الوسيلة الرابعة: تخويف الناس من
الحق وأهله.
أهل الحق معروفون أنهم أرحم الناس
بالناس، لأن الحق الذي يحملونه ويدعون الناس إليه ويريدون تطبيقه في الأرض،
إنما جاء من عند الله والله هو أرحم الراحمين ودينه كله رحمة-وإن بدا أحيانا
في بعض أحكامه شيء من المشقة-فإنها في حقيقتها وغايتها وثمارها رحمة، ولكن
طغاة الباطل يصورون أهل الحق بأنهم مصدر قلق وشقاء، وأن لهم من وراء دعوتهم
مآرب تضر الأمة وتحرمها من أمنها واستقرارها في أرضها، ومن الخيرات التي
تنالها قبل انتصار أهل الحق، وأنهم سيقضون على مرافق الأمة ومقوماتها.
فقد حذر فرعون ملأه من موسى وما جاء به، كما قال الله تعالى عنه: {قال للملأ
حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون} .
وقال تعالى: {قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما
ويذهبا بطريقتكم المثلى، فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا، وقد أفلح اليوم من
استعلى} .
وقال تعالى: {قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من
أرضكم فماذا تأمرون} .
وهكذا تجد أعداء الحق الذين يقودون الناس بالباطل، يحذرون الناس من قيادة أهل
الحق، ويخوفونهم بأنهم سيعاملونهم بقسوة، ويغصبونهم حقوقهم، ويخرجونهم من
ديارهم، ويفقدونهم مناصبهم، ويزيدون في هذا العصر أنهم سيقضون على حرية
المرأة ويحرمونها حقوقها، وسيصبح كثير من الناس مقطعي الأيدي والأرجل، وستلهب
ظهورهم بالسياط، وستقطع رقابهم بالسيوف بسبب إقامة الحدود، كما أن
الاقتصاد-وهو هنا الاقتصاد الربوي-سينهار، وسيحرم الناس من تناول ما يرغبون
فيه من الملذات والشهوات، كشرب المسكرات وممارسة البغاء المرخص به قانونا،
حتى في بعض الشعوب الإسلامية التي يتولى شؤونها من يحاربون حكم الله ويطبقون
حكم الطاغوت.
بل بلغ الأمر بقادة الباطل من المنتسبين إلى الإسلام أن يحذروا قادة الباطل
من غير المسلمين، من انتصار دعاة الحق من المسلمين، بأنهم مثل السرطان سيقضون
على الحضارة الغربية، حتى يتم التعاون بينهم جميعا-أي بين قادة الباطل من
أبناء المسلمين وقادة الباطل من غير المسلمين-على القضاء على دعاة الحق
ومحاربته من الداخل ومن الخارج.
هذا مع علم أعداء الحق وطغاة الباطل أن كل ما يخوفون به الناس من انتصار الحق
ودعاته، ما هو إلا افتراء قصدوا به الحفاظ على بقائهم قادة للناس بباطلهم
الذي ذاق الناس في ظله كل ألوان الشقاء والتعاسة والذلة، ويعلمون أن قادة
الحق ودعاته لو تولوا شؤون الناس، لانكشف لهم ما لدى دعاة الحق من الخير
والسعادة في الدنيا والآخرة، وتبين لهم زيف دعاية قادة الطغيان الذين خدعوهم
بباطلهم وبالتنفير من الحق الذي حرموا الناس من العيش السعيد في ظله.
ومن أوضح الأمثلة في هذا العقد من القرن الخامس عشر الهجري، والقرن العشرين
الميلادي أن أعداء الإسلام في الغرب قد جعلوا من أسس حضارتهم، تطبيق ما
يسمونه بالديمقراطية، وتسخير مناهج تعليمهم وإعلامهم وسياستهم وعلومهم
الإنسانية والعسكرية وغيرها، للدعوة إلى تطبيق الديمقراطية في العالم،
ويزعمون بأنهم يعاملون الدول التي تستجيب لهذا التطبيق معاملة متميزة
بالإعانات الاقتصادية والعسكرية والصناعية والمالية.
ولكن الواقع أثبت أن دعوة دول الغرب إلى تطبيق الديمقراطية في العالم، مقيد
ومشروط بأن تكون نتائج الديمقراطية وجود حكومات علمانية متشددة ضد الإسلام
والمسلمين، في بلاد الإسلام والمسلمين، أما إذا أدت الديمقراطية إلى قيام
دولة إسلامية تحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن هذه
الديمقراطية مرفوضة، تجب محاربتها بكل الوسائل حتى لا يحكم الإسلام البلدان
الإسلامية، وهذا ما حصل في الجزائر عندما فاز الإسلاميون في الانتخابات
وكادوا يحكمون البلاد، مع أن الدولة الجزائرية ودول الغرب كلها والدول
العلمانية في الشعوب الإسلامية، تعاونت جميعا على عدم فوز الجماعات الإسلامية
في الجزائر، هذا كله كان قبل الانتخابات، أما بعد الانتخابات فقد جن جنون
أعداء الإسلام في الغرب وفي الشرق، ووقفوا كلهم صفا واحدا ضد النتائج
الديمقراطية التي يدعون إليها، وأصروا على نزول الدبابات وفتح السجون
والمعتقلات، لزعماء الجماعات الإسلامية ومن يؤيدهم من الشعب، وسفك دمائهم
وتعذيبهم وانتهاك أعراضهم ومطاردتهم وتشريدهم، وحجتهم في ذلك كله، الخوف من
تولي الإسلاميين الحكم، فإنهم إذا تولوا سيقصون غيرهم من مناصب الدولة وسيحرم
الشعب من التمتع بالحرية والخيرات، وهم يطبقون هذه الخطة، اقتداء بفرعون
وملئه عندما حذروا الناس من موسى وهارون، كما حكى الله تعالى ذلك عنهم في
قوله: {قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم، يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا
تأمرون} .
وغيرها من الآيات التي سبق ذكرها قريبا في هذه الوسيلة.
الوسيلة الخامسة: إغراء المؤيدين بالمناصب والأموال.
فالسحرة الذين جمعهم فرعون للاستعانة
بسحرهم على موسى، سألوا فرعون هل سينالون منه أجرا إذا هم غلبوا موسى؟
فأجابهم بالإيجاب وزادهم إغراءً، بأنهم سيكونون من ذوي القرب والحظوة منه،
وهذا ما يطمع فيه بائعو أنفسهم لذوي السلطان، قال تعالى: {فلما جاء السحرة
قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين، قال نعم وإنكم إذا لمن
المقربين} .
وقال تعالى: {وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين، قال
نعم وإنكم لمن المقربين} .
وهكذا يسابق دعاةُ الباطل دعاةَ الحق إلى عقول الناس بالمال والمنصب والجاه
بدلا من الحجة والبرهان، وما أكثر المتهافتين على المال والمنصب والجاه ممن
باعوا أنفسهم وعقولهم، فأصبحوا وسيلة من وسائل السباق إلى العقول بالباطل،
وهم يعلمون أنهم على باطل، جريا وراء المصالح الوهمية التي يغريهم بها طغاة
الباطل ضد الحق.
ولما كان أهل الباطل يملكون-غالبا-المال والجاه والمنصب، فإنهم يستقطبون ضعاف
النفوس، ممن يعلمون الحق والباطل وقد يظهرون أنفسهم بمظهر أهل الحق، من أجل
أن يخدعوا الجهال من أتباع الحق، فيصرفوهم عنه إلى الباطل باسم الحق، وإنما
يفعل ذلك ضعاف النفوس هؤلاء مع علمهم بالحق الذي يحاربونه والباطل الذي
يؤيدونه، لما ينالونه من أهل الباطل ودعاته من مال ومنصب وجاه، لأن ضعاف
النفوس هؤلاء كلما كانوا أكثر نفعا لأهل الباطل وأكثر ضررا للحق وأهله، كان
أهل الباطل أكثر إغداقا عليهم بما يطمحون إليه، وبخاصة المال الذي تنشأ به
مؤسسات متنوعة يكون هدفُها سبقَ الباطلِ الحقَّ إلى عقول الناس، ويكون مديرو
هذه المؤسسات من أمثال هؤلاء الضعاف، ولا تجد بلدا من بلدان المسلمين-في
الغالب-يخلو من أمثال هؤلاء.
ولكن الذي يبشر بالخير أن كثيرا من المسلمين قد عرفوا قادة الباطل
المُستَغِلِّين، وضعاف النفوس المُسْتَغَلَّين، وكشفوا أحوالهم فأصبحوا مثل
مرضى الجذام ينفر المسلمون منهم ومن أفكارهم، إلا من أراد أن يهلك عن بينة.
الوسيلة السادسة: وضع قوانين وأنظمة تؤيد الباطل.
وهذه الوسيلة من أهم وسائل أهل
الباطل في سباقهم بباطلهم إلى العقول، ذلك لأنهم إذا شعروا بظهور الحق للناس
وتعلقهم به وميلهم إليه، لقوة حججه وبراهينه، ونفورهم عن الباطل ونبذهم له،
لانكشاف زيفه وتهافت شبهه، أقول: إذا شعر أهل الباطل بذلك، فزعوا إلى أعوانهم
من فئات الشعب يستصرخونهم، لوضع كل الوسائل التي تحول بين الحق وعقول الناس،
وتمكن الباطل من الوصول إلى تلك العقول.
ومن تلك الوسائل:
إصدار قوانين تحظر نشاط أهل الحق وتصد الناس عن الاستماع إليه وعن اتباعه،
وتجعل كل وسيلة من وسائل وصول الحق إلى العقول جريمة، يعاقب عليها القانون،
ويصبح كل من اتخذ وسيلة لإبلاغ الحق إلى عقول الناس، مجرما يستحق العقاب.
وبذلك يُسَهِّل قادةُ الباطل سبلَ السباق بباطلهم إلى العقول، ويفتحون لتلك
السبل وأهلها الأبواب، ويمدون لها يد العون، ويحاصرون كل سبيل من سبل السباق
بالحق إلى العقول، ويغلقون أمامها وأمام أهلها كل الأبواب.
وقد تكون تلك الأنظمة والقوانين ظاهرة، وقد تكون خفية، وقد يكون ظاهرها
الرحمة، وباطنها من قبله العذاب.
إن كثيرا من البلدان الإسلامية التي يحارب حكامها الإسلام، تبيح قوانينها
وأنظمتها الزنا، وكل الوسائل المؤدية إليه، ولا يعد جريمة إلا في حالات
استثنائية خاصة، وعقوبة هذه الحالات لا تردع مجرما ولا تشفي غيظ معتدًى عليه
ممن تنتهك أعراضهم، بل إن بعض قادة الباطل في تلك البلدان ينظمون تعاطي
الفاحشة وتشرف على تنظيمه بعض مؤسسات الدولة، وذلك باسم الحرية الشخصية،
وتنشر فضائح تلك الفواحش في وسائل الإعلام بأساليب متنوعة ماكرة، كما تنشر
وسائل التحريض عليها بالصورة والكلمة باسم حرية الصحافة أو الإعلام الحر.
وعامة البلدان الإسلامية بها قوانين وأنظمة للمعاملات الربوية التي حرمها
الله في كتابه وجعلها من محاربة الله تعالى.
ويكمن خطر تلك القوانين المؤيدة للباطل والمحاربة للحق، في أن الحكومات تفرض
على الناس احترامها، وتخصص لها أجهزة تتولى تنفيذها قسرا، وتعاقب كل من يحاول
بيان بطلانها ومعارضتها لحكم الله ورسوله، وتبالغ في مدحها والثناء عليها،
وتنسب كل نعمة من نعم الله الدنيوية على العباد، إلى وضع تلك الأنظمة
والقوانين وحمايتها وتنفيذها. ومع تطاول الزمان يألف الناس ذلك ويسهل عليهم
العمل به، وتنشأ الأجيال في ظله لا تعرف سواه، فيرسخ في عقولهم أنه حق، ويعظم
الخطر عندما يدعي أنصار الباطل أن ذلك من الإسلام أو لا ينافيه، فيقبله الناس
على هذا الأساس، ويكون الخطر أشد عندما يجد دعاة الباطل ومؤيدوه من باع دينه
بثمن بخس ممن ينتسب إلى العلم، فيفتي باسم الإسلام بأن ذلك الباطل أمر مشروع،
وقد يكون ما أفتى به يخالف إجماع علماء الإسلام المبني على نصوص الوحيين، كما
أفتى بعض العلماء في هذا العصر بإباحة الربا الذي هو حرب لله ورسوله، وكما
أفتى بعض قادة الباطل ممن يحسبون من العلماء بأن سفور المرأة-وليس المراد
بالسفور هنا كشف الوجه والكفين، بل المراد كشف غالب جسد المرأة-لا يخالف شرع
الله!
وهكذا يضع أنصار الباطل قوانين مفصلة في كل باب من أبواب حياة الناس: الأسرية
والمالية والاقتصادية والجنائية والسياسية والعسكرية والقضائية والتعليمية
والإعلامية، تحاصر الحق وتطارده وتشوهه، وقد تستبيح دم أهله، وتؤيد الباطل
وتنشره وتكرم كل من يدعمه ويدعو إليه.
الوسيلة السابعة: جعل التعليم منطلقا لتثبيت الباطل.
وهذه الوسيلة من أمضى الوسائل للسباق
إلى العقول، بإبلاغ الحق أو الباطل إليها، وحجب الحق أو الباطل من الوصول
إليها.
وذلك للأسباب الآتية:
السبب الأول:
أن التعليم يرافق الإنسان من طفولته إلى شيخوخته، فهو مستمر باستمرار حياة
الإنسان.
والتعليم يصوغ الطفل في طفولته الصياغة التي يريدها صاحب قرار التعليم، سواء
أكان صاحب القرار هي الأسرة أو المدرسة أو الدولة، لأن الطفل لا يملك في
طفولته إلا التلقي والتقليد والمحاكاة، ومن كان أسبق إلى إبلاغ فكره إليه،
حقا كان ذلك الفكر أو باطلا، كان أملك لعقله وأقدر على قيادته بفكره.
ولهذا كان التعليم من أهم عناصر الرسالة الإلهية، كما قال تعالى: {كما أرسلنا
فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم
ما لم تكونوا تعلمون} .
وكان ذلك تحقيقا لدعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام الضاربة في أعماق
التاريخ، كما قال تعالى: {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك
ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم} .
ولما كان الطفل قابلا للصياغة المطلوبة بالوسيلة التعليمية، اشتد سباق أهل
الحق وأهل الباطل بهذه الوسيلة إلى عقله .
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يصرف أهل الباطل الأطفال عن فطرة الله
التي فطر الناس عليها بتعليمهم، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما من مولود إلا يولد على الفطرة] ثم
يقول: اقرءوا: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين
القيم}.
وفي رواية للبخاري: [فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تُنتَج
البهيمةُ بهيمةً جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء] ثم يقول أبو هريرة: {فطرة
الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم}.
والوسيلة الدائمة المستمرة، يدوم تأثيرها ويستمر ويُثَبِّت الفكرةَ التي يراد
لها السبق إلى عقول الناس، ومعلوم دوام واستمرار وسيلة التعليم ومراحلها التي
يمر بها الدارس، فقد تصل-في زماننا هذا-إلى ثلاثين عاما أو أكثر من المرحلة
الابتدائية إلى المرحلة العليا: الماجستير والدكتوراه، إضافة إلى ما يتعلمه
الطفل في محيطه الأسري والشعبي.
السبب الثاني:
أن التعليم توضع له مناهج معينة مدروسة، يراد بها تحقيق أهداف محددة في كل
المراحل التعليمية، فإذا كانت الأهداف والمقاصد التي وضعت المناهج التعليمية
لتحقيقها، هي تثبيت الباطل ونصره ونشره، ومحاربة الحق وخذلانه ومحاصرته، فإن
الأجيال المتلاحقة من أبناء المسلمين تنشأ بعقول استولى عليها الباطل وحجب
عنها الحق، ولذلك يحاربون الحق وأهله وغالبهم يجهله، ويؤيدون الباطل وأهله
وهم يجهلون أنه باطل، وذلك مبتغى طغاة الحكم الذين لا بقاء لهم إلا ببقاء
الباطل وتَوَارِي الحق، فإنهم يُسخِّرون كل إمكاناتهم لحرب الحق.
السبب الثالث:
أن مناهج التعليم توضع لها كتب تتضمن موادها ما يناسب عقول المتعلمين في جميع
مراحل التعليم، ويترتب على دراستها والنجاح في امتحانها حمل مؤهلات، لها
شأنها في تقلد المناصب والبروز في الشعب، ولهذا يجتهد الدارسون في القراءة
وتكرارها حتى تترسخ معانيها في عقولهم التي تصبح وعاء لتلك المعاني.
وأهل الباطل لا يفسحون المجال لغير الباطل أن يحتل صفحات تلك الكتب، ولهذا
تنشأ الأجيال من أبناء المسلمين بعقول ملئت بالباطل وحجب عنها الحق.
السبب الرابع:
أن التعليم يُعَدُّ له رجال متخصصون في كل علم من العلوم الإنسانية
والتجريبية، يدأبون على غرس تلك العلوم في عقول الطلاب، فيحققون بذلك إيصال
المعاني التي وضعت لها مناهج وأعدت لها كتب إلى عقول طلابهم، وأهل الباطل
يُعِدُّون المدرسين من أنصارهم، ليحققوا بهم السبق بباطلهم إلى عقول الناس،
ولا يأذنون لأهل الحق بالتدريس والتعليم، خشية من أن يستولوا على عقول
المتعلمين بالحق الذي يدمغ الباطل فإذا هو زاهق.
السبب الخامس:
أن التعليم يختار لإدارته والإشراف على مسيرته رجال مؤهلون في مجاله لديهم-مع
التأهيل-الرغبة والحماس في نجاحه وبلوغه أهدافه، وأهل الباطل يختارون لإدارة
التعليم والإشراف على مؤسساته المتنوعة من يؤيد باطلهم ويحارب الحق وأهله.
ولهذا نشاهد على قمة المؤسسات التعليمية في البلدان التي يحارب طغاة الحكم
فيها الإسلام رجالا لا دين لهم-وإن تسموا بأسماء مسلمين-ولا خلق يجعلهم قدوة
حسنة، بل يضايقون ذوي المؤهلات-سواء أكانت مؤهلاتهم إدارية أو تربوية، أو
علمية في أي علم من علوم الإسلام أو العلوم الكونية والتطبيقية-كل ذلك من أجل
أن يستبدوا بالتوجيه في هذا المجال الذي يصوغ العقول، ويسبقوا بباطلهم إليها
ويحجبوا عنها الحق الذي يحمله أهله.
وقد يوضع على قمة التوجيه في مجال التعليم من هو فاشل في إدارته، تضيع
بإدارته المصالح أو تعظم، وتكثر المفاسد، ولكن مؤهله لدى طغاة الحكم وأنصار
الباطل هو محاربته للحق وتأييده للباطل، ويعلم هذا كل من عنده وعي وبصيرة
واهتمام بمصالح الإسلام والمسلمين.
السبب السادس:
أن أعداء الحق ومحاربيه وأنصار الباطل ومؤيديه يستغلون وسيلة التعليم في كل
حقبة بما يتناسب معها، فإذا تغيرت أهدافهم بتغير أهوائهم أو ما يظنونه مصالح
لهم، أو بتوجيه سادا تهم المستعمرين، غيروا المناهج والمواد والكتب بحسب ذلك،
ويصبح ما كان عندهم محمودا أمسِ مذموما اليومَ، ويغيرون حقائق التاريخ
والمولاة والمعاداة، كل ذلك بحسب أهواء نفوسهم التي لا يهدأ لها بال إلا إذا
ملأت عقول الناس بباطلها، وحجرت عليها من أن يصل إليها الحق الذي يَفقِد أهل
الباطل المؤهلَ بوجوده لقيادة الناس بباطلهم.
وهذا ما يفسر اتجاه بعض الحكومات في الشعوب الإسلامية إلى مراجعة مناهج
التعليم وكتبه ومواده، لحذف كثير من النصوص الإسلامية من القرآن والسنة، وبعض
الموضوعات في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، وبخاصة ما يتعلق بالجهاد في
سبيل الله، والعلاقات مع اليهود والنصارى، لحاجات في نفوسهم يريدون قضاءها،
ولا يتم قضاؤها إلا بصياغةٍ جديدة لعقول أبناء الأمة.
ومن هنا يجب على الأمة الإسلامية أن يراقب أهل الحل والعقد فيها مسيرةَ تعليم
أبنائها، حتى لا يعبث أعداء الإسلام بعقول أجيالها عن طريق هذه الوسيلة
الفعالة في صياغة العقول، لأن آثار التعليم تشمل حياة الأمة كلها، فلا يجوز
أن يستبد بمناهجه ومواده وكتبه والمشرفين عليه ومعلميه ومتعلميه، من يحارب
الحق ويؤيد الباطل ويفسد عقول الناس بأفكاره، لتحقيق أهدافه المضادة لمصالح
الأمة.
وقد يحتال أعداء الإسلام من أنصار الباطل على الأمة الإسلامية التي يسوؤها
صياغة عقول أبنائها بوسيلة التعليم صياغة تجعلهم عبيدا مطيعين للطغاة، قد
يحتالون عليها بإيجاد مدارس يسمونها دينية يضعون لها مناهج يحصرون فيها الدين
في مواد لا تتجاوز الشعائر التعبدية وبعض أحكام الأسرة، وسرد بعض الأحداث
التاريخية، ويفتحون في تلك المدارس الباب لمن يرغب في دراسة الإسلام،
ويُخْلون مناهج تلك المدارس من المواد التي يُسَيِّرون بها هم حياة الناس،
كالإدارة والاقتصاد والشؤون السياسية والعسكرية والإعلامية والتربوية، ثم
يعمدون إلى إنشاء مدارس ومعاهد وجامعات يسمونها بالمدنية، ويضعون لها مناهج
مقطوعة الصلة بالإسلام، ويضعون لها مناهج تجمع بين العلوم الإنسانية التي
وضعها البشر بمعزل عن منهج الله-وقد توافق بعض جزئياتها الإسلام وغالبها
يخالفه-سواء منها ما يتعلق بعلم النفس أو علم الاجتماع، أو الشؤون السياسية،
أو الاقتصادية، أو العسكرية، وكذلك العلوم التجريبية الكونية والطبية، وغيرها
مما لا تستغني عنه الأمم، وينهل المتعلمون من تلك العلوم، وينالون بها
المؤهلات التي تمكنهم من قيادة الشعوب الإسلامية بمناهج علمانية، لا تهمل
الدين الإسلامي وتطبيقه فحسب، بل تحاربه وتحارب كل من يدعو إليه، وقد تحارب
من يلتزم به، ولو لم يدع إليه خشية من أن يكون التزامه به يدعو الناس إلى
الاقتداء به، لأن الإسلام هو الحق، وما هم عليه هو الباطل، وأهل الباطل يخشون
من أن يسابقهم أهل الحق إلى عقول الناس، وإذا فتح المجال لأهل الحق ليسابقوا
بحقهم إلى العقول، فإنهم يغلبون أهل الباطل ويسبقونهم بالحق إلى عقول الناس،
وإن كانت إمكاناتهم أقل بكثير من إمكانات أهل الباطل، لما يحمله الحق من قوة
الحجة والبرهان، وما يحمله الباطل من خرافات وأوهام.
أما الدارسون في المدارس الدينية المذكورة آنفا، فإنهم يُحرَمون من الوظائف
والمناصب، لعدم وجود مؤهلات توازي المؤهلات التي يحملها طلاب المدارس المسماة
بالمدنية، ولو وجد من يحمل تلك المؤهلات من الملتزمين بالإسلام، فإنه لا يفسح
له مجال اعتلاء مناصب مثل مناصب العلمانيين، كل ذلك لإبعاد الملتزمين
بالإسلام الذي هو الحق من أن يؤثروا به على عقول الناس.