اطبع هذه الصفحة


نِعمَ المُصَلَّى " 21 " الأقصى في حياة الصحابة

أيمن الشعبان
@aiman_alshaban

 
 بسم الله الرحمن الرحيم

 
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ومصطفاه، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:
فهذه سلسلة حلقات مختصرة للتعريف بمكانة " المسجد الأقصى" من خلال القرآن والسنة الصحيحة، وارتباطه العقدي الإيماني التاريخي، بالوحي ورسالة التوحيد ودعوة الأنبياء، وإحياء تلك الحقائق في نفوس المسلمين، سميتها " نِعمَ المُصَلَّى " أسوة بحبيبنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم، الذي أطلق عليه هذه التسمية الجميلة.
الحلقات ستكون بطرح سؤال في كل حلقة، ثم نجيب عليه لتكون أرسخ وأثبت وأحفظ وأوعى، من حيث المعلومة والفهم وديمومة الأُثر. 
 
س21/ كيف كانت مكانة الأقصى في حياة الصحابة ؟؟؟

 
أدرك الصحابة الكرام – رضوان الله عليهم- منذ بداية إسلامهم، مكانة الأرض المقدسة وأهميتها الإيمانية وارتباطاتها العقدية، حتى أضحت مشروع حياة بذلوا من أجلها الغالي والنفيس، وحرصوا على فتحها والمحافظة عليها، وما ذلك إلا لشدة حبهم للنبي عليه الصلاة والسلام وتأسيهم به لما كان من أحواله وتعلقه الكبير مع تلك الأرض المباركة.
كيف لا يُحِبُ الصحابة تلك البقعة المباركة والأرض المقدسة والمكان الطيب، وقد صَلُّوا في ظروف صعبة ومرحلة حرجة للغاية؛ مع النبي عليه الصلاة والسلام في مكة قبل الهجرة وقبلتهم بيت المقدس!
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَهُوَ بِمَكَّةَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبَعْدَ مَا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ صُرِفَ إِلَى الْكَعْبَةِ.[1]
المتتبع لأحوال وسيرة الصحابة، يجد نماج رائعة وصور مشرقة، فالصحابي الجليل أبي ذر الغفاري – جندب بن جنادة – رضي الله عنه، أحد السابقين الأولين من نجباء الصحابة، إذ كان خامس أربعة ممن أسلموا؛ لم يمنعه الظلم والاضطهاد وصعوبة العهد المكي، من السؤال عن المسجد الأقصى ومكانته وارتباطه بالمسجد الحرام!
عن أبي ذر الغفاري قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ مسجدٍ وُضِع في الأرضِ أولَ؟ قال: ( المسجدُ الحرامُ ). قال: قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: ( المسجدُ الأقصى ). قلتُ: كم كان بينهما؟ قال: ( أربعونَ سنةً، ثم أينَما أدرَكَتكَ الصلاةُ بعدُ فصلِّهِ، فإنَّ الفضلَ فيه ).[2]
يبقى حب وتعلق المسجد الأقصى في نفس ووجدان الصحابي الجليل أبي ذر؛ إذ بعد هجرتهم إلى المدينة وزيادة أعباء الدولة والمسؤوليات، لم ينس تذاكر مكانة وفضيلة تلك الأرض في حضرة الصحابة الكرام.
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيهما أفضل: مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مسجد بيت المقدس؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:(صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه ولنعم المصلى وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن (هو الحبل) فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعا أو قال: خير من الدنيا وما فيها).[3]
تأملوا هذا المشهد، كأنه منتدى وملتقى ومجلس مقدسي نبوي بامتياز، في المدينة بحضرة الصحابة الكرام، همم عجيبة وتحمل للمسؤولية منقطع النظير، لهذا الجيل الفريد.
لم يكن تعلق أبي ذر بالمسجد الأقصى من قبيل التنظير والتأصيل المجرد، بل انعكس على مجريات حياته لتبقى حاضرة في عقله وفكره، ليشارك في الجيش الذي فتح بيت المقدس سنة 15 هـ، بل شد الرحال والسكنى والتعبد فيه.
ولشدة التعلق الشرعي بتلك الأرض ومعرفتهم الأولويات والفضائل مرتبة حسب الأهمية، يقول أبو ذر: أتاني نبي الله (صلى الله عليه وسلم) وأنا نائم في مسجد المدينة فضربني برجله، وقال: ألا أراك نائما فيه؟ قال: قلت يا نبي الله غلبتني عيني، قال: كيف تصنع إذا أخرجت منه؟ قال: قلت آتي الشام الأرض المقدسة، قال: فكيف تصنع إذا أخرجت من الشام قال: أعوذ بالله .... )[4].
أفضل الخلق بعد الأنبياء صلوات الله عليهم؛ أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كان له مواقف مفصلية واهتمام كبير مع تلك الأرض المقدسة، من أشهرها إنفاذ بعث أسامة بن زيد وهو آخر بعث في حياة النبي عليه الصلاة والسلام إلى بلاد الشام لملاقاة الروم، وأول بعث في حياة أبي بكر رضي الله عنه!
وكان الخليفة أبو بكر في حياته يرجو أن تكون مدينة بيت المقدس في حيازة المسلمين، وجعل هدف الجيش الذي يقوده عمرو بن العاص فلسطين وإيلياء وكانت الناس تسمع توجيه أبي بكر لعمرو (عليك بفلسطين وإيلياء[5](.
وفي كتاب أبي بكر إلى خالد بن الوليد: أن أعجل إلى إخوانكم بالشام فوالله لقرية من قرى الأرض المقدسة يفتحها الله علينا أحب إلي من رستاق من رساتيق العراق.[6]
فتحت بيت المقدس في عهد عمر وتسلم مفاتيحها وقدم بنفسه مع خادمه وثوبه فيه سبعة عشر رقعة، وخاض بالوحل فقال له أبو عبيدة: لقد فعلت عظيما! فقال له الفاروق: لو غيرك قالها أبا عبيدة وضربه على صدره، ثم قال مقولته المشهور: كنا أقل الناس وأذل الناس وأحقر الناس فأعزنا الله بالإسلام، ومن ابتغى العز بغيره أذله الله!!
تعلق الصحابة العقدي وارتباطهم الإيماني ببيت المقدس انعكس عمليا على حياتهم، إذ دخلها جمع كثير شدوا الرحال إليها، وقصدوها بالسكنى والعبادة والوعظ والإرشاد والتعليم، ودفن بعضهم فيها.
أبو عبيدة بن الجراح أحد العشرة المبشرين بالجنة كان القائد العام لجيوش الفتح بالشام، وبلال بن رباح شهد الفتح وأول من أذن في المسجد الأقصى، وممن شد الرحال وسكن من الصحابة معاذ بن جبل وخالد بن الوليد.
عبادة بن الصامت رضي الله عنه أول من ولي قضاء فلسطين إذ سكن ببيت المقدس ودفن فيها، وممن سكنها تميم بن أوس الداري وعبد الله بن سلام وأبو ذر الغِفاري وشداد بن أوس الخزرجي وأنيف بْن ملَة الجذامي، وبر بْن عَبْد اللَّهِ الداري الذي سماه النبي عليه الصلاة والسلام وغيرهم رضي الله عنهم جميعا.
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يشد الرحال، ويصلي بالمسجد الأقصى ولا يشرب الماء، حتى يطبق دعوة سليمان عليه السلام وينال الأجر العظيم والمغفرة.
 
21/3/2017م
 
  

----------------------------------
[1]أخرجه أحمد وقال شعب الأرنؤوط: صحيح على شرط الشيخين (5/136)، والطبراني في الكبير والألباني في صفة الصلاة ص76.
[2]متفق عليه.
[3]أخرجه الطراني في الأوسط والحاكم في المستدرك وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (6/954)..
[4]تاريخ دمشق (1/146).
[5]ينظر فتوح الشام للواقدي (1/15).
[6] تاريخ دمشق (1/149).


 

أيمن الشعبان