الحلقة الأولى
لقد قام المجاهدون في أفغانستان
بفريضة الجهاد في سبيل الله، تلبية لأمر الله تعالى به، ومناصرة لإخوانهم
الأفغان الذين اعتدى عليهم الملحدون في الاتحاد السوفييتي، وأثبتوا للعالم أن
الفئة المؤمنة قادرة على دفع العدو عن بيضة المسلمين ودينهم ونفوسهم ونسلهم
وعرضهم وعقولهم وأموالهم... مهما كانت كثرة هذا العدو، ومهما عظمت عدته.
لأن الفئة المؤمنة المجاهدة تتفوق على عدوها بقوة الإيمان بالله والتوكل عليه
والثقة في نصره، وتنفذ أمر الله لها بالصبر والمصابرة، وتعلم أنها لا تخسر
المعركة على أي حال، فهي فائزة بإحدى الحسنيين: بالنصر أو الشهادة، وتعلم أن
الجهاد في سبيل الله لرفع رايته في الأرض، هو سنة أنبياء الله ورسله وعباده
الصالحين الذين لا تطيب نفس المؤمن إلا بالوقوف في صفهم... والسير في قافلتهم
الممتدة على مدى الأمكنة الأزمان، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها:
((ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا)) [النساء69]
وقد اهتبل أعداء الله الصليبيون –وعلى رأسهم الدولة الأمريكية - تلك العاطفة
الجياشة في نفوس شباب الأمة، وشجاعتهم النادرة، وحبهم للشهادة والموت في سبيل
الله أشد من حب أعدائهم للحياة، ففتحوا لهم كوة صغيرة يلجون منها، لدحر المد
الشيوعي الذي أخافهم وهدد مصالحهم في المحيط الهندي، وبحر العرب، وخليج النفط
العربي، وهدد مصالحهم في المنطقة كلها... وبخاصة استقرار الدولة اليهودية
الصهيونية... وسيطرتها على الأمة الإسلامية.
اغتنمت أمريكا تلك الفرصة، ودفعت –كعادتها-دول المنطقة لتأييد رجال الجهاد من
الأفغان ومن جميع الشعوب الإسلامية، فأمدوهم بالمال والسلاح، والإغاثة
الغذائية والطبية، والتعليمية، ويسروا للمجاهدين من خارج أفغانستان سبل
الوصول إلى أفغانستان، وبخاصة المواصلات...
واستنفروا علماء الإسلام ليحثوا الشباب على الجهاد في سبيل الله... وصدرت
الفتاوى حينئذ بأن الجهاد فرض عين على كل مسلم قادر، فتنادى المسلمون علماء
وعامة، شبانا وشيبا...رجالا ونساء، بل ومراهقين: حي على الجهاد...
وهيئت لهم وسائل الإعداد والتدريب... وانطلقوا في الجبال والوهاد بعزم هو
أقوى من صواريخ الأعداء، يتحدون قوة لا قبل لهم بها لولا تثبيت الله لهم بقوة
إيمانهم وعلمهم أنهم على حق، وأن عدوهم على الباطل...
وكانت معسكراتهم تذكر بجيوش الفتوحات الإسلامية في القرن الإسلامي الأول:
قرآن تُؤَبِّ مع تاليه جبال الأرض وتتجاوب معه كواكب الفضاء... وذكر دائم
يرتفع إلى السماء....وتهجد يقوي العزائم و يثبت القلوب عند اللقاء... وتدريب
متواصل تتبعه في ميادين القتال مقارعة الأعداء....ونال الشهادة من المجاهدين
من اصطفاهم فاتخذهم شهداء...
ونصر سبحانه وتعالى عباده المؤمنين على أعدائهم المعتدين نصرا عظيما، وأذاقهم
بعد ظاهر العز ذلا جسيما، فخرجوا يجرون أذيال الهزيمة جرا... وأعقبهم بعد
القوة والغنى ضعفا وفقرا.
ومزقهم الله بعد الاتحاد تمزيقا، وفرق دولتهم التي طغت وتجبرت تفريقا، ولم
تزل تتجرع كأس الغرور والعدوان، وتكتوي من نفخ كيرها المحرق لهيب النيران،
وتستنشق من دخانه الأسود ما أصابها بأخبث أورام السرطان.
وفتح أعداء الإسلام جبهات أخرى للقضاء على المسلمين، في البوسنة والهرسك، وفي
الشيشان، وفي كوسوفا... فهب شباب الجهاد مرة أخرى لنصرة إخوانهم في تلك
البلدان، وأبلوا بلاء حسنا، وبدا واضحا لأعدائهم أن لهم شأنا في الوقوف ضد
ظلم المسلمين في كل مكان.
وعندما رجع كثير من المجاهدين إلى بلدانهم، استقبلتهم أجهزة أمنها استقبال
المجرمين، وحاصروهم حصار الأجانب المعتدين، وأغلظوا عليهم في التحقيق
والتعذيب، وعاملوهم بإهانات التي لم يكونوا يظنون أن إخوانا لهم في أوطانهم
قد سقطوا في حمأتها.
كما انقضت عليهم وسائل الإعلام انقضاض الوحوش على طرائدها، فأطلقت عليهم من
الألقاب المنفرة الظالمة ما شاءت، مثل "الأصوليين، المتشددين، الإرهابيين"
كان ذلك جزاءهم، بدلا من الترحيب بهم، وتهنئتهم بالنصر، وتعزيتهم في زملائهم
الذين لقوا ربهم، وإشعارهم بالمحبة والعطف، ووضعهم في مكانهم اللائق بهم، في
المواقع العسكرية، والاستفادة من خبراتهم، وإعدادهم لليوم المحتوم مع العدو
اليهودي الذي لا يصلح لمواجهته إلا أمثالهم.
ومن حَسُنَ حظُّه منهم فأطلق سراحه من زنازين الاعتقال وغياهب السجون، لقي
سوء حظه في إخافته بالمراقبة الدائمة، والاستدعاء المتواصل إلى الجلادين
الذين ورَّثت تحقيقاتهم الظالمة لكثير منهم أمراضا نفسية وحالات مزعجة من
الإحباط، ولم يقتصر الأذى على المجاهدين، بل نال أسرهم من الأذى المعنوي
الشيء الكثير.
وتواطأ غالب حكومات الشعوب الإسلامية، على التضييق على أولئك المجاهدين
ومطاردتهم في كل مكان ولم يجدوا لهم مأوى يلجئون إليه ويعيشون فيه، فضاقت
عليهم الأرض بما رحبت، وشعروا أن وراء تلك المعاملة حملة أمريكية غربية
ظالمة، فأثار ذلك حفيظتهم، ولم يحتملوا الضيم المسلط عليهم.
فانطلق بعضهم – ممن لم يطيقوا الصبر على تلك الحملات ضدهم - يشفون غيظ صدورهم
من الإدارة الأمريكية بالتفجيرات لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية في داخل
البلاد وخارجها
ولجأ بعضهم إلى أفغانستان البلد الذي لم يجدوا لهم مأوى في الأرض غيره،
وتطورت الأمور حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من حادث الحادي عشر من سبتمبر 2001م
الذي لم تظهر أسراره الحقيقية إلى يومنا هذا.
وهنا سنحت الفرصة للإدارة الأمريكية الصليبية، والشرذمة اليهودية الصهيونية،
لتنفيذ مخططاتهم القديمة لضرب الإسلام في كل مكان، والقضاء على أي قوة قد
يملكها المسلمون يستطيعون بها الدفاع عن أنفسهم من العدوان على بلدانهم...
وحشدت أمريكا حلفاءها في الغرب والشرق، وأعلنت الحرب على ما سمته بالإرهاب في
كل أقطار الأرض، وأن من لم يكن معها فهو عليها يعني أنه إرهابي أو متعاون مع
الإرهاب...
وبدأت بأضعف دولة إسلامية وأفقرها وأشدها بؤسا، وهي الإمارة الإسلامية في
أفغانستان، التي قالت – رغم ضعفها – لأمريكا: "لا" وأصرت على تطبيق الإسلام –
بحسب فهمها له – وتعاون مع أمريكا طلاب الدولارات والمناصب الممنوحة بالقوة
العسكرية...
وأمطرت أمريكا الشعب المسكين بوابل الرصاص والصواريخ والقنابل الحديثة وجميع
الأسلحة الفتاكة ذات الدمار الشامل -التي هي من أهم أهداف حربها- من الجو
والبر والبحر، دون أن يواجهوا المجاهدين على الأرض، واستطاعوا أن يأسروا عددا
منهم عن طريق من باعوا أنفسهم وبلدهم وكرامتهم للدولة المستعمرة الجديدة.
فتنة وخذلان:
وقد رأى العالم كله تلك المناظر
البشعة التي ظهر عليها الأسرى في معتقلات "غوانتنامو الكوبية" حيث حرم طغاة
الصليب الأسرى المسلمين من النعم الضرورية منحهم الله إياها: نعمة السمع،
ونعمة البصر، ونعمة التنفس... سدوا آذانهم، وغطوا أبصارهم، وكمموا أفواههم
وأنوفهم، إضافة إلى تكبيلهم بالقيود والأغلال الثقيلة للأيدي والأرجل.
ومع تلك الحال ترى الواحد من الأسرى إذا أريد نقله من مكان إلى آخر يحيط به
أربعة من الجنود المدججين بالسلاح، من الأمام ومن الخلف، وعن اليمين واليسار،
أليس فعلهم هذا يدل على الرعب الذي أنزله الله في قلوبهم من رجال الجهاد؟
هذا ما أذن طغاة الظلم بإظهاره أمام العالم، فما الذي يعاملون به أولئك
الأسرى في الخفاء؟!
فأين منظمات حقوق الإنسان؟
لقد رفع بعض الناس أفرادا وجماعات أصواتهم متسائلين عن مواقف منظمات حقوق
الإنسان من هذا العمل المشين؟ فظهرت نداءات من هنا ومن هناك فترة قصيرة ثم
اختفت أصوات حقوق الإنسان في الوقت الذي يعبث الأمريكان فيه بكل حق من حقوق
الإنسان!
وإنا لنعلم علم اليقين أن منظمات الرفق بالحيوان، لو رأت من يؤذي قردا من
القرود، أو كلبا من الكلاب، في أي بلد من البلدان، بأقل من إيذاء الإنسان
المسلم في "غوانتنامو" لأقامت الدنيا ولم تقعدها حتى يعتذر من آذى القرد أو
الكلب!
وأين الدول التي لها أسرى في "غوانتنامو"؟
لقد احتجت أستراليا وبريطانيا على
أمريكا في أخذ عدد قليل من رعاياها إلى ذلك المعتقل الظالم وطالبتا بتسليمهم
إليهما ليحاكموهم في بلدانهم...
أما حكومات الشعوب الإسلامية فيبدو أن غالبها قد سرها ما حصل لأبنائها من ظلم
وإهانات أمام الملأ، وارتاحت نفوسهم وبردت قلوبهم أن يأتي ظلم أولئك من قبل
غيرهم، ولهذا لم نسمع نداء استنكار من دول أولئك الرعايا، لما تزاوله الدولة
الصليبية الظالمة من فتنة وأذى لا تقره أديان ولا قوانين.
ولو أن شخصا واحدا من أي دولة من دول الغرب، أو من الدولة اليهودية المحتلة،
فجر بعض قصور الملوك والرؤساء في أي بلد إسلامي، اعتقل في تلك الدولة مجرد
اعتقال، لسلطت على الدولة التي اعتقلته جميع وسائل الإعلام الغربية تدعو إلى
الرفق بالمعتقل... ولرأينا الوفود السياسية والدبلوماسية، والاستخباراتية،
والطبية ولإعلامية، والمنظمات الإنسانية، تبحث عن المعتقل، وتلح على مقابلته
ومعرفة حالته... وتطالب بالرفق به، لأنه مواطن غال عند دولته والدول الحليفة
لدولته..
بل إن دول الغرب كلها تقف صفا واحدا ضد أي دولة تعلن تطبيق الحكم الشرعي
الإسلامي على أي مجرم من الغربيين، وتتهم الدولة التي تعلن ذلك بالعنصرية
والرجعية وتتهم الإسلام بالوحشية.
فهل دم المجرم الغربي أغلى من دم المسلم الذي يحرم من حقوق الأسرى بل يحرم من
حقوق المجرمين التي أقرتها لهم الأديان السماوية والقوانين الدولية، كما يحصل
من الدولة الصليبية التي تدعي أنها راعية حقوق الإنسان؟
وهل الدول النصرانية واليهودية أولى برعاية حقوق رعاياها من حكومات الشعوب
الإسلامية؟
ولقد شغلتنا الهجمة اليهودية الشرسة الأخيرة عما يعانيه إخواننا الأسرى في "غوانتنامو"
ولم تعد وسائل الإعلام تذكر عنهم شيئا، ولا ندري ما ذا يجري لهم من أذى
وتعذيب وإهانات، من أجهزة التحقيق الصليبية في تلك البقعة المعزولة....
وما ذا عسى أن نفعل لهم سوى الدعاء أن يفرج الله كربهم، وينزل بأسه بمن يتولى
كبر ظلمهم وعقابهم، بدون محاكمات عادلة؟
ليس عندنا ما نفعله لهم إلا أن نقول: لكم الله أيها المجاهدون، وإنا لله وإنا
إليه راجعون.
الحلقة الثالثة