اطبع هذه الصفحة


وقفات مع أمنيات الموتى (2)

أحمد خالد العتيبي
@Ahmadarts9

 
بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن المقصر في جنب الله تمر عليه ساعات أيامه وهو في لهو وغلفة، ويُسوف التوبة ويأمل في مزيد من العمر، وما علم أن الموت يأتي بغتة، وإذا جاء لا يدع صاحبه يستدرك ما فاته، فيبقى في قبره مرتهنا بعمله، متحسرا على ما فاته، وماذا عسى أن يتمنى المقصر إذا أصبح في عداد الموتى، ومن أمنيات المقصرين :

الأمنية الأولى : الصلاة ولو ركعتين.

يتمنى الميت المقصر لو تعاد له الحياة، ليصلي ولو ركعتين اثنتين فقط، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بقبرٍ فقال: ( من صاحب هذا القبر؟) فقالوا: فلان، فقال: (ركعتان أحب إلى هذا من بقية دنياكم). صححه الألباني (391)، وفي رواية قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون، يزيدها هذا في عمله، أحب إليه من بقية دنياكم). صححه الألباني (3518)


فغاية أمنية الميت المقصر، ركعتين يزيد فيها من حسناته، وليتدارك ما فات من أيام عمره في غير طاعة الله، يتمنى أن يصلي، يتمنى أن يعود إلى الدنيا لدقائق معدودة، ليركع ركعتين فقط لا غير، لا يريد من الدنيا إلا ركعتين،
فغاية أمنية الموتى في قبورهم حياة ساعة، بل دقيقة، يستدركون فيها ما فاتهم من توبة وعمل صالح، أما نحن أهل الدنيا فمفرطون في أوقاتنا، بل في حياتنا، لتذهب أعمارنا سدى في غير طاعة الله.

الأمنية الثانية : الصدقة

يتمنى الموتى الرجوع إلى الدنيا ولو لدقائق معدودة، ليقدموا صدقة لله عز وجل، ولقد نقل الله تعالى لنا أمنيتهم هذه في قوله تعالى: (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ). [المنافقون: 10-11]، أن الصدقة من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وأنها تطفئ غضب الرب جل وعلا.


وأن العبد سيُسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، فتمنوا الرجعة ليقدموا صدقتهم بعد أن منعوها الفقير، وصرفوها على شهواتهم وسياحتهم، (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ). تمنى الرجعة لأنه عرف أن الصدقة تباهي سائر الأعمال وتفضلهم، تمنى الرجوع إلى الدنيا فقط ليتصدق، لعله علم عِظَم ثوابها، ولكنها جاءت متأخرة.


الأمنية الثالثة : العمل الصالح

أما الأمنية الثالثة التي يتمناها هؤلاء الموتى، فهي العودة إلى الدنيا ولو للحظات معدودة، ليكونوا صالحين، ليعملوا أي عمل صالح، ليصلحوا ما أفسدوا، ويطيعوا الله عز وجل في كل ما عصوا، ليذكروا الله تعالى ولو مرة، يتمنون النطق ولو بتسبيحة واحدة، ولو بتهليلة واحدة، فلا يؤذن لهم، ولا تُحقق أمنياتهم، قال الله عز وجل في شأنهم (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون:99-100].


هذا هو حال المقصر مع الله تعالى إذا وافته المنية، يقول (رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)، ويقول (
لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ )، إن الميت المقصر إذا حانت عليه منيته، وأحاطت به خطيئته، صاح رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت، هذه هي أمنيته الوحيدة.

فالموتى قد انتهت فرصتهم في الحياة، وعاينوا الآخرة، وعرفوا ما لهم وما عليهم، أدركوا أنهم كانوا يضيعون أوقاتهم فيما لم يكن ينفعهم في آخرتهم، أن الوقت الذي ضاع من بين أيديهم كان لا يقدر بثمن، أنهم كانوا في نعمة، ولكنهم لم يستغلوها، وأصبحوا يتمنون عمل حسنة واحدة لعلها تثقل ميزانهم وتخفف لوعتهم وترضي ربهم، فلا يستطيعون.


إن أكثر ما يكون الإنسان غفلة عن نعم الله تعالى عليه، حينما يكون مغمورا بتلك النعم، ولا يعرف فضلها إلا بعد زوالها، فنحن معشر الأحياء في أكبر نعمة، طالما أن أرواحنا في أجسادنا لنستكثر من ذكر الله عز وجل وطاعته.

فنحن نملك الآن نعمة الحياة، لتزيد من حسناتنا، وتمحو عن سيئاتنا، فإذا متنا ندمنا على كل دقيقة ضاعت ليست فيها ذكر الله تعالى، وليست في طاعة الله تعالى، فلنغتنم ساعات العمر ودقائقه قبل أن نندم، فنتمنى ما يتمناه بعض الموتى الآن.


فإذا زرت المقبرة، قف أمام قبر مفتوح، وتأمل هذا اللحد الضيق، وتخيل أنك بداخله، وقد أغلق عليك الباب، وانهال عليك التراب، وفارقك الأهل والأولاد، وقد أحاطك القبر بظلمته ووحشته، فلا ترى إلا عملك، فماذا تتمنى يا ترى في هذه اللحظة الحرجة؟

ألا تتمنى الرجوع إلى الدنيا لتعمل صالحا؟ لتركع ركعة؟ لتسبح تسبيحة؟ لتذكر الله تعالى ولو مرة؟ ها أنت ذا على ظهر الأرض حيا معافى، فاعمل صالحا قبل أن تعضّ على أصابع الندم، وتصبح في عداد الموتى، تتمنى ولا مجيب لك.


فإذا وسدت في قبرك فلا أنت إلى دنياك عائد، ولا في حسناتك زائد، إلا إذا قدمت عملا صالحا يجري ثوابه بعد مماتك، فاعمل ليوم القيامة قبل الحسرة والندامة.


(رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ
 التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)

كتاب : أُمنيات الموتى – محمد بن إبراهيم النعيم (رحمه الله تعالى)

كتبه : أحمد خالد العتيبي – يوم الثلاثاء 12-5-1441هـ

 

أحمد خالد العتيبي
  • قصص دعوية
  • مقالات
  • الصفحة الرئيسية