اطبع هذه الصفحة


خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 29-30 )

أيمن الشعبان
@aiman_alshaban

 
 بسم الله الرحمن الرحيم

  
الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب،  والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
ثم يجيب الحق تبارك وتعالى عن سؤالهم {متى هذا الفتح. .} [السجدة: 28] بما يفيد أنه سؤال استبعاد واستهزاء، فيقول سبحانه: {قُلْ يَوْمَ الفتح ... } .
أي: لِمَ تسألون عن يوم الفتح؟ وماذا ينفعكم العلم به؟ إن يوم الفتح إذا جاء أُسْدل الستار على جرائمكم، ولن تنفعكم فيه توبة أو إيمان، ولن يُنْظِرَكم الله إلى وقت آخر.[1]
أحال النبي عليه الصلاة والسلام الجواب بشيء مغاير ومختلف عما سأل الكفار، فهم طلبوا معرفة وقت وقوع الساعة والقيامة والعذاب والفصل بينهم، ولما كان سؤالهم سؤال استهزاء ومماطلة وتكبر، فالأحكم معهم تغيير الجواب!
ومعلوم أن الإيمان لا ينفع صاحبه إلا إذا كان لديه وقت اختياري وعنده فسحة ليعمل، أما حال الكفار يوم القيامة فقد فات وقت العمل، ففي الدنيا عمل ولا حساب ويوم القيامة حساب ولا عمل، فإيمانهم اضطراري فلن ينفعهم أبدا، وهذا مشابه لقوله سبحانه مبينا حال الصنفين من الناس ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا . وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا )[2].
أمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم على طريقة الأسلوب الحكيم بأن يوم الفتح الحق هو يوم القيامة وهو يوم الفصل وحينئذ ينقطع أمل الكفار في النجاة والاستفادة من الندامة والتوبة ولا يجدون إنظارا لتدارك ما فاتهم، أي إفادتهم هذه الموعظة خير لهم من تطلبهم معرفة وقت حلول يوم الفتح لأنهم يقولون يومئذ ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [السجدة: 12] مع ما في هذا الجواب من الإيماء إلى أن زمن حلوله غير معلوم للناس وأنه مما استأثر الله به فعلى من يحتاط لنجاة نفسه أن يعمل له من الآن فإنه لا يدري متى يحل به لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا.[3]
{قل يوم الفتح} الذي يحصل به عقابكم، لا تستفيدون به شيئا، فلو كان إذا حصل، حصل إمهالكم، لتستدركوا ما فاتكم، حين صار الأمر عندكم يقينا، لكان لذلك وجه، ولكن إذا جاء يوم الفتح، انقضى الأمر، ولم يبق للمحنة محل فـ {لا ينفع الذين كفروا إيمانهم} لأنه صار إيمان ضرورة، {ولا هم ينظرون} أي: يمهلون، فيؤخر عنهم العذاب، فيستدركون أمرهم.[4]
وذكر لنا ربنا سبحانه بطلان إيمان فرعون بعد أن أيقن بالغرق، {قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} [يونس: 90] فردَّ الله عليه هذا الإيمان {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين} [يونس: 91].
هنا يأمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يرد عليهم بما يخرسهم فيقول: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ. أى: قل- أيها الرسول- في الرد على هؤلاء الجاهلين المغرورين: إن يوم الفصل بيننا وبينكم قريب، وهو آت لا محالة في الوقت الذي يحدده الله- تعالى- ويختاره، سواء أكان هذا اليوم في الدنيا، عند ما تموتون على الكفر، أم في الآخرة عند ما يحل بكم العذاب، ولا ينفعكم إيمانكم، ولا أنتم تمهلون أو تنظرون، بل سينزل بكم العذاب سريعا وبدون مهلة.[5]
( ولا هم ينظرون ) ليس لكم الآن إمهال؛ لأن الذي خلقكم يعلم سرائركم، ويعلم أنه سبحانه لو أمهلكم لَعُدْتم لما كنتم عليه {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.[6]
لفداحة وبشاعة وشناعة وقبح سؤالهم، أمر ربنا سبحانه النبي عليه الصلاة والسلام إجابتهم، وفيها أيضا إنذار وتوكيد معا بأن ذلك آت في اليوم الذي هو في علم الله وأن إيمان الكافرين في ذلك اليوم وندمهم لن يجدياهم ولن يكون لهم إمهال وفرصة أخرى.[7]
والخلاصة: لا تستعجلوه ولا تستهزئوا، فكأنى بكم وقد حل ذلك اليوم وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان، واستنظرتم حلول العذاب، فلم تنظروا.[8]
قُلْ تبكيتا لهم وتحقيقا للحق لا تستعجلوا ولا تستهزئوا فان يَوْمَ الْفَتْحِ يوم ازالة الشبهة باقامة القيامة فان أصله ازالة الاغلاق والاشكال او يوم الغلبة على الأعداء لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ.[9]
ففي هذا الجواب سلوك الأسلوب الحكيم من وجهين: من وجه العدول عن تعيين يوم الفتح، ومن وجه العدول بهم إلى يوم الفتح الحق، وهم إنما أرادوا بالفتح نصر المسلمين عليهم في الحياة الدنيا.[10]
وإظهار وصف الذين كفروا بدل الإضمار، لبيان أن سبب خيبتهم وشقائهم وخسارتهم هي كفرهم.
{ لا ينفع الذين كفروا } أي غطوا آيات ربهم التي لا خفاء بها سواء في ذلك أنتم وغيركم ممن اتصف بهذا الوصف.[11]
{قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ} أَيْ: إِذَا حَلَّ بِكُمْ بَأْسُ اللَّهِ وسَخَطه وَغَضَبُهُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْأُخْرَى، {لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ. فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غَافِرٍ: 83-85].[12]
الخلاصة: قُلْ يا أكمل الرسل في جوابهم يَوْمَ الْفَتْحِ هو يوم القيامة المعدة لتنقيد الأعمال والحساب فيومئذ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا في النشأة الاولى مدة اعمارهم إِيمانُهُمْ فيها وَلا هُمْ يومئذ يُنْظَرُونَ ولا يمهلون حتى يتداركوا ما فوّتوا على أنفسهم طول عمرهم من الايمان بالله والامتثال بأوامره والاجتناب عن نواهيه وتصديق الرسل والكتب وجميع معالم الدين وشعائر الإسلام وبعد ما قد تمادوا في الغفلة والضلال وبالغوا في العتو والعناد.[13]
من هداية الآية:
لا ينبغي الرد على أهل الباطل ومجاراتهم بكل ما يريدون، فهنا الكفار سألوا بمتى؟ فأجابهم الله بجواب بليغ حكيم، يتعلق بحقيقة ما يحصل وما فيه عظة ومنفعة لو كانوا يعقلون!
على الإنسان أن يحتاط ويقدم لنفسه من العمل الصالح في الدنيا، قبل فوات الأوان وعندها ولات حين مندم!
الدنيا دار عمل وابتلاء واختبار، أما الآخرة فهي دار حساب وثواب أو عقاب.
إذا سألك سائل على وجه العناد والاستهزاء والتكذيب، فلك أن تجيبه بجواب حكيم بعيد عن ما يريد من السؤال، ولا تجاريه لما يريد.
علم وقوع الساعة يوم القيامة مما اختصه الله عنده، فلا نبي مرسل ولا ملك مقرب يعلم وقت حدوثها، وعندما سئل عليه الصلاة والسلام عنها قال: ما المسؤول عنها لابأعلم من السائل.
مع ذلك لما استيقنا بأن الساعة ستقع وتأتي، وكل آت قريب، كما قال سبحانه ( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ )[14]، لابد من الاستعداد لها على أتم وجه.
سئل عليه الصلاة والسلام عن أشياء فلم يجب، ( ويسألونك عن الروح ... ).
ومن دلالة الآية أن الله سبحانه أثبت بشرية النبي عليه الصلاة والسلام، ( قل إنما أنا بشر مثلكم .. ).
وظيفة النبي عليه الصلاة والسلام التخويف والنذارة، من خلال جوابه ( قل يوم الفصل لا ينفع الذين كفروا إيمانهم )، إذ فيها معنى التخويف والتهديد والوعيد بهذا اليوم.
على المسلم أن يشغل وقته وفكره بالعلم النافع والشيء المفيد، فلا يسأل أسئلة تعنت وجدال لا تنفعه لا في الدنيا ولا في الآخرة.
لا ينبغي لمن لا يعلم أن يتكلم بلا علم، فأعلم الخلق نبينا عليه الصلاة والسلام، عندما سئل عن وقت وقوع الساعة، فما أجاب عليه الصلاة والسلام، لأنها ليست من تخصصه، ووصية كثير من السلف الصالح يقولون: ينبغي على العالم أن يعلم جلسائه كلمة" الله أعلم"، لذلك ثبت عن بعض الصحابة والتابعين أن كلمة" لا أدري" نصف العلم!
وعن محمد بن عجلان يقول: إذا ترك العالم " لا أدري " أصيبت مقاتله!
وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: العلم ثلاثة كتاب ناطق، وسنة ماضية، ولا أدري.
قال الشعبي لا أدري نصف العلم . 
وعن الاثرم : سَمِعت أحمد بن حنبل يُكْثِر أن يقول : لا أدري. 
وعن الهيثم بن جميل: شَهِدْت مالكا سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في ثنتين وثلاثين منها لا أدري .
من المعيب جدا أن يتكلم الإنسان بلا علم خصوصا من يحسن الظن به في العبادة والزهد والورع، ويقول بذلك عمر بن عبد العزيز: العابد الجاهل ما يفسد أكثر مما يصلح.
ينبغي للعالم أو الداعية أن يصرف الناس إلى ما فيه نفعهم وخيرا لهم حتى لو سألوا عن أشياء لا فائدة منها.
اللهم انفعنا بالقرآن وارفعنا بالقرآن، واجهلنا حجة لنا يوم نلقاك.
 
29- رمضان- 1435هـ
  

---------------------------
[1] الشعراوي.
[2] ( النساء:17-18).
[3] ابن عاشور.
[4] السعدي.
[5] التفسير الوسيط.
[6] الشعراوي.
[7] التفسير الحديث.
[8] المراغي.
[9] روح البيان.
[10] ابن عاشور.
[11] البقاعي.
[12] ابن كثير.
[13] الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية.
[14] ( النحل:77).

 

أيمن الشعبان