المسافر لا بد له من استعداد لسفره، والاستعداد للسفر يختلف باختلاف الجهة
التي يراد السفر إليها.
فقد تكون جهة السفر قريبة من دار المسافر، وبيئتها مشابهة لبيئة بلده، من حيث
الجو والعادات والطعام واللباس، وغير ذلك من أنواع الشبه، وقد تكون بعيدة،
مختلفًا جوُّها وعاداتُ أهلها وطعامهم، عن عادات بلده، ولقرب البلد وبعدها،
وشدة شبهها لبلاد المسافر أو شدة مخالفتها، تأثير في استعداده للسفر...من حيث
الزاد والراحلة، اللباس وغيرها...
وقد يكون السفر إلى ديار تختلف اختلافا شديدا عن داره، كرحلات رواد الفضاء
إلى الفضاء الخارجي، وقد يبقى في الفضاء شهورا أو أكثر، بل قد يكون سفره إلى
أحد كواكب السماء، كالقمر، وهو في سفره إلى هذه الديار، يحتاج إلى استعداد
غير عادي، فيحتاج إلى تدريبات قاسية مشابهة شبها كبيرا للحالة التي سيكون
عليها في المركبة الفضائية، وفي جو شبيه بنفس الجو الذي سيكون عليه، في تلك
الرحلة.
كما يحتاج إلى ملابس تختلف عن ملابس الأرض العادية، بل يحتاج إلى حمل الهواء
"الأكسجين" من الأرض، ليبقى هناك على قيد الحياة، ويحتاج إلى طعام يناسب تلك
الأجواء التي سينتقل إليها، كما يحتاج إلى نفقات باهظة، وراحلة غالية ...
وهذا ما نرى أمثلة له لهؤلاء المسافرين.
ولهؤلاء المسافرين محطات معينة، أعدت إعدادا خاصا لتدريبهم، وإعدادهم إعدادا
عظيما، للقيام بهذا السفر العجيب.
ونحن نتمنى أن يكون عندنا صناعة لهذه الأسفار، لاكتشاف الفضاء والاستفادة من
طاقاته ومنافعه، لكن مع ملء الأرض بالصلاح، ومنح أهلها الطعام والشراب
واللباس، والسعادة والعدل والأمان.
هذه الأسفار كلها مرتبطة بدار واحدة، سواء كانت في الأرض أو في السماء، تسمى
"دار الدنيا"
أما السفر المقصود هنا، فهو سفر من نوع آخر، وإلى ديار أخرى، وخط سير يختلف
اختلافا كبيرا، عن خطوط السير في حياتنا المعتادة، أول هذا الخط إقلاع الروح
من مطارها "الجسد" إلى بارئها، ثم إلى حياة البرزخ الفاصل بين الدنيا
والآخرة، ثم البعث والجزاء والحساب، والمرور إلى الصراط، إلى أن يصلوا إلى
آخر محطة للسفر، وهي الدار الآخرة "الجنة"
إنه السفر إلى دار تسمى "الدار الآخرة" سفر غاية أهله القرار في رحاب الله
"الجنة" التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، سفر
زمنُ الاستعدادِ له العمرُ كله، وزاده السعي المتواصل إلى رضا الله تعالى
وتقواه، بعمارة الأرض عمارة تحفظها من الفَسادَينِ: الفسادِ المادي والفسادِ
المعنوي، عمارة تجلب للإنسان فيها حياةَ سعادةٍ وأمنٍ ورخاء.
ولهذا السفر محطات تدريب في هذه الحياة، يديرها منهج الله على مدار الدقائق
والساعات والأيام، والأسابيع والشهور والأعوام، والقرون والعصور، والأجيال
والدهور، لا يقطع فيها العملَ إلا هادمُ اللذات ومفرق الجماعات....بل يرحل
كثير من المسافرين، و لهم أعمال باقية بعدهم تُمطِرهم بشآبيب الرحمة، وتمدهم
بأنواع الحبور والنعمة.
ويشمل تلك المحطات كلها، قيام المسلم بطاعة ربه تعالى، بإيمانه وعمله الصالح
الشامل، لكل ما جاء به هذا الدين، من أصول الإيمان وفروعه، وأصول الإسلام،
وأحكام الشريعة من فعل فرائض ونوافل طاعات، وترك محرمات ومكروهات، ومن أركان
الإسلام ومحطات المسافرين إلى الجنة "شهر رمضان" شهر الصبر وشهر الطاعة
والصيام، شهر الإكثار من قراء القرآن وشهر التهجد والقيام، شهر يغلق الله فيه
عن المتقين أبواب النار، ويفتح لهم فيه برحمته أبواب الجنة دار القرار.
إن الهدف من التدريب في هذه المحطة، هو تأهيل المتدرب لهذا السفر، الذي لا
يوجد له نظير في هذه الحياة، فلا يحتاج المسافر إلى إذن سفره من أقاربه، وعلى
رأسهم الأبوان، ولا من رؤسائه في عمله، ولا إلى جواز سفر من دولته، ولا
تأشيرة دخول من دول عالَم الدنيا كلها...
كما لا يحتاج إلى عملة أجنبية غربية، أمريكية أو أوربية، أو شرقية يابانية،
أو شيكات سياحية، أو بطاقة ائتمان احتياطية، وليس في حاجة إلى تذكرة سفر لأي
خطوط طيران، من شركات الخطوط الجوية العالمية، ولا غيرها من وسائل المواصلات
الأخرى برية: درجات، أو سيارات، أو قطارات، أو حافلات جماعية، أو بحرية بواخر
وعبارات ....
وليس في حاجة إلى حقيبة سفر، يملأها بملابسه، وما يحتاجه إليه في تنقلاته...
كل ذلك لا يحتاج إليه المسافر إلى الجنة، وفي الحلقة القادمة إشارات إلى ما
يحتاج إليه من تدريب، ووسائل سفر تختلف عن أسفار الدنيا كلها.
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم، حقارة دار الدنيا هذه، وسرعة السفر منها
إلى الدار الآخرة، قال البخاري "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم كن في
الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" ثم ساق حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: (كن في الدنيا كأنك
غريب أو عابر سبيل) وكان بن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا
أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك" [البخاري
(5/2853)].
ومثله حديث عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: (ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا، كمثل راكب قال تحت شجرة في يوم
صائف، فراح وتركها) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/345) وذكر ه ابن كثير في
تفسير القرآن العظيم (4/523) وقال: "ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث
المسعودي به وقال الترمذي حسن صحيح"]
ميادين تأهيل المسافر في هذه المحطة للسفر
إلى الجنة.
المسافر إلى الجنة يحتاج إلى تدريب يؤهله لهذا السفر المبارك، وميادين
التدريب كثيرة، نذكر أهمها بإذن الله.
الميدان الأول:
صيام نهار الشهر المبارك.
"الصوم المشروع هو الإمساك عن المفطرات، من طلوع الفجر الثاني إلى غروب
الشمس" [المغني لابن قدامة (3/4)]
أما الصيام في لسان العرب، فهو مطلق الإمساك عن أي شيء، فلو أمسك غير المسلم
عن المفطرات، في نهار رمضان أو غيره، اعتبر صائما في اللغة العربية، ولو أمسك
المسلم عن ذلك في نهار رمضان أو غيره، قاصددا التداوي بذلك وليس أداء
العبادة، فهو صائم في اللغة العربية.
ولو صام المسلم ليلا وأفطر نهارا في شهر رمضان، قاصدا بذلك العبادة، لم يعد
صائما الصيام الشرعي، لأنه لم يصم في النهار.
فقد فرض الله صيامه نهارا، لا ليلا، فقال تعالى بعد أن ذكر وجوبه: ((أياما
معدودات فمن شهد منكم الشهر فليصمه)) والأيام إذا أطلقت يراد بها أوقات
النهار، وأكدت ذلك سنة الرسول القولية، والفعلية، وعلى ذلك إجماع الأمة.
والصيام قسمان:
القسم الأول: صيام مفروض للوقت أي يجب
على المسلم أن يصومه، بمجرد دخول وقته، وهو شهر رمضان المبارك، الذي هو أحد
أركان الإسلام الخمسة، وهي الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والحج، يأثم تاركه،
ويكفر جاحده، كما تجب الصلاة بمجرد دخول وقتها.
وصيام مفروض لإيجاب الإنسان ذلك على نفسه، وهو صوم النذر الذي يجب الوفاء به
[اقرأ الآية 7 من سورة الإنسان]
وصيام مفروض للكفارات، كالحنث في اليمين، فيجب صيام ثلاثة أيام، إذا لم يجد
إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة مؤمنة، [اقرأ الآية 89 من سورة
المائدة]
وصيام شهرين متتابعين لمن قتل مؤمنا خطأ، ولم يجد تحرير قبة مؤمنة [اقرأ
الآية (92) من سورة النساء] ومثله مَن ظاهر من زوجته ثم عاد إليها ولم يجد
رقبة يعتقها [اقرأ الآيتين 3،4 من سورة المجادلة]
و صيام مفروض على من حج قارنا أو متمتعا ولم يجد الهدي، فإنه يصوم عشرة أيام
ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع، [اقرأ الآية (196) من سورة البقرة]
القسم الثاني: صيام مندوب،،، وسيأتي الكلام عنه في بعض الحلقات بإذن الله.
والذي يعنينا هنا هو صيام شهر رمضان المبارك، فقد فرض الله على المسلمين
صيامه، كما كتب عليهم النطق بالشهادتين، والصلاة والزكاة والحج، وهذه الأربعة
مع صيام رمضان هي مباني الإسلام وأركانه.
وقد دل على وجوب صومه القرآن والسنة القولية والفعلية، وإجماع الأمة:
قال تعالى: ((ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من
قبلكم لعلكم تتقون)) [البقرة (183)]
ومن السنة القولية، ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا
عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان).[البخاري
(4/1641) ومسلم (1/45) واللفظ له]
ومن السنة الفعلية، حديث أنس رضي الله عنه، قال: "واصل رسول الله صلى الله
عليه وسلم في أول شهر رمضان، فواصل ناس من المسلمين، فبلغه ذلك، فقال: (لو مد
لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم، إنكم لستم مثلي، أو قال إني
لست مثلكم، إني أظل يطعمني ربي ويسقيني) [البخاري (3/796) و مسلم (2/776)
واللفظ له]
وأجمع المسلمون على أن صيام شهر رمضان فريضة لازمة لكل مسلم بالغ قادر، خلا
من عذر شرعي. [المغني لابن قدامة (3/3)]
كيف يؤهل الصيام صاحبه للسفر إلى
الجنة؟
المسلم الذي يصوم رمضان، إيمانا بالله وبرسوله واليوم الآخر، محتسبا صيامه
وأعماله الصالحة فيه عند ربه، جدير بأن يكون أهلا للسفر إلى جنة الخلد...
فالصائم بهذه الصفة، قد سيطر على نفسه وهواه وشيطانه، وهذه الثلاثة هي التي
تلازم الإنسان وتلجئه إلى تعاطي أي شيء يشتهيه، ما لم يصده عنها صاد حسي أو
معنوي.
المانع الحسي عدم قدرة الإنسان على تعاطي ذلك، إما بفقد الْمُشْتَهى، وإما
لرقابة بشريه تحجزه عن ذلك مع وجوده، وهذا المانع غير مُجْدٍ إذا وجد
المشتهى، وفقد الحاجز.
أما المانع المعنوي المؤثر، فهو ما يصاحب الإنسان في كل حالاته: في حال خلوته
بنفسه وعدم وجود المخلوقين معه، وفي حال جلوته ، أي اختلاطه بالناس، هذا
المانع هو قوة إيمانه بربه، واستحضار عظمته، وكمال إحاطة علمه، وكمال قدرته
على مجازاته، فرقابته رقابة إلهية تصبح عنده رقابة ذاتية، ثابتة في قلبه،
مانعة لجوارحه من الإقدام على ما لا يرضي ربه.
وذكر العلماء أن من أسباب قول الله تعالى في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم
له إلا الصوم فإنه لي وأنا الذي أجزي به) أن الأعمال الأخرى غير الصيام واضحة
يستطيع فاعلها أن يرائي بها الناس، كالصلاة والزكاة والحج، بخلاف الصوم فإنه
بين الصائم وبين الله، لأنه عبادة غير ظاهرة.
فصيام المؤمنِ الصادقِ الإيمان، يجعله في مقام المراقبة الدائمة لربه تعالى،
متمثلا كمال علمه المحيط بكل شيء، وكمال قدرته التي تصرف كل شيء، كما دلت على
ذلك الآيات والأحاديث الصحيحة الكثير:
قال تعالى: {قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في
السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير يوم تجد كل نفس ما عملت من خير
محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه
والله رؤف بالعباد}.آل عمران: 29-30.
وفي حديث جبريل المشهور قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد
الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) [مسلم (1/37)]
ومن كمال قدرته وكمال علمه تعالى، أن جعل أعضاء الإنسان تسجل عليه أعماله
التي يباشرها بتلك الأعضاء، فإذا جاء وقت الجزاء والحساب شهدت عليه بكل ما
اقترف، وأين يفر الإنسان من جلده وسمعه وبصره ويده ورجله، وهي تلازمه في كل
مكان، بل بها يتعاطى الخير أو الشر؟!
إن أعضاء الإنسان آلات تصوير-كمرات-تصور حركاته في الليل وفي النهار في الضوء
وفي الظلمة، في السر وفي العلن، وهي كذلك آلات تسجيل-كاسيت-تسجل أصواته
لتحتفظ بها، فتفاجئه بما لم يكن يتوقع من شهادتها عليه، قال تعالى: ((ويوم
يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون، حتى إذا ما جاؤها شهد عليهم سمعهم
وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا
أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم
تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا
يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من
الخاسرين}. حم السجدة : 19-23.
وقال تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون}.
النور: 24
وهذه هي حال الصائم، الذي يمتنع عما تشتهيه نفسه، وقد تشتد حاجته إلى تناوله،
مما هو مباح له شرعا في الأصل، وبخاصة الطعام الذي لا يُدفع الجوع إلا به،
والشراب الذي لا يُدفع العطش إلا به، ومعاشرة زوجه التي قد تلح على تعاطيها
غريزته، وكل تلك الأمور تكون غالبا متاحة له، وفي متناول يده.
فإذا امتنع المؤمن عن تلك المشتهيات، مستحضرا عظمة الله، راغبا فيما عنده من
الرضا والثواب، ورهبة مما سيلقاه - لو عصاه - من السخط والعقاب، فإنه بذلك
يستحق أن يكون من وفود المسافرين إلى الجنة، التي لم يعدها الله تعالى إلا
لعباده المؤمنين...
والمؤمن الحق الذي يترك ما هو مباح له في الأصل طاعة لربه، سيترك ما هو محرم
عليه في الأصل من باب أولى، وبذلك يكون طاهر القلب، نظيف الجوارح، طيب
السيرة، صادق السريرة، مؤهلا للقاء الله في دار ضيافته.
الميدان الثاني:
الصبر في "شهر الصبر"
ورد
في بعض الأحاديث [من حديث أبي هريرة وسلمان وغيرهما] تسمية رمضان بـ(شهر
الصبر)كما في مسند أحمد (2/263) وسنن أبي داود (2/322) والسنن الكبرى
للنسائي: وفيه (شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر، صوم الدهر) (2/134) وفي
سنن النسائي(4/218) وسنن ابن ماجه (1/554) ومن المراجع التي ذكر فيها ذلك،
صحيح ابن خزيمة بلفظ (وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة) (3/191) وفي صحيح
ابن حبان: (صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر، يذهبن وحر الصدور)
[(14/498) ومعنى "وحَر الصَّدر" : "غِشُّه ووساوسُه. وقيل: الحقد والغيظ.
وقيل: العداوة. وقيل: أشدّ الغضب." والمراد سلامة صدر الصائم من تلك الأمور]
وقال في مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني في الكبير، إلا أنه قال ثنا رجل
من عكل ورجال أحمد رجال الصحيح (3/196)
قال في عون المعبود: قال الخطابي "شهر الصبر هو شهر رمضان، وأصل الصبر الحبس،
فسمي الصيام صبرا، لما فيه من حبس النفس عن الطعام، ومنعها عن وطء النساء
وغشيانهن، في نهار رمضان (7/58)
وهو جدير بأن يسمى (شهر الصبر) لأن الصائم يصبر فيه تسعة وعشرين أو ثلاثين
يوما، على الامتناع عما يصعب الكف عنه، وأعظمه الطعام والشراب والوقاع كما
مضى.
ولا شك أن الصبر عن هذه الأمور في هذه الأيام المتوالية، من أهم مجالات تدريب
النفس على الصبر على أوامر الله بفعلها، وعلى نواهي الله بتركها، في هذا
الشهر وغيره.
وصبر العبد على طاعته لله في أمره ونهيه، جزاؤه الجنة، ومرافقة أولياء الله
من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين.
كما قال تعالى: ((ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيق))[النساء (69)]
و قال تعال: ((ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين
فيها وذلك الفوز العظيم)) [النساء (13)]
والصبر عدة المؤمن التي ينال به الرضا بقضاء الله، عندما يبتلى في نفسه وأهله
وماله، وهو من المبشرين بهدى الله، وأن تغشاه رحمته، ويحظى بصلواته عليه، كما
قال تعالى:
((ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر
الصابرين (155) الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون
(156) أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)) (157) [البقرة]
قال الطبري رحمه الله: "وقد قيل: إن معنى الصبر في هذا الموضع الصوم، والصوم
بعض معاني الصبر عندنا، بل تأويل ذلك عندنا أن الله تعالى ذكره أمرهم بالصبر
على ما كرهته نفوسهم، من طاعة الله وترك معاصيه، وأصل الصبر منع النفس
محابَّها وكفها عن هواها، ولذلك قيل للصابر على المصيبة صابر لكفه نفسه عن
الجزع، وقيل لشهر رمضان شهر الصبر لصبر صائمه عن المطاعم والمشارب نهارا..."
[جامع البيان عن تأويل القرآن (1/259)]
وممن فسر الصبر في آية البقرة السابقة، بصيام شهر رمضان، الإمام الشافعي رحمه
الله، قال القرطبي: "وقال الشافعي هو الجوع في شهر رمضان" الجامع لأحكام
القرآن [(2/173)]
والمؤمن وحده هو الذي يحظى بالخير في سرائه وضرائه، بما منحه الله من الصبر
على الحالين، كما في حديث صهيب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (عجبا لأمر المؤمن! إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن،
إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له) [مسلم
(4/2295)]
وقد أمر الله عباده المؤمنين، أن يستعينوا بالصبر والصلاة على قيامهم بما
يرضيه، من تعلم دينهم الذي جاء به رسوله، وتزكية نفوسهم به، ومداومتهم على
ذكره وشكره، كما قال تعالى:
((كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب
والحكمة ويعلمكم مالم تكونوا تعلمون (151) فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا
تكفروني (152) ياأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع
الصابرين)) (153) [البقرة ]
وفسر بعض العلماء الصبر هنا أيضا بصوم رمضان، قال القرطبي: "وقول ثالث قال
مجاهد: "الصبر في الآية الصوم" ومنه قيل لرمضان شهر الصبر، فجاء الصوم
والصلاة على هذا القول في الآية متناسبا، في أن الصيام يمنع من الشهوات ويزهد
في الدنيا، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتخشع، ويقرأ فيها القرآن الذي
يذكر الآخرة والله أعلم" [الجامع لأحكام القرآن (1/372)]
والصبر له آثاره في سلوك صاحبه، في
مقامات كثيرة من حياته، يعينه فيها على فعل طاعة ربه، وترك معصيته، من تلك
المقامات:
1-
مقام الجهاد في سبيل الله، ومقارعة الأعداء، دفعا لعدوانهم، وتحطيما لسدود
الصد عن تبليغ الإسلام إلى الناس، فالمجاهدون في سبيل الله يثبتهم الله
بالصبر وهم قليلة، ويمنحهم النصر على الأعداء وهم فئة كثيرة، ويكون تدريب
المجاهدين واختبارهم، هو طاعة قائدهم، في تحديد كمية ما تشتهيه أنفسهم مما هو
مباح لهم في الأصل، كشرب الماء، وهو شبيه بالصيام.
قال تعالى: ((فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه
فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا
منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده
قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله
والله مع الصابرين)) [البقرة (249)]
والصبر قرين الجهاد في فتح أبواب الجنة، كما قال تعالى: ((أم حسبتم أن تدخلوا
الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين)) [آل عمران (142)
2-
مقام الدعوة إلى الله التي ينال فيها الدعاة إلى الله وأتباعهم من الفتنة
والأذى، ما لا طاقة لهم على تحمله إلا بالصبر، كما قال تعالى: ((ولقد كذبت
رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات
الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين)) [الأنعام (34)]
وقال تعالى: ((فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم
يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم
الفاسقون)) [الأحقاف (35)]
وقال تعالى: ((ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن
ربك من بعدها لغفور رحيم)) [النحل (110)]
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم، يربي أصحابه على الصبر في وقت الشدة والضعف،
على الصبر على ما يصيبهم من أذى، اقتداء به.
كما في حديث خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو
متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟
قال: (كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه فيجاء بالمنشار،
فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما
دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى
يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه،
ولكنكم تستعجلون) [مسلم (2/1322)]
3-
مقام الاعتداء على الصائم بالسب والشتم أوالمقاتلة، التي يحق له فيها أن
يعامل من يسبه ويشتمه بمثل ما فعل، ولكنه يؤثر عدم استعمال هذا الحق، ويتقي
خصمه بصبره وصيامه، كما في حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: (الصيام جنة، فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو
شاتمه، فليقل: إني صائم مرتين، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند
الله تعالى من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا
أجزي به والحسنة بعشر أمثالها) [البخاري (2/670)]
وصبر الصائم على الشتم والسب أمر مطلوب، أما صبره على المقاتلة، بحيث
يُعتَدَى عليه بالضرب ونحوه، ففيه إشكال، وهو أن المسلم مأمور بالدفع عن
نفسه، وسكوته على العدوان عليه بالفعل، استسلام وخضوع لا يليق به، وأجيب عن
ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أن المقاتلة تأتي بمعنى المشاتمة، وهي تأتي بمعنى ذلك، وعلى
هذا فلا إشكال.
الجواب الثاني: أن المراد بالمقاتلة تهيؤ المعتدي على الصائم لمقاتلته، وليس
المراد مباشرة ذلك فعلا، فإذا رأى الصائم من خصمه استعدادا لمقاتلته، فعليه
أن يبادره بقوله: (إني صائم) لعل ذلك يجعله يرجع عما عزم عليه.
فإن تمادى وبدأ بمقاتلته بالفعل، فعليه أن يدفع عن نفسه، بالأخف فالأخف من
الدفع، كالحال مع الصائل. ]راجع فتح الباري (4/105)]
4-
مقام هياج النفس ورغبتها في قضاء وطرها بلقاء الرجل المرأة بسبيل شرعي، مع
عدم القدرة على ذلك، فإن الصوم من أهم ما يعينه على الصبر حتى يهيئ الله له
ما يحقق له رغبته.
وفي هذا المعنى روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: كنا مع النبي صلى
الله عليه وسلم، فقال: (يا معشر الشباب من استطاع الباءة فليتزوج فإنه أغض
للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء). [البخاري
(2/673) ومسلم (2/1018)]
والخلاصة أن الصوم مُعِينٌ لصاحبه على الصبر في مقامات كثيرة من حياته، وفي
تسمية شهر رمضان بـ(شهر الصبر) إشارة واضحة إلى هذا المعنى، والصائم الصادق
في صومه، جدير بأن يكون صيامه لشهر رمضان، دافعا له على الصبر على فعل
الطاعات وترك المعاصي في شهر رمضان، وما تلاه من شهور، إلى رمضان آخر، جعلنا
الله جميعا من الصائمين الصابرين.
المجال الثالث لتدريب المسافر إلى الجنة:
"مصاحبة القرآن في "شهر القرآن"
ثلاث آيات في
ثلاث سور، تبين أن القرآن الكريم، نزل في ليلة واحدة من هذا الشهر الكريم
"رمضان" وهي ليلة القدر:
الآية الأولى:
هي قوله تعالى في: ((شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من
الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من
أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا
الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون)) [البقرة (185)]
فهي صريحة في أنه تعالى أنزله في شهر رمضان، وهو شامل لأيامه ولياليه من أوله
إلى آخره.
الآية الثانية:
هي الآية الثالثة من سورة الدخان، في قوله تعالى: ((حم(1) والكتاب المبين (2)
إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين(3) فيها يفرق كل أمر حكيم (4)
أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين (5) رحمة من ربك إنه هو السميع العليم (6)
[الدخان]
وينبغي حمل هذه الليلة المباركة، على أنها إحدى ليالي شهر رمضان، الذي نصت
آية البقرة على أن القرآن نزل فيه، ولكنها تبقى مبهمة يجوز أن تكون أي ليلة
من لياليه، بدون تحديد.
الآية الثالثة:
هي الآية الأولى في سورة القدر في قوله تعالى: ((إنا أنزلناه في ليلة
القدر(1)وما أدراك ما ليلة القدر(2) ليلة القدر خير من ألف شهر(3) تنزل
الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر(4) سلام هي حتى مطلع الفجر)) (5)
[القدر]
ولكن هذه الليلة – مع تحديدها بالوصف – لم يعينها القرآن الكريم،،،، ولهذا
وجب الرجوع فيها إلى السنة التي رجحت وجودها في العشر الأخيرة من هذا الشهر،
ووردت أحاديث أكثر تحديدا لها بليالي الوتر من العشر الأخيرة، ثم وردت أحاديث
أخرى تظهر رجحان أنها ليلة السابع والعشرين من رمضان، وسيأتي الكلام على
الحكمة في إبهام هذه الليلة المباركة، وعدم القطع بتعيينها.
والذي يعنينا هنا:
هو مجال القرآن الكريم في تدريب المسافر إلى الجنة.
فتدريب المسلم نفسه للسفر إلى الجنة، في مجال القرآن الكريم، شامل لكل وقت من
أوقات عمره، ولكن شهر رمضان له مزية على سائر الشهور، وكذلك كل يوم من أيامه،
وكل ليلة من لياليه، لكون شهر رمضان ظرفا لبدء نزول هذا القرآن.
وهذا ما جرى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي كان يتلو كتاب الله في كل
الأوقات، ولكنه كان أكثر تلاوة له في شهر رمضان، بل إن الله تعالى خص شهر
رمضان بما لم يخص به غيره من تلاوته، حيث كان يرسل جبريل عليه السلام، ليدارس
الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن، كل ليلة من ليالي شهر رمضان، وكان يدارسه
مرة كل عام، فلما كانت السنة التي توفي فيها، دارسه القرآن مرتين.
فعن بن عباس رضي الله عنهما، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود
الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة
من رمضان فيدارسه القرآن، فَلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم، أجودُ بالخير
من الريح المرسلة" [البخاري (1/6) وغيره]
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "كان يُعرضُ على النبي صلى الله عليه وسلم
القرآن، كل عام مرة، فَعُرِض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان يعتكف
كل عام عشرا، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه" [البخاري: (4/1911) وابن
ماجه (1/562) وغيره]
إن نزول القرآن في شهر رمضان، ونزول جبريل من السماء، ليدارس الرسول صلى الله
عليه وسلم القرآن، كل ليلة من ليالي رمضان، في كل عام من أعوامه، ثم مدارسته
له في آخر عام من حياته مرتين، ليدل دِلالة واضحة، على شدة حب الله تعالى
منزلِ القرآن في شهر رمضان، لاهتمام المسلم بكثرة تلاوته في هذا الشهر،
اقتداء برسوله الكريم صلى الله عليه وسيلم.
ويؤخذ من مدارسة جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم القرآن، مشروعية مدارسة
المسلمين القرآن فيما بينهم، وبخاصة، مدارسة العلماءِ طلابَ العلم، لتصحيح
التلاوة، وللتفقه في معاني كتاب الله.
ومما يؤكد ذلك ما ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم، قال: (... وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله
ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة،
وذكرهم الله فيمن عنده) [صحيح مسلم (4/2074)]
تأهيل القرآن المسافر إلى الجنة.
إن تلاوة
القرآن الكريم، على ما فيها من الأجر العظيم، بحيث يكون لتاليه بكل حرف عشر
حسنات، كما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، إن تلاوته ليست كافية وحدها
لتأهيل المسافر إلى الجنة، بل لا بد مع تلاوته من الاهتداء بِهداه.
وإذا عدنا إلى آية سورة البقرة التي ذكر فيها نزول القرآن في شهر رمضان،
فسنعرف منها، أن القرآن يؤهل المسافر إلى الجنة، باهتدائه بهذا القرآن، كما
قال تعالى: ((شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى
والفرقان...))
فالمسلم الذي يهتدي بكتاب الله، هو الذي يكون مؤهلا للسفر إلى الجنة.
وينبغي أن يعلم أن القرآن جاء بالهدى للجن والإنس جميعا، ولكنه يخص بالهداية
المؤمنين به، بسبب أنهم هم الذين يهتدون به وينتفعون بنوره فعلا.
والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة في كتاب الله، نذكر طرفا منها:
منها قوله تعالى: ((ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)) [البقرة(2)]
((هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين)) [آل عمران (138)]
وقوله: ((ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى
ورحمة للمؤمنين)) [يونس (57)]
وقوله: ((ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين))
[النحل (89)]
وقوله: ((الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين
يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من
يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد)) [الزمر (23)]
وقوله: ((ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو
للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك
ينادون من مكان بعيد)) [فصلت (44)]
وقال تعالى عن الجن: ((وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف
بخسا ولا رهقا)) [الجن (13)]
ولما كان الله تعالى يحب أن يهتدي عبده المؤمن بكتابه، ويتبع سنة رسوله صلى
الله عليه وسلم، وهو به رءوف رحيم، فقد شرع له قراءة سورة الفاتحة في كل ركعة
من ركعات صلاته، فرضا كانت أو نفلا، وفي هذه السورة دعاء المصلي ربَّه تعالى
أن يهديه صراطه المستقيم، وهو دينه الحنيف الحق، الذي لم يعد في الأرض دينُ
حقٍّ سواه.
ولهذا اقترن دعاء المؤمن ربه أن يهديه الصراط المستقيم، بدعائه أن ينجيه من
غيره من سبل من استحقوا غضب الله، من اليهود ومن شابههم، ممن كفروا بالله على
علم، والنصارى ومن شابههم، ممن كفروا به على جهل وتكبر عن طلب العلم والهدى.
قال تعالى: ((الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. إياك
نعبد وإياك نستعين. اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير
المغضوب عليهم ولا الضالين)) [الفاتحة]
وبين سبحانه وتعالى، أن من اهتدى بهدى الله، أمن من الخوف والحزن ومن الضلال
والشقاء في الدنيا والآخرة، ومن أعرض عن هداه وكذب به، استحق الخلود في جهنم،
والضلال والشقاء في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: ((قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا
خوف عليهم ولا هم يحزنون(38) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار
هم فيها خالدون (39) [البقرة]
وقال تعالى: ((قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن
اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى (123) ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره
يوم القيامة أعمى (124) قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا (125) قال كذلك
أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى(126) وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن
بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى)) [طه (127)]
وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم، مثلا لمن طلب هدى الله فيما بعث به
رسوله، من هذا القرآن – ومثله سنة الرسول صلى الله عليه وسلم – وعمل به
وعلمه، فشبهه بالأرض الطيبة التي تمسك الماء، وترتوي به، وتنبت الكلأ والعشب،
فيستقي من مائها الناس والدواب والطيور،،، وتتغذى من زرعها وعشبها الناس
والدواب، وضرب مثلا آخر لمن طلب هذا الهدى، ولكنه أقل عملا به من الصنف
الأول، بأجادب من الأرض، أمسكت الماء، فشرب الناس منها وسقوا وزرعوا، وضرب
مثلا ثالثا لمن لم ينل من هدى الله شيئا، بالقيعان من الأرض التي لا تمسك
ماء، ولا تنبت كلأ، فلا يستفيد الناس ولا الدواب منها شيئا.
يبين ذلك حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم،
قال: (إن مثل ما بعثني الله عز وجل من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضا،
فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها
أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب
طائفة منها أخرى إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه
في دين الله ونفعه بما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا
ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به). [البخاري (1/42) ومسلم (4/1787)]
فهنيئا للمسلم مصاحبة القرآن في شهر القرآن، وفوزه بالفقه فيه والعمل بما
تضمنه من إسلام وإيمان وإحسان.
وسائل الاهتداء بالقرآن
وللاهتداء
بكتاب الله وسائل، لا بد أن يتخذها المؤمن عند تلاوته:
الوسيلة الأولى:
تلاوته بتدبر لفهم معانيه
هذه الوسيلة هي مفتاح تزكية المسلم
نفسه، بطاعة الله وترك معاصيه، على أساس تلاوة القرآن الكريم، لأن فهم مراد
الله تعالى من عبده المؤمن يعين القارئ على تطبيق ما فهمه.
فقد بين سبحانه أنه أنزل هذا القرآن، ليتدبره العقلاء، ويتذكروا ما فيه من
الحق الذي يبينه لهم، ويدعوهم إلى العمل به، والباطل الذي يكشفه لهم ويحذرهم
منه، وما يجب عليهم من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى:
((كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب)) [ص (29)]
وأنكر سبحانه على من عصاه، وأهمل تدبر كتابه، كما قال تعالى: ((أفلا يتدبرون
القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا))[النساء (82)]
وقال: ((أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين))
[المؤمنون(68)]
وقال تعالى: ((أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)) [محمد (24)]
فينبغي للمؤمن، وهو يتلو كتاب الله، أن يحقق ما أراده الله من إنزال القرآن
من التدبر والتذكر، وألا يكون كأهل الكفر والنفاق الذين لا يعيرون كتاب الله
اهتماما، ولا يلقون له بالا.
الوسيلة الثانية:
أن يبحث القارئ لكتاب الله عما يحبه الله تعالى،
من القول والعمل و لاعتقاد، ومن الأخلاق والصفات، وما يكرهه الله من ذلك،
ويبحث كذلك عمن يحبهم الله ومن يبغضهم.
فسيجد في كتاب الله ذكر المؤمنين والمؤمنات والثناء عليهم وصفاتهم وثوابهم،
وما تفرع عن أهل الإيمان، كالصالحين، والشهداء، والمتقين، والصديقين...
ويجد ذكر الكفار وذمهم وصفاتهم وعقابهم، ويجد ذكر المنافقين وتقبيحهم وصفاتهم
وجزائهم، ومثل ذلك الظالمون، والفاسقون، والمجرمون....
وسيجد تالي القرآن أقوالا وأعمالا أمر الله بإتيانها، وأخرى نهى الله عنها،
وسيجد ما يهيئ للمسافر إلى الجنة ما يؤهله للسفر إلى لجنة، وللمسافر إلى
النار ما يهيئه للسفر إلى النار.... وهكذا
إن معرفة تالي القرآن لذلك كله، يعينه على طاعة ربه وترك معصيته.
ولنضرب لذلك بعض الأمثلة:
فالله تعالى يحب الإحسان والمحسنين:
((وأحسنوا إن الله يحب المحسنين)) [البقرة (195)]
وهو يحب التقوى والمتقين: ((بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين))
[آل عمران (76)]
ويحب الصبر والصابرين: ((وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما
أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين)) [آل عمران
(146)]
ويحب التوكل والمتوكلين: ((فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين))
[آل عمران (159)]
ويحب الطهر والمتطهرين: ((فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين))
[التوبة (108)]
ويحب العدل وأهله: ((وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت
إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت
فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)) [الحجرات (9)]
ويحب الجهاد والمجاهدين: ((إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم
بنيان مرصوص)) [الصف (4)]
ولا يحب العدوان والمعتدين: ((ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)) البقرة
(190)
ولا يحب الفساد والمفسدين: ((وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث
والنسل والله لا يحب الفساد)) [البقرة (205)]
ولا يحب الكفر والكافرين: ((قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا
يحب الكافرين)) [آل عمران (32)]
ولا يحب الظلم والظالمين: ((والله لا يحب الظالمين)) [آل عمران (57)]
ولا يحب الخيانة والخائنين: ((ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا
يحب من كان خوانا أثيما)) [النساء (107)]
ولا يحب الإسراف والمسرفين: ((وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب
المسرفين)) [الأنعام (141)]
الوسيلة الثالثة :
عرض القارئ نفسه على ما يحبه الله وما يكرهه
وما يأمر به، وما ينهى عنه، ويعرض
صفاته على صفات المؤمنين، وصفات الكافرين وصفات المنافقين، ليعرف موضعه الذي
وضع نفسه فيه، و من هم قرناؤه، فإن وجد خيرا فليحرص عليه، وإن وجد غير ذلك
فليعلم أن المرء مع من أحب، وليداو نفسه بالقرآن الكريم ((إن هذا القرآن يهدي
للتي هي أحسن))
وسيجد قارئ القرآن كثيرا من علاقات أصناف البشر بعضهم ببعض، كالأسرة من أب
وأم وابن وبنت، وزوج وزوجة، وأخ وأخت، وكل ذي رحم مع رحمه، وجار مع جاره،
ودائن ومدين، وولي أمر ورعية، ولكل من تلك الأصناف حقوق، وعليه واجبات، لصاحب
الحق أن ينال حقه بدون زيادة، وعلى من عليه واجب أن يؤدي واجبه بدون نقص،
والقارئ لا بد أن يكون واحدا من هؤلاء، له حقوق وعليه واجبات، وهو في حاجة
إلى معرفة حقوقه، حتى لا يأخذ ما ليس فيه حق، ومعرفة واجباته، حتى يؤديها إلى
أهلها.
إن القرآن مرآة المؤمن يرى فيه محاسن نفسه، فيحرص على بقائها و الازدياد
منها، ويرى مساويها فيحرص على التخلص منها والبعد عن مثيلاتها، وهذه المرآة
تظهر للإنسان طهارة قلبه أو قذارته، ولا توجد مرآة تحقق هذا الغرض غير كتاب
الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم... ولهذا يحرص عباد الله الصالحون على
المداومة على النظر فيهما، رغبة في تعاهد قلوبهم وطهارتها.
((إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن
لهم أجرا كبيرا)) ل[الإسراء (9)]
ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه وغيره من السلف: "إذا سمعت الله تعالى يقول
في القرآن ((يا أيها الذين آمنوا)) فارعها سمعك فإنها خير يأمر به أو شر ينهى
عنه" [تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (1/61)]
ومعنى قوله: "فارعها سمعك" يعني أصغ لما بعد نداء الله بـ((يا أيها الذين
آمنوا)) واهتم به، لأن ما يتلو ذلك النداء، لا يخلو من أمر بخير، لا يليق
بالمؤمن تفويته، أو نهي عن شر، لا يليق بالمؤمن ارتكابه.
المجال الرابع:
الإخلاص.
آيات الصوم
بدأها الله بنداء المؤمنين (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )) [البقرة: من
الآية183].
ثم أتبعها بحكم الصيام، فقال: (( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ )) [البقرة:
من الآية183].
ومقتضى الإيمان أن يخلص الصائمون نيتهم في صومهم لله الذي فرض عليهم هذه
العبادة، كغيرها من العبادات.
والأصل في كل عبادة يؤديها المسلم لربه، أن يكون مخلصاً فيها له، لا يشوبها
شيء من إرادة غيره تعالى؛ لأن إرادة غير الله يعتبر نوعاً من أنواع الشرك،
إما شركاً أكبر، كالسجود للأصنام أو القبور، ومثله إراقة دم الحيوان لغير
الله على سبيل العبادة، وإما شركاً أصغر، كالرياء...
ويشمل ذلك كله قوله تعالى: (( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ
شَيْئاً )) [النساء (36)].
وقد وردت نصوص كثيرة في القرآن والسنة، تحض على الإخلاص بمادته،كقوله تعالى:
(( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ
الْقَيِّمَةِ )) [البينة (5)].
وقوله تعالى: (( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا
بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ )) [الأعراف (29)]
وقوله تعالى: (( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ
السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ * فَادْعُوا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ))
[غافر:13-14].
وكثير من الناس قد يظن أن الإخلاص لله تعالى أمر سهل لا صعوبة فيه، وهو ظن
مبالغ فيه، لأن إخلاص العمل لله يحتاج من العامل إلى مجاهدة نفسه، حتى
يُصًفِّيَ عملَه من شوائب إرادة غير الله..
إذ النفوس البشرية ترغب في ثناء الناس عليها، وعلى ما تقوم به من أعمال
الخير، وقد يغلب حب العبد لذلك على الإخلاص لله، وذلك من أهم عوامل القدح في
إخلاصه لربه.
لهذا وردت النصوص في الحث على الإخلاص بصفة عامة، كما مضى..
ووردت نصوص في ذم الرياء في الأعمال كذلك، وتشبيه صاحبه بمن لا يؤمن بالله
واليوم الآخر..
كما قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا
صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ
النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ
صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا
يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكَافِرِينَ )) [البقرة:264].
ونهى تعالى المؤمنين المجاهدين، أن يتشبهوا بالمشركين في ريائهم، فقال تعالى:
(( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ
النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ
مُحِيطٌ )) [الأنفال:47].
وكثير من العبادات تفتتح بما يذكر العبد بالإخلاص فيها لله تعالى، ويقويه في
نفسه.
ومن أمثلة ذلك الصلاة التي تبدأ بتكبيرة الإحرام: ( الله أكبر ) فالمصلي إذا
وفقه الله لمراعاة هذه الجملة وما تحمله من عظمة الله، أُعِينَ على الإخلاص
في صلاته من أولها إلى آخرها، فلا يلتفت إلى غيره بل ينجو من الرياء، مع أن
الصلاة كلها لا تخلو من ذكر الله، في القيام والقعود والسجود..
وكذلك الحج، الذي يبدأ بقول الحاج أو المعتمر: ( لبيك اللهم لبيك، لبيك لا
شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ) ثم يستمر ذاكرا حتى
يودع البيت الحرام ،،، مع حثه على الاستمرار على ذكر الله.
و "الجهاد" قُيِّدَ بهذا القيد "في سبيل الله" فإذا خلا من هذا القيد، لم يعد
جهاداً شرعياً، كما صحت بذلك الأحاديث. ومنها:
حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال:
"جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: الرجل يقاتل حمية، ويقاتل
شجاعة، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: ( من قاتل لتكون كلمة الله
هي الله العليا فهو في سبيل الله ) [البخاري (6/2714) ومسلم (3/1512)].
وجميع العبادات لا يعلم إخلاصَ صاحبِها فيها إلا اللهُ، ومنها الصيام الذي قد
يظهر صاحبه أنه صائم لله تعالى، وعلى الناس أن يعاملوه بالظاهر،كالصلاة والحج
والجهاد وكل العبادات التي يتقرب بها المسلم إلى الله، وقد يكون في علم الله
غير صائم، أو انه صام لغرض آخر، وليس لوجه ربه...
ولهذا جاء تكليف الله عباده بالصيام بادئاً، بهذا النداء: (( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام )) كما مضى.
وأكدت ذلك أحاديثُ صحيحة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر
له ما تقدم من ذنبه ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من
ذنبه...) [البخاري (2/534) مسلم (2/729)].
واضح من الحديث، أنه لا يترتب على قيام ليلة القدر وصوم رمضان، الثواب
الموعود به ( غفر له ما تقدم من ذنبه ) في الحالين، إلا إذا تحقق قائم ليلة
القدر، وصائم رمضان، أمران:
الأول:
أن يكون فعل ذلك إيمانا بالله تعالى
وبرسوله وباليوم الآخر، وبأن الله تعالى كلفه القيام بهاتين العبادتين.
الثاني:
أن يقصد بقيامه وصيامه وجه الله
تعالى، وليس لغرض آخر، كرئاء الناس، من أجل أن يثنوا عليه، فيقال: فلان صائم،
أو مجتهد في طلب الأجر من الله في قيام ليلة القدر أو غيرها.
فعلى المسلم أن يجاهد نفسه في أن يكون صيامه وقيامه وقراءته لكتاب الله،
وصدقاته، وكل أعمال الخير التي يقوم بها، مراداً بها وجه الله، الذي لا ينفعه
ولا يضره إلا الله، ولا يثيبه ويجزيه على عمله إلا الله تعالى، وأنه تعالى
مطلع على السر وأخفى.
اللهم وفقنا للعمل الصالح الذي يرضيك..
والعمل الذي يجتمع فيه الإخلاص لك..
والاتباع لنبيك عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم..
المجال الخامس:
قيام الليل.
شهر رمضان
كغيره ظرف لأداء الفرائض والنوافل، إلا أنه يزيد على بقية الشهور، بزيادة فرض
صيامه، وكثرة نوافله ومضاعفة حسناته.
والواجب على المسلم المحافظة على ما فرض الله عليه من عباداته، التي لا يسقط
حكمها عنه في جميع الأوقات، كالصلوات الخمس التي هي ركن من أركان الإسلام.
وينبغي أن يكون في محافظته على تلك الفرائض في رمضان، أشد حرصا من محافظته
عليها في غير رمضان، لأن أجره مضاعف على عبادته في هذا الشهر الكريم، وأداء
الفرائض أحب إلى الله من أداء غيرها، وإن كان كلاهما محبوبا له تعالى.
كما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (...... وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال
عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره
الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن
استعاذني لأعيذنه .........) البخاري (5/2384)
فلا يجوز للصائم التساهل في أداء الصلوات المفروضة في أوقاتها، بالنوم عنها
حتى يخرج وقتها، متذرعا بما يقوم به من نوافل الطاعات، كصلاة التراويح.
بل لو فرض أن صلاة التراويح وهي نافلة، كانت سببا في نومه عن صلاة الفجر حتى
يخرج وقتها، وجب عليه التخفيف من صلاة التراويح بالقدر الذي يتمكن معه، من
أداء صلاة الفجر في وقتها،،،،،،
والمحافظة على الصلاة المفروضة في الجماعة في المساجد، أولى من المحافظة على
التراويح في ذلك، إذا فرض أن المسلم لا يستطيع الجمع بينهما,,,,
مع العلم أنه – في الغالب – يستطيع الجمع بين الأمرين، وهذا هو الذي ينبغي أن
يجتهد في فعله في حدود طاقته، ليجمع بين الفضيلتين في شهر الفضائل.
أما الذي يقصر في الأمرين أو في أحدهما، مشتغلا بتوافه الأمور عنهما، فهذا
شخص مُفَرِّط محروم، جدير أن يعود على نفسه بالندم واللوم، لأنه تعمد أن يخسر
في موسم الغنائم والأرباح، فاستبدل الخيبة والأحزان، بالمراحم والأفراح.
ولنعد إلى الكلام عن قيام الليل، فهو مشروع في كل ليلة من ليالي عمر المسلم،
وقد كان في أول الأمر مفروضا، على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأن فيه
تسلية لهم عما كان يصيبهم من الفتنة والأذى، عند مبعث رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وقد تولت السيرة النبوية تفاصيل تلك الفتنة وذلك الأذى، فكان في
كثرة لجوئهم إلى الله ومناجاته وقوة الصلة به، ما يفرغ على قلوبه الصبر، وعلى
نفوسهم الطمأنينة والثقة بالعزة والنصر.
قال تعالى: ((ياأيها المزمل(1)قم الليل إلا قليلا(2)نصفه أو انقص منه
قليلا(3)أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا(4)إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا(5)إن
ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا(6)إن لك في النهار سبحا طويلا(7)واذكر
اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا(8)رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا))
(9) [المزمل]
قال سيد قطب رحمه الله ـ عند قوله تعالى: ((إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً)) [المزمل:
5]: "وإن قيام الليل والناس نيام والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفاسفها،
والاتصال بالله، وتلقي فيضه ونوره والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه، وترتيل
القرآن والكون ساكن، وكأنما هو يتنزل من الملأ الأعلى، وتتجاوب به أرجاء
الوجود في لحظة الترتيل، بلا لفظ بشري ولا عبارة، واستقبال إيحاءاته
وإيقاعاته في الليل الساجي.
إن هذا كله، هو الزاد لاحتمال القول الثقيل، والعبء الباهظ والجهد المرير،
الذي ينتظر الرسول، وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل، وينير القلب في
الطريق الشاق الطويل، ويعصمه من وسوسة الشيطان، ومن التيه في الظلمات الحافة
بهذا الطريق المنير). [في ظلال القرآن (29/3745)].
قال ابن جرير : "عن ابن عباس في قوله: ((قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه
قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا)): فأمر الله نبيه والمؤمنين بقيام
الليل، إلا قليلا فشق ذلك على المؤمنين، ثم خفف عنهم، فرحمهم وأنزل الله بعد
هذا: ((علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض)) إلى قوله: ((فاقرءوا
ما تيسر منه)) فوسع الله وله الحمد، ولم يضيق" [تفسير الطبري (29/125) ويراجع
تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: (4/436)]
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم، شديد الحرص على قيام الليل، شديد
الاجتهاد في ذلك، فكان يقوم حتى تتورم قدماه، وقد غفر الله له ما تقدم من
ذنبه وما تأخر طمعا في أن يكون كثير الشكر لربه.
كما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى
حتى انتفخت قدماه، فقيل له: أتَكَلَّفُ هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك
وما تأخر؟ فقال (أفلا أكون عبدا شكورا)؟ [البخاري (1/380) ومسلم(4/2171)]
وكان كذلك شديد الحرص على قيام أصحابه بصلاة الليل، ليكونوا من عباد الله
الصالحين، ولينالوا مغفرة الله ورحمته، كما روى أبو أمامة الباهلي، عنه صلى
الله عليه وسلم، قال: (عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة
لكم إلى ربكم، ومكفر للسيئات، ومنهاة عن الإثم) [سنن الترمذي (5/552)
والمستدرك على الصحيحين (1/451)وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم
يخرجاه" وهو في صحيح ابن خزيمة (2/176)
هذا في قيام الليل بصفة عامة...
ولرمضان خصوصيته في قيام الليل.
كان من الغالب المعتاد أن يصلي الرسول صلى الله عليه وسلم، النوافل الراتبة
وغير الراتبة، في منزله، ومنها قيام الليل في جوف الليل، كما قال لمعاذ بن
جبل: (...إن شئت أنبأتك بأبواب الجنة) قلت: أجل يا رسول الله قال: (الصوم
جنة، والصدقة تكفر الخطيئة، وقيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه الله) قال ثم
قرأ هذه الآية: ((تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما
رزقناهم ينفقون)) [جزء من حديث طويل، أخرجه الترمذي (5/11) والحاكم في
المستدرك (2/447) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"]
ولكنه صلى الله عليه وسلم، خص رمضان بالقيام في مسجده، والظاهر أنه أراد أن
يقتدي به أصحابه، و يجتهدوا في العبادة هذا الشهر الكريم، كما يرونه يجتهد
فيه، وقد توافد أصحابه عندما علموا ذلك إلى المسجد للصلاة وراءه، وزاد عددهم
ليلة بعد أخرى، فخشي صلى الله عليه وسلم عليهم المشقة عليهم، أو ظنهم أنها
مفروضة
روت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى
ذات ليلة في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة، فكثر الناس، ثم
اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فلما أصبح، قال: (قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج
إليكم، إلا أني خشيت أن تفرض عليكم، وذلك في رمضان) [البخاري (1/380)]
ثم صلى الصحابة رضي الله عنهم، قيام الليل في رمضان بعد وفاة رسولنا الكريم
صلى الله علبيه وسلم، في مسجده فرادى أو جماعات، بعد وفاته، فلما رآهم عمر
يفعلون ذلك جمعهم على إمام واحد يصلون خلفه جماعة، لأنهم أمنوا ما كان يخشاه
من كتابة قيام رمضان عليهم، لانقطاع الوحي...
روى عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري، أنه قال: "خرجت مع عمر بن
الخطاب في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلى الرجل لنفسه،
ويصلى الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: "والله إني لأراني لو جمعتُ هؤلاء
على قارئ واحد لكان أمثل" فجمعهم على أبي بن كعب، قال: ثم خرجت معه ليلة
أخرى، والناس [لعله: "وراء"] قارئهم فقال عمر: "نعمت البدعة هذه، وتلك التي
تنامون عنها، أفضل من التي تقومون، يعني آخر الليل وكان الناس يقومون أوله [الموطأ
(1/114)
وقوله : "نعمت البدعة" ليس المراد أنها بدعة مخالفة لسنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم، كما يتهم بعض الفرق بذلك عمر رضي الله عنه، بدليل أن الرسول صلى
الله عليه وسلم، أقر أصحابه على صلاتهم بعده، ثلاث ليال أو أربعا، وإنما لم
يستمر بهم على ذلك، لعلة ذكرها لهم، وهي (ولم يمنعني من الخروج إليكم، إلا
أني خشيت أن تفرض عليكم)
فالبدعة المذمومة هي التي لا أصل لها في الشرع، أما ما له أصل، فإطلاق البدعة
عليه إطلاق لغوي لا شرعي.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وكذلك قيام رمضان، قد قال: (إن الرجل إذا قام مع
الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) وقام في أول الشهر بهم ليلتين، وقام في
آخر الشهر ليالي، وكان الناس يصلون على عهده في المسجد فرادى وجماعات، لكن لم
يداوم بهم على الجماعة، خشية أن تفرض عليهم، وقد أمن ذلك بموته. وقد قال في
الحديث الذي رواه أهل السنن، وصححه الترمذي وغيره: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات
الأمور، فان كل بدعة ضلالة)
فما سنه الخلفاء الراشدون، ليس بدعة شرعية ينهى عنها، وإن كان يسمى في اللغة
بدعة، لكونه ابتدئ، كما قال عمر: "نعمت البدعة هذه..." [مجموع الفتاوى
(21/319) يراع تفسير القرطبي 02/87)]
حظوظ الناس في صلاة التراويح المسلمون
في شهر رمضان، ثلاثة أقسام:
القسم الأول:
من جاهد نفسه في شهور السنة الأخرى،
قبل رمضان وبعده، للقيام بطاعة الله، فيحافظ على الفرائض، ويترك المحرمات،
ويؤدي كثيرا من النوافل، ومنها قيام الليل في جوف الليل....
وقد لا يفوته صيام النفل المشروع، كصيام يومي الخميس والاثنين كل أسبوع،
وصيام الأيام البيض [14،13، 15] من كل شهر، وصيام يوم عاشوراء، ويوم وأيام
العشر الأولى من شهر ذي الحجة، من كل عام، وبخاصة اليوم التاسع منه لغير
الحاج، وقد يرتقي إلى صيام داود، بحيث يصوم يوماً ويفطر يوماً، وهذا أندر من
الكبريت الأحمر...
وهذا القسم أصبحت طاعة الله تعالى سجية له، مستعينا عليها بالله تعالى..
(( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) [الفاتحة:5].
(( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا
عَلَى الْخَاشِعِينَ )) [البقرة:45].
طاعة الله والإكثار منها، أكثر لذة عنده من تناول ألذ الأطعمة، عندما يشتد به
الجوع، وأعظم راحة وفرحة وسروراً واطمئناناً، من شرب الماء الفرات الزلال
الصافي البارد، عندما يشتد عطشه....
فهو من الراجين لربهم أن يبلغهم شهر رمضان، ويوفقهم لصيامه وقيامه، والإخلاص
له فيه...فتجده مجتهداً – في حدود طاقته – في القيام بطاعة الله، وبخاصة قيام
الليل...
فإذا وقف في الصف وراء الإمام وهو يرتل آيات الله من كتابه، أقبل إلى الله في
خشوع وتذلل وانكسار، وتدبر وتأمل واستحضار..
متمثلاً عظمة منزل هذا الكتاب..
طالباً عند سماع آيات الرحمة المزيد من رحمته..
مستعيذاً عند سماع عذابه من سخطه ونقمته..
متفكرا في آيات الكتاب المقروء، التي يجد فيها أسماء الله وصفاته فيمتلئ بها
قلبه يقيناً وإيماناً، وتزداد نفسه خضوعاً لربها واستسلاماً وإذعاناً.
ويحلق به القرآن في ملكوت السماوات والأرض، فإذا هو مع ما خلق الله في
سماواته، من النجوم والكواكب والأفلاك، ومن الشموس والأقمار والمجرات
والأملاك..
ومع ما خلق الله في الأرض، من إنس وجن، ومن الجبال لراسيات، والبحار
الهادرات، والأنهار الجاريات، و الوحوش العاديات، والصحاري والغابات،
والأفيال العظيمات والنمل الصغيرات..
أدعو القارئ أن يفتح مصحفه الآن ويتلو بتأمل من الآية (3) إلى الآية (19) من
سورة النحل على سبيل المثال.
وتمر به آيات الموت والقبور، وآية القيامة والقارعة والطامة، وآيات البعث
والنشور، وآيات الجزاء والحساب، وآيات الرحمة والعذاب، فتهز قلبه هزاً،
وتدفعه إلى التوبة والاستغفار دفعاً، فتنهمر من عينيه الدموع، ويحل في قلبه
الخشوع، ويطير قلبه شوقاً إلى الجنان، ويشتد رهبه وهربه من النيران..
ويسمع الإمام وهو يتلو الآيات المتعلقة بحقوق ربه عليه وحقوق رسوله، وبحقوق
نفسه، وحقوق أهله من الآباء والأزواج والأولاد، وغيرهم من الأقارب والأرحام،
وحقوق والأجراء والعبيد، وحقوق أئمة المسلمين وعامتهم، وحقوق من يحيط به من
الجيران.
كما يسمع آيات الحلال والحرام، والدعوة إلى التقوى والنهى عن الإجرام، فيدعو
ربه أن يوفقه للسمع والطاعة وإعطاء كل ذي حق حقه، والبعد عن كل الآثام...
وهم بجميع أذكارهم في صلاتهم واعون، من قراءة و تكبير وتسبيح وتحميد.
إن صلاة أهل هذا القسم، هي الصلاة، التي له جسم وروح، وهي التي تنهى عن
الفحشاء والمنكر…
فيعود من مسجده وقد امتلأت خزينته من الخير الكثير والربح الوفير، فطوبى لمن
كان لأهل هذا القسم رفيقا.
القسم الثاني:
من يحافظ على الفرائض في أوقاتها –
غالباً – وقد يتأخر عن بعضها، فيستغفر ويتوب، وقد يتكرر التقصير وتتكرر معه
التوبة، ولكنه قليل الحرص على نوافل الطاعات، بل قد لا يأتي منها شيئا
مكتفياً بمجاهدة نفسه على ما فرض الله عليه..
محاولا تشبيه نفسه بـ"ضمام بن ثعلبة" رضي الله عنه، عندما قال:
"والله لا أزيد عليها ولا أنقص" فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أفلح إن
صدق ).
وهذا القسم قد يجد حافزاً قوياً، من الجو الإسلامي العام، الذي يستقبل
المسلمون فيه شهر رمضان، ومن أقاربه وأصدقائه ورفقاء عمله الصالحين من القسم
الأول، فيحاول مع صيامه رمضان، أن يحافظ على الصلوات المفروضة في أوقاتها في
المساجد، وقد يعتريه الكسل أحياناً، ولكنه يسدد ويقارب..
ويجتهد في حضور صلاة التراويح كلها أو بعضها، وقد يتركها أحياناً، استجابة
لتثبيط من الشيطان، وركوناً على طبيعة النفس التي قد تثقل عليها ملازمة
الطاعات.
وكثير من أهل هذا القسم يقل إقبالهم على تدبر آيات القرآن التي يتلوها على
مسامعهم أئمة المساجد، فيصغون لآية أو آيتين، ويغفلون عن آيات أو سور،
مشغولين بغير الصلاة خارجها، من أهل وأولاد، أو تجارة وأموال، فيحرمون أنفسهم
أجر التدبر، وفقه الإنصات والتذكر، فيقل أو يفقد خشوعهم، ويكتفون بقيامهم
وقعودهم، وخفضهم ورفعهم، ركوعهم وسجودهم.
يكبرون عند قيامهم وقعودهم، ويسبحون في حال ركوعهم وسجودهم، وهم عن غالب
معاني الذكر غافلون....
وأهل هذا القسم قد لا تؤثر فيهم صلاتهم التأثير المطلوب، ولهذا تجد كثيراً
منهم، يخلطون عملاً صالحاً وآخر سيئاً، ولكنهم يرجى لهم أن تشملهم رحمة الله
مع الجماعة، ويرجى لهم من الله المغفرة والرحمة والتوفيق، لأنهم حاولوا أن
يسدد ويقاربوا، وفضل الله على عباده عظيم..
القسم الثالث:
من صرعه الشيطان مبكراً، وغلبته نفسه
وقاده هواه إلى عصيان مولاه، واستعبدته شهواته، فأصبح تعيساً في غالب أوقاته،
لا يذكر الله إلا قليلاً..
تحققت فيه دعوة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( تعس عبد الدينار
والدرهم، والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض ) [البخاري
(3/1057) من حديث أبي هريرة.]
الدينار والدرهم معروفان، والقطيفة والخميصة، من أنواع الأكسية والبسط اللينة
الجميلة....
وهذا يعني أنه اهتم بهذه الأمور اهتمام العبد بسيده، فألهاه ذلك عن معبوده
الحق.
وهذا القسم يأتيه رمضان في البلدان الإسلامية، وهو مكتئب الحال، منقبض النفس،
ضيق الصدر، لأنه لا يريد مفارقة عادته المألوفة، وقدرأي غالب المجتمع متجها
إلى طاعة الله، ممسكاً عما كان مباحاً له من الطيبات، قبل دخول شهر رمضان.
قد يصعب عليه أن يجاهر بمعاصيه في النهار – إن كان بقي عنده شيء من الحياء –
فيحاول الهروب إلى النوم طول نهاره، ثم السهر على معاصي الله طول ليله، ينهب
فيه كل ما تمكن من تناوله..
المسلمون يتجهون إلى المساجد لعبادة الله، وهو يتجه إلى المراقص والمسارح
وأسواق المسكرات.
وينبغي لأهل هذا القسم لأن يبادروا بالتوبة إلى الله، وأن يعلموا أنه تعالى
يقبل توبة التائبين، ويغفر ذنوب المذنبين، وأن التوبة تجب ما قبلها، وقد يبدل
الله سيئاتهم حسنات، وهو تعالى شديد الفرح بتوبة التائبين..
وعليهم أن يغنموا شهر رمضان الذي يسهل فيه فعل الطاعات، و ترك المعاصي
والمنكرات..
و( رغم أنف عبد أدرك رمضان ولم يغفر له فيه ) أو كما ورد عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
(( فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ
آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا
آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ
مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ
حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا
كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ )) [البقرة:200-202].
المجال السادس:
اجتماع كلمة المسلمين على الحق
الجماعة فريضة في القرآن والسنة.
لقد أمر الله
تعالى المؤمنين أن يعتصموا بحبله، ونهاهم عن التفرق والتنازع، لما في اجتماع
كلمتهم على الحق من قوة وعز وسؤدد، وتعاون على البر والتقوى، وإعلاء لراية
الإسلام، وهيبة في نفوس الأعداء، ونصر من الله عليهم، ولما في التفرق
والتنازع من الضعف والخور والفشل والعدوات والإحن، ومن إطماع الأعداء في
العدوان على أرض المسلمين وعرضهم، وأموالهم، ومساجدهم، كما قال تعالى:
((واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم
أعداء فألف بين قلوبكم)) الآية: آل عمران: 103.
وقال تعالى: ((وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا
إن الله مع الصابرين)) الأنفال: 46.
وقال تعالى: ((ولقد صدقكم الله وعده إذتحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم
في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من
يريدا لآخرة)). آل عمران: 151.
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم-كما أمر الله تعالى-بلزوم الجماعة والاعتصام
بحبل الله، كما في حديث حذيفة، رضي الله عنه يقول:(كان الناس يسألون رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني-إلى
أن قال-: فما تأمرني إن أدر كني ذلك؟-أي زمن الدعاة إلى أبواب جهنم-قال:
(تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) [اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (ص:
485، رقم: 1211)]"
وسائل اجتماع المسلمين
وقد خص الله
هذه الأمة بوسائل شرعها لها، تجتمع بها كلمتها، وتتراص صفوفها، وتنال بها
العزة على أعدائها، وهذه الوسائل المشروعة التي خص الله بها هذه الأمة،
تفقدها سائر أمم الأرض، وهي كثيرة نذكر منها الوسائل الأربع الآتية:
الوسيلة الأولى:
أن الله تعالى حفظ لها مصدر منهاج حياتها، الذي يوجهها دائما إلى الحق، و
يجمع كلمتها عليه، وهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
خلفه-وكذا سنة رسوله، صلى الله عليه وسلم.
فهي تأخذ توجيهها منه، وكله حق وكل ما خالفه باطل، فإذا تنازعت هذه الأمة في
شيء، رجعت إليه فقضى بينها بالحق، وأزال التنازع، وردها إلى الاجتماع
والائتلاف، كما قال تعالى: ((يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون
بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)). النساء: 59
أما الأمم الأخرى التي حرمت نفسها من الإيمان بهذا المنهج الإلهي-بعد أن حرفت
وبدلت ما أنزل الله إليها من هداه، كما هو شأن اليهود والنصارى، أو آثرت
ابتداء عبادة غير الله على عبادته، فلم تستجب لتوجيه وحيه، كما هو شأن
الملحدين والوثنيين-فإن مناهجها كلها تفقد هذه الميزة الربانية، لأنها من صنع
البشر الذين لا قدرة لهم على الإحاطة بما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة.
بل لا يزالون يتخبطون في قوانينهم التي يُسِّيرون بها حياتهم، فما يرونه
اليوم حسنا، يلزمون أنفسهم بتعاطيه والعمل به ويعاقبون من خالفه، يصبح عندهم
غدا سيئا محظورا، يعاقبون من تعاطاه، بل إنهم ليختلفون في الأمر في وقت واحد،
فيرى بعضهم حسنه، ويرى الآخرون قبحه، لذلك تجدهم مختلفين في كل شيء متباغضين
متعادين، ولا حاكم بينهم إلا أهواؤهم، وأي هوى أحق بالا تباع من غيره!؟
قال تعالى-مبينا نعمته على هذه الأمة، وحرمان الأمم الأخرى أنفسها من تلك
النعمة-: ((كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم
الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أو
توه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا
فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)). البقرة: 213.
وقال تعالى: ((ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا
به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما
كانوا يصنعون)) المائدة: 14.
الوسيلة الثانية:
ما شرعه الله من العبادات الجماعية-وإن كان كل فرد مسئولا مسئولية مباشرة
عنها-كصلاة الجماعة والجمع في المساجد، وصلاة العيدين، وصلاة الاستسقاء،
وصلاة الكسوف والخسوف، وصيام رمضان وقيام الليل فيه، والحج الذي يؤديه
المسلمون من كل أنحاء الأرض في وقت واحد ومكان واحد، وكذلك العمرة.
الوسيلة الثالثة:
أن الله تعالى تفضل على هذه الأمة بالتشريع
الحاسم، الذي لا يقبل الاختلاف والاجتهاد في أصول الدين، وأسس الفرائض،
وأمهات المحرمات، وعقوبات الجرائم الكبرى، والقواعد العامة للسياسة الشرعية،
والأحكام الأسرية، لعلم الله تعالى أن عقول خلقه غير قادرة على ضبط مصالحهم
فيها، وأنه لا بد من تشريع ثابت لها.
وترك تعالى لعلماء الأمة وعقلائها وذوي الخبرة فيها، الاجتهاد فيما لا يضر
الاختلاف فيه، بحسب الأزمنة والأمكنة، واختلاف الأحوال والأشخاص، مما يندرج
في نصوص عامة، أو قياس معتبر صحيح.
الوسيلة الرابعة:
الجهاد في سبيل الله، الذي شرعه الله لإعلاء كلمته، وهو لا يقوم به إلا جماعة
مطيعة، لأمير شرعي، يتكاتف فيه المسلمون ويتعاونون بالمال والنفس والرأي،
لإحقاق الحق وإبطال الباطل في الأرض.
وقد أهمل غالب حكام الشعوب الإسلامية، كثيرا من مضامين الوسيلة الثانية كما
هو معلوم، وأما الوسيلة الرابعة، وهي وسيلة الجهاد، فقد تواطئوا على محاربتها
ومحاربة القائمين بها، ولو كانوا يدفعون بذلك عدوان المعتدين، الذين احتلوا
أرضهم و أزهقوا أرواحهم، وأخرجوهم من ديارهم، ودنسوا مقدساتهم، كما هو الحال
في فلسطين، وأفغانستان والشيشان، وغيرها.
وسبب محاربتهم تلك، عدم التزامهم بتطبيق شرع الله، وخضوعهم لأعداء الإسلام،
من اليهود والنصارى والوثنيين.
فأما رجال الله المؤمنون المجاهدون، فهم ثابتون صابرون على الابتلاء والمحنة،
طمعا في الشهادة واحتسابا للأجر، ودفعا للعدوان، وهم مع قلتهم عَدَدا، وضعفهم
عُدَدا، قد أرعبوا أعداءهم، كثيري العَدَد، قويي العُدد، وستكون العاقبة
لهؤلاء المجاهدين بإذن الله، كما كانت لأسلافهم: ((قال الذين يظنون أنهم
ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين))
[البقرة(249)]
وأما أعداء الله من ذوي العدوان على الإسلام والمسلمين، الذين يقول لسان
حالهم: ((من أشد منا قوة))؟ فلهم في سلفهم سنن: ((فأما عاد فاستكبروا في
الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد
منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون)) [فصلت (15)]
((إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون
عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون)) [الأنفال (36)]
وأما المحاربون للجهاد في سبيل الله، ممن ابتغوا العزة عند غير الله من
اليهود والصليبيين والوثنيين، فنهايتهم الذلة لمن طلبوا منهم العزة، ((الذين
يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله
جميعا)) [النساء (139)]
وجزاؤهم الندم يوم لا ينفع الندم، وتلك هي سنة الله أيضا في أمثالهم: ((فترى
الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن
يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين))
[المائدة (52)]
ولولا بقاء الوسيلة الأولى، وهي استمرار المصدر الإلهي المحارَب، محفوظا بحفظ
الله له، يرجع إليه من يحرص على طاعة الله بالعمل بما يرضيه، مما تضمنه من
تشريع، ولولا ما بقي من عبادات جماعية، وهي الوسيلة الثانية، التي تربط بين
المسلمين، ولم يستطع أعداء الإسلام القضاء عليها-مع محاولتهم الجادة للتقليل
من شأنها وتقليص وظائفها- كصلاة الجماعة والْجُمَع في المساجد، وصلاة
العيدين، وصلاة الاستسقاء، وصلاة الكسوف والخسوف، وصيام رمضان وقيام الليل
فيه، والحج، مما أبقى الله به على الصِّلات الاجتماعية والأسرية، ولولا أولو
بقية من دعاة الحق الذين لازالوا يحدون بالأمة إلى المحبة والإخاء، لولا ذلك
كله وهو من فضل الله وتوفيقه، ومن محاسن هذا الدين وفضائله، لولا ذلك لانحلت
البقية الباقية من الروابط الخيرة، التي لا زال المسلمون يتمتعون بها، كما
انحلت روابط الأمم الأخرى.
والذي يهمنا هنا هو دور شهر رمضان المبارك في توحيد المسلمين وجمع كلمتهم.
دور شهر رمضان في توحيد المسلمين.
إن المتأمل في
طبيعة هذا الشهر الكريم، يَبِينُ له أنه يعين المسلمين على الاعتصام بحبل
الله، ويدفعهم إلى اتخاذ الوسائل المشروعة، التي تجمع كلمتهم على الحق، وتقوي
رابطتهم، وتحقق أخوتهم، وتجعلهم يتعاونون على البر والتقوى، كما يدعوهم إلى
اجتناب كل وسيلة تحدث بينهم الفرقة والتنازع المؤدي إلى فشلهم وذهاب ريحهم.
ومما يعين
المسلمين على الاجتماع والائتلاف، المظاهر الآتية:
المظهر الأول:
اهتمام عامة المسلمين بدخول شهر رمضان
وخروجه
إن المسلمين في كل أنحاء الأرض،
يهتمون بدخول شهر رمضان، وخروجه حرصا منهم على عدم فوات يوم من أيامه، لذلك
تجد كثيرا منهم يتطلعون إلى رؤية هلاله، في نهاية اليوم التاسع والعشرين من
شهر شعبان، وهلال شهر شوال في نهاية اليوم التاسع والعشرين من شهر رمضان،
ويسأل بعضهم بعضا عن رؤيته.
وعلماء الفلك يجتهدون في الحساب الذي يثبتون به دخول الشهر وخروجه، بل تجد
الحكومات في الشعوب الإسلامية، تهتم بذلك على أحد الوجهين، لتعلن لرعاياها
دخول الشهر وخروجه....
وقد تداعى العلماء والمفكرون، بل وبعض حكومات الشعوب الإسلامية، إلى اتخاذ
الأسباب التي توحد ابتداء الصيام ونهايته، وفي هذا الاهتمام الجماعي بدخول
الشهر وخروجه، ما يدفع المسلمين، شعوبا وحكومات، إلى الاجتهاد في جمع كلمتهم
وتعاونهم على مصالحهم.
المظهر الثاني:
الاستبشار بدخول رمضان
إن المسلمين إذا ثبت عندهم دخول شهر
رمضان، استبشروا بدخوله، ويسارع بعضهم بتهنئة بعض ويبشر بعضهم بعضا في القرى
والمدن والحارات، في الدولة الواحدة، كما يهنئ بعضهم بعضا في كل الدول،
ويتبادلون الدعوات، بأن يوفق الله الجميع لصيامه وقيامه، ولا سيما في هذا
العصر الذي كثرت فيه وصائل الاتصال، وتطورت تطورا، يتيح للجميع التواصل
السريع في كل أنحاء الأرض.
إن هذه العاطفة الجماعية التي يظهرها المسلمون بعضهم لبعض، أفرادا وأسرا
وجماعات ودولا، بدخول شهر رمضان من أهم الحوافز للتفكير الجاد في اتخاذ أسباب
اجتماعهم واعتصامهم بحبل الله، للتعاون على تحقيق مصالحهم، ودفع المفاسد
والمضار عن أمتهم.
المظهر الثالث:
الاستعداد لصيامه كبارا وصغارا
فترى المسلمين في الأرض كلها، يستعدون
في أول ليلة من ليالي الشهر، لصيام هذا الشهر الكريم، فرحين مسرورين، كبارا
وصغارا، يحضر رجالهم ما تحتاج إليه الأسرة من مؤن، وتعد نساؤهم طعام السحور
المناسب المتاح، ويطلب صغارهم من الآباء والإخوان والأخوات أن يوقظوهم
ليشاركوا الكبار في السحور والصيام.
المظهر الرابع:
الإفطار الجماعي المهيب.
وتراهم عند الإفطار يتجمعون في
المنازل والمساجد وأماكن العمل، منتظرين غروب الشمس، يحضر كل منهم ما تيسر له
من تمر وطعام وشراب، ويحاول كل منهم أن يفطر أخوه من طعامه، رغبة في الفوز
بأجر من فطر صائما.
وإني عندما يتاح لي الإفطار في أحد المسجدين: "المسجد الحرام" و "مسجد الرسول
صلى الله عليه وسلم" ولهذا الأخير السبق، وأنظر إلى ذلك مظهر ذلك التجمع
الإسلامي المهيب، الذي يتسابق فيه المسلمون بمد سفراتهم من بعد صلاة العصر،
ويعين أهل كل سفرة، عددا من شبابهم، أو من أجرائهم، لمد السفرة وحراستها،
وإعدادها، بالتمر والماء، واللبن وشيء من أنواع الخبز، والقهوة.
ثم يرسل صاحب كل سفرة أولاده الصغار، لدعوة الناس إلى حضور سفرته، فتجدهم
يلحون على كل من يرونه يريد الدخول إلى المسجد، على أن يشارك في الإفطار
معهم....
وتجد في ساحات المسجد الخارجية، من يحضر طعام العشاء الكافي للمحتاجين من
الناس من الأرز واللحم وأنواع العصيرات.
وقبل أذان المغرب تجد المسجد كله، قد فرش بسفر الإفطار، والناس من كل أقطار
الأرض، قد تحلقوا على تلك السفر، من البلدان الإسلامية، من إندونيسيا شرقا،
إلى موريتانيا غربا، ومن عدن جنوبا إلى بلدان آسيا الوسطى شمالا، ومن غير
البلدان الإسلامية، من الولايات المتحدة إلى اليابان، كلهم ينتظر رفع الأذان
ليعبد الله يتناول طعامه، كما عبد الله بصيامه،منهم القارئ، ومنهم من يرفع
يديه إلى السماء، يدعو الله بما يشاء.
ومع تلك الأعداد الهائلة التي امتلأ بها المسجد، تجد من الوقار والسكينة، ما
قد يعز وجوده في أي تجمع آخر غير هذا التجمع الإسلامي العظيم.
المظهر الخامس:
صفوف المصلين
هذه الصفوف التي تغص بها مساجد الله
في هذا الشهر الكريم، الذي يحرص المسلمون فيه على ارتياد المساجد، في الصلوات
الخمس، وفي صلاة التراويح التي تغص بها تلك المساجد، وبخاصة المسجد الحرام
ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، اللذين لا يكاد يجد من لم يأت إليهما
مبكرا، موضع قدم يصلي فيه، حتى إن المصلي ليضطر أن يسجد على جسد مصلٍّ آخر،
لشد الزحام، وهم أيضا قد تجمعوا من جميع أقطار الأرض.
وتراهم جميعا يصطفون وراء إمام واحد، يستمعون تلاوته كتاب الله، ويتبعونه في
قيامه وقعوده، وركوعه وسجوده، لا يتقدمون عليه ولا يتأخرون، حتى يسلموا
بسلامه.
إنك عندما تشاهد هؤلاء البشر الذين تجمعوا من مشارق الأرض ومغاربها، في هذه
المساحة الضيقة المباركة، ولم يجمعهم هنا إلا هذا الدين العظيم، بمناسبة هذا
الشهر الكريم، وكل واحد منهم مغتبط مسرور بوجوده بجنب أخيه المسلم الذي
يبادله تلك الغبطة وذلك السرور، إنك عندما تشاهد ذلك، ليملأ قلبك الفرح
والسرور، وتكاد تجزم أن هذه الأمة قابلة لتجتمع على كلمة الحق، وتتوحد على
كلمة التوحيد، وتعود أمة واحدة، كما كانت في فترة طويلة من الزمن، وأنه لا
ينقصها إلا من يرفع لها راية الاعتصام بحبل الله، لتقول له: لبيك يا داعي
الحق والخير!
وتجزم كذلك بأن الذين تولوا كبر هذا التفرق والتصدع الذي حل بهذه الأمة، إنما
هم قادتها الذين تولوا أمرها، من الحكام والعلماء والأعيان، ممن عندهم قدرة
على اتخاذ أسباب وحدتهم وتعاونهم، وعلى البعد عن أسباب فرقتهم وتصدعهم، ثم
آثروا الأخذ بأسباب الفرقة على أسباب الوحدة والاجتماع.
وإنك لتعجب من تنازع كثير من الجماعات الإسلامية، وعدم اتخاذ زعمائها الأسباب
المؤدية إلى تعاونها والتنسيق بينها في نشاطاتها، بالعودة إلى توجيه كتاب
ربها وسنة نبيها، لتحتكم إليهما فيما اختلفت فيه من الحق، ليتآخى أتباعها
ويتعاونوا على البر والتقوى، ويقفوا صفا واحدا في جلب ما ينفع أمتهم، ودفع ما
يضرها، كما يقفون كلهم صفا واحد وراء أئمتهم في الصلاة.
كما تعجب من افتخار حكومات الشعوب الإسلامية، الذي تدوي به أصوات المذيعين،
وتنشره أقلام الكتاب والصحفيين، بكثرة أعلامهم التي تزيد عن خمسين علما،
لأكثر من خمسين دولة، وتتجاور تلك الأعلام في كثير من المناسبات، وبخاصة
اجتماعات دول منظمة المؤتمر الإسلامي، التي تجمع زعماءهم كمرات التصوير،
ويفرقهم عدم الاستجابة لما يحييهم به الله في كتابه المنير.
ومن هنا نرى أمتنا تتقاذفها قوى الشر والعدوان، وليس لها من دون الله إلى
الله إلا الذل والهوان.
وإنا لنأمل في أن يكون لصيام شهر رمضان وقيامه، أثره الفعال في اتخاذ
المسلمين، كل في موقعه الأسباب الجامعة لهم على كلمة الحق، والاجتهاد في ترك
الأسباب التي تفرقهم وتصدع صفوفهم، فمن أهم حكم الصوم أنه يؤدي بالصائم
الصادق إلى تقوى الله: ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام على الذين من
قبلكم لعلكم تتقون)).
المجال السابع:
بذل العون للمستحقين
بذل المال
عبادة لله كإقامة الصلاة والصيام والحج والجهاد، وكلها تنقسم قسمين:
القسم الأول:
فرض يجب القيام به، ويأثم تاركه...
ومن هذا القسم الزكاة، كما هو معلوم، ومنه نذر المسلم المشروع، بشيء من ماله،
وإغاثة من لم يجد ما يأكله من الطعام، أو يلبسه من الثياب، أو يسكنه من
المنزل...... لأن هذه الأمور من ضرورات حياة الإنسان أو حاجاته القريبة من
الضرورة
وبذل المال لمستحقيه في شهر رمضان، فيه أجر عظيم، لأن الحسنات تضاعف في
الأماكن والأوقات الفاضلة، كما هو الحال في المساجد الثلاثة، وشهر رمضان،
والعشر من ذي الحجة...
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم – مع كثرة جوده في كل الأوقات – أكثر
جودا في شهر رمضان
كما في حديث ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في
كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود
بالخير من الريح المرسلة" [البخاري رقم (6)]
وقد اعتاد كثير من أغنياء المسلمين أن يخرجوا زكاة أموالهم في هذا الشهر
المبارك، وهي عادة حسنة مباركة...
وينبغي أن يعلم أن في المال حقا غير الزكاة، خلافا لمن قال: ليس فيه حق إلا
الزكاة، مستدلين بحديثين:
الحديث الأول:
ما ورد في قصة إسلام ضمام بن ثعلبة، الذي ذكر فيه بعض أركان الإسلام، وقوله
"والله لا أزيد عليها ولا أنقص" وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أفلح إن
صدق) وهو في الصحيحين.
الحديث الثاني:
ما روي عن فاطمة بنت قيس، أنها سمعته - تعني النبي صلى الله عليه وسلم –
يقول: (ليس في المال حق سوى الزكاة) [ابن ماجه رقم 1788]
ويجاب عن حديث ضمام رضي الله عنه،
بجوابين:
الجواب الأول:
أنه كان في أول الإسلام، قبل أن تفرض كثير من الفرائض، وتحرم كثير من
المعاصي، وقد وجبت بعد ذلك أمور كثيرة، وحرمت أمور كذلك، فلو اقتصر المسلم
على ما ذكر في حديث ضمام، لكان تاركا لكثير من الواجبات، ومرتكبا لكثير من
المحرمات.
قال الشوكاني رحمه الله: "وفي جعل هذا الحديث دليلا على عدم وجوب ما ذكر نظر
عندي، لأن ما وقع في مبادئ التعاليم، لا يصح التعلق به في صرف ما ورد بعده،
وإلا لزم قصر واجبات الشريعة بأسرها على الخمس المذكورة، وأنه خرق للإجماع
وإبطال لجمهور الشريعة.
فالحق أنه يؤخذ بالدليل المتأخر إذا ورد موردا صحيحا، ويعمل بما يقتضيه من
وجوب أو ندب أو نحوهما، وفي المسألة خلاف وهذا أرجح القولين. والبحث مما
ينبغي لطالب الحق أن يمعن النظر فيه، ويطيل التدبر، فإن معرفة الحق فيه من
أهم المطالب العلمية، لما ينبني عليه من المسائل البالغة إلى حد يقصر عنها
العد، وقد أعان الله وله الحمد، على جمع رسالة في خصوص هذا المبحث وقد أشرت
إلى هذه القاعدة في عدة مباحث" [نيل الأوطار(1/364)]
الجواب الثاني:
ما ورد في بعض ألفاظ الحديث، "... فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم
بشرائع الإسلام، قال: والذي أكرمك لا أتطوع شيئا ولا أنقص مما فرض الله علي
شيئا. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفلح إن صدق، أو أدخل الجنة إن
صدق) البخاري رقم (6556)
قال الحافظ: "فإن قيل كيف أثبت له الفلاح بمجرد ما ذكر، مع أنه لم يذكر
المنهيات، أجاب بن بطال باحتمال أن يكون ذلك وقع قبل ورود فرائض النهي، وهو
عجيب منه، لأنه جزم بأن السائل ضمام، وأقدم ما قيل فيه أنه وفد سنة خمس، وقيل
بعد ذلك، وقد كان أكثر المنهيات واقعا قبل ذلك، والصواب أن ذلك داخل في عموم
قوله فأخبره بشرائع الإسلام كما أشرنا إليه" [فتح الباري (1/108)]
أما حديث فاطمة بنت قيس، فيجاب عنه
بثلاثة أجوابة:
الجواب الأول:
أن الحديث رواه كثير من المحدثين، بعكس رواية ابن ماجه، ولفظه: عن فاطمة بنت
قيس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إن في المال حقا سوى الزكاة) [وقد
ترجم له الترمذي بقوله: "باب ما جاء أن المال حقا سوى الزكاة" وهو برقم
(659)، ورواه الدارمي، برقم 1637، وهو في سنن البيهقي الكبرى، برقم 7034، وفي
سنن الدارقطني، برقم 11]
الجواب الثاني:
ما وقع في الحديث من الاضطراب، الموجب لضعفه، قال المناوي رحمه الله: "وقال
الحافظ ابن حجر: "هذا حديث مضطرب المتن، والاضطراب موجب للضعف، وذلك لأن
فاطمة روته بلفظ: (إن في المال حقا سوى الزكاة) فرواه عنها الترمذي هكذا،
وروته بلفظ: (ليس في المال حق سوى الزكاة فرواه عنها ابن ماجه كذلك..." فيض
القدير (5/375)
الجواب الثالث:
حمل النفي على وجوب شيء في المال لذاته، كما هو الحال في الزكاة، فإنها واجبة
في المال لذاته بشروطها، وحمل الإثبات على ما قد يعرض من الحاجة إلى إيجاب
إخراج شيء من المال، كما قال المناوي أيضا:
(ليس في المال حق سوى الزكاة): "يعني ليس فيه حق سواها بطريق الأصالة، وقد
يعرض ما يوجب فيه حقا، كوجود مضطر، فلا تناقض بينه وبين الخبر" [نفس المصدر،
ونفس الجزء والصفحة]
وقال في موضع آخر: (إن في المال لحقا سوى الزكاة): "كفكاك الأسير، وإطعام
المضطر، وسقي الظمآن، وعدم منع الماء والملح والنار، وإنقاذ محترم أشرف على
الهلاك" ونحو ذلك. قال عبد الحق: "فهذه حقوق قام الإجماع على وجوبها وإجبار
الأغنياء عليها، فقول الضحاك: نسخت الزكاة كل حق مالي، ليس في محله، وما تقرر
من حمل الحقوق الخارجة عن الزكاة على ما ذكر، هو اللائق الموافق لمذهب
الجمهور" [فيض القدير (2/472)]
والنصوص الواردة في وجوب شيء في المال
غير الزكاة، كثيرة، نذكر منها ما يأتي:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن
النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (دخلت امرأة النار في هرة، ربطتها فلم
تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض) [البخاري رقم (3140) ومسلم رقم
(2242)]
فقد دل الحديث على أن هذه المرأة دخلت النار، لحبس الهرة، وعدم إطعامها
وسقيها، ومعنى هذا أن إطعام الهرة – ومثلها بقية الحيوانات – واجب على من
حبسها، والإطعام إنما يكون من مال الحابس، فثبت أن في المال حقا غير الزكاة.
وهو حق عارض، وليس بالأصالة.
ومنها حدبث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (ما آمن بي من بات شبعان، وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به) رواه
الطبراني والبزار وإسناد البزار حسن.
وعن ابن عباس، أنه قال، وهو ينْحَل ابنَ الزبير: قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع) رواه الطبراني وأبو يعلى،
ورجاله ثقات. [مجمع الزوائد (8/167)]
ونفي الإيمان هنا لا يراد به الإيمان المندوب، وإنما يراد به الإيمان الواجب،
الذي يأثم صاحبه، فدل الحديث على وجوب حق في المال غير الزكاة، عند الضرورة
أو الحاجة.
ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه، مات على شعبة من نفاق). [ مسلم
برقم1910]
هذا الحديث بظاهره لا دليل فيه على أن في المال حقا غير الزكاة، لأنه لم يذكر
فيه المال، ولكن حديثا آخر، رواه أبو أمامة، رضي الله عنه عن الرسول صلى الله
عليه وسلم، قال: (من لم يغز، ولم يجهز غازيا، أو يخلف غازيا في أهله بخير،
أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة) [سنن الدارمي برقم (2418) وأبو داود برقم
(2503)] يدل على أن من جهز غازيا، سلم من النفاق الذي ذكر في حديث أبي هريرة،
ومعنى ذلك أنه تجهيز الغازي بالمال، أحد الواجبات على المسلم، وهي: أن يغزو،
أو يحدث نفسه بالغزو، أو يخلف أهل الغازي بخير، أو يجهز غازيا، ليسلم من
النفاق.
ولهذا المجال
بقية .......
سبق أن الصحيح
أن في المال حقا سوى الزكاة... وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما آمن بي
من بات شبعان، وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به).
وفي هذه الحلقة نريد أن نذكر أنفسنا، بأنه لا يوجد مسلم في الأرض، بدون أن
يكون له جيران محتاجون وكثير منهم يبيتون جياعا، والجار قد يكون قريبا من دار
جاره، وقد يكون بعيدا، والقرب والبعد أمر نسبي، وذكر بعض العلماء أن حد
الجيرة أربعون داراً من كل ناحية، ونقل عن آخرين أن من سمع النداء فهو جار.
[الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/185)].
وكلما كانت دار الجار أقرب إلى دار جاره، كان أهلها أكثر استحقاقا لإحسانه من
غيرهم...
وبتصور هذا الحد يظهر أن الجيرة تشمل مدنا بأسرها، لأن الذي لا يكون جارا
للمرء، يكون جارا لجاره، وهكذا، فإذا لم ينل المرء إحسان رجل لكونه ليس جارا
له، ربما ناله إحسانه على يد جار المحسن، ماديا كان كالهدايا والهبات، أو
معنويا كالتعليم والقدوة الحسنة والأخلاق الحميدة، فإن الجار يؤثر في جاره،
وهذا يؤثر في جيرانه وهكذا.
تصور لو أن كل مسلم وأسرته اجتهدوا في إيصال إحسانهم إلى أربعين داراً من
جيرانهم من جميع الجهات المحيطة بدارهم، وهذا الإحسان كما تقدم يشمل الإحسان
المادي والإحسان المعنوي، كيف سيكون حال المجتمع الإسلامي في تعاونه وتحابه
وأمنه؟
ومعلوم أن كثيرا من المحتاجين أعزاء نفوس، يصعب عليهم إظهار حاجتهم للناس،
فضلا عن طلب الإحسان إليهم، وأمثال هؤلاء ينبغي لمن أغناهم الله من فضله، أن
يطرقوا أبوابهم على غفلة من الناس، ويعطوهم من مال الله الذي آتاهم، بطريقة
لا تشعرهم بالدون:
((للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم
الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا
من خير فإن الله به عليم)) [البقرة (273)]
قال القرطبي: "واختلف العلماء في معنى قوله ((لا يسألون الناس إلحافا)) على
قولين: فقال قوم منهم الطبري والزجاج: إن المعنى لا يسألون البتة، وهذا على
أنهم متعففون عن المسألة عفة تامة، وعلى هذا جمهور المفسرين، ويكون التعفف
صفة ثابتة لهم، أي لايسألون الناس إلحاحا ولا غير إلحاح.
وقال قوم: إن المراد نفي الإلحاف، أي أنهم يسألون غير إلحاف، وهذا هو السابق
للفهم أي يسألون غير ملحفين" [الجامع لأحكام القرآن (3/342)]
وقد خص البخاري رحمه الله، هذه الآية بباب مستقل، فقال: "باب قول الله تعالى
لا يسألون الناس إلحافا.... لقول الله تعالى: ((للفقراء الذين أحصروا في سبيل
الله)) إلى قوله ((فإن الله به عليم)) ثم ساق حديث أبي هريرة رضي الله عنه،
عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان،
ولكن المسكين الذي ليس له غنى، ويستحيي أو لا يسأل الناس إلحافا) [صحيح
البخاري برقم (1406) والحديث في صحيح مسلم (2/719) بلفظ:(ليس المسكين بالذي
ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين المتعفف اقرؤا إن
شئتم لا يسألون الناس إلحافا)]
وليس المقصود عدم إعطاء السائل ولو ألحف، بل المقصود الاهتمام أكثر بغير
السائلين، أو الذين يسألون على استحياء لشدة حاجتهم..
والأصل في الزكاة والصدقات أن تصرف في المحتاجين من أهل البلد، لقول الرسول
صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (... فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم
وترد على فقرائهم...) [البخاري برقم (1389) ومسلم برقم(19)]
وقد يفيض المال في بعض البلدان الإسلامية، أو يكون المسلمون في آخر، أشد
ضرورة، من أهل البلد الزكاة والصدقة، فيجب أن يوازن بين المصالح، وتقدم أعظم
المصلحتين، وبين المفاسد، فتدرأ أعظم المفسدتين.
ولإيضاح هذه المسألة لا بد من ذكر أمثلة واقعة في عصرنا هذا، لتطبيق الحكم
الشرعي عليها:
إن الذي يشاهد أحوال المسلمين اليوم في فلسطين، فيرى أهلها وقد هدمت منازلهم،
فلا يجدون المأوى في شدة الحر أو البرد، ويراهم يتضورون جوعا، نساء وأطفالا
وشيوخا، فلا يجدون لقمة العيش، ويراهم وقد أثخنتهم الجراح، وفتكت بهم
الأمراض، فلا يجدون الدواء، وأعداؤهم يقصفونهم ليلا ونهارا، بأشد الأسلحة
فتكا، من البر والجو والبحر...
إن الذي يشاهد ذلك، ثم ينظر إلى كثير من بلدان المسلمين التي لا تخلو من
فقراء ومحتاجين، ثم يوازن بين الجهتين، يجد أن المحتاجين في غير الشعب
الفلسطيني يجد غالبهم ما يسد رمقه من الطعام، وما يكنه من المأوى الضروري.
لهذا يجب على أغنياء الأمة، أن يوازنوا بين الفئتين، فيعطوا أهل بلد الزكاة
الحد الأدنى الذي يخفف حاجتهم، ويجتهدوا في إيصال غالب زكاتهم وصدقاتهم، إلى
الشعب الفلسطيني الذي تلك حاله، فهو في حالة ضرورة وغيره في حالة حاجة، أو
ضرورة أخف.
يضاف إلى ذلك أنهم يقومون بجهاد أعداء الله اليهود، الذين جهادهم فرض عين على
جميع المسلمين، حتى يدفع عدوانهم، ويطردوا من الأرض المباركة التي احتلوها
بغير حق...
تنبيه مهم جدا
ومما يجب التنبيه عليه، أن الجهاد في
سبيل الله –خاصة في فلسطين-هو فرض عين اليوم على جميع المسلمين، ولكن عقبات
كثيرة تمنع من يريد أن يجاهد بنفسه مباشرة في صف إخوانه الفلسطينيين، وأعظم
تلك العقبات، حراسة الجيوش العربية لليهود، في الحدود المحيطة باليهود.
لهذا لم يبق إلا الجهاد بالمال، الذي لا عذر لمسلم قادر عليه، في تأخره عنه،
فيجب على كل قادر أن يبذل ما يقدر عليه من المال، لنصرة إخوانه المجاهدين،
الذين زلزلوا الأرض من تحت أقدام اليهود، في حدود إمكاناتهم الضعيفة، مع ما
يملكه عدوهم من سلاح فتاك، وجيش قوي.
وكل مسلم قادر على إنفاق ماله في سبيل الله، لهؤلاء المجاهدين فهو آثم، ويجب
أن يجتهد من يريد الإنفاق في سبيل الله، في وضع ماله في الأيدي الأمينة التي
توصله إلى المجاهدين في سبيل الله.
ومعلوم ما يقوم به أهل العدوان وبخاصة لحكومة الأمريكية، من ملاحقة أهل
الأموال الذين يعينون بها المجاهدين، ويسجلونهم في قائمة ما يسمونه
"الإرهابيين" ويجمدون أموالهم، ويقومون باختطاف بعضهم أو اغتيالهم، ولكن هذا
لا يسوغ لهم الكف عن إنفاق أموالهم في سبيل الله، وإعانة أولئك المجاهدين.
وإذا كانت أمريكا تتخذ وسائل قوتها، وتستعين على عدوانها بعملائها في كثير من
البلدان الإسلامية، فالواجب على أغنياء الأمة أن يتخذوا كل حيلة تحبط مؤامرة
المحاربين للإسلام والمسلمين، ولا بد إذا كانوا صادقين، أن يجدوا من المخارج
ما يؤدون به الواجب الذي فرضه الله تعالى عليهم، وقد وعد الله المتقين من
عباده، بأن يهيئ لهم مخرجا... كما قال تعالى: ((ومن يتق الله يجعل له مخرجا))
[الطلاق (2)] ((ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا)) [الطلاق (4)]
وإنه لمن المؤسف، أن نرى كثيرا من الأغنياء، لا يهتمون في إنفاق أموالهم، إلا
بإغاثة من سقط في حُفَر الجوع والعطش والمرض والتشريد، ولا يهتمون بهؤلاء قبل
أن يسقطوا في تلك الحفر. كيف؟
إن كثيرا ممن يعانون من تلك الْمحن، كانوا من الأغنياء الأصحاء المستقرين في
منازلهم، ولكنهم تعرضوا للعدوان من الظلمة المعتدين، كحال الفلسطينيين الذين
اغتصب أرضهم اليهود، فقتلوهم، وشردوهم، وجرحوهم، وحاصروهم حتى أجاعوهم...
وبعد أن وصلوا إلى هذه الحال، بدأ الأغنياء يهتمون بهم بعض الاهتمام،
لإغاثتهم بالطعام والشراب والدواء...
ولو أنهم اهتموا بهم قبل أن ينال منهم العدو هذا النيل الظالم، فبذلوا لهم
المال الذي يوفر لهم السلاح الذي لا خلاص لهم من العدوان بدونه، لكان لهم شأن
آخر غير ماهم فيه الآن.
وهذه ظاهرة مؤلمة في الأمة الإسلامية، يرى كثير من أغنيائهم المظلوم المعتدى
عليه، يهينه عدوه ويذله، وهو قادر على الدفاع عن نفسه، لو أتيح له العون
المادي الذي يوفر له السلاح، فلا يلتفتون إلى نصرته بذلك، حتى إذا شرده
العدو، وأصبح في حاجة إلى المأوى والطعام والشراب والدواء، تنادوا لجمع
التبرعات، ليقيموا له الخيام، ويحضرون له ما تيس من أنواع الإغاثة...
أيهما أولى:
وقاية المظلوم بعونه قبل أن يصل إلى هذه الحال السيئة، أم التفرج عليه وهو
يهان ويذل ثم يقرب له حفنة من الأرز وقاروة من الماء؟
إني أحث أغنياء الأمة أن يضعوا أنفسهم مكان إخوانهم في فلسطين، في هذه الأيام
المباركة، التي يشاهدون فيها على تلك الحالات المزرية، ثم يتصورون ما ذا
سيطلبون من إخوانهم المسلمين في البلدان الإسلامية....
ولست أريد من هذا التنبيه، تثبيط المسلمين عن إغاثة إخوانهم الذين تلك حالهم،
حاشا... كيف وإغاثة الحيوانات – حتى الكلاب – يكتب الله بها الأجر لمن فعلها،
ويغفر بها كبائر الذنوب؟
كما روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
(بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب
يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم
أمسكه بفيه، ثم رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له) قالوا يا رسول الله،
وإن لنا في البهائم أجرا؟ قال: (في كل كبد رطبة أجر) [البخاري برقم (2234)
ومسلم برقم (2244)]
وروى كذلك، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم
حار، يطيف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها فغفر لها) [مسلم
برقم (2245)]
ومعنى "يُطيف" يدور حول البئر، ومعنى "أدلع لسانه" أخرجه لشدة العطش و"الموق"
بضم الميم هو الخف فارسي معرب. ومعنى "نزعت له بموقها" استقت. [راجع شرح
النووي على مسلم (14/242)]
أقول:
لست أريد من هذا التنبيه، تثبيط المسلمين عن إغاثة إخوانهم الذين تلك حالهم،
فهذا فرض يأثمون إذا تأخروا عن القيام به، ولكني أريد أن يهتموا بالمظلومين،
قبل أن يصلوا إلى هذه الحالة.
هذا أحد ميادين السفر إلى الجنة،
فليغتنمه المؤمنون الصادقون، وبخاصة في هذا الشهر الكريم.
المجال الثامن :
الصيام عن المعاصي
يعرف
جمهور العلماء الصيام بأنه: الإمساك عن المفطرات في نهار رمضان، ويقصدون
بالمفطرات: الطعام والشراب والجماع، وقد مضى في الحلقة الأولى.
وبناء على ذلك لا يبطل الصوم إلا بالمفطرات لثلاثة المذكورة...
وإذا ارتكب الصائم بعض الذنوب، كالغيبة والنميمة، والسب والضرب والسرقة،
وشهادة الزور والكذب، فلا يكون مفطرا بذلك، وإن تضاعف إثمه في هذا الشهر
الكريم... هذا هو مذهب جماهير العلماء...
قال النووي: " فلو اغتاب في صومه عصى ولم يبطل صومه عندنا، وبه قال مالك وأبو
حنيفة وأحمد والعلماء كافة، إلا الأوزاعي فقال يبطل الصوم بالغيبة ويجب
قضاؤه...." [المجموع (6/372-374)]
ويرى بعض العلماء، أن المعاصي تبطل
الصوم، واستدلوا بأدلة:
منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به،
فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) [البخاري برقم (1804)]
ومنها حديثه – أيضا - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب صائم حظه
من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر) [أحمد برقم (8843)
والحاكم في المستدرك برقم (1571) وقال: ""هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم
يخرجاه" وذكره في مجمع الزوائد عن ابن عمر ((3/202) وقال: " رواه الطبراني في
الكبير ورجاله موثقون".
ومنها حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الصيام من
الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحدا وجهل عليك، فقل:
إني صائم) المستدرك برقم (1570) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم
يخرجاه"
ومنها حديثه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: ....
والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث يومئذ، ولا يسخب، فإن سابه
أحد أو قاتله، فليقل إني امرؤ صائم) [باختصار من البخاري (1795) ومسلم
(1151)]
وقد جزم ابن حزم الظاهري رحمه الله، بأن الصائم إذا تعمد إتيان المعاصي،
عالما بها، ذاكرا لصومه، بطل صومه، وذكر الأحاديث السابقة وغيرها، مستدلا بها
على رأيه، كما ذكر من رأى ذلك من الصحابة والتابعين وغيرهم، وأطال الرد على
المخالفين.
قال: "734 مسألة ويُبطل الصومَ أيضا تعمدُ كل معصية، أي معصية كانت لا تحاش،
إذا فعلها عامدا ذاكرا لصومه، كمباشرة من لا يحل له، من أنثى أو ذكر، أو
تقبيل امرأته وأمته المباحتين له، من أنثى أو ذكر، أو إتيان في دبر امرأته أو
أمته أو غيرهما، أو كذب أو غيبة أو نميمة، أو تعمد ترك صلاة، أو ظلم ذلك من
كل ما حرم على المرء فعله...." [المحلى (6/177)]
وفي المذهب الحنبلي قال أحمد: "لو كانت الغيبة تفطر ما كان لنا صوم ... وذكر
الشيخ تقي الدين وجها يفطر بغبة ونميمة ونحوهما، قال في الفروع فيتوجه منه
احتمال يفطر بكل محرم، وقال أنس: إذا اغتاب الصائم أفطر، وعن إبراهيم قال:
كانوا يقولون الكذب يفطر الصائم، وعن الأوزاعي أن من شاتم فسد صومه لظاهر
النهي، وذكر بعض أصحابنا رواية يفطر بسماع الغيبه، وأسقط أبو الفرج ثوابه
بالغيبة" المبدع (3/41)
وقد تأول الجمهور هذه الأحاديث بأن المراد منها زجر الصائم وتحذيره، من
ارتكاب الآثام في هذا الشهر الفضيل، ليصون صومه مما يشوبه من المعاصي، ويكون
كامل الثواب، وليس المراد بطلان صومه.
قال النووي: "وأجاب أصحابنا عن هذه الأحاديث، بأن المراد أن كمال الصوم
وفضيلته المطلوبة إنما يكون بصيانته عن اللغو والكلام الردىء، لا أن الصوم
يبطل به... وأجاب عنه الماوردي والمتولي وغيرهما، بأن المراد بطلان الثواب،
لا نفس الصوم" [المجموع (6/372-374)]
وقد أطال ابن حزم في الرد على هذا التأويل، فليراجعه من شاء.
إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
ومهما يكن الأمر، فإن القائلين بصحة صوم مرتكب المعاصي، وعدم بطلان الصوم
بها، إنما ينظرون إلى الحكم الفقهي الظاهر، وهو سقوط الحكم عن الصائم، ويبقى
بعد ذلك قبول عمله عند ربه في واقع الأمر، الذي لا يجرؤ أحد على القول بقبول
الله تعالى صيام من لم تصم جوارحه عن معاصي الله تعالى، فقد يحبط الله عمله،
لجرأته على معصية الله، وانتهاكه لحرمة هذا الشهر الفضيل، وقد تزيد سيئاته في
شهر رمضان على حسناته، فيخسر أجر صيامه وقيامه، فيكون كمن لم يصم رمضان، وهذا
يكفي زاجرا للمسلم العاقل.
وإذا رجعنا إلى كتاب الله، وجدنا فيه أن العبادة التي يقوم بها المسلم، تؤدي
إلى تقواه وتعينه على فعل طاعاته وترك معاصيه.
فقد أكد تعالى أن إقامة الصلاة على الوجه الشرعي الذي يرضي الله، تنهى صاحبها
عن الفحشاء والمنكر، فقال تعالى: ((اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة
إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون))
[العنكبوت (45)]
والصلاة تطهر صاحبها من الذنوب والآثام، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه، أنه
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم
يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء)؟ قالوا: لا يبقى من درنه
شيء، قال: (فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)) [البخاري برقم
(505) ومسلم برقم (667)]
وذكر تعالى أن المؤمن الذي يقوم بفريضة الحج، يجب أن يدع ما يفوت عليه كماله
المفضي إلى فوات أجره أو نقصه، وأمر الحاج أن يتقيه تعالى ويتزود من تقواه،
فقال تعالى: ((الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا
جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى
واتقوني يا أولي الألباب )) [البقرة (197)]
ووعد الرسول صلى الله عليه وسلم، من حج واتقى الله في حجه، أنه يرجع من حجه
طاهرا من الذنوب والآثام، وكأنه خرج لتوه من رحم أمه، كما في حديث أبي هريرة
رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: ( من حج لله، فلم
يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه) [البخاري (1449)]
وأشار تعالى في فرضه الصيام، أن من آثاره تقوى الله، فقال تعالى: ((يا أيها
الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون))
[البقرة (183)]
وهؤلاء المتقون وحدهم هم المنتفعون بكتاب الله، والمهتدون بهداه، مع أنه نزل
يدعو كل الناس إلى هدايته: كما قال تعالى في سياق آيات شهر رمضان: ((شهر
رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان)) [البقرة
(185)] ولكنه في واقع الأمر ((هدى للمتقين)) [البقرة (2)]
وهؤلاء المتقون هم الذين يحبهم الله: ((فإن الله يحب المتقين)) [آل عمران
(76)]
وهم وحدهم الذين يقبل الله أعمالهم: ((إنما يتقبل الله من المتقين)) [المائدة
(27)]
وهم وحدهم المؤهلون لدخول الجنة: ((إن المتقين في جنات وعيون)) [الحجر(45)]
((وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا
حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين)) [النحل(30)]
وتقوى الله تدفع المؤمن إلى طاعته، وترك معاصيه، ولا يتأهل للسفر إلى الجنة
إلا المتقون.
وهذا المعنى هو الذي يجب أن يجعله المؤمن هدفه من صيامه، وهو المزيد من طاعة
الله، والطمع قبوله طاعته، والفوز بتقواه، ونيل ثوابه ورضاه، الوقاية من
إحباط عمله بالبعد عن معاصي الله، ولا يقف به همه عند التفكير في صحة صيامه
فقط، بل يكون من المتنافسين في طاعة الله، ليصل إلى درجات عباد الله
الصالحين، يكوم ممن قال الله تعالى فيهم:
((إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون (57) والذين هم بآيات ربهم يؤمنون (58)
والذين هم بربهم لا يشركون (59) والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى
ربهم راجعون (60) أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون)) (61) [المؤمنون]
وإذا اقترف شيئا من المعاصي، فلا ييأس من رحمة الله وليجاهد نفسه، وليعزم على
التوبة النصوح التي يبدل الله بها سيئاته حسنات:
((ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم
سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين
آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر
لنا إنك على كل شيء قدير)) [التحريم (8)]
((وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون)) [الور (31)]
((التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف
والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين)) [التوبة (112)]
((إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)) [البقرة (222)]