائلا: لا أريد الطعام الآن! وبعد أخذ ورد
تناولت قليلا من الطعام مكرها.
وربطت لك أمك حقيبتك من وراء ظهرك، و على كتفك مشربة ماء(زمزمية) فخرجت كأنك
جندي يحمل أدوات القتال إلى أرض المعركة. فأوصلك أحد أبويك إلى المدرسة، وأراد
أن يدعك ويعود إلى المنزل، فصحت قائلا: بابا، أو ماما! تعال أو تعالي معي لا
تتركيني وحدي! فلما لم يستجب لرغبتك أبوك أو أمك، أخذت تصيح منتحبا: بابا ماما،
وتكرر ذلك!
وجاءك المشرف الاجتماعي، وأخذ يربت على كتفك ويقول لك: لا تخف أنت الآن في
المدرسة، انظر هؤلاء هم زملاؤك، ثم طلب منط أن تدخل في الصف(طابور الصباح) وأخذ
يردد لك ولزملائك النشيد الصباحي... ويطلب منك ومن زملائك أن ترددوا ذلك
وراءه...
ثم دخلت الصف، فرأيت المدرس يكتب بالقلم الأبيض(طبشور) في اللوح الأسود(سبورة)
ألف، باء، ت، ث، ويقرأ ذلك بتؤدة، ويطلب منكم أن ترددوا ذلك وراءه، فأخذت تردد
ذلك، حتى حفظته، ولكنك لا تعرف غير التلفظ.
وطلب منك أن تكتب في دفترك تلك الحروف، فأخذت تحرك القلم إلى الأعلى والأسفل،
ويمينا ويسارا، دون أن تقترب من كتابة ما يشبه حرفا واحدا.
ثم قال لك المدرس –وهو تربوي حكيم-: أرني دفترك، فلما نظر إليه، ابتسم ثم قال:
ما شاء الله! تشجيعا لك على المضي في الكتابة. وكتب في دفترك: إلى ولي أمر
الطالب: الرجاء مساعدته على قراءة الواجب وكتابته.
فلما رجعت إلى أبويك، واسترحت من عناء هذا اليوم الغريب، بدأت أمك تساعدك في حل
الواجب، فقالت لك: كيف أنت حبيبي هل عرفت درس اليوم؟ قلت: نعم يا ماما!
فنظرت إلى دفترك، وفتحت لك كتاب التهجي، وأرتك الحروف الأربعة فيه: أ، ب، ت، ث.
وقالت ما هذا وأنت قد حفظت هذه الحروف: فقلت دون أن تنظر إلى الحروف: أ، ب، ت،
ث.
فأشارت لك إلى (أ) ما هذا؟ فقلت: أ، ب، ت، ث. وتابعتك أمك وأبوك يوما فيوما،
وتابعك المدرس كذلك يوما فيوما، وبعد لأي وتعب من قبلك، ومن قبل أبيك وأمك
ومدرسك، استطعت أن تفرق بين حرف وآخر، وهكذا الكتابة، التي لم تصل إليها، إلا
بعد مسك أمك وأبيك بيدك التي تكتب بها، ومرناك على كتابة كل حرف على حدة، ثم
طلب منك تكرار الكتابة ناسخا ذلك من كتاب الخط أو التهجي.... ماذا ترون بع هذا؟
هل القراءة سهلة أو صعبة؟ ألا ترون أنها تتطلب صبرا ودابا دائمين، حتى يتمكن
الإنسان من القراءة، وكذلك الكتابة؟!
2- ثم تصور أنك رجل أمي، أو امرأة أمية،
لا تقرأ ولا تكتب، ترعى غنمك أو بقرك، في شعب من شعاب أهلك وقبيلتك، فجاءك من
يقول لك: (اقرأ) فقلت له: أنا لا أقرأ! فقال لك: يجب أن تقرأ؟ وأحسست بأنه قوي
وأنت ضعيف لا تستطيع عصيانه، فقلت له: أنا لا أقرأ، وهو يقول لك: لا بد أن
تقرأ! فلما أحسست بألاَّ مناص لك من الاستجابة له، قلت له: ما ذا أقرأ؟ فتلا
عليك جملة أو جملتين فقرأتها كما سمعتها، وأخذ يزيدك جملة أو جملا، وأنت
تتابعه، فلما كثرت عليك الجمل شعرت بصعوبة استحضار ما سمعت وقرأت، ماذا يمكنك
أن تفعل لتستمر في القراءة؟إما أن يعلمك الكتابة لتقيد ا يجب أن تقرأه،
والكتابة تحتاج إلى جولات جديدة من التعليم والتعب، وإما أن تجتهد في حفظ ما
تسمع وتقرأ، وفي هذا من الصعوبة ما فيه، إضافة إلى أن المعلومات التي تقرأها
ستكون محدودة، إذا لم تكن عندك ملكة القراءة، لتقرأ كل ما يكتب بلغتك. أليست
القراء صعبة، وكذلك الكتابة، ومع ذلك لا بد، مهما كانت صعوبتهما؟
صعبة على الطفل والأمي، لعدم تعلمهما القراءة، وصعبة على من تعلم القراءة، من
حيث صبره على القراءة النافعة التي تحتاج إلى تأمل وتفهم.
ما هذا يا دكتور؟!
نعم. أتوقع أن يقول أحدكم أو بعضكم: كنت تتحدث عن طفل بدأ دراسته وسنه ست
سنوات، ورجل أمي أو امرأة أمية، ما ذا تريد منا نحن وقد بلغنا من الأعمار
الأربعينات أو الثلاثينات، أو العشرينات، وقد تخرجنا في الكليات، أو على الأقل
حملنا الشهادة التوجيهية، نحن قد قرأنا وكتبنا، وأصبحنا مثقفين، أتريد أن
تعيدنا إلى أطفال وأميين، ماهذا يا دكتور؟!
وأقول:
على رسلكم أيها الأحباب، فقد عانيت من صعوبة القراءة، ولا زلت أعاني. القراءة
سهلة؟ نعم. والقراءة صعبة؟ نعم. كيف؟!
جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما أراد الله أن يخرج به الناس
من الظلمات إلى النور، وكان قد حبب إليه التعبد في غارحراء، تمهيدا للتكليف
الإلهي له بالوحي والرسالة والبلاغ المبين.
فقال له جبريل: (اقرأ ) فقال: (ما أنا بقارئ!) يعني لا أجيد القراءة، لأني لم
أتعلمها. فقال له: (اقرأ) فقال: (ما أنا بقارئ!) ... فغطه جبريل حتى بلغ منه
الجهد... ثم قال له: ((اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك
الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم.))
فقرأها صلى الله عليه وسلم... والقصة في الصحيحين، وهي في أول صحيح البخاري في
باب بدء الوحي، وفي تفسير سورة العلق.
ثم لما لم يكن صلى الله عليه وسلم يكتب، وقد علم أنه مكلف من الله القيام
بالدعوة والبلاغ المبين بهذا القرآن، أحس بثقل المسؤولية، وحاول الاجتهاد في
حفظ ما كان يقرأ عن طريق جبريل.
فكان يحرك لسانه في عجلة لحفظ كتاب الله، فخفف الله عنه، ووعده بحفظه بدون أن
يتعب نفسه ذلك الإتعاب المعتاد لمن أراد الحفظ: ((لا تحرك به لسانك لتعجل به إن
علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآن))
هذا يدل على أن القراءة النافعة، تحتاج
إلى جهد وصبر، والذي لا يجتهد ولا يصبر، لا يصل غالبا إلى هدفه من القراءة.
وأعود فأقول:
إن القراءة العادية –أي قراءة الحروف والجمل والمصطلحات بدون تأمل ولا
تعقل-سهلة، ولا صعوبة فيها.
وهذه ممكنة في التصفح العام، لمعرفة العناوين، أو موضوعات الأبواب والفصول ونحو
ذلك، والقراءة السريعة لبعض الموضوعات للاطلاع العام على أفكارها وفقراتها....
والقراءة صعبة في أحوال كثيرة:
منها قراءة الحفظ، كحفظ القرآن الكريم،
وحفظ متون العلم، لمن يريد أن يكون طالب علم، يستحضر قواعد العلم الذي يدرسه،
كعلم النحو والصرف، والبلاغة، وأصول الفقه، والفرائض، ونحو ذلك من العلوم التي
تضيع إذا لم يحفظ الطالب قواعدها الأساسية، ويتمرس عليها حتى يصبح فهمها
وتطبيقها عنده مَلَكَةً. وسلوا عن هذا حفظة القرآن الكريم، وبخاصة أئمة
المساجد، وسلوا كبار علماء الإسلام، الذين تضلعوا في العلوم الإسلامية.
ومنها
قراءة الفهم والفقه-أي فقه معاني ما يقرأ-بحيث لا يمر القارئ بجملة أو فقرة دون
أن يكون قد فهمها وفقه معناها، وهذه القراءة يحتاج إليها كل قارئ لكل علم من
العلوم، سواء كانت شرعية أو لغوية، أو كونية، طبية، أو فلكية، أو جغرافية، أو
رياضية...
ولا بد للقارئ
هنا من توقف أمام بعض الجمل أو المصطلحات، توقفا يناسب سرعة الفهم أو بطأه، وقد
يحتاج إلى تكرار القراءة حتى يفهمه فهما صحيحا، وقد يحتاج إلى وضع علامات تحت
أو فوق بعض الجمل، وقد لا يتمكن القارئ من فهم المعنى –أحيانا- بنفسه، فيضطر
إلى الاستفادة من أستاذه المتخصص في العلم.
وإذا تساهل القارئ
في الفهم الصحيح لما يقرأ من هذا النوع، فقد يترتب على فهمه من السلبيات ومن
الأخطار ما يندم عليه، كأن يفهم النفي مما يجب أن يفهم منه الإثبات أو العكس،
وليتصور أنه فهم الإثبات في المنفي، أو النفي في المثبت في موضوع يتعلق بدواء
مريض، ماذا سيحدث من جراء هذا الفهم؟ وهكذا في الأحكام الشرعية ....
وإن فهم جملة واحدة فهما صحيحا، قد يكون سببا لفهم باب كامل أو فصل أو موضوع،
وعدم فهم جملة واجدة، قد يترتب عليه عكس ذلك.
ولهذا شرع الله تعالى لقارئ القرآن- مع ما في قراءته من حيث هي من الثواب
العظيم- أن يتدبره ويفقه معناه، ليعمل به، وأنكر على من لم يتدبره، فقال تعالى:
((كتاب أنزلناه مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب)).ص:29.وقال تعالى:
((أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا
كثيرا)).النساء 82. وقال تعالى: ((أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)).
محمد: 24.
وإن الذي يطلع اليوم على كثير من طلاب المدارس والجامعات، الذين لا يقرءون
دروسهم قراءة متأنية، تجعلهم يفهمون تلك الدروس فهما متقنا، تبقى به معلوماتهم
ثابتة، وإنما يقرءون قراءة الزاهدين في نفيس الوقت وجواهر العلم النافع، قراءة
عابري سبيل، قصدهم من قراءتهم تقيأ ما علق بأذهانهم في أوراق الامتحان، للحصول
على ورقة تسهل لهم العمل الوظيفي فحسب، إن الذي يطلع على من هذه حالهم، ليقتله
الحزن على ضياع أجيال تكون نتائج قراءتهم هي تلك القراءة الخاسرة، التي يتخرجون
بها أميين في ثقافتهم وفي معرفة مصالحهم ومصالح أمتهم في الدنيا والآخرة.
وإني لأعرف طلابا تخرجوا من كليات متخصصة، في علوم الشريعة، أو اللغة العربية،
لا يجيد بعضهم قراءة كتاب الله، وإذا تكلم نصب الفاعل، ورفع المفعول، لأنه
عندما قرأ قاعدة رفع الفاعل ونصب المفعول، لم يفهم حقيقة تلك القاعدة، وإن أجاب
أستاذه يوم الامتحان إجابة نظرية صحيحة!
وأرى في كثير من مواقع الشبكة العالمية
(الإنترنت) إقبالا شديدا على الموضوعات
ذات الإثارة في عناوينها، وتفاعلا مع كتابها، موافقة أو مخالفة، وكثير من تلك
الموضوعات غير ذات بال، وبجانبها موضوعات أخرى جادة ذات أهمية لحياة القارئ في
دينه ودنياه، قليلة الإقبال من قراء المنتديات قراءة أو ردا، لأن هذه الموضوعات
تحتاج إلى قراءة متأنية، وصبر على تفهمها وتعقلها، للخروج منها بفائدة،
والموضوعات الأخرى، لا تحتاج إلى جهد.
وفي وجود هذه الشبكة فرصة ثمينة لكل قارئ وكاتب، ليكون معلما لغيره ومتعلما من
غيره، فهي جامعة عالمية، تربط بينك وبين غيرك من البشر في كل مكان في الأرض،
وهم لا يدرون أين أنت؟ وأنت لا تدري أين هم؟
وكم كان الناس يتمنون أن يجدوا بعض الموضوعات ليستفيدوا منها، فلا يتمكنون من
الحصول عليها، وهي اليوم في متناول اليد كتبها متخصصون، وهي جديدة طرية، تصل
إليك بعد فراغ صاحبها من إرسالها بدقائق، تجدها بالبحث السريع عنها، وتستطيع
قراءتها وطبعها، وحفظها، ألا تستحق أن تكون قراءتنا لها قراءة فهم ووعي؟
ولا مانع من قراءة التسلية المباحة، من مزاح لا كذب فيه، أو نكات مضحكة، أو
ألغاز تشحذ العقول وتدعوها إلى التفكير، ولكن لا ينبغي أن تكون الأولوية وصرف
الأوقات، لذلك، بل ينبغي أن تكون الأولية لما يكون الشخصية تكوينا إيمانيا
وعباديا وأخلاقيا، وثقافيا، وعلميا، وما عدا ذلك يكون تابعا.
والخلاصة:
أن القارئ ينبغي أن يختار ما يقرأ، ويعرف ما هو
أولى من غيره، وأن تكون قراءته سريعة، فيما لا يحتاج إلى حفظ أو فهم عميق، وأن
يهتم بالقراءة المتأنية فيما يحتاج إلى الحفظ أو الفهم العميق، مع الصبر على
ذلك، فلا قراءة نافعة بغير صبر.
فليحرص كل منا على معرفة كيف يقرأ؟ لتكون قراءتنا نافعة مفيدة.