اطبع هذه الصفحة


تأملات قرآنية ج3 " سورة الفاتحة" 2

أيمن الشعبان
@aiman_alshaban

 
 بسم الله الرحمن الرحيم

تأملات قرآنية ج2 " سورة الفاتحة" 1


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
سورة الفاتحة اشتملت على كل معاني وغايات وأهداف القرآن، وأول كلمات السورة والمصحف هي ( الحمد لله رب العالمين ) وآخر الكلمات ( من الجنة والناس ) في إشارة إلى أن هذا الكتاب هداية للعالمين جميعا الجن والإنس، وكذلك لغير المسلمين.

افتتاح الكلام بالتحميد سنة الكتاب المجيد لكل بليغ مُجيد، فلم يزل المسلمون من يومئذ يلقبون كل كلام نفيس لم يشتمل في طالعه على الحمد بالأبتر[1].
والحمد لله هو الثناء على الله بصفات الكمال، وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل، فله الحمد الكامل، بجميع الوجوه[2]، وهو الثناء على الجميل من نعمة أو غيرها مع المحبة والإجلال والتعظيم، والحمد ذكر العطايا والمحاسن سواء تفضل عليك أو على آخرين، وهذا لا يكون إلا على الحي العاقل.
والحمد: الثناء الجميل على المحمود بصفات الجلال والعظمة والبهاء، وربكم جل في علاه يُحمد لجماله ويُحمد لجلاله ويُحمد لعزته ويُحمد لجبروته ويُحمد لقوته، يُحمد الله جل في علاه لنعمه السابغة على عباده.

وعندما نقرأ " الحمد لله " نستشعر بوحدانية الله في ربوبيته وألوهيته، فهو المستحق لجميع المحامد، وهذا يدفعنا للخشوع والخضوع والإنقياد التام لله سبحانه، ثم ينبغي أن نعلم أن هنالك محذوف مقدر فيه تعليم رباني لأن نبدأ بالحمد والثناء والجملة تكون "قل الحمد لله "، وقال بعضهم: حمد الرب نفسه ليعلّم عباده فيحمدوه.
قال ابن القيم:" فالحمد هو الإِخبار بمحاسن المحمود على وجه الحب له، ومحاسن المحمود تعالى إما قائمة بذاته وإما ظاهرة في مخلوقاته، فأَما المعدوم المحض الذي لم يخلق ولا خلق قط فذاك ليس فيه محاسن ولا غيرها، فلا محامد فيه البتة فالحمد لله  الذي يملأُ المخلوقات ما وجد منها ويوجد هو حمد يتضمن الثناءَ عليه بكماله القائم بذاته والمحاسن الظاهرة في مخلوقاته، وأما ما لا وجود له فلا محامد منه ولا مذام، فجعل الحمد مالئاً له لما لا حقيقة له".[3]

و " الـ " في الحمد للاستغراق والعموم، فهي كلية تستغرق وتتناول جميع أنواع المحامد، " وحمد الله تعالى هو: الثناء عليه بصفاته الحسنى، وبما أنعم على عباده، ويكون في الحمد معنى الشكر وفيه معنى المدح وهو أعم من الشكر، لأن الحمد يوضع موضع الشكر، ولا يوضع الشكر موضع الحمد"[4]، كما أن" الـ" في الحمد"للاستحقاق، يعني كل الحمد لا يستحقه إلا الله جل وعلا.
عَلِمَ الحق سبحانه وتعالى شدة إرادة أوليائه بحمده وثنائه، وعجزهم عن القيام بحق مدحه على مقتضى عزه وسنائه فأخبرهم أنه حمد نفسه بما افتتح به خطابه بقوله: «الحمد لله» فانتعشوا بعد الذّلة، وعاشوا بعد الخمود، واستقلت أسرارهم بكمال التعزز حيث سمعوا ثناء الحق عن الحق بخطاب الحق، فنطقوا ببيان الرمز على قضية الأشكال. وقالوا:

ولوجهها من وجهها قمر *** ولعينها من عينها كحل[5]

لماذا قال سبحانه " الحمد لله" ولم يقل المدح لله أو الشكر لله؟ وإذا عرفنا الفرق ودقة الألفاظ ودلالاتها، نستشعر عندئذ حلاوة القرآن وبديع تركيبه وتنسيقه، ونصل لحالة التدبر والتفكر المطلوبة.
الفرق بين الحمد والمدح: أن الحمد للحي العاقل، بينما قد تمدح جمادا أوحيوانا ولكن لا تحمده، والحمد يقتضي الحب والتعظيم ولا يقتضي ذلك في المدح، والحمد يكون للذات والصفات والأفعال بينما المدح على الأفعال، والحمد لا يكون إلا بعد الإحسان بخلاف المدح يكون قبل أو بعد الإحسان، فقد تمدح إنسانا من غير إحسان، لكن لا يُحمد من ليس في صفاته أو ذاته أو أفعاله ما يستحق ذلك فتأمل.
هنالك اتفاق وافتراق، عموم وخصوص، بين الحمد والشكر، فباعتبار الآلة الشكر أعم والحمد أخص، لأن الحمد هو الثناء باللسان والقلب، أما الشكر فثناء باللسان والقلب والجوارح، وأما بالنسبة للذات فالحمد أعم لأننا نحمد الله على جلاله وبهائه وعظمته وقوته وجبروته كما نحمده على نعمائه، أما الشكر فلا يكون إلا على النعم السابغة.

جاء في لسان العرب:" والحمد والشكر متقاربان والحمد أَعمهما، لأَنك تحمد الإِنسان على صفاته الذاتية وعلى عطائه ولا تشكره على صفاته"، من هنا يظهر جليا في هذا المقام أولوية الحمد على الشكر، ففي الحمد نثني على الله بنعمه الواصلة إلينا وإلى عموم الخلق جميعا، كما نثني عليه بصفاته الذاتية وإن غاب تعلقها عنك فتأمل.

لو تأملنا أيضا الدقة في الألفاظ والبلاغة القرآنية، لعلمنا لماذا لم يقل ربنا سبحانه " أحمد الله" أو " نحمد الله" أو " حمدا لله" أو " لله الحمد"، لأن " الحمد لله" مطلقة لا تختص بفاعل معين أو زمن معين، فتشمل حمدك وغيرك إطلاقا دون تقييد من حيث الفاعل واستمرارية دون انقطاع من حيث الزمن، كما أنها جملة اسمية دالة على الثبوت وهي أقوى من الجملة الفعلية.
وحسن الثناء على رب الأرض والسماء هو طريق الأنبياء، فعندما عطس آدم قال: الحمد لله، وقال سبحانه لنوح (فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )[6]، وقال إبراهيم عليه السلام ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ )[7]، وقال تعالى عن داود وسليمان (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ )[8]، وقال لمحمد عليه الصلاة والسلام( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً )[9]، وقال أهل الجنة ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ )[10].

ولاستحقاق الله سبحانه جميع المحامد واستغراقها، ناسب أن يكون اسم العلم " الله " دالا على ذلك كله، بدلا من أي اسم آخر كالخالق والسميع والبصير، حتى لا نقتصر على ثناء مقيد بصفات محددة، فلله الحمد من قبل ومن بعد.
" رب ": هو السيد المربّى الذي يسوس من يربّيه ويدبّر شئونه، وتربية الله للناس نوعان، تربية خلقية تكون بتنمية أجسامهم حتى تبلغ الأشد وتنمية قواهم النفسية والعقلية- وتربية دينية تهذيبية تكون بما يوحيه إلى أفراد منهم ليبلّغوا للناس ما به تكمل عقولهم وتصفو نفوسهم- وليس لغيره أن يشرع للناس عبادة ولا أن يحلّ شيئا ويحرم آخر إلا بإذن منه.[11]
ومعنى: رَبِّ الْعالَمِينَ سيد الخلق المربّي لهم، والقائم بأمرهم، المصلح المدبر لهم قبل كونهم، وكون فعلهم المتصرف بهم لسابق علمه فيهم، كيف شاء لما شاء، وأراد وحكم وقدر من أمر ونهي، لا رب لهم غيره.[12]

والرب بمعنى التربية والإصلاح، أما في حق العالمين: فيربينهم بأغذيتهم، وسائر أسباب بقاء وجودهم،وأما في حق الإنسان: فيربيه تارة بأطواره، وفيض قوى أنواره في أعضائه. فسبحان من أسمع بعظم، وبصّر بشحم، وأنطق بلحم، وأخرى بترتيب غذائه في النبات بحُبُوبه وثماره، وفي الحيوان بلحومه وشحومه، وفي الأراضي بأشجاره وأنهاره، وفي الأفلاك بكواكبه،وأنواره، وفي الزمان بسكونك وتسكين الحشرات والحركات المؤذية في الليالي، وحفظك وتمكينك من ابتغاء فضله في النهار. فياهذا! يربيك كأنه ليس له عبد سواك، وأنت لا تخدمه أو تخدمه كأن لك ربا غيره.[13]
دقيقة: في لفظ رب خصوصية لا توجد في غيره من أسمائه تعالى، وهي: أنك إذا قرأته طردا كان من أسمائه تعالى، وإن قلبته كان من أسمائه تعالى.[14]
العالمون جمع عالَم، وقال العلماء: العالم هو كل موجود سوى الله جل في علاه، فعالم البحار والأشجار والسماء والأرض كل هذه تقول الحمد لله رب العالمين.
والعالمون جميع المخلوقات، واختصاص هذا الجمع بلفظ العالمين لاشتماله على العقلاء والجمادات فهو مالك الأعيان ومنشيها، وموجد الرسوم والديار بما فيها.[15]
والعالَم مشتقة من العلامة، وتلك العوالم تبين لك دلالات ربوبية الله جل في علاه، وهي علامات على واجد الخلق عز وجل الخالق الرازق المدبر جل وعلا، كما قال الأعرابي: سماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج تدل على الواحد القهار.

لطيفة: فإن قيل لِمَ جمع" العالمين " جمع قلة مع أن المقام يستدعي الإتيان بجمع الكثرة؟ أجيب بأن فيه تنبيهاً على أنهم وإن كثروا قليلون في جنب عظمته وكبريائه[16].
اللهم اجعلنا من الحامدين لك الشاكرين المخبتين المنيبين.
 
أيمن الشعبان
30/5/2013

----------------------------------------
[1]التحرير والتنوير.
[2]تفسير السعدي.
[3] طريق الهجرتين.
[4]بحر العلوم.
[5] تفسير القشيري المسمى" لطائف الإشارات".
[6]( المؤمنون:28 ).
[7]( إبراهيم:39 ).
[8]( النمل:15 ).
[9]( الإسراء: 111 ).
[10]( فاطر:34 ).
[11]تفسير المراغي.
[12]تفسير التستري.
[13]روح البيان.
[14]تفسير حدائق الروح والريحان.
[15] تفسير القشيري" لطائف الإشارات".
[16] تفسير السراج المنير للشربيني.


 

أيمن الشعبان