اطبع هذه الصفحة


خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 30-30 )

أيمن الشعبان
@aiman_alshaban

 
 بسم الله الرحمن الرحيم

 
الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب،  والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
مع آخر آية من سورة السجدة، تلك السورة التي تبعث الطمأنينة، وتحقق اليقين في القلب، وتدفع إلى الخضوع للعزيز الحكيم، إذ يختمها الله سبحانه وتعالى بخاتمة قوية، بتوجيه رباني فيه تسلية وزيادة يقين وثقة بموعود الله ونصره، (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ).
الفاء هنا سببية، أي بسبب تعنتهم واستكبارهم وعدم خضوعهم وانتفاعهم، من الآيات البيات والحجج الدامغات، سيحل عليهم العذاب فانتظر ذلك كما هم يتربصون بك الدوائر، واترك جدالهم وابتعد عنهم.
كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لشدة حرصه على نفعهم ربما أحب إعلامهم بما طلبوا وإن كان يعلم أن ذلك منهم استهزاء رجاء أن ينفعهم نفعاً ما، سبب سبحانه عن إعراضه عن إجابتهم، أمره لهذا الداعي الرفيق والهادي الشفيق بالإعراض عنهم أيضاً، فقال مسلياً له مهدداً لهم: {فأعرض عنهم} أي غير مبال بهم وإن اشتد أذاهم {وانتظر} أي ما نفعل بهم مما فيه إظهار أمرك وإعلاء دينك، ولما كان الحال مقتضياً لتردد السامع في حالهم هل هو الانتظار، أجيب على سبيل التأكيد بقوله: {إنهم منتظرون } أي ما يفعل بك وما يكون من عاقبة أمرك فيما تتوعدهم به وفي غيره، وقد انطبق آخرها على أولها بالإنذار بهذا الكتاب.[1]
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ الفاء للسببية يعنى إذا عرفت حالهم وما لهم فاعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم.[2]
لا تحزن يا محمد – عليه الصلاة والسلام-، مهما قالوا وفعلوا وأعرضوا وكذبوا واستكبروا؛ فإنا سنظهرك وننصرك عليهم، فانتظر النصرة عليهم والقضاء والفتح وهلاكهم لصدق وعدي، في الدنيا والآخرة، فهم ينتظرون الغلبة عليك، وحوادث الزمان بك، من موت أو قتل فيستريحوا منك، وأنى لهم ذلك فأنت مؤيد ومنصور ومحفوظ بحفظ الله، والله لا يخلف الميعاد.
وَانْتَظِرْ هَلَاكَهُمْ فَإِنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ هَلَاكَكَ، وَعَلَى هَذَا فَرَّقَ بَيَّنَ الِانْتِظَارَيْنِ، لِأَنَّ انْتِظَارَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ وَعْدِهِ وَانْتِظَارَهُمْ بِتَسْوِيلِ أَنْفُسِهِمْ وَالتَّعْوِيلِ عَلَى الشَّيْطَانِ وَثَانِيهَا: وَانْتَظِرِ النَّصْرَ مِنَ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ النَّصْرَ مِنْ آلِهَتِهِمْ وَفَرَّقَ بَيْنَ الِانْتِظَارَيْنِ وَثَالِثُهَا: وَانْتَظِرْ عَذَابَهُمْ بِنَفْسِكَ فَإِنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَهُ بِلَفْظِهِمُ اسْتِهْزَاءً.[3]
(فأعرض عنهم) قيل: معناه فأعرض عن سفههم ولا تجبهم إلا بما أمرت به.[4]
سَتَرَى أَنْتَ عَاقِبَةَ صَبْرِكَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَدَاءِ رِسَالَةِ اللَّهِ، فِي نُصْرَتِكَ وَتَأْيِيدِكَ، وَسَيَجِدُونَ غِبَّ مَا يَنْتَظِرُونَهُ فِيكَ وَفِي أَصْحَابِكَ، مِنْ وَبِيلِ عِقَابِ اللَّهِ لَهُمْ، وَحُلُولِ عَذَابِهِ بِهِمْ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.[5]
هذا الإعراض مؤقت وليس دائم، فلابد من البلاغ وإقامة الحجة ودعوة الناس لدين الله، وهذه من أعظم الوظائف والمهام.

من هداية الآية:
الاشتغال بما ينفع وترك ما ليس فيه فائدة أو من وراءه نفع.
ترك الجدال والمراء لمن هذه صفات لازمة له ولا يريد الحق ولا يطلبه.
وفى الآية حث على الانتظار والصبر.[6]
على المسلم أن يعرض عن المشركين والجاهلين والمعاندين والمستهزئين، الذين لا يرجى انتفاعهم ولا استجابتهم.
ما مضى معنا من خواطر، هي تأملات في سورة السجدة ترسخ العديد من الحقائق وقد اشتملت على عدة موضوعات من أبرزها:
اليقين بالقرآن، ( لا ريب فيه ).
تأملوا كيف رجعت السورة إلى أولها لما قال( وانتظر إنهم منتظرون )، لأن هذا الوعد جاء بهذا الكتاب الذي لا ريب فيه.
إثبات رسالة النبي عليه الصلاة والسلام.
إثبات وحدانية الله تعالى، وأنه المتصرف في الكون، المدبر له على أتم نظام وأحكم وجه.
إثبات البعث والنشور والمعاد.
تفصيل خلق الإنسان في النشأة الأولى، وبيان الأطوار التي مرت به، حتى صار بشرا سويا.
وصف الذلة والمهانة التي يكون عليها المجرمون يوم القيامة، وطلبهم الرجوع إلى الدنيا لإصلاح أحوالهم، ورفض ذلك لأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون.
تفصيل أحوال المؤمنين في الدنيا، وما أعده الله لهم من الثواب العظيم والنعيم المقيم في الآخرة.
استعجال الكفار لمجيء يوم القيامة، استبعادا منهم لحصوله.
كم نحن بحاجة لتدبر كلام ربنا، والوقوف على فرائده وفوائده ومواعظه، كي ننتفع عمليا وينعكس ذلك في سلوكنا، ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها )، فالقلب الذي لا يتدبر كلام الله فهو مقفل مؤصد مغلق عياذا بالله.
فمن أراد الرفعة والعزة والمكانة والعلو والسؤدد، فعليه بالقرآن، فهو نور الله المبين وحبله المتين، من حكم به عدل، ومن اعتصم به فقد هدي إلى صراط مستقيم.
أخرج مسلم في صحيحه، أنَّ نافعَ بنَ عبدِ الحارثِ لقِيَ عمرَ بعُسْفانَ. وكان عمرُ يستعملُه على مكةَ. فقال: من استعملتَ على أهلِ الوادي؟ فقال: ابنَ أبْزَى. قال : ومنِ ابنُ أبْزَى؟ قال: مولى من موالينا. قال: فاستخلفتُ عليهم مولًى؟ قال: إنه قارئٌ لكتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ. وإنه عالمٌ بالفرائضِ. قال عمرُ: أما إنَّ نبيَّكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد قال" إنَّ اللهَ يرفعُ بهذا الكتابِ أقوامًا ويضعُ به آخرِينَ.
ومن رفعة هذا القرآن لأصحابه الارتقاء بمنازل الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها.[7]
اللهمَّ اقسِمْ لنا من خَشيتِك ما يحولُ بيننا وبين معاصِيك, ومن طاعتك وما تُبَلِّغُنا به جنَّتَك, ومن اليقينِ ما يُهوِّنُ علينا مُصيباتِ الدُّنيا, ومَتِّعْنا بأسماعِنا وأبصارِنا وقوَّتِنا ما أحيَيتَنا, واجعلْه الوارثَ منا, واجعلْ ثأْرَنا على مَن ظلمَنا , وانصُرْنا على من عادانا, ولا تجعلْ مُصيبتَنا في دِينِنا, ولا تجعلِ الدُّنيا أكبرَ همِّنا, ولا مَبلغَ عِلمِنا, ولا تُسلِّطْ علينا من لا يَرحمُنا.
اللهم إنا عبيدك، بنو عبيدك، بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماض فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا.
اللهم علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نسينا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، على الوجه الذي يرضيك عنا.
اللهم اجعلنا ممن يحفظ حروفه ويقيم حدوده، ولا تجعلنا ممن يحفظ حروفه ويضيع حدوده.
 اللهم زينا بالقرآن، وجملنا بالقرآن، وانفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله حجة لنا لا علينا، واجعله شافعا لنا يوم نلقاك.
 
30- رمضان- 1435هـ

------------------------------
[1] البقاعي.
[2] التفسير المظهري.
[3] مفاتيح الغيب.
[4] القرطبي.
[5] ابن كثير.
[6] روح البيان.
[7] صحيح الجامع برقم 8121.

 

أيمن الشعبان