قال تعالى: ﴿ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا
مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ
مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ [الأحزاب (23)]
ومعنى قوله: ﴿فمنهم من قضى نحبه﴾ : مات على ما عاهد الله تعالى عليه، من
القيام بطاعته، ومن أهمها الجهاد في سبيل الله.
وقد وردت آثار، تدل على أن الآية نزلت في بعض الصحابة الذين جاهدوا في سبيل
الله، فاصطفاهم الله شهداء، ومنهم أنس بن النضر، وطلحة... وغيرهما، وأن من
لم يقض نحبه منهم ينتظر قضاءه...
فقد ذكر أنس بن مالك رضي الله عنه: أن الآية نزلت في عمه أنس بن النضر،
قال: كنا نرى هذه الآية نزلت في أنس بن النضر ﴿من
المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه﴾ [صحيح البخاري (4/1795)]
والذي يظهر أن الآية [وإن نزلت في بعض الصحابة] فهي شاملة لكل من مات على
عهد الله تعالى من المؤمنين، أو بقي ينتظر اللحاق بمن سبقه في دربه، وقد
قال أنس نفسه: "كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه [أي أنس بن النضر]
وفي أشباهه" [صحيح البخاري (3 /1032)]
وفضل الله تعالى على عباده واسع في كل الأزمنة.
وقد ورد ما يدل على مضاعفة الأجر على بعض الأعمال لمن أتى بعد الصحابة على
أجر الصحابة، وإن لم ينالوا فضل صحبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، كالأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، في أوقات الشدائد والمحن
كما روى أبو أمية الشعباني، قال سألت أبا ثعلبة عن هذه الآية: ﴿يا أيها
الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم﴾؟
فقال أبو ثعلبة" "لقد سألت عنها خبيرا، أنا سألت عنها رسول الله صلى الله
عليه وسلم قبلا" فقال:
(يا أبا ثعلبة مروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، فإذا رأيت شحا مطاعا، وهوى
متبعا، ودنيا مؤثرة، ورأيت أمرا لا بد لك من طلبه، فعليك نفسك ودعهم
وعوامهم، فإن وراءكم أيامَ الصبرِ، صبْرٌ فيهن كقبضٍ على الجمر، للعامل
فيهن أجر خمسين يعمل مثل عمله) [الحاكم في المستدرك على الصحيحين (4/358)
وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"
وفي رواية: قيل يا: رسول الله أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: (بل أجر خمسين
منكم) [سنن أبي داود (4/123) وسنن الترمذي (5/257) وقال: " هذا حديث حسن
غريب"]
وإن المسلمين في هذه الأيام ليمرون بابتلاءات ومحن ينطبق عليهم فيهما ما
ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم: (فإن وراءكم أيامَ الصبر، صبر فيهن كقبض
على الجمر)
وإننا لنرى رجالا صابرين في هذه الأيام كصبر قابض على الجمر، رافعين راية
هذا الدين، لا يدعونها تسقط ولو سقطوا هم واحدا تلو الآخر في ميدان
الشهادة، فإذا سقط قائد شهيدا حمل الراية قائد آخر، وكأنهم يحققون ما حققه
قادة مؤتة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما روى ذلك أنس رضي الله
عنه، قال:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر
فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، وإن عيني رسول الله صلى الله
عليه وسلم لتذرفان، ثم أخذها خالد بن الوليد [وفي رواية: (سيف من سيوف
الله)] من غير إمرة، ففتح له [صحيح البخاري (1/420)]
وفي حديث عبدالله بن جعفر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا،
استعمل عليهم زيد بن حارثة، فان قتل زيد أو استشهد فأميركم جعفر، فإن قتل
أو استشهد فأميركم عبدالله بن رواحة.
فلقوا العدو فأخذ [الراية] زيد فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الراية جعفر فقاتل
حتى قتل، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الراية خالد بن
الوليد ففتح الله عليه.
وأتى خبرهم النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج الى الناس وحمد الله وأثنى
عليه، وقال: (ان إخوانكم لقوا العدو، وان زيدا أخذ الراية فقاتل حتى قتل،
أو استشهد، ثم أخذ الراية بعده جعفر بن أبي طالب فقاتل حتى قتل أو استشهد،
ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية
سيف من سيوف الله خالد بن الوليد ففتح الله عليه) الأحاديث المختارة لأبي
عبد الله المقدسي (9/162)]
وقوله في حديث أنس الذي رواه البخاري: (ثم أخذها خالد بن الوليد من غير
إمرة) أي من النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أمَّر زيدا، ثم جعفر، ثم عبد
الله بن رواح، ولم يذكر أحدا بعدهم، ولكن الجيش أمَّر خالدا رضي الله عنه،
بدليل ما رواه ابن إسحاق عن عروة، وفيه:
"ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم الأنصاري، فقال: اصطلحوا على رجل، فقالوا: أنت
لها، قال: لا، فاصطلحوا على خالد بن الوليد" [فتح الباري (7/512)]
فهانحن نرى رجال الجهاد في الأرض المباركة، يؤمرون قائدا لهم اليوم، فإذا
منحه الله الشهادة اليوم، أمَّروا غدا قائدا جديدا، فلم يمض على استشهاد
شيخ الجهاد والمجاهدين "أحمد ياسين" إلا شهر
واحد، لحق به خلفه الدكتور عبد العزيز الرنتيسي،
وقد سبقهما قادة كثيرون منذ أكثر من خمسين عاما، من أبرزهم المجاهد عز
الدين القسام، رحمهم الله جميعا وجعلهم مع الأنبياء والصديقين والشهداء
وحسن أولئك رفيقا، وكل قائد منهم يدعو الله أن يرزقه الشهادة في سبيله.
وقد حمل الراية بعد المجاهد الرنتيسي بعض إخوانه، وهم يعلمون أن حمل هذه
الراية صعب المنال لغير هذه الكوكبة من رجال الجهاد، الذين لا يحملونها
لجاه ولا مغنم ولا لثناء من أحد من المخلوقين، وإنما يحملونها ليرضوا ربهم
"في سبيل الله"
فلا تزال الراية مرفوعة بأيدي قادة الجهاد العظماء الأحرار، برغم ضعف
إمكانات المجاهدين المادية، وقلة النصير لهم من غالب حكام المسلمين.
وبرغم تعاون المنافقين الذين باعوا دينهم ووطنهم وأهلهم بثمن بخس يأخذونه
من اليهود، أتباع من قال الله تعالى في شأنهم: ﴿
وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾
[آل عمران(47)] ليتجسسوا لهم على تحركات قادة الجهاد، ليتم اغتيالهم.
وبرغم تعاون طلاب ما يسمى بالسلام المهين الكاذب ممن لم تبق في وجوههم قطرة
من الحياء، هؤلاء كلهم يتعاونون مع أعداء الله اليهود ضد المجاهدين.
وبرغم ما يملكه العدو اليهودي من الإمكانات المادية، وما يناله من دعم من
إخوانهم الصليبيين، وبخاصة حكام أمريكا المعتدين.
إن قادة الجهاد، برغم كل ذلك لا يزالون يرفعون تلك الراية الربانية التي
سيكون لأهلها العاقبة الحميدة، و النصر بإذن الله، ما صبروا وصابروا:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا
وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾