من هو هذا المؤمن؟! (1)
قفز إلى ذهني بدون مقدمات تساؤل
عمن هو "المؤمن" الذي قصده الرسول صلى الله عليه وسلم، في هذا لحديث الذي
أخرجه الإمامان البخاري ومسلم وغيرهما من أئمة الحديث:
" لا يلدغ المؤمن من جحر واحد
مرتين"
فقد أصبح هذا الحديث -الذي هو من جوامع الكلم التي آتاها الله رسوله صلى الله
عليه وسلم- مثلا سائرا في العربية.... يستعمله الكبير والصغير... والمتعلم
والعامي... وقد لا يدري كثير من الناس... أنه خرج من مشكاة النبوة...
والجملة مكونة من حرفين: هما "لا" و"مِن"... وفعل واحد مبني للمجهول، وهو
"يلدغ" وأربعة أسماء... وهي: "المؤمن، جحر، واحد، مرتين"
وكل كلمة منه مقصودة واقعة في موقعها الذي يناسبها....
و"اللدغ" هو اللذع -أو اللسع- الشديد... كلدغ العقرب أو الحية أو غيرهما من
الهوام...
وهنا يرد سؤال، وهو:
لماذا خص الرسول صلى الله عليه وسلم "المؤمن" بالحذر من تكرر اللسع من جحر
واحد؟ أليس كل الناس داخلين في هذا الحذر؟ لأن اللسع من الأضرار المادية التي
يحسها كل واحد منهم، فيفر هاربا مبتعدا من هذا الجحر!
ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم الجحر بالوحدة معقول، لأن الحذِر من هذا
الجحر، قد يجاور جحرا آخر، لا يدري عنه، فيصاب بلسعة أخرى منه، ولا يلام على
ذلك لأنه لم تسبق له تجربة فيه، بخلاف من لدغ من جحر واحد مرتين، فإن ذلك يدل
على ضعف عقله وقلة اهتمامه بأمر نفسه.
إن هذا المثل غير مقصود لذاته، وإنما المقصود به التنبيه بالأمر المحسوس
الحاضر على الأمر المعنوي الغائب....
فكرت قليلا في هذا السؤال... فإذا القرآن الكريم، والسنة المشرفة، والسيرة
الكريمة كلها تسعفني بالإجابة عنه:
لقد واجه الرسولَ صلى الله عليه وسلم وأصحابه حروبٌ ومؤامراتٌ، من أعداء
الإسلام، من المشركين، واليهود والمنافقين.
وكانت الحروب السافرة من أولئك الأعداء أخف وطأة على المسلمين من المؤامرات
الحاقدة، لأن المسلمين يعدون ما يقدرون عليه من العدة واتخاذ أسباب النصر في
ساح المعارك... لوضوحها... وقد يحالفهم النصر الحاسم، كما في معركة بدر، أو
الابتلاء والتمحيص وتكون العاقبة النصر، كما في معركة أحد.
أما مؤامرات الأعداء وخداعهم وإبرامهم الأمور بليل، ونقضهم العهود والمواثيق،
دون إنذار سابق، أو نبذ صريح، فذلك ما يطعن المسلمين في ظهورهم، على غفلة من
أمرهم...
وهذا ما حصل من المشركين في مكة عندما نقضوا العهد الذي عقد بينهم وبين
الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديبية... كما حصل من طوائف اليهود الثلاث:
بني قينقاع، وبني قريظة، وبني النضير... وقصصهم كلهم معروفة في السيرة
النبوية...
وكان للمنافقين الحظ الوافر في محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه،
بالدسائس والمكايد مع المشركين واليهود،وهم آمنون مطمئنون، لأنهم يظهرون
الإسلام الذي يمنحهم معاملة المسلمين بحسب ما يظهرون....ومكايدهم معروفة
معلومة كذلك... وقد أبدى القرآن الكريم في كشف مؤامراتهم وصفاتهم وأعاد،
وكذلك السنة النبوية...
ولنذكر لكل صنف من الأصناف المذكورة (المشركين... واليهود... والمنافقين)
مثالا واحدا من مؤامراتهم... مع بيان مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم
الحاسمة من تلك المؤامرات... عملا بالتوجيهات الربانية له ولأصحابه رضوان
الله عليهم.
المثال الأول: نقض مشركي قريش العهد
وموقف الرسول الحاسم منه:
فقد منعت قريش رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وأصحابه وهم في الحديبية سنة ست للهجرة، من أداء العمرة، وتم بينه
وبينهم عهد، قبل فيه الرسول شروطهم المجحفة، التي لم يقبلها أصحابه إلا طاعة
لهن لما فيها من الظلم والعدوان.
وكان من بنود تلك المعاهدة: إن من أراد أن يدخل في عهد محمد وأصحابه، فله
ذلك، ومن أراد أن يدخل في عهد قريش، فله ذلك، فدخلت خزاعة في عهد الرسول صلى
الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في عهد قريش.
ثم اعتدت بنو بكر على خزاعة، وأعانتهم قريش، فشكت خزاعة ذلك إلى الرسول صلى
الله عليه وسلم، وعرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا بد ناصر
حلفاءه من خزاعة.. فأوفدت قريش أبا سفيان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم،
ليشد العهد وبثبته ويطلب زيادة المدة.
وحاول التوسط بأصحاب الرسول الله عليه وسلم، ليقبل ما جاء من أجله، فلم يجد
منهم إلا الرفض... وكلم الرسول الله صلى الله عليه وسلم...فلم يرد عليه، فرجع
خائبا...
وأدب رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي قريش، فغزاهم سنة ثمان للهجرة، وكان
فتح مكة... كما فصلت ذلك كتب السيرة وكتب التفسير... [راجع تفسير القرآن
العظيم لابن كثير 0(4/114)]نشر دار طيبة.
المثال الثاني: نقض القبائل
اليهودية الثلاث عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهم "بنو قينقاع" [تاريخ الطبري
(2/48)] و"بنو قريظة" [تاريخ الطبري (2/98) يراجع في قصتها في سورة الأحزاب
تفسير القرآن العظيم لابن كثير وغيره] و"بنو النضير" [تاريخ الطبري(4/74)
ويراجع تفسير سورة الحشر في تفسير القرآن العظيم لابن كثير... وغيره]
نقضت هذه القبائل الواحدة تلو الأخرى العهد الذي عقده الرسول صلى الله عليه
وسلم بينه وبينها عند قدومه إلى المدينة مهاجرا من مكة..
وقد أدب الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القبائل، كل منها بما تستحق كما أدب
مشركي قريش... وتفصيلها مسطور في السيرة النبوية لابن هشام... وغيره من كتب
التاريخ...كالبداية والنهاية... وتاريخ الطبري..
المثال الثالث: مؤامرات المنافقين على
المسلمين.
وهؤلاء هم أخطر أصناف أعداء الإسلام،
لأنهم يظهرون الإيمان، وتكون لهم من الحقوق ما لسائر المسلمين، فلا فرق بينهم
وبين غيرهم من المسلمين في الأحكام، فهم يصاهرونهم، ويؤاكلونهم ويشاربونهم،
ويطلعون على أسرارهم في وقت السلم والحرب، ويوالون غير المسلمين ويتآمرون
معهم عليهم، عندما يغيبون عن أعين المسلمين، ويسعون بالوشاية والنميمة بين
المسلمين لشق صفهم، وإحداث العداوة بينهم، وينشرون الدعايات الكاذبة
والإشاعات الغادرة بينهم، وبخاصة في وقت الحروب...
ولهذا كثر في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، التحذير
منهم...وكان له صلى الله عليه وسلم أمين سر خاص لحفظ سجلاته، وهو حذيفة بن
اليمان رضي الله عنه...
فقد ذكر الله في أول سورة البقرة بعض صفات المؤمنين، في أربع آيات... وذكر
بعض صفات الكافرين، في آيتين فقط... وذكر بعض صفات المنافقين في 13 آية...
لأن المؤمنين على مهتدون على الصراط المستقيم بوضوح... والكافرين على سبل
الكفر بوضوح... ويكفي أن يقال: هذا كافر، وهذا مؤمن...
أما المنافقون فإنهم لكثرة تقلبهم وتلونهم، وما يتخذونه من سبل متعددة ومسارب
متنوعة، بحيث يظهرون تارة في صورة مؤمنين، وأخرى في صفات كافرين، فإن
المسلمين أشد حاجة إلى معرفة صفاتهم ليتوسلوا بها إلى معرفتهم والحذر منهم...
وقد ذكر في القرآن الكريم لفظ النفاق ومشتقاه: 32 مرة.. وذكر قوله تعالى عنهم
(( في قلوبهم مرض)) 11 مرة... وهناك صفات أخرى تدل عليهم، كما في قوله تعالى:
يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك وغيرها...))
وتتبع الآيات والأحاديث المتعلقة بهم وبمؤامراتهم... وإيذائهم للرسول صلى
الله عليه وسلم، في نفسه وأهله، ولأصحابه كذلك، من يوم وطئت أقدامهم المدينة
إلى أن لقي الرسول صلى الله عليه وسلم، في حالتي السلم والحرب، يحتاج إلى
مؤلف كبير...
فقد تآمروا على الإسلام والمسلمين مع المشركين ومع اليهود، ومع النصارى، كما
في مسجد الضار...
يبدو أني قد أرهقت ذهن القارئ بهذه المقدمة الطويلة، التي قد لا يدرك سبب
إيرادها، قبل أن يعرف صلتها بالعنوان: (من هو هذا المؤمن؟) وأبادر فأقول: إن
هذه ليست مقدمة، وإنما هي في صميم الموضوع.
إن هذه الفئات الثلاث: "المشركين...... والمنافقين" هي كثر منها لدغ المسلمين
في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم انضم –بعد ذلك إلى هذه الفئات الثلاث
فئة "النصارى" وهي التي توالي لدغاتها لهذه الأمة في كل زمان ومكان، وتجمع
سمومها كلها -مع اختلافاتها- لتنفثها في جسد الأمة الإسلامية.
ويبدو لي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه هذا الحديث: (لا يلدغ
المؤمن من جحر مرتين) لمناسبة تتعلق بكيد أعداء الإسلام، حضا لهم على الحذر
منهم، وأخذ الحيطة من كيدهم، وقد تمكنوا من معرفتهم وجربوهم جميعا... والعاقل
إذا جرب خداع عدوه مرة واحدة، يجب ألا يخدعه مرة أخرى...كما أن الذي يلدغ من
جحر مرة واحدة، لا يليق به أن يلدغ من نفس الجحر مرة أخرى.
ومن الآيات التي حذرت المسلمين من الركون إلى من المشركين، ولو كانوا من أقرب
المقربين إليهم، قوله تعالى : ((قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم
وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من
الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم
الفاسقين)) [(24) التوبة]
وقوله تعالى: ((لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله
ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في
قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين
فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون))
[(22) المجادلة]
وقوله تعالى: ((ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم
بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله
ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا
أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل)) [(1)
الممتحنة]
وقوله تعالى: ((إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من
دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)) [(9)
الممتحنة]
ومن الآيات المحذرة من اليهود
والنصارى، قوله تعالى:
وقوله تعالى: ((ياأيها الذين آمنوا إن
تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين)) [(100) آل
عمران]
((ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى
ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير))
[المائدة(120)]
وقوله تعالى: ((ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم
أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين))
[(51) المائدة]
وقوله تعالى: ((لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا
ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين
ورهبانا وأنهم لا يستكبرون)) [(82) المائدة]
ومن الآيات المحذرة من المنافقين،
قوله تعالى:
((إنما السبيل على الذين يستأذنونك
وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا
يعلمون(93)يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا
الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة
فينبئكم بما كنتم تعملون(94)سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا
عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون(95)يحلفون
لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين)) (96) [
التوبة]
وقوله تعالى: ((فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا
معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع
الخالفين)) [(83) التوبة]
وقوله تعالى: ((ألم ترى إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل
الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم
والله يشهد إنهم لكاذبون)) [(11) الحشر]
ظهر لنا مما سبق أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كانوا يقفون مواقف
حازمة حاسمة من مكايد أعدائهم من المشركين، وأهل الكتاب، والمنافقين، فلم
يتلقوا منهم ضربة بعد أخرى، وإنما يبادرون بتأديب العدو بعد غدره مباشرة...
وفي الحلقة القادمة سنسأل القرآن والسنة عمن هو هذا المؤمن؟ ونستمع إلى
إجابتهما عن المؤمن الذي لا يلدغ من جحر مرتين.
من هو هذا
المؤمن؟!(2)
يجب أن نعلم أنه ليس المقصود بـ(المؤمن)
هنا الفرد فقط... وإنما يشمله ويشمل الجماعة من المؤمنين... فتدخل في ذلك
الأسرة والأمة والدولة...لأن الأسر مكونة من الأفراد، والأمة مكونة من الأسر،
والدولة مكونة من الجميع..
واللفظ الذي أطلق هنا (المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين) صادر عن الرسول صلى الله
عليه وسلم، فهو لفظ شرعي يجب الرجوع في معناه إلى القرآن والسنة، فإذا وجد
المؤمن الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم، استحق هذه الميزة، وهي أنه لا
يلدغ من جحر مرتين، وإذا لم يوجد هذا المؤمن لم يلزم استحقاقه لها، لأنه ليس
هو مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم.
فلنعد إلى كتاب الله لنسأله عن أهم
صفات هذا المؤمن الذي يستحق هذه الميزة؟
الإيمان بالغيب المثمر للتقوى والعمل.
وهذه الصفة هي أساس صفات المؤمن،
إيمان يقين وصدق، لا يخالجه شك ولا ريب... الإيمان الذي يثمر في صاحبه تقوى
الله بأداء فرائضه واجتناب نواهيه: ((هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب))
البقرة ولا حاجة بنا إلى التفصيل في هذه الصفة، فمن لم مؤمنا بالغيب، ليس
بمسلم أصلا.
وقد سميت إحدى سور القرآن الكريم بهذا الاسم: "المؤمنون" كما سميت إحداها
باسم"الكافرون" وسميت أخرى باسم "المنافقون" اهتماما بتمييز كل فريق منها عن
الآخر:
فقال تعالى في أول سورة " المؤمنون" مبينا أهم صفاتهم: ((قد أفلح المؤمنون
(1) الذين هم في صلاتهم خاشعون(2) والذين هم عن اللغو معرضون(3) والذين هم
للزكاة فاعلون(4)والذين هم لفروجهم حافظون(5) إلا على أزواجهم أو ما ملكت
أيمانهم فإنهم غير ملومين(6) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون(7) والذين
هم لأماناتهم وعهدهم راعون(8) والذين هم على صلواتهم يحافظون(9) أولئك هم
الوارثون(10) الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون(11) [المؤمنون]
فقد ضمت هذه الآيات الصفات الآتية:
1-
المحافظة على الصلوات ولخشوع فيها...
2-
الإعراض اللغو... وهو ما لا فائدة فيه
3-
أداء حقوق الناس المعبر عنه بالزكاة.
4-
ترك الفواحش... المعبر عنها بحفظ
الفروج..
5-
حفظ الأمانات والوفاء بالعهود...
فهل يستحق من يدعي الإيمان، وهو لا يحافظ على صلواته، ومَن حياته كلها لعب
ولهو ولغو، ومن يمنع الناس حقوقهم، من الزكاة وغيرها، بل من يأخذ منهم حقوقهم
ويظلمهم، ومن يرتكب غالب الفواحش والمنكرات، بل يدعو إلى ارتكابها ويبيحها،
ويحارب من ينهى عنها، ومن يخون الأمانات وينقض العهود... هل يستحق من هذه
حاله، أن يكون ممن عناه الر سول صلى الله عليه وسلم، بقوله: (لا يلدغ المؤمن
من جحر مرتين)؟
أليس هذا دائم اللدغ بسمه دينه الذي أوجب الله عليه العمل به؟ وهل من يلدغ
دينه جدير بأن لا يلدغ من جحر واحد مرتين؟!
وقال تعالى: ((إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا
بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون)) [الحجرات(15)]
فهل من يدعي الإيمان بالله ورسوله، وهو يضيع الجهاد في سبيل الله بنفسه
وماله، بل يحارب الجهاد والمجاهدين، ويتعاون مع أعداء المسلمين على الجهاد
والمجاهدين، هل يكون من هذه صفته صادقا في إيمانه، وهل هو ممن عناه الرسول
صلى الله عليه وسلم، بقوله: (لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين؟)
وقال تعالى مخاطبا المؤمنين: ((واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا
نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم
على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون))
[آل عمران: (103)]
الاعتصام بحبل الله، هو التمسك بدينه والعمل بكتابه وسنة رسوله، ومن ذلك
اجتماع كلمتهم على الحق، والأخوة الصادقة، ونبذ النزاع والتفرق...
فهل من بيدهم أمور الأمة الإسلامية اليوم، معتصمون بحبل الله؟ هل حققوا
الأخوة الإسلامية فيما بينهم؟ هل اجتمعوا على كلمة الحق، وابتعدوا عن التنازع
المؤدي إلى الفشل؟ الحال يغني عن القال...
إن الذي نشاهده هو محاربة غالبهم لتطبيق شرع الله في الأرض، وهل من يحارب
تطبيق شريعة الله معتصم بحبل الله؟ وإن الذي نشاهده تفرقهم وتنازعهم، وعدم
ثقة بعضهم في بعض، بل تآمر بعضهم على بعض، بل اعتداء القوي منهم على الضعيف،
ويظهر ذلك إلى وسائل الإعلام بين حين وآخر، وإن حاولوا إخفاءه حينا من الدهر.
فهل هؤلاء هم المؤمنون الذين عناهم الرسول صلى الله عليه وسلم، بقوله: (لا
يلدغ المؤمن من جحر مرتين) وهم يكررون لدغ بعضهم بعضا...؟
وقال تعالى مخاطبا المؤمنين حقا: ((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط
الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم
وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون)) [الأنفال(60)]
أمرهم بإعداد العدة التي ترهب أعداء الله وأعداءهم الذين لا يكفون عن العدوان
عليهم، إلا بتلك العدة التي ترهبهم... وحثهم على الإنفاق في سبيل الله، الذي
هم من أهم وسائل إعداد العدة وإرهاب العدو.
فهل امتثلوا أمر الله هذا، فأعدوا العدة التي أمرهم بها، وأنفقوا من أموالهم
في سبيل الله؟
لقد اتفقوا في جامعة الدول العربية قبل أكثر من 50 عاما على اتفاقية الدفاع
العربي المشترك والتعاون الاقتصادي لدول الجامعة لعام 1950م.
http://www.islam-online.net/completesearch/arabic/mDetails.asp?hMagazineID=21601
وامتلأت خزائن جامعتهم بالمشروعات والاتفاقات الموقعة من جميع مجالس الجامعة:
من المندوبين الدائمين... ومن وزراء الخارجية..ومن الملوك والأمراء
والرؤساء...
ولم يرى النور منها إلا ما لا وزن له في مواجهة التحديات الخطيرة، مع كثرة
البيانات التي لا وجود لغالبها في الواقع... وعندهم من الإمكانات البشرية
والمادية التي تقيم عليهم الحجة وتنفي عنهم أي عذر...
نعم! إن غالبهم يعدون العدة لإرهاب المجاهدين في سيل الله،وينفقون الأموال
لمطاردتهم، وتشريدهم وسجنهم وتعذيبهم، ويتآمرون مع اليهود والنصارى والوثنيين
على حربهم، وهذه مخابراتهم تعمل تحت رئاسة مخابرات أمريكا للقضاء على الجهاد
والمجاهدين... باسم الإرهاب والإرهابيين!
فهل هؤلاء هم الذين عناهم الرسول صلى الله عليه وسلم، بقوله: (لا يلدغ المؤمن
من جحر واحد مرتين) وهم يتابعون بلدغاتهم رجال الدعوة والجهاد مع أعداء الله؟
إن المؤمن الصادق، قد يضعف ماديا، وقد يغلبه عدوه القوي ماديا، وقد يقع في
الأسر ، بل قد يضطر للمهادنة، وإظهار ما يسر العدو بلسانه، بل قد يدخل مع
عدوه في عهد مجحف بالمسلمين، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع المشركين
في صلح الحديبية.
ولكن هذا لمؤمن يبقى عزيز النفس، قوي الإيمان، يعد العدة، ويتخذ كل سبب يتمكن
به من الانتصار على عدوه، وهزيمته، وإعلاء كلمة الله في الأرض.
وهذا هو الفرق بين استعبد قلبه لعدوه ومن استعبد جسمه وقلبه حر، وإلى ذلك
أشار ابن تيمية رحمه الله فقال:
"فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن،
فإن من استُعبِد بدنه واستُرِق، لا يبالي إذا كان قلبه مستريحا من ذلك
مطمئنا، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص، وأما إذا كان القلب-الذي هو
الملك-رقيقا مستعبدا لغير الله، فهذا هو الذل والأسر المحض.. فالحرية حرية
القلب، والعبودية عبودية القلب....." [مجموع الفتاوى: (10/186-189)]
ومن صفات المؤمنين التوكل على الله واعتمادهم عليه، واطمئنان أنفسهم وثبات
قلوبه، وصبرهم في أشد الأوقات ضيق وحرجا عليهم، كما قال تعالى: ((الذين قال
لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله
ونعم الوكيل)) [آل عمران(173)]
وقال تعالى: ((قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة
كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)) [ البقرة(249)]
وقال تعالى: ((ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله
وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما)) [الأحزاب(22)]
فهل قادة العرب والمسلمين اليوم، يتصفون بهذا التوكل الذي لا يرهبهم معهم
اجتماع أعداء الله عليهم، ولا تزلزلهم العواصف العاتية ولو كانت تهد الجبال؟
دليل الواقع اليوم:
تلك هي صفات المؤمنين، وهي تدل على "المؤمن" الذي أراده الرسول صلى الله عليه
وسلم بقوله: (لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين) ولا أظن أحدا من قادة
المسلمين والعرب اليوم، يدعي أنه يتصف بها، ليكون جديرا بالدخول في هذا لحديث
الشريف.
وقد يبقى عند بعض الناس شك في هذا الكلام... مع وضوحه وضوح الشمس، فيزيل شكه
الواقع الذي مضى له _في قضية فلسطين خاصة- ما يقارب ستين عاما... وهم يلدغون
لدغات قاتلة من اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار... يلدغون من جحر واحد...
من أمريكا ومن بريطانيا... وغالب الدول الأوربية... بل من اليهود أنفسهم
يلدغونهم.
ويلدغون في اللقاءات والمؤتمرات: في كامب ديفيد، وشرم الشيخ، ومدريد، وأسلو،
وفي فلسطين، وفي بلدان وعواصم أخرى عربية وأوربية، تلدغهم الأحزاب الأمريكية
المتعاقبة"الجمهوري والديمقراطي" وزعماؤها، من عهد روزفلت إلى عهد بوش الابن،
وتلدغهم الأحزاب اليهودية"الليكود والعمل" من سنة 1948م إلى الآن.. ولمجلس ما
يسمى بـ(مجلس الأمن) لدغاته المتكررة التي لم يعتبر بها الملدوغون!
لدغوهم في السياسة، ولدغوهم في الاقتصاد، ولدغوهم في السلاح، ولدغوهم في
التحريش بينهم، وفي لدغات حربي الخليج الأولى والثانية عبرة "للمؤمن الذي لا
غ من جحر واحد مرتين"
ولا زالوا إلى هذه اللحظة يلدغون ويلدغون ثم يلدغون، لدغات سامة قاتلة، ولم
يتعظوا، بل إن أعداءهم الذين يلدغونهم، يمنونهم بعد كل لدغة بكلمات عامة أو
معسولة، ثم يصرح زعماء العرب بعد كل لدغة بالتفاؤل والإيجابيات والتوسل...
وطالت اللدغات السامة القاتلة، جميع زعماء العرب، كلما رحل زعيم لدغ من يليه،
إلى يومنا هذا.... ويتفق أعداؤنا اليهود والصليبيون، مع زعماء الدول العربية
على لدغ المجاهدين في سبيل الله، وبخاصة ذوي الحركة الجهادية في فلسطين.
وإن أشد اللسعات التي يستعد ون بها لتسميم هذه الحركة المباركة، هي ما تعد
لها اليوم المخابرات الأمريكية واليهودية والعربية، ومنها أجهزة الأمن
الفلسطينية التي ينتظر أفرادها كراسي السلطة التي تريد أمريكا أن توصلهم
إليها على الدبابات اليهودية...لتحقق بهم ما تقر به عين اليهود، ويتم بعده
مباشرة ما يسمى بـ(السلام الاستراتيجي الشامل) الذي يلهث وراءه زعماء العرب.
ويصبح العلم اليهودي –بكل طموحات دولته- يرفرف على عواصم المسلمين... وتسيطر
دولته على الدول العربية بعون قوي من دول الاستعمار الجديد، وتقلب اسم
جامعتهم المريضة، إلى "جامعة الشرق الأوسط" لتكون دولة اليهود العضو الفعال
فيها، كما رمى إليه كتاب شمعون بيريز "نحو شرق أوسط جديد"
وقد انتقلت أمريكا اليوم، بتوجيه من الصهيونية العالمية، إلى نوع جديد من
اللدغات، وهو فرض زعماء ترضى عنهم على الشعوب الإسلامية –ومنها الشعوب
العربية- كما فعلت في أفغانستان، وتريد فرضه على فلسطين، والعراق، وهي سنة
ستنال كل زعيم عربي عندما تريد...
ويغلب على الظن أنها قد أعدت قائمة بالزعماء الذين تريد تغييرهم، والزعماء
الذين تريد تنصيبهم.... وتغير الأنظمة... وتقسيم الدول إلى دويلات....فهل
يدرك زعماء المسلمين والعرب ضرر اللسعات الجديدة... ويتذكرون المثل المشهور:
"أكلت يوم أكل الثور الأبيض"؟ وكل لدغة تنال الزعماء هي لدغات للشعوب أعانها
الله!
إن في الركون إلى الكافرين وبالا في الدنيا وعذابا في الآخرة، وإن في اتخاذهم
بطانة وأولياء خزيا وذلا وفقدا للعزة التي لا تنال إلا من الله: ((ولا تركنوا
إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون))
[هود(113)]
((ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما
عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن
كنتم تعقلون)) [آل عمران(118)]
((الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن
العزة لله جميعا)) [النساء(139)]
إن قول الحق مر... ولكنه الحق...وهو الدواء الناجع...(( ياأيها الذين آمنوا
استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء
وقلبه وأنه إليه تحشرون)) [الأنفال(24)]
وإن في السكوت على راحة على لصاحبه... ولكنه السم القاتل: ((واتقوا فتنة لا
تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب)) [الأنفال)(25)]
ولعل الموضوع بحلقتيه قد أجاب على هذا العنوان الذي سجل بصيغة السؤال: (من هو
هذا المؤمن؟!)
(*) 17/5/1423هـ ـ27/8/2002م
أرسل لما يقارب 40 منتدى.