الوسيلة الخامسة عشرة: المال.
وهذه الوسيلة هي الوسيلة المادية
الأساسية التي تحرك معظم الوسائل، وبدونها تنحصر الوسائل الأخرى في زوايا
ضيقة وقد يفقد كثير منها لفقد هذه الوسيلة، ولهذا كان شأن المال عظيما في
الجهاد في سبيل الله، الجهاد الشرعي الشامل لكل نشاط يقوم به الإنسان في
مرضاة الله، ومنه قتال أعداء الإسلام المشروع.
فالجهاد بالمال قرين الجهاد بالنفس ومقدم عليه في الذكر في القرآن الكريم،
إلا في موضع واحد، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة
تنجيكم من عذاب أليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم
وأنفسكم}.
وقال تعالى: {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم
أعظم درجة عند الله وألئك هم الفائزون} . وغيرها كثير.
وقال تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}.
والسباق إلى العقول بالحق، نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله بمعناه الشامل
وتدخل فيه جميع الوسائل السابقة، والمال من أهم وسائل القيام بها.
فالتعليم يحتاج إلى معلم مكفِّيٍّ في رزقه، وكفايته في المال، والتعليم يحتاج
إلى مشرف ومدير مؤمَّن الرزق، وتأمينه في المال.
والتعليم يحتاج إلى مناهج وكتب، وهذه تقوم بها لجان واللجان تحتاج إلى المال،
والكتب تحتاج إلى طباعة والطباعة لا تتيسر إلا بالمال، وهكذا جميع وسائل
التعليم لا تحصل بدون مال.
والمساجد تحتاج إلى أرض وبناء وأئمة ومؤذنين ومدرسين ولوازم أخرى كثيرة،
وبخاصة إذا كان المسجد مجمّعا شاملا لنشاطات كثيرة، تعليمية ودعوية واجتماعية
وثقافية وصحية وغيرها، وكلها لا تقوم إلا بالمال.
والإعلام، وقد عظم خطره في هذا العصر وتشعبت أنواعه، وهيمن على الكرة
الأرضية، وأصبح يكوِّن عقول الناس بالقراءة والسماع والمشاهدة، بمواد يصعب
إحصاؤها، ودعامته المادية الأساسية هي المال، وبه يستطيع المسلمون أن يوجدوا
الرجال الإعلاميين والفنيين والعلماء الشرعيين والمؤلفين، والأدوات من راديو
وتلفاز وجرائد ومجلات وأقمار صناعية ومسجلات وشرائط كاسيت وفيديو، ويغطون كل
العالم بإبلاغ الحق إلى عقول الناس، وكيف يمكن ذلك بدون مال؟!.
والمؤتمرات والندوات تحتاج إلى رجال متخصصين وكتاب وعلماء ومفكرين يدعون
لحضورها، وهم يحتاجون إلى نفقات تنقل وسكن وإعاشة، وكلها لا بد لها من المال،
وتحتاج إلى لجان إدارية وفنية وإعلامية، وكلها لا بد لها من المال.
والنوادي بأنواعها قوامها-بعد الرجال-المال، وهكذا الرحلات والمخيمات
والاتصالات كلها لا بد لها من المال.
وهكذا قوافل الدعاة التي يجب أن تنتشر في الأرض لإبلاغ الحق إلى عقول الناس،
لا قدرة لها إلا بالمال.
ومن هنا نعلم عظم وسيلة المال في السباق إلى العقول.
مسؤولية الموسرين في السباق إلى
العقول.
ومن هنا يجب أن يعلم الأغنياء
والموسرون عظم مسئوليتهم أمام الله في السباق إلى العقول بالحق، فأكثر
الأغنياء لا قدرة عندهم على أن يباشروا بأنفسهم العمل في هذا الميدان، إما
لعدم العلم الذي به يسابقون إلى العقول، وإما لضيق أوقاتهم ومشاغلهم الكثيرة
في جمع المال وحفظه وتصريفه، ولكنهم قادرون على تحريك كل قادر على الإسهام في
هذا الميدان بكل الوسائل السابقة.
وإذا كان الواجب على العالم أن يبين بعلمه الحق للناس ويسبق به أهل الباطل
إلى العقول، وإذا كان الواجب على المعلم أن يجتهد في تعليم النشء العلوم
الإسلامية وما يخدمها، وإذا كان الواجب على الإعلامي أن يوصل الحق إلى عقول
الناس في تخصصه، وإذا كان الواجب على القادر على التأليف أن يعكف على الكتابة
ويخرج للناس الحق في كتب ونشرات، وإذا كان الواجب على المهندس أن يصنع
الميكرفون واللاقط والراديو والمسجل والكاسيت، لنقل الحق إلى عقول الناس، فإن
الواجب على الغني أن يمول كل أولئك وتخصصاتهم مما رزقه الله.
وكل وسيلة للسباق بالحق إلى العقول، يتوقف استغلالها على المال، فإن إثم
العجز عن استغلالها يقع على أغنياء الأمة الإسلامية، وبخاصة ولاة الأمر فيها.
فكم من داعية يحترق قلبه يرغب في التنقل وإبلاغ الحق والسبق به إلى العقول
أقعده عدم المال عن بغيته؟
وكم معلم كفء قادر على تعليم أبناء الأمة الإسلامية ما ينفعهم ويوصل الحق إلى
عقولهم، عجز عن وظيفته بسبب حاجته وكده لجمع رزقه ورزق أهله، ولم يجد من ينفق
عليه ليتفرغ للتعليم؟.
وكم كاتب عنده من الأفكار ما يحمي به عقول أبناء المسلمين من الباطل ويوصل به
الحق إلى تلك العقول، لم يجد صحيفة تنشر له أفكاره؟
وكم مؤلف تكدست عنده الكراريس النافعة المفيدة لم يجد من ينشر له كتبه؟
وكم قرية أو مدينة أو حارة احتاج أهلها إلى إقامة مسجد أو وجود إمام كفء
متفرغ، لم يتح لهم ذلك بسبب عدم وجود المال؟
وكم بلد يمكن أن تتخذ فيها وسائل إعلام لنشر الحق والرد على الباطل، لم يحظ
أهله بذلك للعجز المالي؟
وكم من الناس يتيه في ضلال الكفر وسيئ الأخلاق، لم يجد من يهديه إلى الإسلام
ومكارم الأخلاق، ولو وجد المال لوجد الهادي؟
إن غنيا واحدا من أغنياء المسلمين، قادر على إنشاء جامعات وتمويلها، وإن غنيا
آخر، قادر على إنشاء إذاعة أو إذاعات وتمويلها، وإن غنيا واحدا قادر على
إنشاء محطة فضائية أو محطات للبث التلفزيوني.
وإن غنيا واحدا قادر على إنشاء عدد من الجوامع والمساجد والإنفاق عليها.
وإن غنيا واحدا قادر على إيجاد مطبعة أو مطابع لنشر الكتب والعلم والفكر.
وإن غنيا واحدا قادر على إنشاء دار أو دور للترجمة وتولي الإنفاق عليها.
وإن غنيا واحدا قادر على كفالة عدد من الدعاة في أقطار العالم، وعلى الإنفاق
على قوافل منهم تجوب الأرض لإبلاغ الحق إلى عقول الناس.
وإن غنيا واحدا قادر على كفالة عدد من الطلبة المسلمين لإكمال دراساتهم في
مجالات متنوعة من التخصصات.
وإن غنيا واحدا قادر على إيجاد وسائل مواصلات، في البر أو البحر أو الجو
للدعوة إلى الله ومنافسة أعداء الله من المنصرين.
وإن غنيا واحدا قادر على إيجاد ملاجئ لأيتام المسلمين، الذين نزلت بهم نوازل
العدوان والحروب والمجاعات والكوارث، فتسابق إلى إيوائهم وملء عقولهم بالباطل
أهل الباطل من اليهود والنصارى والملحدين، ولو بذل الغني المسلم من ماله ما
يوفر لهم الملجأ والطعام والشراب، والدواء والمدرس، لصان بذلك عقولهم من
الباطل وملأها بالحق.
فكيف لو اجتمع أغنياء المسلمين ونسقوا فيما بينهم، وأسندوا وضع أهداف السباق
إلى العقول وخططها ووسائلها إلى أهل العلم والدعوة والفكر والخبرة، ثم شرعوا
في بذل الأموال واستثمارها وتحبيسها على مصالح المسلمين التي تحقق تلك
الأهداف والخطط والوسائل.
أولويات ينبغي لذوي اليسار معرفتها
للعمل الإسلامي.
وينبغي أن يعرف أغنياء الأمة
الإسلامية وحكامها أولويات الأعمال الإسلامية، حتى يهتموا بالأولى فالأولى
منها، لما في فواتها من فوات مصالح عظيمة، وحصول مفاسد مهلكة، ونلخص ذلك في
الأمور الآتية:
الأمر الأول:
أنه يوجد كثير من أهل اليسار يحبون الخير ويحاولون بذل شئ من أموالهم في
الأعمال الخيرية، ولكن ينقصهم معرفة الأولويات، ولذلك قد يقدمون الحاجي على
الضروري والتحسيني على الحاجي. والواجب أن يدرسوا الميادين الخيرية ويقدموا
الأهم على ما سواه.
الأمر الثاني:
أن كثيرا من الأغنياء تخدعهم
المشروعات الجماهيرية، والدعايات والصور وإحسان عرض المشروعات، بأهداف وخطط
ووسائل ووساطات، وقد يكون كثير ممن يتقنون ذلك العرض مبالغين في مشروعاتهم،
وقد يكون بعضهم مرتزقة ومتكسبين بأعمال خيرية وهمية، والواجب التريث والتبين
بالطرق الممكنة من صدق أولئك، وحبذا لو أوفد المحسنُ مَن يتعرف له على
المشروعات المدعاة بطريقة خاصة.
الأمر الثالث:
أن بعض الأغنياء يربطون مساعداتهم
بفئة معينة، وقد توجد فئات غيرها أكثر نشاطا منها وأشمل نفعا وأصفى منهجا
وأعظم تأثيرا في الناس، كما أن بعض الأغنياء يتجهون إلى أعمال خيرية نافعة،
ولكنها يوجد منها ما فيه غنية، والحاجة داعية إلى أعمال خيرية غير موجودة أو
يوجد منها ما لا يكفي، فقد تجد من يكثر من بناء المساجد في أماكن تكثر فيها
المساجد، ولا يوجد من يصلي في بعضها، ويهملون بناء المدارس في تلك الأماكن
التي لا توجد بها مدارس، بل قد توجد مدارس غير إسلامية نصرانية أو غيرها تفسد
أبناء المسلمين في عقائدهم وأخلاقهم.
الأمر الرابع:
أن عدم وجود تنسيق بين المحسنين من الأغنياء، قد يجعل نشاطهم يتراكم في ميدان
واحد وفي بلد واحد أو في فئة معينة، وقد يكون ذلك الميدان أو البلد أو الفئة
جديرة بالاهتمام، ولكن ميادين أخرى وبلدانا أخرى وفئات أخرى محرومة من العون
والمساعدة، وهي لا تقل أهمية عن غيرها، ولو وجد تنسيق واتفاق لوصل الخير إلى
الجميع.
الأمر الخامس:
أن في الشريعة الإسلامية بابا من أبواب الخير جرب نفعه فترات طويلة من الزمن،
وقد كاد يندثر الآن بسبب وجود حكومات علمانية تحارب الإسلام وكل الوسائل التي
تدعم بقاءه وانتشاره، وقد قضت على ذلك الباب في كثير من بلدان المسلمين، ألا
وهو الوقف الذي يستمر نفعه ويعم في ميادين كثيرة، فلو اتجه الأغنياء إلى
إحياء هذا الباب وحبس كل غني أو عدد من الأغنياء بعض المرافق، كالبساتين
والعمارات والدكاكين على مشروع من المشروعات الخيرية، كمدرسة، أو مركز
إسلامي، أو جهاز إعلام إسلامي، أو مطبعة إسلامية، أو دار ترجمة أو دار نشر،
أو غيرها من الوسائل التي يتم بها السباق بالحق إلى العقول، لكان لذلك ثماره
العظيمة في هذا المجال، وقد يترك الواقف واستثماراته لهيئة يوثق بها علما
وأمانة ووعيا ومعرفة بمقاصد الشريعة الإسلامية لتنفق منه بحسب ما ترى من
المصلحة بعد دراسة وتثبيت.
وإذا رؤي أن مؤسسة ما من المؤسسات تستحق أن يوقف شئ على نشاطها المفيد نفذ
ذلك.
وهذا خير من ترك الأمور بدون تنظيم وترتيب، وإيجاد شئ ثابت ينفق منه عند
الحاجة، أولى من الإنفاق العشوائي الذي يكثر بسبب كثرة الطالبين للمساعدة في
مواسم معينة، قد يوجد من يستحق منهم وقد يوجد من لا يستحق.
ويمكن التغلب على محاربة أعداء الإسلام للأوقاف النافعة، باختيار بعض البلدان
الإسلامية التي يرجى أن تسلم الأوقاف فيها من اعتداء حكوماتها عليها لتستثمر
فيها، أو بعض البلدان غير الإسلامية التي فيها نوع ضمان لمثل ذلك، وللحيل
الشرعية نفعها في هذا الباب.
الأمر السادس:
ينبغي لأغنياء المسلمين عندما يسافرون إلى خارج بلدانهم سواء أكانت بلدانا
إسلامية أو غير إسلامية، أن يزوروا المراكز والمؤسسات والمدارس الإسلامية،
ويتفقدوها ويعرفوا مدى نشاطها وصلاح منهجها-إن كانوا قادرين على ذلك، وإلا
أخذوا معلومات عنها وعرضوها بعد رجوعهم على أهل العلم والخبرة بالمناهج،
ليرشدوهم إلى صلاح تلك المناهج أو عدم صلاحها-فإذا كانت صالحة قدموا لها
المساعدة المستطاعة ليستمر نفعها، وزيارة هذه المؤسسات أولى من الزيارات
السياحية المباحة-بله المكروهة أو المحرمة-ويمكنهم الجمع بين السياحتين
المباحة والمندوبة.
ولو أن التجار والأغنياء الذين يزورون كثيرا من البلدان في الخارج-أي في خارج
بلدانهم-تفقدوا المراكز والمدارس والمؤسسات الإسلامية ورأوا نشاطها وحاجتها
إلى المساعدة، لربما رقت قلوبهم وشعروا بأن من واجبهم مساعدة تلك المؤسسات
والأخذ بيدها، وخاصة المؤسسات الموجودة في البلدان غير الإسلامية التي تستفيد
منها الأقليات الإسلامية.
الأمر السابع:
أن كثيرا من أغنياء المسلمين لا يبذلون المال إلا في إغاثة المنكوبين من
المسلمين، إما بكوارث طبيعية كالفيضانات والزلازل والحروب، وما شابه ذلك، حيث
يرون المنكوبين وقد أخذ الجوع أو العطش أو المرض أو الجراح أو غيرها تحصدهم
حصدا، فيسرعون إلى إغاثتهم، وذلك أمر مطلوب بل فرض كفاية تأثم الأمة
الإسلامية إذا لم يوجد فيها من يقوم به قياما كافيا، ولكن أولئك الأغنياء
يغفلون عن مجالات الوقاية من الكوارث والنكبات قبل نزولها.
ومن أمثلة ذلك:
أن بعض الشعوب الإسلامية معرضة
للاعتداء عليها من قبل بعض الدول الكافرة، ويعرف الأغنياء المسلمون بما فيهم
بعض الحكام أن تلك الشعوب الإسلامية تحتاج إلى المال الذي يمكنها من الدفاع
عن نفسها إذا هجم عليها ذلك العدو، فلا تجد من يمدها بالمال المطلوب، حتى
ينفذ العدو عدوانه عليها، ويقضي على كل مؤسساتها الدينية والتعليمية
والاقتصادية وغيرها، فيهدم بيوتها ويقتل رجالها ويرمل نساءها وييتم أطفالها
الذين يشردون في العراء جوعى عطشى جرحى مرضى، وعند ذلك يبذل الأغنياء بعضا من
أموالهم، لإنقاذ حياة بعض من نزلت بهم النكبة، واحتل العدو ديارهم ونهب
أموالهم وسبى ذراريهم.
ولو أنهم-الأغنياء-جادوا ببعض أموالهم تلك قبل الاعتداء لكان في ذلك وقاية من
الاعتداء قبل وقوعه، فهل يعي الأغنياء هذا الأمر؟!
الوسيلة السادسة عشرة: سباق المواقع.
أي أن يقوم كل شخص من المسلمين
القادرين على السباق بالحق إلى العقول من موقعه الذي هو فيه بهذا السباق.
وليس لقادر عذر في ترك القيام بهذه الوسيلة، لأنه لا يكلف الانتقال بالسباق
إلى موقع آخر، حتى يعتذر بالوقت أو بالمال أو غير ذلك، فالمطلوب منه أن يتخذ
الوسائل الممكنة للسباق بالحق إلى العقول في محيطه الذي هو فيه.
فرب الأسرة أو أي عضو من أعضائها، عليه أن يحصن عقول أفراد أسرته من الباطل،
ويوصل إليها الحق في محيط أسرته وأقاربه، والجار عليه أن يفعل ذلك مع
جيرانه-من أمكن منهم-والمدرس مع زملائه المدرسين وطلابه، والطالب مع زملائه،
ويمكن أن يفعل ذلك مع أساتذته بالحكمة والأدب والأسلوب المناسب.
والمدير يفعل ذلك مع موظفيه الصغار والكبار.
والموظف يفعل ذلك مع زملائه وخدمه.
والطبيب يفعل ذلك مع مرضاه ومراجعيه وزملائه، والمهندس يفعل ذلك مع زملائه
وعماله، ورئيس المصنع يفعل ذلك مع موظفيه وعماله، وهكذا كل موظف مع زملائه
ومن هم تحت إدارته.
والوزير في وزارته من أعلاها إلى أسفلها، ورئيس الدولة مع من هم تحت يده،
والقادرون على فعل ذلك مع رئيس الدولة يفعلون ذلك معه.
وفرق الرياضة فيما بينهم ومع الفرق الأخرى المشاركة لهم في رياضتهم، ومسؤولو
النوادي مع من هم تحت يدهم، وكل عضو يفعل ذلك مع العضو الآخر. وهكذا الخبراء
في مجال خبراتهم.
فخبراء المناهج يراعون في وضع المناهج هدف السباق إلى العقول بالحق وصيانتها
من الباطل.
ومؤلفو الكتب الدراسية يضعون ذلك الهدف في تأليف كتبهم.
وهكذا لا يبقى أحد قادر على السباق إلى العقول بالحق إلا أمكنه القيام بذلك
في موقعه.
وقد تتعدد المواقع للشخص الواحد، كأن يكون رب أسرة وإمام مسجد، أو مدير
مدرسة، أو رئيس شركة، أو قائد كتيبة، أو ضابط عادي أو جندي أو غير ذلك.
وقد يكون موقع الشخص واسعا، كرئيس الدولة المسؤول عن رعيته كلها، فهو قادر
بما مكنه الله من المسؤولية الأولى، أن يأمر وأن يعين المأمور بما يحتاج
إليه، وأن يعين من يتابع الأمر حتى ينفذ، وأن يكوِّن اللجان التي تبلغه بما
يوجد من باطل قد غرس في العقول أو يراد غرسه، فيتخذ التدابير اللازمة في أي
مرفق لصيانة العقول وتصفيتها مما علق بها، وبالحق المفقود الذي يجب أن يصل
إلى العقول فيتخذ التدابير اللازمة لإبلاغ ذلك الحق إلى العقول.
وهو كذلك مسؤول عن إبلاغ الحق إلى من أمكنه إبلاغه إليه من غير رعيته،
للعلاقات الواسعة مع البلدان الأخرى، وبما عنده من إمكانات الاتصال برؤساء
الدول الأخرى اتصالا شخصيا، أو عن طريق أي وسيلة من وسائل الاتصال، وبما عنده
من وسائل الإعلام التي يمكن أن تصل إلى شعوب كثيرة مجاورة وغير مجاورة، عن
طريق الإذاعة والتلفاز والأقمار الصناعية وغيرها.
إن وسيلة المواقع وسيلة واسعة إذا نظرنا إليها هذه النظرة الشاملة، بحيث يقوم
كل فرد وكل شركة أو مؤسسة، بالسباق بالحق إلى العقول من مواقعهم، فما من صاحب
حق قادر على السباق به إلى العقول إلا كان في موقع أو مواقع .
وليعلم صاحب كل موقع قادر على صيانة عقول من هم في موقعه من الباطل أو إبلاغ
الحق إليها، ثم لم يفعل ولم يقم بذلك غيره قياما كافيا، أنه آثم سيسأله الله
عن ذلك يوم لقائه.
وهذه الوسيلة جديرة بأن تسمى دعوة المواقع أو سباق المواقع.
وبهذا ينتهي الكلام على القسم الأول من وسائل السباق إلى العقول بالحق وهو
الوسائل السلمية .
الوسيلة السابعة عشرة: الجهاد العسكري.
كل الوسائل الماضية وغيرها تشملها
كلمة الجهاد في سبيل الله لأن الجهاد قسمان: قسم معنوي، وقسم مادي، فالوسائل
الماضية من قسم الجهاد المعنوي، والجهاد المادي هو الجهاد القتالي الشامل
لإعداد الرجال والعتاد، ومقارعة طغاة الباطل الذين يصدون عن سبيل الله بالسيف
والصاروخ.
والجهاد العسكري ليس وسيلة للسباق إلى العقول بالحق بالإكراه، فلا إكراه في
الدين، ولو أن أحدا أكره أحدا على أن يصرح بأنه مؤمن بدينٍ مَّا من الأديان،
وقلبه غير مؤمن به في الواقع، لما كان للإكراه معنى إلا العدوان.
وإنما الجهاد وسيلة لتحطيم السدود وإزالة العقبات التي تقف في طريق إبلاغ
الحق إلى عقول الناس.
فإذا ما تمكن أهل الحق من إبلاغ الحق إلى عقول الناس، وتمكن الناس من سماع
الحق دون عقبات، فلا سبيل بعد ذلك إلى إكراه أحد ممن بلغه الحق على اعتقاده،
بل إن شاء قبله وإن شاء رفضه وحسابه على الله.
لكن لما كان أعداء الحق من الطغاة يضيقون بالحق، ولا يأذنون لأهله بأن يبلغوه
للناس، بل يحاربونه ويحاربونهم، ويمنعون الناس من سماع الحق، ليختاروا
الإيمان به أو رفضه، وفي نفس الوقت يتخذون كل وسيلة للسباق بالباطل إلى عقول
الناس. فإن الله تعالى شرع لأهل الحق أن يجاهدوا أولئك الطغاة بالحديد،
ليتمكن أهل الحق من تبليغ الحق، ويتمكن الناس من سماعه.
وقد دل التاريخ والقرآن والواقع، أنه لا غنى لأهل الحق عن اتخاذ وسيلة الجهاد
العسكري، لصيانة عقول الناس من الإكراه على اعتقاد الباطل، وليتمكن أهل الحق
من إبلاغ الحق إلى عقول الناس دون إكراه على اعتقاده.
وما نشاهده في هذا العصر من محاربة الإسلام والدعاة إليه، بل من الاعتداء على
المسلمين، لإجبارهم على التخلي عن دينهم والدخول في الأديان الوثنية
والنصرانية، كما هو الحال في الهند والبوسنة والهرسك، وما يحصل في بعض
البلدان الإسلامية، من حكوماتها العلمانية التي تُظهِر-ولا تخفي-حربَها لدعاة
تطبيق الشريعة الإسلامية، كل ذلك يدل دلالة واضحة أن هذه الوسيلة هي أنجع
الوسائل-بعد أن أخفقت وسائل كثيرة من الوسائل المعنوية في رد أعداء الإسلام
إلى صوابهم-في إتاحة الفرصة للحق، ليصل إلى عقول الناس، ولصيانة تلك العقول
من الباطل.
قيض الله للمسلمين من يقودهم بالجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، والله
غالب على أمره.
وتحطيم الحواجز التي يضعها الطغاة في طريق أهل الحق، لإبلاغه إلى عقول الناس
أمر مشروع، لأن إبلاغ الحق إلى تلك العقول مشروع ولا يمكن أن يصل إليها إلا
بتحطيم تلك الحواجز، وتلك الحواجز هي الطغاة الذين يقفون ضد الحق بالقوة.
وهاهم أهل الباطل اليوم يتذرعون بما يدعونه من حقوق الإنسان، ليسقطوا دولا
يزعمون أنها تقف ضد حقوق الإنسان في شعوبها، ووصل الأمر بهم أن يعتبروا من
حقوق الإنسان عدم تطبيق الشريعة الإسلامية في أي بلد إسلامي، ولو كان غالب
أهل البلد ينادون بتطبيق الشريعة في بلدهم، بل ولو أجريت انتخابات حزبية
تعددية باسم الديمقراطية التي هم يزعمون تقديسها وعدها من حقوق الإنسان في
الشعوب، وفاز دعاة تطبيق الشريعة الإسلامية فوزا ساحقا، فإن أعداء الإسلام
ودعاة حقوق الإنسان ومقدسي الديمقراطية، يقفون بدون حياء بجانب فئة قليلة من
عبيدهم وأذنابهم العلمانيين، لسحق الأغلبية المسلمة من الشعب، لئلا يستقر
الحق ويعلو ويزهق الباطل ويزول.
وإذا كان هذا هو موقف أهل الباطل من أجل حمايته وحماية العقول من نفاذ الحق
إليها، فإن أهل الحق أولى بتحطيم سدود أهل الباطل-لا لإكراه الطغاة المردة
أنفسهم على اعتقاد الحق ولكن-لإيصال الحق الذي يحملونه إلى الناس، وليسمع
الناس دعوتهم إلى الحق وبيانه، ثم يقرروا-دون إكراه-اعتقادهم الحق أو عدم
اعتقاده.
ولنضرب مثالا يقرب هذا المعنى:
حارة شب فيها حريق، فجاءت نجدة
الإطفاء لإطفاء الحريق، وجاءت نجدة الإسعاف الطبي لنقل المصابين إلى
المستشفيات لمعالجتهم، فوجدت النجدتان رجالا مسلحين يحيطون بتلك الحارة التي
أصابها الحريق، يمنعون نجدة الإطفاء من إطفاء الحريق، ويمنعون نجدة الإسعاف
الطبي من إسعاف المصابين، ويمنعون أهل الحارة من الهرب منها لينجوا بأنفسهم
من الموت.
ألا يجب في هذه الحالة على الدولة أن تبعث فرقا من الشرطة أو الجيش، لطرد
المسلحين الظالمين الذي يحيطون بالحارة المحروقة، لإجبار أهلها على البقاء في
لهب النار ليحترقوا، ومنع من يريد إسعافهم من الوصول إليهم لإنقاذهم؟!
لا بد أن يكون جواب كل عاقل بالإيجاب.
وهكذا يجب أن يزال طغاة الباطل من طريق الحق، ليصل إلى عقول الناس، ومن طريق
الناس ليصل إليهم الحق.
فالباطل أشد خطرا من النار، والحق أكثر ضرورة من الإطفاء والإسعاف، والناس
الذين يحجر عليهم الطغاة ولا يأذنون لهم بسماع الحق وفهمه، أعظم حاجة إلى
إطلاق حريتهم من الذين شب الحريق في منازلهم، وأهل الحق أجدر بالوصول إلى
الناس من فرق الإغاثة المادية لإغاثتهم بالحق، وطغاة الباطل الذين يمنعون
وصول الحق إلى الناس أولى بالاستئصال من مانعي نجدة الإطفاء من الحرائق،
ونجدة إسعاف المصابين. فغاية ما يسببه الحريق هو تلف الأموال والنفوس في
الدنيا، والأموال تعوض والنفوس لها آجال لا بد منها، والنفس التي تموت وهي
مؤمنة ستنال الثواب الجزيل والفوز الدائم برضا الله وجنة الخلد.
أما البقاء في ضلال الكفر وظلما ته واتباع الباطل والبقاء في ظلماته، فإن
نهايته الشقاء والنكد في الدنيا، والوقوع في سخط الله والعذاب الدائم في نار
جهنم والعياذ بالله.