اطبع هذه الصفحة


الأرض المقدسة.. حقائق وعبر" داود عليه السلام" ( 7-14 )

أيمن الشعبان
@aiman_alshaban

 
 بسم الله الرحمن الرحيم

 
الحمد لله الذي فضل بعض الأماكن واصطفاها، وقدم بعض البقاع واختارها، والصلاة والسلام على من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى، وبعد:
بعد يوشع عليه السلام انفصل في بني إسرائيل الحكم عن الدين، فأصبحت الملوك تسوسهم وتحكمهم والأنبياء تهديدهم، فزاد طغيانهم فاستكبروا وكذبوا الرسل وقتلوا الأنبياء، فسلط الله عليهم ملوكا ظلمة جبارين طغوا وبغوا عليهم.
وتتالت الهزائم على بني إسرائيل، حتى أنهم أضاعوا التابوت، وكان في التابوت بقية مما ترك آل موسى وهارون، فقيل أن فيها بقية من الألواح التي أنزلها الله على موسى، وعصاه، وأمورا أخرى، كان بنو إسرائيل يأخذون التابوت معهم في معاركهم لتحل عليهم السكينة ويحققوا النصر، فساءت حالهم.[1]
فلما كان في بعض حروبهم مع أهل غزة وعسقلان غلبوهم وقهروهم على أخذه فانتزعوه من أيديهم، فلما علم بذلك ملك بنى إسرائيل في ذلك الزمان مالت عنقه فمات كمدا.
وبقي بنو إسرائيل كالغنم بلا راع حتى بعث الله فيهم نبيا من الأنبياء يقال له شمويل، فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكا ليقاتلوا معه الأعداء، فكان من أمرهم ما سنذكره مما قص الله في كتابه.[2]
وكان بين وفاة يوشع وبعث شمويل 460 سنة.
بعد ذلك طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكا لقتال عدوهم من العماليق، واسترداد أرضهم المقدسة وأموالهم التي سلبت، قال تعالى( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ )[3].
ثم حصل لهم من الجدال والتعنت، إلى أن بعث الله لهم طالوت ملكا جمع بين العلم والقوة، وقبلوا ملكه ورد الله إليهم التابوت، خرجوا معه لفتح بيت المقدس، وفي الطريق مروا في أرض قفرة فأصابهم حر وعطش شديد، فابتلاهم الله بنهر وقال لهم طالوت: فمن شرب منه فليس مني، سيخرج من الجيش ولن يتشرف بالقتال معنا لأنه ليس أهلا لذلك، إلا من اغترف غرفة واحدة بيده، فشرب معظمهم منه حد الارتواء.
فلما جاوز النهر مع من بقي من المؤمنين ممن لم يشرب من النهر، رأوا قلتهم وكثرة أعدائهم، فقال كثير منهم( لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده )، فهم أكثر عددا وعدة منا! فقال أهل الإيمان والصبر والثبات واليقين الراسخ ( قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله )، بإرادته ومشيئته فالأمر لله تعالى، والعزيز من أعزه الله، والذليل من أذله الله، فلا تغني الكثرة مع خذلانه، ولا تضر القلة مع نصره، {والله مع الصابرين} بالنصر والمعونة والتوفيق، فأعظم جالب لمعونة الله صبر العبد لله، فوقعت موعظته في قلوبهم وأثرت معهم.[4]
ثم دعوا الله بأن يثبتهم ويفرغ عليهم صبرا، ( فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة)، أي ملكه على بني إسرائيل مع النبوة، بذلك أقام داود عليه السلام مملكة التوحيد في بيت المقدس.
عَنِ البَرَاءِ، قَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَتَحَدَّثُ: أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهَرَ، وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلاَثَ مِائَةٍ.[5]
لقد أكرم الله نبيه الكريم بعدة معجزات، لقد أنزل عليه الزبور ( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً )، وآتاه جمال الصوت، فكان عندما يسبّح، تسبح الجبال والطيور معه، والناس ينظرون، وألان الله في يديه الحديد، حتى قيل أنه كان يتعامل مع الحديد كما كان الناس يتعاملون مع الطين والشمع، وقد تكون هذه الإلانة بمعنى أنه أول من عرف أن الحديد ينصهر بالحرارة، فكان يصنع منه الدروع.[6]
وأعطاه الله ملكا قويا عظيما يخيف أعداءه حتى بغير الحروب، ورزقه الحكمة وفصل الخطاب وقدرة على تمييز الحق من الباطل، وربنا سبحانه وتعالى أوحى لداود أن لا يحكم حتى يسمع من الطرفين الخصمين.
وداود عليه السلام كان يأكل من عمل يده كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال( أَنَّ دَاوُدَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، كَانَ لاَ يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ).[7]
داود عليه السلام كان إذا دخل في محرابه يصلي ويتعبد، يأمر حراسه بأن لا يسمحوا لأحد بالدخول عليه، وذات يوم فوجئ باثنين من الرجال أمامه، وفزع منها وسألهما من أنتما؟ قال أحدهما: لا تخف جئناك لتحكم بيننا بالحق في خصومة.
قال تعالى( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ... الآيات ).
وحكم داود دون أن يسمع رأي الطرف الآخر، واختفى الرجلان ليدرك داود أن الله أرسلهما ليختبره وهما ملكين، فخر داود راكعا وسجد لله واستغفره وتابه إليه، فغفر الله له ذلك، وكان له منزلة عالية وصار بعد التوبة أحسن منه قبلها.
يقول عليه الصلاة والسلام(السجدة التي في {ص} سجدها داود توبة ونحن نسجدها شكرا ).[8]
ويقول عليه الصلاة والسلام مبينا أن داود عليه السلام كان أعبد الناس( أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا ).[9]
بذلك يكون لنبي الله داود عليه السلام، مواقف وعبر، في الحكم والقضاء والعلم والملك والنبوة، من جهاد في سبيل الله لفتح بيت المقدس، وإقامة شعائر الله من صوت حسن وتعبد وسرعة رجوع وتوبة وإنابة، وبعد وفاته ورثه سليمان عليه السلام في الملك والنبوة، وهذا ما سنقف عليه بمشيئة الله في حلقة قادمة من تلك الحقائق والعبر المتعلقة بالأرض المقدسة.
 
17- رمضان – 1435هـ
 

-------------------------------
[1]قصص الأنبياء، علي حسين سندي.
[2]قصص الأنبياء، ابن كثير.
[3]( البقرة: 246).
[4]تفسير السعدي.
[5]صحيح البخاري.
[6]قصص الأنبياء، علي حسين سندي.
[7]صحيح البخاري.
[8]صحيح الجامع برقم 3682.
[9]صحيح البخاري.

 

أيمن الشعبان