الوسيلة السادسة: العناية باللغة
العربية ونشرها.
اللغة العربية هي لغة القرآن
والسنة-أي لغة الإسلام، فالقرآن نزل بهذه اللغة، والسنة وردت بهذه اللغة،
والآثار المفسرة للقرآن والسنة، ومصادر الفقه الإسلامي، وتاريخ الإسلام، وكتب
الآلة من نحو وصرف وبلاغة ومصطلح وعلم تفسير وغيرها، أساسها اللغة العربية،
فلا غرو أن تكون اللغة العربية هي مفتاح علوم الإسلام كلها، فلا يفقه هذا
الدين حق الفقه، ولا يعلم مقاصده وأسراره وحكمه وعلله حق العلم، إلا من فقه
هذه اللغة.
ولهذا كثر وصف كتاب الله-القرآن الكريم-بكونه عربيا، كما قال تعالى: {كتاب
فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون} .
وقال تعالى: {إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} .
وقال تعالى: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} .
وقال تعالى: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} .
وقال تعالى: {وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من
المنذرين بلسان عربي مبين} .
وقال تعالى: {وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا} .
وقال تعالى: {وكذلك أنزلناه حكما عربيا} .
وقال تعالى: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا
عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون} .
وقال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا} .
وقال تعالى: {وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا} .
حكمة وصف القرآن بأنه عربي.
إن هذا التنويه بكون القرآن عربيا،
لجدير بالتأمل والنظر ولو وصف الله القرآن الكريم بأنه عربي مرة واحدة فقط
لاستحق التأمل والنظر، فكيف وقد كرر تعالى وصفه بذلك في أساليب متعددة؟!.
ولو أن مخلوقا عاقلا وصف شيئا ما بوصف مرة واحدة، لكان لوصفه بذلك اعتبار عند
القارئ والسامع فكيف إذا وصفه بذلك مرات؟!
وكيف إذا كان هذا الوصف صادرا عن الله في كتابه، فما حكمة وصف القرآن الكريم
بأنه عربي؟
هل المقصود من ذلك بيان إعجاز القرآن الذي نزل بلغة العرب، وقد تحداهم أن
يأتوا بمثله فعجزوا؟
نعم إن ذلك لمقصود، ولكن هذا التحدي يكون أكمل عندما يتعلم غير العربي اللغة
العربية ويصبح لسانه عربيا، يفهم القرآن الكريم بلغته التي نزل بها ويتذوق
أساليبها وبلاغتها ويتعمق في فهم معانيها، ويطلع على أسرار القرآن وحكمه بها،
فيتبين له معنى كون هذا القرآن معجزا حقا.
وهل المقصود بذلك نفى أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم تعلم هذا القرآن من
بعض من كان عندهم علم من الكتب السماوية السابقة، كما زعم ذلك بعض أعداء
الإسلام؟
نعم، إن ذلك لمقصود وقد صرح الله بذلك في قوله. {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي
وهذا لسان عربي مبين} . ولكن هذا المعنى المقصود جزء مما يحمله هذا الوصف
وليس كل معناه.
وهل المقصود أن هذا القرآن الذي نزل باللغة العربية، مع أنه نزل لهداية جميع
البشر، شرف لك أيها الرسول ولقومك العرب وبخاصة قريشا؟!
نعم إن ذلك أيضا لمقصود، كما قال تعالى: {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون} .
ولكنه ليس ذلك كل المقصود.
بل هناك مقاصد أخرى من أهمها ما يأتي.
المقصد الأول: أن الدين الإسلامي إنما
جاء باللغة العربية.
لقد جاء هذا الدين-أي دين الإسلام-عن
طريق القرآن الكريم والسنة النبوية، وكلاهما باللغة العربية ويتوقف فهمه
السليم الكامل على فهم اللغة التي حملته إلى الناس، وهي اللغة العربية، ولا
يمكن أن يَنقُل للناس معاني دين الإسلام نقلا صحيحا ويبينها بيانا شافيا، إلا
مَن كان عنده دراية تامة باللغة العربية، بقواعدها وبلاغتها واشتقاقها
وغريبها وحقيقتها ومجا زها وأساليبها، لأنها لسان هذا الدين ولسان كتابه
ولسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولسان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وهذا لسان عربيٌ مبين}. وقد كلف الله رسوله صلى الله عليه وسلم بيانَ هذا
الدين للناس، وقد فعل ذلك، وبيانه كان بلغته التي نزل بها القرآن قال تعالى:
{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} .
وقال تعالى: {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى
ورحمة لقوم يؤمنون} .
وقد كلف الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي آمنت به واتبعته، تبليغَ هذا
الدين، وفي طليعة أمته أصحابه الكرام رضي الله عنهم، كما قال تعالى: {قل هذه
سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} .
وقد قاموا بنشر هذا الدين وبيانه للناس بلسان عربي مبين.
وترجمة معاني القرآن الكريم لمن لا يفهم اللغة العربية، لا سبيل إليها إلا
لمن يجيد اللغة العربية واللغة المترجم إليها، فاللغة العربية هي أساس البيان
لهذا الدين الذي نزل بها.
المقصد الثاني: أن من أهم وسائل نشر
الإسلام اللغة العربية.
إن علماء الإسلام مأمورون باتخاذ كل
وسيلة مشروعة لنشر هذا الدين وإبلاغ معانيه إلى الناس، ومن أهم وسائل نشره
تعليم الناس اللغة العربية التي يتمكن مَنْ تعلمها من فهم هذا الدين فهما
صحيحا سريعا.
المقصد الثالث: أن كثيرا من العبادات
يجب أداؤها باللغة العربية.
مثل قراءة الفاتحة في الصلاة، وأذكار
الصلاة كتكبيرة الإحرام وأذكار الركوع والسجود والتشهد، ونحوها من فروض العين
التي يجب على المسلم أداؤها باللغة العربية ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ليتقرب
بها إلى الله تعالى.
المقصد الرابع: لا بد من وجود علماء
يفقهون الإسلام باللغة الغربية.
إنه لا بد من وجود علماء يجيدون اللغة
العربية، إجادة تجعلهم قادرين على فهم معاني القرآن والسنة وكتب العلم التي
يحتاج إليها المسلمون، ليكونوا مرجعا لأهل كل بلد يعلمون الناس معاني القرآن
الكريم والسيرة النبوية وغيرها، فإن وجود علماء باللغة العربية تحصل بهم
الكفاية في ذلك وغيره، هو فرض كفاية يأثم كل قادر من الأمة على عدم إيجادهم،
ويأثم القادرون على تعلم اللغة العربية للقيام بهذا الفرض إذا لم يتعلموها.
المقصد الخامس لا بد من وجود قادرين
على ترجمة معاني الإسلام.
وهذا المقصد لا يحصل إلا بوجود علماء
يجيدون اللغة العربية ويجيدون لغة البلد الذي يريدون دعوة أهله إلى الإسلام،
ليترجموا لأهله معاني القرآن الكريم والسنة النبوية، وما يجب إبلاغه إلى
الناس من أحكام هذا الدين، لأن علماء الإسلام مأمورون بالبلاغ المبين الذي
أصبح من واجبهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس من السهولة بمكان
أن يتعلم كل الناس اللغة العربية.
ترجمة معاني الإسلام إلى اللغات
الأخرى.
هذا وليعلم أن تبليغ الناس معاني
الإسلام وأحكامه بالترجمة إلى لغات أخرى غير اللغة العربية، أمر تقتضيه
الضرورة، إذ أنه مهما أوتي المترجم من إتقان للغة العربية واللغات الأخرى
التي يترجم بها معاني الإسلام، لا يمكنه أن يستوعب ما تحويه اللغة العربية من
معان إلى اللغات الأخرى، ولذلك يجب على المسلمين أن يهتموا بتعليم اللغة
العربية ونشرها بكافة الوسائل المتاحة، كالمدارس والمعاهد والجامعات والكتب
وإعداد المعلمين وتدريبهم، والمنح الدراسية في البلدان العربية لغير العرب،
وكذلك استغلال أجهزة الإعلام كالمذياع والتلفاز والفيديو والكاسيت وغيرها،
لتعليم الناس-وبخاصة المسلمين-لغة القرآن ليصلوا إلى فهم هذا الدين فهما
مباشرا بلغته التي جاء بها.
وإني أشبه من يجيد اللغة العربية ويفهم دينه من القرآن والسنة وكتب العلم بها
مباشرة، برجل اشتد عطشه فرأى عينا جارية تنبع من صخرة في قمة جبل وهو في
أسفله، فشمر صاعدا حتى وصل إلى نبع الماء واستقى منه عذبا زلالا صافيا.
وأشبه من وصلت إليه معاني الإسلام بالترجمة، برجل آخر اشتد عطشه، وهو مصاب
بالكسل، وقف في أسفل الجبل ينتظر وصول الماء إليه ليشرب منه وهو في مكانه،
فوصل إليه الماء وقد مر بالتراب والقاذورات التي كدرته فأخذ يشرب منه وهو
بتلك الحالة.
وإن الأمة الإسلامية لجديرة بالاهتمام بلغتها ونشرها بالوسائل المتاحة، لتصل
إلى الناس في هذا الكوكب الأرضي، فهي لغة دين لم يعد في الأرض دين حق سواه،
وهو الذي حفظ لها هذه اللغة من الضياع، لحفظ الله تعالى هذا الدين بحفظ كتابه
الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له
لحافظون} .
انتشار لغة الأمة من علامات قوتها.
وإن انتشار لغة أي أمة لهو دليل
عظمتها وتفوقها، وبلغتها تستطيع أن تسبق بدينها وفكرها وسياستها واقتصادها
وسائر علومها، غيرَها من الأمم إلى عقول الناس.
وهذا ما تحقق للأمة الإسلامية أيام مجدها، حيث انتشرت لغة دينها انتشار
مساجدها ومعاهدها ودعاتها، ونبغ في اللغة العربية أئمة من غير العرب فملئوا
بعلمهم الآفاق من حدود الصين شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا.
وكانت الأمم تتسابق إلى علوم المسلمين في كل مجال من مجالات الحياة، كما نقل
المسلمون علوم الأمم الأخرى إلى لغتهم، واستفادوا منها وطبقوها عمليا وزادوا
عليها، وعلى أيديهم تعلم الأوربيون أسس حضارتهم التي يفخرون بها اليوم.
وإن مما يؤسف له أن تنحدر الأمة الإسلامية انحدارا مروعا، في دينها وخلقها
وسياستها واقتصادها وأمنها ووحدتها وقوتها العسكرية، مما كان له أثره البالغ
على لغتها التي لم تعد لها مكانتها في العالم، بل أصبحت في مؤخرة اللغات،
وأصبحت لغات الأجانب من النصارى وغيرهم هي لغات العلم والثقافة والفكر في
العالم وأصبح المسلمون-والعرب منهم بصفة خاصة-يفتخرون باللغات الأجنبية
ويتكالبون على أفكار أهلها وآدابهم ويتأثرون بهم، فأصبح السبق للأجانب
ولغاتهم وأفكارهم إلى عقول أبناء الأمة الإسلامية بدلا من أن تسبق الأمة
الإسلامية بلغتها ودينها وفكرها إلى عقول أبناء الأمم الأخرى
[1] .
وها هي أمم الغرب تنشر لغتها في كل مكان، عن طريق مناهج التعليم والإعلام
والبحث العلمي والأدوات المتنوعة والمواصلات والاتصالات، حتى ليكاد المسلم
العربي يكون غريبا بلغته في بلاده، يقتني الجهاز الذي يحتاج إليه فلا يستطيع
استخدامه لأن الكتب الإرشادية المتعلقة باستخدامه قد أعدت باللغات الأجنبية.
وهكذا الدواء والغذاء وغيرها، وهكذا الفنادق والشركات والمستشفيات، بل إن بعض
البلدان العربية ما زالت معاملاتها الرسمية باللغة الأجنبية!
وإنما هانت اللغة العربية عند أهلها، لهوان الدين في نفوسهم وضعف فقههم له،
ولو كان الدين قويا في نفوسهم مطبقا في حياتهم، لعرفوا للغته حقها وقدروها حق
قدرها، وسابقوا غيرهم بدينهم الحق بلغته إلى عقول الناس في الأرض كلها.
إن ترجمة معاني الإسلام من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى لإبلاغ أهل تلك
اللغات هذا الدين، هي فريضة كفائية، ولكن أنى لأهل تلك اللغات أن يفهموا
حقائق هذا الدين كاملة عن طريق ترجمته وليس عن طريق اللغة العربية مباشرة؟!
ولقد بذل علماء الإسلام من سلفنا الصالح، جهودا مضنية لإبلاغ حقائق الإسلام
إلى عقول الناس عربا وعجما، بما وضعوه من قواعد اللغة العربية من نحو وصرف
واشتقاق وغيرها، وبما وضعوه من قواعد شرعية تضبط بها مقاصد الشريعة وأحكامها،
من أصول الفقه وقواعده، فبينوا النص والظاهر والمجمل والمبين والمقيد والمطلق
والخاص والعام، وما وضعوه من مصطلحات في علوم الحديث وعلوم التفسير، فكانوا
بذلك أعظم أمة اتخذت وسائل لغوية وشرعية لتسبق بالحق الذي آتاها الله باطلَ
الأمم الأخرى إلى عقول الناس.هذا بالإضافة إلى بذل جهودهم في مجالات التعليم
والدعوة والجهاد في سبيل الله.
الوسيلة السابعة: القدوة الحسنة.
إن من أهم وسائل السباق إلى العقول،
القدوة الحسنة التي يراها الناس ويلمسونها في صاحب الحق، بحيث يرون صاحب
المبدأ يطبق مبدأه في واقع حياته وتصرفاته، فإذا كان المقام يحتاج منه إلى
الكرم أقدم إلى البذل والعطاء، وإذا كان المقام يحتاج منه إلى خلق الشجاعة
رآه الناس مقداما غير هياب، وإن اختبروه في صفة الصدق لم يجربوا عليه كذبا،
وإن التمسوا عدالته لم يجدوا منه ظلما، وإن أرادوا معرفة تقواه ألفَوه يدع ما
لا بأس به خشية من الوقوع فيما به بأس، لشدة تحرجه من الوقوع في المأثم، فضلا
عن إتيانه الأوامر الواجبة وتركه المحرمات.
والخلاصة أنه يتحرك في نشاطه كله بالقرآن والسنة، فإذا رآه الناس مداوما على
ذلك مالوا إلى الاقتداء به ولو لم يتكلم، لأن الحق بذاته يدعو الناس إلى
ذاته، فكيف إذا رأوه مطبقا في حياة أهله ورأوا ثمار تطبيقه في الحياة؟ ويبدأ
المعاند المناوئ للحق يفكر في سيرة صاحب الحق ويتدبر ويقارن بين الحق الذي
يراه مطبقا في حياة صاحبه، وبين الباطل الذي يزاوله هو، ويترتب على ذلك أحد
أمرين.
الأمر الأول:
اتباع الحق والعمل به، ونبذ الباطل.
الأمر الثاني:
الإصرار على الباطل، مع تيقنه أنه باطل، وترك الحق مع تيقنه أنه حق، وفائدة
ذلك انكسار نفس صاحب الباطل أمام صولة الحق، وإقامة الحجة العملية عليه.
أما إذا كان الداعي إلى الحق لم يلتزم هو نفسه به ولم يطبقه في حياته، فإن
الناس ينصرفون عنه ولا يشغلون عقولهم بالتفكير فيما يدعو إليه، لمعرفة كونه
حقا فيُتَّبَع أو باطلا فيُجتَنَب.
وهذه هي القدوة السيئة التي تُنَفِّر من المبدأ وإن كان حقا، كما هي عادة
غالب الناس، وقد يوجد من يفكر في المبدأ الذي لا يكون الداعي إليه قدوة حسنة
في تطبيقه، فيعلم أنه حق ويتبعه، ولكن ذلك ليس من وسائل السباق الناجعة إلى
العقول.
لهذا كان للقدوة الحسنة منزلتها في الإسلام. وكان رسل الله وأنبياؤه والداعون
إلى هداه، كلهم قدوة حسنة، وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقتدي
بمن سبقه من إخوانه المرسلين، فقال تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم
اقتده} .
وأرشد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، إلى الاقتداء بنبيه إبراهيم عليه السلام
ومن معه، فقال تعالى: {قد كانت لكم حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا
لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله} .
وقال تعالى: {لقد لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} .
وحث تعالى هذه الأمة حثا مؤكدا على الاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم الذي
جمع كل قدوة حسنة سبقه الأنبياء وزاده الله من فضله، فقال تعالى: {لقد كان
لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}
.
ولقد كانت الأمة الإسلامية في ماضي عهدها، قدوة حسنة في إيمانها وفي عبادتها
ومعاملاتها وسلوكها، وفي عهودها ومواثيقها وفي الأخذ بأسباب القوة والعزة،
فكان ذلك سببا في سرعة وصول الحق الذي يحملونه إلى عقول الأمم في مشارق الأرض
ومغاربها، فسارع الناس إلى الاقتداء بهم واتباع دينهم، حتى ترك أهل الديانات
الأخرى دياناتهم، ووقف رعايا الطغاة ضد طغاتهم إيثارا للحق على الباطل،
ونصرةً لأهل الحق على أهل الباطل، فوصل الإسلام إلى لشبونة وفينا وبلغراد
وموسكو وبلاد الصين والفلبين وإندونيسيا وإفريقيا، بدون قتال في غالب تلك
البلدان، لأن القدوة الحسنة تجعل اتباع الحق سهلا ميسرا لرؤيته مطبقا في واقع
الحياة، يطبقه البشر.
وذلك على عكس ما عليه الأمة الإسلامية اليوم، حيث يغلب عليها القدوة السيئة
التي جعلت الأمم تنفر منها ومن دينها، وجعلت أعداء الإسلام يستغلون تلك
القدوة السيئة، فيبرزونها في مؤتمراتهم وندواتهم ومناهج تعليمهم وإعلامهم وفي
كل مناسبة تسنح لهم.
يسمع الناس أن الإسلام يدعو إلى الصدق، ولكنهم يرون في كثير من المسلمين
الكذب.
ويسمعون أن الإسلام دين القوة والعزة، ولكنهم لا يرون في المسلمين الا الضعف
والذلة.
ويسمعون أن الدين الإسلامي يدعو إلى الجماعة والوحدة وأن الأمة الإسلامية أمة
واحدة، ولكنهم يرون المسلمين متفرقين مختلفين، يسب بعضهم بعضا، ويعتدي بعضهم
على بعض، ويقتل بعضهم بعضا. ويسمعون أن الإسلام دين الرحمة وأن المسلمين
رحماء فيما بينهم، ولكنهم لا يجدون في كثير من المسلمين إلا القسوة والعنف
يأكل القوي منهم الضعيف. ويسمعون أن الإسلام دين العدل، ولكنهم يرون الظلم
بين المسلمين هو السائد.
ويسمعون أن الإسلام يدعو إلى الشجاعة، ولكنهم يرون المسلمين جبناء تضيع
حقوقهم وتغتصب بلادهم من قبل عدوهم القليل فيستسلمون له ويخضعون وهم كثر.
فكان ذلك سببا في نفور الناس عن هذا الدين الذي صار أهله قدوة سيئة فيه.
وأقول-إنصافا للحق-: إنه يوجد في المسلمين من هو قدوة حسنة ولكن ليس على
مستوى الأمة.
والقدوة الحسنة عندما تكون على مستوى الأمة، تبرز معاني الإسلام في السياسة
والحكم والاقتصاد والسلوك والنواحي الاجتماعية والعسكرية والقوة الصناعية
وغيرها.
أما ما يكون على مستوى الأفراد والأسر وبعض الجماعات الصغيرة، فإنه قدوة
حسنة، ولكنه محدودة غير بارز للعالم الذي لا يطلع إلا على ما تبرزه وسائل
الإعلام وإمكانات الدول.
والذي يراه الناس الآن في المسلمين هو الإسراف في المحرمات ومحاربة أغلب
حكوماتهم للإسلام والدعاة إليه، والتأخر في الشؤون الإدارية والاقتصادية، مع
كثرة الخيرات في بلدانهم وسعة أراضيهم، كما يرون تقتيل أعدائهم لهم وإخراجهم
من ديارهم، وهدم مساجدهم وانتهاك أعراضهم، وهم سادرون في غيهم يرقصون ويغنون
ويمثلون ويتعرون، يقضي في أمورهم غيْرُهم، وكأنهم غير موجودين على ظهر الأرض:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود
فأين هي القدوة الحسنة فيهم، حتى يكونوا من السباقين بالحق إلى العقول،
وعقولهم مأوى للباطل؟!
---------------
[1]- ليس المراد هنا التنفير من تعلم اللغات الأجنبية
للاستفادة منها في العلوم المحتاج إليها وفي دعوة أهل تلك اللغات بها إلى
الإسلام فهذا من فروض الكفاية في الإسلام، وإنما المراد المبالغة في تقديس
تلك اللغات ونسيان اللغة العربية لغة الإسلام.