اطبع هذه الصفحة


ظاهرة (الليبراليين الفقهاء)

د.فهد بن صالح العجلان
@alajlan_f

 
بسم الله الرحمن الرحيم


ليس من الضرورة في الواقع أن يكون المفتي ولا بدّ [عالماً مجتهداً ورعاً تقيّاً] كما هو الوصف الشرعي للمفتي، فقد يكون كذلك، وقد يكون على شاكلة أخرى، وهذا ما يحتّم على المستفتي واجب البحث والتدقيق في العالم الذي يأخذ عنه وفي الفتيا التي يعمل بها، فالمنهج الشرعي يقوم على [إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم] وليس على كيفية [دع بينك وبين النار مطوع] !
في جعبة التاريخ الكثير من المفتين الذين أنزلوا الفتيا من عليائها لتكون موطئاً لشهواتهم الدنيّة، ولكلّ شهوة من شهوات الدنيا في سجل التاريخ الكثير من الفتاوى والمفتين.
عرفنا في التاريخ [مفتي البلاط السلطاني] الذي يوقّع عن الله بما يريده (الحاكم) ، فمراد الحاكم لا بدّ وأن يكون على وفق مراد الله، فإن مال الحاكم عن مراد الله فلا بدّ أن يميل (المفتي) بأحكام الشريعة لتكون على مراد الحاكم ..
ومن نوادر ما يذكر هنا: أن الخليفة الأموي (يزيد بن عبد الملك) لما بايعه الناس بعد وفاة الخليفة الأموي الراشد (عمر بن عبد العزيز) رحمه الله : أراد أن يسير على ما سار عليه عمر فاجتمع إليه جمع من المفتين الذي حلفوا له بأغلظ الأيمان أن الخليفة مرفوع عنه قلم التكليف ويدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب، فتراجع يزيد عن سيرة عمر بتلك الفتيا!
وللصداقة والزمالة شهوة تدفع بالفتيا إلى حيث يريد الأصدقاء، كما حكى العلّامة المالكي أبو الوليد الباجي عن أحد المفتين حين جاءه سائل يسأله عن حكم فقهي فأجابه بوجهٍ من أوجه الفقه المالكي فيه شدّة وعزيمة، فجاء من الغد أحد أصدقائه يشكو إليه ما وجد من شدّة هذه الفتيا، فتأسّف المفتي وتحوقل وقال: [كنتُ أن هذه الفتيا لغيرك، لو كنت أدري أنها لك لأفتيتك بالوجه الآخر من المذهب] !
وحتّى الثمالى السكارى لهم في الفتيا أخبار وآثار .. فقد وقف شاعرهم مفتياً رفقاء الدرب مزيلاً أي شبهة قد تعرض طريق أحدهم أو وخز ضمير قد يرديه عن طريق النشوة فقال:

-دع المساجــد للعبّاد تعمرهــــا -- وامضِ إلى حانة الخمّار واسقينا
ما قال ربّك ويل للأولي سكروا --- بل قـال ربّك ويل للمصـلينـا.

ويطمئن آخرُ رفقاءَ الدرب بأن تحريم الخمر ليس حكماً مصمتاً لا يقبل الخلاف كما يشيعه الرأي الفقهي السائد، بل ثمّة رؤية فقهية (تنويريّة) مستمدّة من كلام الفقهاء تجعل المسألة فقهية خلافيّة:

- أحل العراقيُّ النبيذَ وشربـَه --- وقــال حرامان المدامة والخمر
وقال الحجازي الشرابان واحد --- فحلّت لنا بين اختلافهما الخمر.

فالعراقي (أبو حنيفة) يرى أن شرب القليل غير المسكر من النبيذ جائز، والحجازي (مالك) يرى أن النبيذ كالخمر، فأخذ هذا المفتي برأي أبي حنيفة في جواز شرب النبيذ، وأخذ برأي مالك في عدم الفرق بين النبيذ والخمر، فخلص إلى جواز الخمر!
وآخرُ من [ مجتهدي المحششين] يخوض في العلل والمعاني التي حرّم من أجلها الخمر، فيجعل الحكم يدور مع علّته وجوداً وعدماً، فالعلة هي الضلالة عن الهدى، فإن وجدت حرم الخمر وإلا فلا:

-إذا لم يكن سكر يضلّ عن الهدى --- فسيّان ماء في الزجاجة أو خمر!.

وقد تجاوز أمر أولئك المفتين إلى مناكفة الأئمة الكبار بالاعتراضات والإيرادات الفقهية الساخطة على فتاوى الفقهاء .. كمثل ذاك الرجل الذي طلّق زوجته البتّة، فأتى العالم الربّاني (ابن أبي ذئب) يستفتيه فأفتاه بأن زوجته قد بانت منه بهذا الطلاق، فغضب الرجل، وأفتى لنفسه ببطلان هذا الفتيا وقال:

-أتيت ابن ذئب أبتغي الفقه عنده --- فطلّق حتى البتّ بتت أنامله.
أطلّق بفتوى(ابن ذئب) حليلتي --- وعند ابن ذئب أهله وحلائله.

فقد كان الواجب على (ابن أبي ذئب) أن يطلّق زوجته قبل أن يفتي الرجل بطلاق زوجته حتى يتخلّص من هذا الاعتراض الفقهي الراقي!
.
.
.
.
.
كلّ ما سبق ينبئك أن الانحراف في الفتيا واتخاذها ذريعة للشهوة والعبث وتحليل ما حرّم الله لم يكن سلوكاً حديثاً ونازلة جديدة، بل هو منعرجٌ قديم مشت عليه أقدام الزائغين على اختلاف مشاربهم وغاياتهم، ولكلّ شهوة نماذج من الفتاوى التي تطبّعها دينياً لتزيل عنه وخز الضمير وتأنيب النفس.
وإذا كان للغابرين في هذا حكايات، فإن [للمفتين الليبراليين] و [الفقهاء الصحفيين] ألف حكاية وحكاية، وتلك الفتاوى الطريفة السابقة تبدو كسرابٍ أمام محيطات العبث الليبرالي المعاصر بالفقه والفتيا الشرعيّة!
لم تكن تلك الفتاوى تساق إلا للتندّر والاستطراف بما فيها من مخالفة للمنطق والعقل والشرع، ولم تكن سلوكاً عامّاً أو منهجاً مطّرداً لفئة معلومة من الناس، بل إن ظاهر سياقها أن قائلها وسامعها هم أعرف الناس بما فيها من كذب وغشّ وخداع .. غير أن الفقهاء الليبراليين وهم يمارسون الفتيا ويتعاملون مع الأحكام الفقهية يتعاملون بها تعامل الندّ بالندّ وبكيفية تكافئ الرؤوس، بفتاوى تطير على رؤوس الأشهاد ويتحدّث عنها الصاحي والنائم ..
ومن طريف أمر فقهائنا الليبراليين أنهم حين يلجون مسائل الدين القطعية وأصول الإسلام الكليّة يتعاملون معها بنسبية الحقيقة وتعدّد التفسيرات ورفض الوصاية وقبول كافة الاجتهادات مما يغيب معه حقّ واحد واضح في هذه القطعيات.
وحين ينزلون إلى المسائل [الفروعية الفقهية الاجتهادية] يتعاملون معها بوثوقية عالية وقطعية جازمة وحسم تام يرمي كلّ من يشكّك في بعض حيثيات الحكم بالتشدّد والانغلاق والفهم البليد!
لستُ أدري حتى ساعتي هذا سرَّ مواصلة الأقلام الصحفية على احتراف الفتيا وممارسة الفقه في كتاباتهم الصحفيّة، وهم يستشعرون جيّداً مستوى قبول الرأي الشعبي لهم خاصّة في مسائل الفتيا الدينية، فمن البلاهة أن يتصوّر أحد أن ثمة من يترك فتاوى [ اللجنة الدائمة] و [ابن باز] و [ابن عثيمين] أو [الهيئات الشرعيّة] ليبحث عن الفتوى في مقالة صحفيّة لا يعرف الناس من حالهم إلا ما يزيدهم ريبة وحذراً و[المتخصّص] لن يجد في تلك المقالات إلا الخلط وسوء الفهم والمخالفة لأبسط أبجديات القراءة الفقهية، فإلى من تصدّر تلك الفتاوى؟

ليس هذا مجال الخوض في أصول الفقه الليبرالي المعاصر، وقواعد الفتيا الصحفية الفقهية، فللموضوع حديث ماتع ونماذج طريفة لا أريد أن أضعها جميعاً هنا فأحمّل الضحكة والبسمة ما لا تحتمل ..
في حفظ الله.


صحيفة سبق
21/4/1430هـ

 

د.فهد العجلان
  • مقالات
  • السياسة الشرعية
  • سيادة الشريعة
  • محاضرات مفرغة
  • معركة النصّ
  • الفروق الفيسبوكية
  • المؤلفات
  • الصفحة الرئيسية