اطبع هذه الصفحة


تأملات قرآنية ج2 " سورة الفاتحة" 1
14/2/2013

أيمن الشعبان

 
 بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
سورة الفاتحة أعظم سورة في القرآن، وهي مكية وكلها محكم ليس فيها ناسوخ ولا منسوخ، ولا تصح الصلاة إلا بها، ولمكانتها وعظيم قدرها تنوعت وتعددت أسمائها لتصل قرابة عشرين اسما، فهي فاتحة الكتاب وأم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني والحمد.

افتتح الله سبحانه كتابه العزيز بهذه السورة، لأنها جمعت مقاصد القرآن بصريح العبارة أو لطيف الإشارة، فصارت له كالعنوان، قال الحسن البصري: أنزل الله عز وجل مائة وأربعة كتب من السماء أودع علومها أربعة منها: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، ثم أودع علوم التوراة والإنجيل والزبور القرآن، ثم أودع علوم القرآن المفصل، ثم أودع علوم المفصل فاتحة الكتاب، فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع كتب الله المنزلة[1].

فاشتملت على أنواع التوحيد الثلاثة " الإلهية والربوبية والأسماء والصفات "، بثلاثة أسماء وهي: " الله والرب والرحمن ".

وتضمنت إثبات المعاد، وجزاء العباد بأعمالهم حسنها وسيئها. وتفرّد الرب تعالى بالحكم إذ ذاك بين الخلائق، وكون حكمه بالعدل. وكل هذا تحت قوله: ( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ )[2]، والعبادات كلها من الاعتقادات والأحكام التي تقتضيها الأوامر والنواهي: في قوله ( إياك نعبد ) والشريعة كلها في قوله: ( الصراط المستقيم )، والأنبياء وغيرهم في قوله ( الذين أنعمت عليهم )، وذكر طوائف الكفار في قوله ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين )[3].

والمقصود من نزول هذه السّورة تعليم العباد التيمُّن والتبّرك باسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء الأُمور، والتّلقين بشكر نعم المنعم؛ والتوكُّل عليه في باب الرّزق المقسوم، وتقوية رجاء العبد برحمة الله تعالى، والتّنبيه على ترقُّب العبد الحسابَ والجزاءَ يوم القيامة، وإِخلاص العبوديّة عن الشرك، وطلب التوفيق والعصمة من الله، والاستعانة والاستمداد في أَداء العبادات، وطلب الثبات والاستقامة على طريق خواصّ عباد الله، والرَّغبة في سلوك مسالكهم، وطلب الأَمان من الغَضب والضلال في جميع الأَحوال، والأَفعال، وختم الجميع بكلمة آمين، فإِنها استجابة للدعاء، واستنزال للرَّحمة، وهى خاتَم الرَّحمة الَّتي خَتَم بها فاتحة كتابه. وأَمَّا النَّاسخ والمنسوخ فليس فيها شيء منهما[4].

والفاتحة هي أصل وأساس وروح الصلاة، ولشرفها وعلو مكانتها قسمها الله بينه وبين عبده، إذ يقول عليه الصلاة والسلام: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل؛ فإذا قال العبد: { الحمد لله رب العالمين }، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: { الرحمن الرحيم }، قال الله : أثنى علي عبدي، فإذا قال: { مالك يوم الدين }، قال: مجدني عبدي، فإذا قال: { إياك نعبد وإياك نستعين }، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: { اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين }، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل[5].

ينبغي أن نعلم أن الاستعاذة التي تسبق تلاوة القرآن في الصلاة وخارجها، لها ثلاث صيغ هي:
1-    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
2-    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
3-    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه، و نفخه، و نفثه.

وعندما نستعيذ بالله من الشيطان، لابد أن نستشعر أننا نستجير ونتحصن ونستغيث ونلوذ ونلتجئ ونطلب العون، من القوي المتين الجبار المقتدر، رب كل شيء والقادر على كل شيء والعليم بكل شيء وإله الأولين والآخرين،( أليس الله بكاف عبده ) "فمنه المنجى، وإليه الملجأ، وبه الاستعاذة من شر ما هو كائن بمشيئته وقدرته[6]" فهو خير من يُتَعَلق به من أعتى عدو لبني آدم، وهو الشيطان الرجيم المطرود من كل رحمة وخير، ( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا ).
والاستعاذة قبل القراءة عنوان وإعلام بأن المأتى به بعدها القرآن، ولهذا لم تشرع الاستعاذة بين يدي كلام غيره، بل الاستعاذة مقدمة وتنبيه للسامع أن الذي يأتي بعدها هو التلاوة، فإذا سمع السامع الاستعاذة استعد لاستماع كلام الله تعالى[7].
والحكمة في الاستعاذة عند القراءة الاستئذان وقرع الباب، لأن من أتى باب ملك من الملوك لا يدخل إلا بإذنه، كذلك من أراد قراءة القرآن، إنما يريد الدخول في المناجاة مع الحبيب، فيحتاج إلى طهارة اللسان، لأنه قد تنجس بفضول الكلام والبهتان، فيطهِّره بالتعوذ[8].
عندما نستعيذ بالله بلفظ الجلالة " الله " نستحضر حينها في الأذهان جميع أوصاف الباري عز وجل، فهو الخالق البارئ المصور المقتدر العزيز الحكيم له الأسماء الحسنى، لكن لو كان اسما آخر كالقادر مثلا سيخطر في بالك صفة القدرة، أو العليم سيخطر صفة العلم، أو الرحمن صفة الرحمة، لكن الاسم الوحيد الذي تذكره يشمل جميع أسماء وأوصاف الجلال والجمال والكمال هو " الله" فتأمل هذه اللطيفة.
ثم ونحن مقبلون على تلاوة القرآن بأمس الحاجة لأن نستعيذ بالله تعالى؛ من جميع الأهواء والأفكار والهواجس والأكدار والأحزان، التي قد تشوش وتعيق الانتفاع الحقيقي من هذه القراءة، وهذا لا يتحقق إلا بأنك تستنجد وتستجير بالله جل في علاه.
واستعمال القرآن الكريم لفظ " الشيطان " بدل " إبليس " في الاستعاذة؛ لأن إبليس هو اسم الشيطان وأبوهم الذي عصى الله واستكبر عن أمره، فلا يشترط أن يكون هو من يوسوس فله ذرية وجنود كما قال تعالى ( إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم )[9].
الشيطان لعين ومطرود من رحمة الله، لكن أنسب وصف جاء في هذا المقام " الرجيم" حتى نتخيل المشهد وكأنه يُرجم بالحجارة مذعور منشغل بنفسه، لكن بالمقابل حتى لا نأمنه فهو شيطان، أي حبل ممتد إليك، فينبغي أن نحذره على أن لا يصل بنا الخوف مبلغا عظيما فننهزم أمامه، فهو رجيم.
وحكمة تأخير البسملة عن الاستعاذة: الإشعار بأن باب التحلية " بالمهملة "، مؤخر عن باب التخلية " بالمعجمة "، وبأن الإقبال على الله سبحانه والتوجه إليه، مؤخر عن الإعراض عما سوى الله تعالى[10].
ومن فضل الله علينا أن علّمنا كيف ندعو ونقول ونبتدئ ونناجي، ومعنى " بسم الله الرحمن الرحيم" أن نبدأ التلاوة والقراءة متبركين باسم الله عز وجل مستعينين به سبحانه فهو المستحق لجميع المحامد، وقال بعض العلماء: إن "بسم الله الرحمن الرحيم" تضمّنت جميع الشرع، لأنها تدل على الذات وعلى الصفات.

والبسملة هي بداية مباركة لسور القرآن، ولكل عمل يعمله الإنسان، فيتجرد من حوله وقوته، ويبارك العمل باسم الله وبركة الله وقدرته[11].

قال الخليل: (بسم الله) افتتاح إيمان ويمن، وحمد عاقبة، ورحمة وبركة وثناء وتقرب إلى الله - عز وجل -، ورغبة فيما عنده، واستعانة ومحبة له[12].

فمعنى أبتدئُ عملي باسم الله الرحمن الرحيم: أنني أعمله بأمر الله، ولله، لا لِحَظِّ نفسي وشهواتها، ويمكن أن يكون المراد: أن القدرة التي أنشأتُ بها عملي هي من الله، ولولا ما أعطاني من القدرة لم أفعل شيئا، فأنا أبرأُ من أن يكون عملي باسمي بل هو باسمه تعالى، لأنني أستمد القوة والعون منه، ولولا ذلك لم أقدر على عمله. وإذا فمعنى البسملة التي جاءت أول الكتاب الكريم: أن جميع ما في القرآن من الأحكام والشرائع والأخلاق والآداب والمواعظ هو لله ومن الله ليس لأحد غيره فيه شيء[13].

قال غير الخليل: هو أدب من آداب الدين، ومدح لله تعالى وتعظيم وشعار للمسلمين، وتبرك للمستأنف، وإقرار بالعبودية، واعتراف بالنعمة، واستعانة بالله - عز وجل - وعبادة له، مع ما فيه من حسن العبارة، ووضوح الدلالة، والإفصاح والبيان لما يستحقه الله من الأوصاف، وفيه من البلاغة والاختصار، في موضعه بالحذف على شرائطه. إذ موضوع هذه الكلمة على كثرة التكرير، وطول الترديد، وفيه الاستغناء بالحال الدالة على العبارة عن ذكر أبداً، لأن الحال بمنزلة الناطقة بذلك، وفيه من البلاغة تقديم الوصف بالرحمن تشبيهاً بالأسماء الأعلام[14].
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا وجلاء همومنا وذهاب أحزاننا وغمومنا.

--------------------------
[1]أخرجه البيهقي في شعب الإيمان ( 4/44 ) بإسناد لا بأس به.
[2] التفسير القيم لابن القيم.
[3] التسهيل لعلوم التنزيل.
[4] بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز (1/129).
[5] صحيح الجامع برقم 4326.
[6] إغاثة اللهفان/ ابن القيم ( 1/27).
[7] المصدر السابق(1/94).
[8] حدائق الروح والريحان( 1/18).
[9] ( الأعراف:27 ).
[10] تفسير روح البيان.
[11] الموسوعة القرآنية خصائص السور.
[12] النكب في القرآن (2/17).
[13] حدائق الروح والريحان ( 1/40).
[14] النكت في القرآن ( 2/18 ).


 

أيمن الشعبان