رابعا: صفة الرحمة.
ومن صفات أهل الحق الرئيسة خُلق
الرحمة، وهي تقتضي من المتصف بها الإشفاق على المخلوقين من الناس والحيوانات
والرأفة بهم والإحسان إليهم.
ولما كان الله هو الحق ومصدر الحق ومُشَرِّعَه ومنزل الوحي به وباعث الرسل من
أجله، فهو تعالى الرحمن الرحيم الرؤوف الودود [1] الذي وسعت رحمته كل شئ.
[يجب أن يعلم ابتداء أن الله تعالى ليس كمثله شئ في ذاته ولا في أسمائه ولا
في صفاته: ((قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا
أحد...)) واشتراك المخلوق مع الخالق في الاتصاف بالرحمة ونحوها إنما هو
اشتراك لفظي مثل أن يقال: إن الله موجود والمخلوق موجود، والفرق بين الوجود
ين: أن وجود الله ذاتي أزلي أبدي ووجود المخلوق استمده من الخالق وهو وجود
محدود ببداية ونهاية وغير ذلك.]
وقد افتتح تعالى كتابه الذي أنزله على رسوله رحمة للعالمين بالبسملة ((بسم
الله الرحمن الرحيم)) وافتتحت بها كل سور القرآن الكريم[ما عدا سورة براءة،
التي يرى بعض العلماء إنها مكملة لسورة الأنفال.] وتكرر لفظ الرحمة
ومقتضياتها كثيرا في القرآن الكريم وكذلك في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد وعد الله تعالى أهل الحق من المؤمنين الذين يقومون بمقتضى إيمانهم
برحمته، فقال تعالى: ((والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله
ورسوله، أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم)).[التوبة: 71]
وأهل الحق المتصفون بالرحمة يطلبون من ربهم أن يرحمهم، كما قال تعالى:((ولا
تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على
القوم الكافرين)).[البقرة: 286]
ووصف سبحانه كتابه الذي جاء بالحق بأنه رحمة، فقال تعالى: ((وهذا كتاب
أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون، أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على
طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين، أو تقولوا لو أنا أنزل علينا
الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة)).[الأنعام: 157 ]
ويدعو ملائكة الله المقربون-وهم في السماوات-للمؤمنين-وهم في الأرض-الذين
يشتركون معهم في الإيمان والعمل بالحق، بأن يدخلهم الله الجنة ويقيهم السيئات
التي تكون سببا في دخول النار، ثم يختمون دعاءهم لهم بقولهم: ((ومن تق
السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم)).[غافر: 9]
بل إنهم استفتحوا دعاءهم للمؤمنين بالتوسل إليه برحمته، كما قال تعالى:
((الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا ربنا
وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب
الجحيم)).[غافر: 7]
ووصف إرساله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه رحمة للعالمين، فقال: ((وما
أرسلناك إلا رحمة للعالمين)).[الأنبياء: 107]
وقال عن نبيه لوط عليه السلام: ((وأدخلناه في رحمتنا إنه كان من
الصالحين)).[الأنبياء: 75]
وقال عن بعض أنبيائه بعد ذكرهم: ((وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من
الصالحين)).[الأنبياء: 86]
وقال عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ((لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه
ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)).[التوبة: 128]
ولشدة رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته، وحرصه على أن يأخذوا منه الحق الذي
جاءهم به، وخشيته عليهم من البقاء في الضلال الذي يؤدي بهم إلى سخط الله
وأليم عقابه، كان صلى الله عليه وسلم يأسف أسفا شديدا يُخشى أن يقع بسببه في
الهلاك، ولذلك خاطبه الله تعالى مسليا ومصبرا: ((فلعلك باخع نفسك على آثارهم
إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا)).[الكهف: 6]
ووصفه الله تعالى هو وأمته بأنهم رحماء بينهم، فقال: ((محمد رسول الله والذين
معه أشداء على الكفار رحماء بينهم)).[ الفتح: 29، وشدتهم على الكفار إنما هي
في الحقيقة من أجل رحمتهم إياهم وشفقتهم عليهم من أن يموتوا على كفرهم
فينالوا عذاب الله.]
وبرحمة الحق جل جلاله التي وسعت كل شئ في هذه الدنيا-وإن خص بها أهل الحق في
الهداية والرضا والثواب الجزيل يوم القيامة في الآخرة-بعث رسله وأنزل كتبه
وشرع أحكامه لهداية البشر، وبها جعل الناس والدواب يتراحمون فيما بينهم في
حياتهم.
ولكن الرحمة الحقيقية هي تلك الرحمة التي يتصف بها أهل الحق، فتستولي على
نفوسهم ومشاعرهم، وتجعلهم في كل لحظة من لحظات حياتهم يشفقون على أهل الباطل
الذين قست قلوبهم وخلت من الرحمة، حتى على أنفسهم فأصروا على رفض الحق
ومحاربته ومحاربة أهله والصد عنه، واستكبروا استكبارا.
لذلك ترى أهل الحق الرحماء يحملون الحق إلى الناس، ويسابقون به أهل الباطل
إلى عقول البشر، ويتحملون من المشاق والمحن والمؤامرات، ما لا تتحمله الجبال
الرواسي.
والذي يرجع إلى قصص الأنبياء وحوارهم مع أممهم ومواقف تلك الأمم من دعوتهم،
من التكذيب والاستهزاء والتحقير والتهديد، مع صبر أولئك الأنبياء وتلطفهم
ولينهم وحسن أسلوبهم، تتبين له الرحمة التي حلت في قلوب ألئك الرسل لقومهم.
ويكفي أن نذكر ثلاثة نماذج: اثنان منهما لنبيين وثالث لأحد المؤمنين.
نماذج للرحمة التي يتصف بها أهل الحق.
ويكفي أن نذكر ثلاثة نماذج: اثنان منهما لنبيين وثالث لأحد المؤمنين.
النموذج الأول: نبي الله نوح عليه
السلام.
وهو أول رسول بعثه الله تعالى للناس
في عهده رحمة لهم، فمكث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وهم يجادلونه
بالباطل ويسخرون منه ويحاولون إدخال اليأس إلى قلبه، وهو يمضي في طريقه صابرا
محتسبا رحيما بهم شفيقا عليهم، منوعا أساليبه في دعوتهم، يدعوهم في الليل
والنهار، وفي السر والجهر، مرغبا لهم إذا اتبعوه، بالعيش الحسن في الدنيا،
والنعيم المقيم في الآخرة، ومهددا إذا عصوه، بالهلاك في الدنيا والعذاب في
الآخرة، والقوم لا يزدادون إلا عنادا واستكبارا، حتى يأتي أمر الله، فيضطر
إلى أن يتعلم النجارة لصنع سفينة ينجو فيها بنفسه ومن آمن معه بأمر من ربه،
ويرى فلذة كبده وهو يغرق مع أعداء الله.
وقد صورت الآيات القرآنية قصته تصويرا مفصلا دقيقا فلنذكر بعض الآيات بدون
تعليق فلا كلام يمكن أن يؤدي معانيها مثلها:
((ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم
الطوفان وهم ظالمون)).[العنكبوت: 14]
((بسم الله الرحمن الرحيم، إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن
يأتيهم عذاب أليم، قال يا قوم إني لكم نذير مبين، أن اعبدوا الله واتقوه
وأطيعون، يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا
يؤخر لو كنتم تعلمون، قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا، فلم يزدهم دعائي إلا
فرارا، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم
وأصروا واستكبروا استكبارا، ثم إني دعوتهم جهارا، ثم إني أعلنت لهم وأسررت
لهم إسرارا، فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا،
ويمددكم بأموال وبنين ويجعل جنات ويجعل لكم أنهارا، ما لكم لا ترجون لله
وقارا، وقد خلقكم أطوارا، ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا، وجعل
القمر فيهن نورا، وجعل الشمس سراجا، والله أنبتكم من الأرض نباتا، ثم يعيدكم
فيها ويخرجكم إخراجا، والله جعل لكم الأرض بساطا، لتسلكوا منها سبلا فجاجا،
قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا، ومكروا مكرا
كبارا، وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا،
وقد أضلوا كثيرا، ولا تزد الظالمين إلا ضلالا، مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا
نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا، وقال نوح رب لا تذر على الأرض من
الكافرين ديارا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا، رب
اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين
إلا تبارا)).[سورة نوح]
((كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر، فدعا ربه أني مغلوب
فانتصر، ففتحنا أبواب السماء بماءٍ منهمر، وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء
على أمر قد قدر، وحملناه على ذات ألواح ودسر، تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر،
ولقد تركناها آية فهل من مدكر)). [القمر: 9-15]
((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ
مُبِينٌ(25)أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ
عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ(26)فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ
إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ
عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ(27) قَالَ يَا قَوْمِ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَءَاتَانِي رَحْمَةً
مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا
كَارِهُونَ(28)وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ
إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّهُمْ
مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ(29)وَيَا
قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا
تَذَكَّرُونَ(30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا
أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ
تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ
بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ(31)قَالُوا يَا
نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا
إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(32)قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ
إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ(33)وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ
أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ
هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(34)أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ
إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا
تُجْرِمُونَ(35)وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ
إِلَّا مَنْ قَدْ ءَامَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا
يَفْعَلُونَ(36)وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا
تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ(37)وَيَصْنَعُ
الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ
قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا
تَسْخَرُونَ(38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ
وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ(39)حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ
التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ
وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ ءَامَنَ وَمَا
ءَامَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ(40)وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ
مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(41)وَهِيَ تَجْرِي
بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ
يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ(42) قَالَ
سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ
مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ
فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ(43)وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا
سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى
الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(44)وَنَادَى نُوحٌ
رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ
وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ(45)قَالَ يا نوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ
أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ
بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ(46)قَالَ رَبِّ
إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا
تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ(47)قِيلَ يَانُوحُ
اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ
مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ
أَلِيمٌ(48)تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ
تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ
الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ(49)[سورة هود]
هذا هو النموذج الأول، وهو أول رسول بعثه الله إلى الناس ليخرجهم من الظلمات
إلى النور، وهو نوح عليه السلام ولولا ما رزقه الله من رحمة وشفقة وصبر، لما
قدر أن يستمر في دعوة قومه الذين وقفوا منه هذه المواقف تلك المدة الطويلة
المديدة: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ
أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ
ظَالِمُونَ(14)[العنكبوت] وقصص الأنبياء عليهم السلام-غير نوح-شبيهة بقصته
النموذج الثاني: محمد رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
وهو الذي ختم به جميع الرسل، وختم
بكتابه ودينه المفصل الكامل جميع الكتب والأديان رحمة من الله للعالمين.
فقد بعثه صلى الله عليه وسلم في وقت أظلمت فيه الآفاق بالشرك والوثنية
والجهل، وانطمست معالم الرسالات، وكلف تبليغ هذا الدين إلى قومه الأقربين، ثم
عشيرته المحيطين به، ثم العرب أجمعين، ثم أمم الأرض وعظماءها من الأمراء
والسلاطين، ولقي صلى الله عليه وسلم ما لقيه إخوانه المرسلون، من أقوامهم
الضالين من الأذى والامتحان، والصد عن سبيل الله واتباع سبيل الشيطان، وأوذي
معه صحبه الكرام الذين أقام الله بهم دين الإسلام.
دعا صلى الله عليه وسلم سرا وعلنا، وعرض دعوته على الغني والفقير، والقوي
والضعيف، وهجر بلاده مكة هو وصحبه عندما سد المشركون أمام دعوته الأبواب،
وكانت أحب البلاد إلى الله.
واصل دعوته في المدينة، وهجم عليه المشركون من كل حدب وصوب، فجاهد في الله حق
جهاده مدافعا عن دين الله، وقائما بدعوة الله، وسالت دماؤه الزكية وجرح جسمه
الطاهر وكسرت أسنانه النظيفة، وقتل كثير من أصحابه، مستشهدين في ساح الجهاد
التي اشترك معهم فيها الملائكة المقربون، حتى نصر الله دينه وأعلى كلمته وكان
ذلك كله امتثالا لأمر ربه، ورحمة بعباد الله ليخرجهم من الظلمات إلى النور.
ولنقرأ كذلك بعض الآيات في معاناته صلى الله عليه وسلم، وكيف وقف قومه
المشركون واليهود والنصارى، من الحق الذي جاء به، وكيف صبر ومضى مشفقا عليهم
رحيما بهم.
قال تعالى: (( وَهُوَ اللَّهُ فِي السماوات وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ
سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ(3)وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ
ءَايَةٍ مِنْ ءَايَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ(4)
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ
أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(5)أَلَمْ يَرَوْا كَمْ
أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا
لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا
وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ
بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا ءَاخَرِينَ(6)وَلَوْ
نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ
لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ(7) وَقَالُوا
لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ
الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ(8)وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ
رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ(9)وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ
بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا
بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(10)قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(11)قُلْ لِمَنْ مَا فِي السماوات
وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِا الَّذِينَ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ(12)وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(13)قُلْ أَغَيْرَ
اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السماوات وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ
وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ
وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(14)قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ
رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(15)مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ
رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ(16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ
بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(17)وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ
الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(18)قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ
شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ
لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ
اللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ
وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ(19) الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ
الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ(20)وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ
افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا
يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(21)وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ
لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ
تَزْعُمُونَ(22)ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا
وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ(23)انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(24) وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ
يَفْقَهُوهُ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ ءَايَةٍ لَا
يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ(25)))[الأنعام]
وقال تعالى: ((ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا
كفورا، وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، أو تكون لك جنة من
نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا
أو تأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء
ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرأه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا
رسولا)).[الإسراء: 89-93]
ومع هذه المواقف الجاسية العنيدة التي كان يقفها قومه المشركون منه، كان يحزن
لحالهم ويتحسر ويهتم بأمرهم، رحمة بهم وإشفاقا على ما سيلقونه من مصير سيئ في
الدنيا والآخرة، كما قال تعالى له مسليا ومصبرا: ((واصبر وما صبرك إلا بالله
ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون)).[النحل: 127]
وقال تعالى: ((ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون)).[النحل: 70]
وقال تعالى: ((فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث
أسفا)).[الكهف: 6]
هكذا كان صلى الله عليه وسلم يحزن لحال أمته الذين لم يستجيبوا لدعوته، مشفقا
عليهم راغبا في هدايتهم برغم عدائهم وحربهم له ولدينه.
وكان صلى الله عليه وسلم أشد رحمة وشفقة على من آمن به من أصحابه، كما قال
تعالى: ((لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين
رؤوف رحيم)).[التوبة: 128والعنت المشقة]
وقال تعالى: ((واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر
لعنتم)).[الحجرات: 7]
وقال تعالى: ((محمد رسول الله والذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء
بينهم)).[الفتح: 29]
وقد ضرب لرحمته وشفقته على أمته، مثلا برجلٍ استوقد نارا فلما أضاءت جعل
الفراش والدواب تقع في النار والرجل يحاول منعها وحجزها عن النار، وهي تأبى
إلا الوقوع فيها.
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه،
فأنا آخذ بحجزكم، وأنتم تقحمون فيه..) وفي لفظ: (مثلي كمثل رجل استوقد نارا،
فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها، وجعل
يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها، قال: فذلكم مثلي ومثلكم، أنا أخذ بحجزكم عن
النار هلم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني تقحمون فيها..) [مسلم (4/1789)،
والتقحم الإقدام والوقوع في الأمور الشاقة من غير تثبت، والحجز جمع حجزة وهي
معقد الإزار. ].
والذي يدرس سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما قام به من الدعوة إلى الله
بين المشركين وحرصه الشديد على هدايتهم، وسيرته صلى الله عليه وسلم مع أهله
وخَدَ مه وأصحابه، يرى رحمته شاخصة في تلك السيرة العطرة، تتحرك بحركة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وتتحدث بلسانه.
وعلى تلك الرحمة ربى أصحابه فكانوا يتسابقون إلى نفع المحتاجين ونصرة
الضعفاء.
ويكفي لمعرفة رحمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه برعيته، بيانه السياسي بعد
بيعته الذي أولى فيه من يستحق الرحمة اهتمامه، حيث خصه بنسبة كبيرة من معاني
ذلك البيان نصا، فكان مما قاله في ذلك البيان:"والضعيف فيكم قوي عندي حتى
أزيح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء
الله.." [تاريخ الخلفاء، للإمام السيوطي ص69]
وكان-وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم-ووزيره عمر بن الخطاب رضي الله
عنهما، يتسابقان دون أن يعلم أحدهما بالآخر لخدمة عجوز كبيرة السن، وكان
الخليفة يسبق وزيره إليها [نفس المرجع: ص80].
النموذج الثالث: مؤمن آل فرعون.
وهو الذي انبرى محاميا عن موسى عليه
السلام، ومرغبا فرعون وقومه في الاستجابة لدعوته، ومرهبا لهم من مخالفته
والاعتداء عليه بالقتل، في بيان طويل وجدال قائم على الحجة والبرهان والعاطفة
والرحمة.
فعندما سمع فرعون يستأذن ملأه-وليس استئذانه منهم إلا لخداعهم وإظهار أنه
يرجع إليهم في الأمور المهمة-قائلا: ((وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه
إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)) وسمع موسى عليه السلام
وهو يستعيذ بربه-الذي لا ملجأ له سواه-كما قال الله تعالى عنه:((وقال موسى
إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب..)) خرج ذلك الرجل
المؤمن رضي الله عنه من صمته وهو من آل فرعون-فدافع عن موسى ودعا فرعون وقومه
إلى اتباعه والبعد عن إيذائه، كما قال تعالى: ((وقال رجل مؤمن من آل فرعون
يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن
يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم به إن الله لا يهدي
من هو مسرف كذاب، يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين فمن ينصرنا من بأس الله إن
جاءنا)) [إلى هنا تظهر رحمة الرجل المؤمن بموسى عليه السلام، حيث يحذر قومه
من قتله بسبب يقتضي مناصرته والاستجابة له، وهو أنه يقول ربي الله، ثم يفترض
أنه إما أن يكون صادقا-وهذا هو الذي يعتقده هذا المحامي-وإما أن يكون
كاذبا-حسب زعم فرعون وملؤه فإن صدق فسيكون قتلهم له ومحاربة دعوته وبالا
عليهم، وإن كذب فتركهم له لا يضرهم ويتحمل هو كذبه، وفي نصحه هذه رحمة بهم،
ثم يظهر رحمته بهم بأنهم يحرزون الملك وهذا الملك لا يبقى مع الظلم بل سينزل
بهم بأس الله فإذا نزل بهم فلا ناصر لهم، وفي هذا غاية النصح لهم والرحمة
بهم.]
((قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد. وقال الذي آمن
يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من
بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد)) [وفي هذا تخويف لهم من عقاب الله في
الدنيا، وذلك رحمة بهم].
ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد، يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم
ومن يضلل الله فما له من هاد)) [وفي هذا تحذير لهم من عقاب الله لهم في
الآخرة، وهو من رحمته بهم]
.إلى قوله تعالى ((وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد))[وهذا
يعارض قول فرعون: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.. كما
سبق.].
(( يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار، من عمل
سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك
يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب. ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة
وتدعونني إلى النار. تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا
أدعوكم إلى العزيز الغفار، لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا
ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار. فستذكرون ما
أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد. فوقاه الله سيئات ما
مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب. النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم
الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب)) [الآيات من سورة غافر: 28-48.]
ما أصعب كلمة الحق أمام الطغاة الفراعنة، وكثيرا ما يكون أناس يؤمنون بالحق
الذي يكفر به الطغاة الفراعنة، ويودون أن يؤمن به أولئك الطغاة الفراعنة من
أهل الباطل وأتباعهم، ولكنهم لا يجرءون على الجهر بذلك، فيؤمنون بالحق في
أنفسهم ويكتمون ذلك الإيمان، خوفا من جبروت الطغاة الفراعنة وليس عليهم شئ في
ذلك الكتمان اضطرارا، ولكن الإيمان عندما يقوى والرحمة بالطغاة وأتباعهم
عندما تشتد، وكذلك الرحمة بأهل الحق المهدَّدين بالقتل والأذى، يأبى ذلك
الإيمان أن يبقى في الصدور فيظهر في الأفعال والأقوال، وتتضاءل قوة الطغاة
الفراعنة في نفوس المؤمنين الذين كانوا يكتمون إيمانهم، فيصدعون بالحق رحمة
بالداعي المغلوب وبالمدعو المعاند، وهذا ما حصل من مؤمن آل فرعون رضي الله
عنه وأرضاه وأكثر في قصور الطغاة الفراعنة من أمثاله، وهكذا يكون أهل الحق
رحماء فيما بينهم ورحماء بغيرهم، بخلاف أهل الباطل فالغالب فيهم أن تكون
الرحمة منزوعة من قلوبهم، وبخاصة فيما يعارض مصالحهم-ولو كانت تلك المصالح
ظلما صريحا-وبخاصة مع أهل الحق فإن الغلظة والقسوة تكون ملازمة لهم في
معاملتهم.
أهل الحق يدعون أهل الباطل إلى الحق وينصحونهم بترك الباطل رحمة بهم، وأهل
الباطل يحاربون أهل الحق وينابذونهم العداء، ويخرجونهم من ديارهم، ويفتنونهم
في دينهم بالضرب والرجم والحبس والقتل، تجبرا عليهم وقهرا وإذلالا لهم وقسوة
عليهم.
والتاريخ البشري والقرآن العظيم والواقع المعاصر كلها تدل على ذلك.
ولو أردنا تتبع ذلك الظلم والقسوة والقهر التي تباين الرحمة وتنافيها، من
القرآن الكريم وكتب السنة، والتاريخ والواقع المعاصر، لاحتاج ذلك منا إلى
كتاب مستقل، فلنذكر نماذج من القرآن الكريم ونشير إلى شئ من الواقع للربط بين
أهل الباطل في القديم والحديث.
سبق أن أهل الحق تلازمهم صفة الرحمة في أغلب الأوقات-هذا إذا كانوا من غير
الأنبياء، وغير الأنبياء ليسوا بمعصومين، أما الأنبياء فلا تفارقهم سجية
الرحمة، وأما أهل الباطل فالأصل أنهم غير رحماء، فإذا ما وجدت عند بعضهم بعض
معاني الرحمة، فالغالب أنها تتعلق بتحقيق مصالح لهم.
ومن مستلزمات القسوة عند أهل الباطل اعتداء القوي على الضعيف.
مظاهر الاعتداء.؟؟؟
-------------
[1]- يجب أن يعلم ابتداء
أن الله تعالى ليس كمثله شئ في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته: ((قل هو
الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد...)) واشتراك
المخلوق مع الخالق في الاتصاف بالرحمة ونحوها إنما هو اشتراك لفظي مثل أن
يقال: إن الله موجود والمخلوق موجود، والفرق بين الوجود ين: أن وجود الله
ذاتي أزلي أبدي ووجود المخلوق استمده من الخالق وهو وجود محدود ببداية ونهاية
وغير ذلك.