اطبع هذه الصفحة


الاحتساب، والانشغال عما هو أهم .. تدوينة مختصرة

د.فهد بن صالح العجلان
@alajlan_f

 
بسم الله الرحمن الرحيم

مع كل جهد احتسابي يقوم به بعض الفضلاء لمواجهة السلوكيات المتجاوزة لكل الضوابط والقيم التي يدين بها المجتمع، تأتي الانتقادات المعتادة لهم بأن هذا (عمل هامشي، وانشغال عن ما هو أهم، وقصور في الأولويات، وابتعاد عن الإصلاح المالي والسياسي، .. الخ.

وفي زحمة هذه الانتقادات تستطيع التمييز بوضوح بين اتجاهين اثنين:


الاتجاه الأول:

لا يرى أن الاحتساب في الجوانب الأخلاقية والدينية أي أهمية، فهو ينطلق من رؤية ليبرالية صرفة، ترى أن هذه حريات شخصية لا يحتسب عليها، ولا يرى اعتباراً للضوابط الشرعية التي من أجلها يتحرك الجهد الاحتسابي، وحينها فالإصلاح لديه هو الإصلاح المادي الدنيوي فقط.
وهذه رؤية واضحة مطردة، من الطبيعي أن يتهم المحتسبين بالهامشية ويسيء إليه ويحتقرهم لأن ثم اختلاف في التصورات بينهما، فالإصلاح في تصورهم إصلاح بمفهوم ليبرالي، والإصلاح في نظر الفضلاء إصلاح بمفهوم إسلامي أشمل.

الاتجاه الثاني:

لا يرى تعطيل الضوابط الشرعية ولا إهمالها، بل يقول إنه يحترم مثل هذا الاحتساب ويرى مشروعيته، لكن يريد التفكير في الأولويات، وأن لا ننشغل عما هو أهم، وأين نحن عن العدل والاحتساب السياسي الخ.
فهذا الاتجاه ليس لديه مشكلة مع المضمون كما يظهر وإن انتقد بعض الجزئيات، إنما مشكلته في (الأولويات) وفي ما هو (أهم).

وهذا يثير سؤالاً مهماً:
هل احتساب الفضلاء هو من التفريط في فقه الأولويات؟
هل هو إشغال عما هو أهم؟

ثم معطيات كثيرة يمكن من خلالها أن نفحص هذه المقولة لنعرف مدى موضوعيتها:


أولاً:

أن الاحتساب في أي باب شرعي معين ليس له أي علاقة بالتقصير في الباب الآخر، فلا إشكال في تذكير الجميع بقضايا معينة مهمة ونقدهم عليها، لكن التقصير فيها ليس راجعاً لأن الناس منشغلين بالاحتساب على قضايا الاختلاط مثلاً، أو لأنهم مهمومين بالتغريب والفساد السلوكي فليس لديهم مجال لاهتمام آخر!
فجميعها أبواب للاحتساب، تتكامل وتتعاضد، وليس النقص في أحدهما بسبب ذهاب الناس إلى الجهة الأخرى، وبالتالي فلا بد أن نلاحقهم في الجهة الثانية حتى يعودوا!
فالتقصير في أي احتساب يرجع لأسباب كثيرة، فالحل أن تبحث في هذه الأسباب وتسعى لحلها وإزالتها لا أن تخلق مشكلة جديدة تتوهم أنك تحل المشكلة؟
فالتقصير في أي باب يتطلب منك برامج عملية ونظرية كثيرة تستطيع من خلالها تفعيل هذا الجانب، ليس من هذه البرامج أبداً برنامج يتعلق بإطفاء البرامج الاحتسابية الأخرى!

ثانياً:

أن الشخص يستطيع أن يشارك في أي موضوع من دون أن يشغل نفسه ولا يربك أولوياته ولا يضيع اهتماماته، فالقضية لا تزيد لدى أكثر الناس عن تغريدات في تويتر أو منشور في الفيسبوك أو مقالة في الشبكة أو مشاركة إعلامية يسيرة، فما أدري ما هو الانشغال الذي يحكم وقت الإنسان بحيث لا يجد وقتاً لهذه الموضوعات؟ وما هو حجم الإشغال الكبير الذي يتألم فيه الشخص من من ضياع الوقت والجهد بسبب وجود مشاركات تدعم الموقف ضد التغريب والفساد؟
فمن الغريب أن تجد الشخص يشارك في كافة القضايا المجتمعية والسياسية والرياضية الخ، ويعزف عن بعض القضايا بدعوى عدم الانشغال عما هو أهم!

ثالثاً:

أن أصحاب هذا الاتجاه لا يشهرون سيوف الأولويات والانشغال عما هو أهم الخ هذا الكلام إلا في وجه الفضلاء الناشطين في مجال الإصلاح الأخلاقي والديني، بينما يرون الكثير من الناس منشغلين بالأفلام والرياضة والسياحة والضحك واللعب والترفيه والنقاشات الكثيرة فلا يجدون فيها أي إشغال، بل كثيراً ما شاركوهم في هذه القضايا وانشغلوا بها ساعات طويلة، فإذا قرأ تغريدة لأحد الفضلاء عن منكر أخلاقي مد حاجبيه مستنكراً هذا الانشغال عن المهمات وترك الأولويات!

رابعاً:

أن أكثر الناس في الحقيقة منشغلين بالقضايا الدنيوية والمالية وما يمس حقوقهم، وأن القلة منهم، بل والقلة جداً هم المعنيين بملف الحقوق الدينية والفساد الأخلاقي، وهذا شيء طبيعي، فاهتمام الناس بدنياهم وأموالهم وحقوقهم هو الأصل والغالب عليهم، وأما من يهتم بشؤون دينه وآخرته فهم الأقل دائماً، فمن المغالطة الفجة أن يصور بعض الناس حال مجتمعنا وكأنه مشغول بقضايا الاختلاط والأخلاق والعقائد بينما لا يلتفت للقضايا المالية والحقوقية إلا قليلاً!

فمن الظريف أن يصوَّر ذهاب عدد قليل من الناس لزيارة مسؤول لنصحه عن منكرات أخلاقية معينة وكأن مشاكلنا كلها متوقفة بسبب هؤلاء؟
لماذا يلفت نظره ذهاب 10 أو 20 لزيارة احتسابية في يومٍ ما، ولا يلفت نظره تجمع عشرات الآلاف ليشاهدوا مباراة أو يتابعوا مسرحية أو يتسمروا خلف الشاشات ساعات طويلة!
لماذا يلفت نظره مجموعة قليلة مهتمة بهذا الملف ويتعجب ويصرخ، بينما لا يوجه خطابهم لملايين الناس؟
وهذا مثل من يطالب بتطوير الخطاب الديني لتعظيم شأن الدنيا وحث الناس على الاستمتاع بها والسعي في خيراتها الخ، وكأن الناس قد لبسوا المسوح وصاروا ملازمي المحراب فما عادوا يخرجون إلا عند الضرورة!
فحب الدنيا والسعي لها والبحث عن المال شأن فطري لا يحتاج لتعزيز وتعظيم، إنما الذي يحتاج إلى تعزيز وتذكير هو السعي للآخرة، وحقوق الله المحضة.
الملفت أن من يعيب الفضلاء لانشغالهم بهذه القضايا يقف هو نفسه في الطرف الآخر فيدافع عن المنكر ويبحث عن مخارج فقهية له ولا يجد في ذلك أي غضاضة فلا إشكال أن تنشغل بالمنكر إنما الخطأ في الانشغال بإنكاره!
كمثل ذاك الظريف الذي يتحدث كثيراً عن إباحة الموسيقى ثم يتعجب من المحرّمين للمعازف الذين يشغلون الناس بالتفاصيل!

خامساً:

أن التشويه الذي يوجه لهذا الاحتساب، يقابله دفاع وتوضيح ونقد من المحتسبين، ثم يأتي الطرف الأول فيزيد النقد، وهكذا تستمر السجالات، وهذا في الحقيقة هو الذي يشغل عن الأولويات والمهمات، فمن يريد فعلاً العمل المشترك ويريد الاهتمام بالأولويات يجب أن لا يشغل الناس بمثل هذه الهامشيات، لا أن يعيش في الهامش بدعوى رفع الناس عنها!

هذه بعض المعطيات التي تكشف لك بوضوح أن موضوع (الأولويات،والانشغال عما هو أهم، الخ) هو كله كلام فارغ في الحقيقة، فليس في موضوع احتساب الفضلاء في مجال الأخلاق والسلوك والاعتقاد أي إشغال ولا إخلال بالأولويات، إنما تكثفت هذه العبارات في ذهن الشاب حتى صارت صخرة يضرب بها في وجوه الفضلاء، ولو فككها قليلاً لاتضح له أن الموضوع كله جبل أوهام لا علاقة بأولويات ولا بمشغلات، إنما هو اعتراف بهذا الباب أو إنكار له، وأن ثم أمراً مضمراً – لدى الكثير- هو الاستخفاف أصلاً بالاحتساب الأخلاقي والعقائدي والديني وأنه لا حاجة له ولا اعتبار بضوابطه، لكن بدلاً من الوضوح في هذه اللغة كما هو عليه أصحاب الاتجاه الأول تأتي مثل هذه الدعاوى.

خلاصة الأمر ثلاث قواعد مهمة:


الأولى:
نقد التقصير في أي باب احتسابي مهم وضروري، شريطة أن يكون تحفيزاً لتفعيل الباب لا انتقاصاً من أي باب، فهو نقد يدعو للتكامل لا يهدم بعض الأبواب ببعض، ويفتعل خصومة من لا شيء.

الثانية: نقد الأخطاء الممارسات الاحتسابية في أي باب مطلب مهم إن كان بعدل وعلم وموضوعية، بل هو ضروري وواجب، إنما لا يجوز توظيف هذه الأخطاء لتشويه بعض أبواب الاحتساب، والحكم عليها بالهامشية والسخافة.

الثالثة: أن نقد بعض أبواب الاحتساب بدعوى فقه الأولويات والانشغال بما هو أهم، دعاوى غير صحيحة ولا علاقة بفقه الأولويات والانشغال بما هو أهم بهذا النقد، إنما صار ذريعة لمن لا يريد أن يقول بصراحة أنه يرفض مثل هذا الاحتساب لموقف فكري، فصار لا يتذكر الاحتساب في القضايا التي يسميها كبرى إلا ليسكت الفضلاء عن الاحتساب ضد التغريب الأخلاقي.

أردتها مختصرة،لكن الموضوع أرغمني على بعض الإطالة،وتبقى نظراً لطبيعة الموضوع مختصرة.
أصلح الله لكم شأن دنيكم ودنياكم.
ويحفظكم الله.


14/2/1434هـ


 

د.فهد العجلان
  • مقالات
  • السياسة الشرعية
  • سيادة الشريعة
  • محاضرات مفرغة
  • معركة النصّ
  • الفروق الفيسبوكية
  • المؤلفات
  • الصفحة الرئيسية