اطبع هذه الصفحة


المنافقون .. وهامش الحريّة!

د.فهد بن صالح العجلان
@alajlan_f

 
بسم الله الرحمن الرحيم


في فاتحة تهميشه على (فتوى الشيخ البرّاك في خالص جلبي) قال الكاتب والأستاذ الفاضل: نواف القديمي :  (ما أريده هنا هو أمر مختلف.. أن نتأمل فقط في هامش الحريات الموجودة بمجتمع المدينة في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، لأننا سنجد شيئاً مُذهلاً تتداعى أمامه كل مبررات الدعوة للطرد والإسكات واتهام العقائد والنيات،)

وحين نظرتُ في سيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وحال المنافقين في عصره الشريف وجدتُ أن الصورة مختلفة تماماً عن ما التقطه الكاتب، بل إني أحسبها منكشفة لحدّ الوضوح التامّ الذي لا تحتاج فيه لمزيد تأمّل، ولا يهمّني هنا مناصرة الشيخ البرّاك في فتياه أو إعلان  انحراف خالص جلبي في أفكاره، مقصودي هنا تحديداً هو  بيان الخطأ المنهجي في طريقة الاستدلال التي بنى عليها أخونا نواف مقالته، وهو خطأ له ما بعده، فهو استدلال يشكّل منظاراً يُعتمد عليه في الحكم على كثير من القضايا المتعلّقة بالحريّات  والحقوق المعاصرة.

اعتمد الكاتب الكريم في مقالته على أمرين:

الأول: موقف المنافقين في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكيف كانوا يهزؤون بالرسول عليه الصلاة والسلام، ويعلنون كثيراً من مواقفهم المؤذية للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد ساق في ذلك نصوصاً كثيرة توضّح كثيراً من تفاصيل هذا الموقف.
الثاني: نصوص منتقاة من كلام شيخ الإسلام تراعي حال المجتهد والمتأول، وأنه معذور عند الله.
لنسلّط القراءة المتفحّصة على كلّ واحدة مما ذكره الكاتب الكريم.

الأمر الأول:

هل تدرون ما معنى أن يكون فعل المنافقين في مجاهرتهم لعداء الرسول صلى الله عليه وسلم وإعلانهم للكفر دليل على مستوى الحرية الموجود في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام؟
معناه: أنّ هذا أمر مشروع، وجائز، وقد أقرّه الرسول عليه الصلاة والسلام، وسكت عنه، وبالتالي فلا حرج في النظام الإسلامي أن يعلن شخص شتمه للرسول عليه الصلاة والسلام ويقول عنه ( إنه غير عادل) و (أنّه لم يتق الله) ، ومن الحرية الشرعيّة في النظام السياسي أن يحفظ حقّ من يطعن في ذات الرسول صلى الله عليه وسلم ويعلن استهزاءه به وتنقصّه من ذاته الشريفة.
فإذا كان فعل المنافقين في عهد الرسول صلى الله  عليه وسلم دليلاً على مستوى الحرية، فعلينا أن نقتدي بالرسول عليه الصلاة والسلام فنسير على هدي  ما كان عليه من هامش الحريّة، وبالتالي فلا معنى لاستنكار الرسوم المسيئة التي ظهرت في أقصا الدنيا، لأنّ هامش الحريّة في نظامنا السياسي الإسلامي سيسمح لمن شاء أن يسخر بالرسول عليه الصلاة والسلام ولو في عقر ديار التوحيد، اقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم حين أقرّ المنافقين؟
هذا هو معنى هذا الاستدلال ولازمه، فإذا كانوا يستدلّون بفعل المنافقين في عهد الرسالة على أنه من هامش الحريّة الذي أقرّته الشريعة فعليهم أن يحفظوا لمن يعتدي على الرسول ويطعن في الذات الإلهية ويعطوه من الحريّة ما كان موجوداً في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو لازم شنيع ومريع، ولا أظنّ أحداً مهما بالغ في هامش الحريّة أن يقرّه أو يرضى عنه.
هذا هو معنى هذا الاستدلال، ولازمه، ولا يمكن فهم هذا الاستدلال إلا عبر هذه الكيفية.
المنافقون حسب عدسة الكاتب الكريم (يسخرون من الصحابة ) و (يحرّضون الكفّار على مجتمعهم) و (يكذبون على الله ورسوله) و (يلمزون ويؤذون الرسول) و (يظهرون البغضاء للمؤمنين) و (يصدّون عن الرسول ويستكبرون عنه) و (يخذلون المجتمع) و(يسلقون الصحابة بألسنة حداد)و(يشتمون الرسول)  ويقول عنه ( لم تعدل) و (مماطل)  .. فيا ساتر .. هل هذا كلّه مجرّد هامش؟ وهل يراد منّا أن نقرّ بكلّ هذا الهامش من الحريّة؟ وهل يتخيّل أن يقوم مجتمع مسلم يشيع فيه كلّ هذا ، وهو يعتقد أنّه مجرّد متبع لما كان عليه الحال في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم؟
إذن .. ما التفسير الشرعي الصحيح لما كان يفعله المنافقون في عهد رسول الله  صلى الله عليه وسلم؟

تفسيره: أنّ ما كانوا يفعلونه له حالتان:
الأولى: أنّ ذلك كان يتمّ في السر والخفاء، وبين أصحابهم وأتباعهم، ولم يكونوا يظهرونه عند أحد،  وإنما فضحهم الله تعالى به، وأظهر خفاياهم ومكنونات صدورهم،  وإلا فلو كانوا يظهرون كفرهم فما حاجتهم لأن يكونوا منافقين من الأساس، فالتجاؤهم للنفاق مع ما فيه من مخالفة للضمير، ومهانة للنفس، وإذلال للكرامة، دليل على عدم قدرتهم على إظهار ما لديهم،  ولو كان يستطيعون لما احتاجوا للنفاق أصلاً، ومن جهة أخرى فوجود النفاق بحدّ ذاته دليل على انحسار هامش الحريّة وانغلاقه عليهم فاضطرّوا من أجله إلى سلوك طريق النفاق.

الحالة الثانية: أنّهم أظهروه وبدر منهم علناً وجهاراً، فعفا عنهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهو من قبيل الجريمة التي يعفى عنها، ومجرّد العفو عنها لا يحيلها أمراً طبيعياً، فشتم الرسول عليه الصلاة والسلام والطعن في عدالته وأمانته جريمة قد عفا عنها الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو حقّ من حقوقه عليه الصلاة والسلام وقد تنازل عنه،  لكنّ هذا لا يعني أنّها حريّة مشروعة وجائزة مطلقاً، وفرق بين العفو عن (الجريمة) وبين تشريع (الجريمة) واعتبارها هامشاً مشروعاً ومقبولاً، ففي القرآن مشروعية العفو عن القصاص ( فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف) ولن يفهم منه أحد  مشروعيّة الاعتداء على الناس ابتداءً، وفي القرآن العفو عمن قذف في عرضه ( وليعفوا وليصفحوا ألا تحبّون أن يغفر الله لكم) ولا يعني هذا جواز قذف الناس في أعراضهم،  كما أن المشروع في حقّ كلّ أحد أن يعفو عن من ظلمه أو شتمه أو اعتدى على ماله، فهل يكون هذا دليلاً على مشروعية الظلم والشتم والاعتداء على الأموال؟

وهكذا فما حصل من المنافقين هي جريمة قد عفا عنها النبي صلى الله عليه وسلم ، وأقصى ما يمكن أن يستدلّ بها إذا تجوّزنا في الاستدلال أن يعفو النظام السياسي الإسلامي عن بعض الانحرافات والجرائم لمصلحة، ولا يمكن أن يكون هذا سبباً لكون ما عفي عنه أمراً مشروعاً.

خذ مثلاً .. مشروعية العفو عن التعزير، فمن الأحكام الشرعية المقرّرة مشروعية التعزير والتأديب على الجرائم والمعاصي التي لم تضع الشريعة لها حداً مقرّراً، ويرجع في تحديد ذلك إلى النظام بما يراه مصلحة، ومن الصلاحية الشرعيّة أن تسقط العقوبات عن بعض من استحقّه لأي سبب معتبر، لكن هذا لا يجوز أن يؤدّي إلى أنّ يقرّر النظام التجاوز عن فعل هذه الجريمة مطلقاً، والإذن بها، وعدم ترتيب أي عقوبة أو منع لها، لأنّ الأمر  حيئنذٍ يصل لحدّ تحليل ما حرّم الله وإباحة لما منع الله.

إنّ من يقرأ مقالة الكاتب الكريم يتصوّر المنافقين في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم وكأنّهم جماعة ظاهرة، تقول كلمتها بوضوح، وتعلن عن حربها لله ورسوله،  وتحرّض على المؤمنين، وتسخر من الصحابة .. مع أنّ الصورة الحقيقة لواقع المنافقين أنّ الصحابة لم يكونوا يعرفونهم أصلاً، وكلّ من قرأ شيئاً من السيرة يعرف أنّ صحابياً واحداً هو الذي كان يعرف أسماء المنافقين وهو (حذيفة بن اليمان) رضي الله عنه ولأجله سمّي بصاحب سرّ الرسول عليه الصلاة والسلام، وأما بقية الصحابة فلم يكن أحد منهم يعرف المنافقين بأسمائهم وأشخاصهم، وبالتالي فهم قوم يضمرون كفرهم، ويستترون بأقوالهم وسخريتهم، بل إنّ حالهم لم يكن فقط التستّر على كفرهم ووسخهم، بل إنهم يظهرون الطاعات والعبادات، فهم يشهدون الصلاة ( وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى) ويجاهدون في سبيل الله ويقتلون ( الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو  أطاعونا ما قتلوا) وينفقون في سبيل الله ( وما منعهم  أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله ورسوله) ويحضرون المغازي والمشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ) فأنت أمام فئة تضطّرّ أن تحضر الصلاة جماعة، وتحضر مشاهد القتل وسفك الدماء، وتنفق من حرّ مالها،  أتراهم سيفعلون هذا لو كان لهم هامش حريّة فعلاً!

وتقرأ في القرآن فتجد الآيات المتكررة في بيان صفات المنافقين حتى شقشقت سورة التوبة قلوبهم وأرعدت  صدورهم رعباً وذعراً بعد توالي الآيات التي تحدّد صفاتهم (ومنهم) (ومنهم) ولو كانوا يمارسون هامش حريّتهم ويظهرون سخريتهم وكفرهم لما كان ثم حاجة لهذه الآيات لأن الصحابة رضي الله عنهم يكونون حينها قد سمعوها منها مباشرة، فأي فضيحة جاءت بها سورة التوبة حتى سميت فاضحة ومشقشقة ما دام المنافقون يظهرون كفرهم وسخريتهم؟!

ستفهم هامش الحريّة حقّاً حين تجد المنافقين يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحلفون أغلظ الأيمان أنهم ما قالوا كلمة، نقلها بعض الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إيمانهم) فيا لها من حريّة ما أوسعها حيث يضطرّ أن يحلف بأغلظ الأيمان أنّه لم يسبق له أن  قال كلمة قالها في مجلس مختصر يضمّ أقاربه وأصفياءه ولم يشهد عليه بها إلا صحابي واحد لم يتجاوز سنّ البلوغ بعد! 

وتجد التحذير لهم ( لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثمّ لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا)

وكانوا يترقّبون وجلاً من (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم تنبئهم بما في قلوبهم) فحتى ما في قلوبهم مما قد أسرّوه وكتموه كانوا في ترقّب ووجل أن تأتي الآيات فتظهره للناس.

وحين يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقتل المنافقين يقول: لا يتحدّث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، مما يعني أن الناس لم يكونوا يفرّقون بين المنافقين والصحابة، لخفاء أمر المنافقين وإظهارهم لما يظهره الصحابة، ولو كانوا يعيشون هامش حريّتهم كما يصوّره الأستاذ لما كان ثمّ خفاء لحال المنافقين.

بل إنّ  المنافقين مضطرّين للمشاركة في الجهاد في سبيل الله، مع في الجهاد من تضحيّة وبذل واقحام للنفس في الشدائد والمهالك التي يضعف عنها أهل الإيمان فما بالك بأهل النفاق ومع ذلك فلم يكن ثمّ هامش للحريّة للمنافقين للتخلّف-مجرّد تخلّف- عن المشاركة في الجهاد، فكانوا يختلقون المعاذير ويبذلون أغلظ الأيمان لعلّ ذلك أن يدفع عنهم ( وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم) وقد تجاوز عنهم النبيّ صلى الله عليه وسلم فعاتبه الله في ذلك ( عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) وهذا كلّه حتى يسلموا من المؤمنين ( سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم) أفترون هؤلاء يعيشون في هامش من الحريّة يتيح لهم السخرية والطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم عاجزون عن مجرّد إبداء السبب الحقيقي لتخلّفهم ليس عن صلاة الجماعة في المسجد، بل عن المشاركة بالنفس والمال وإزهاق الروح في سبيل الله!

ولو كان المنافقون يعيشون هذا الهامش فعلاً ويظهرون سخريتهم وشتيمتهم للرسول صلى الله عليه وسلم لما قامت عمليّة اغتيال تحت إشراف الرسول صلى الله عليه وسلم ليهودي يعيش خارج المدينة (كعب بن الأشرف) بخطّة محكمة أتت على كلّ احتياطاته بسبب ما كان يظهره من تغزّل بنساء النبيّ صلى الله عليه وسلم، وجاءت بعده عملية أخرى سال فيها دم ابن أبي الحقيق وأريقت دماء أقوام ولو تعلّقوا بأستار الكعبة، لما كانوا عليه من سبّ وإساءة للرسول عليه الصلاة والسلام، أفيراق دم الكافر البعيد لأجل شتمه للرسول عليه الصلاة ويترك المنافق الذي يتقلّب بين ظهراني أصحاب محمد صلى الله  عليه وسلم؟

 أو تحسب أن الصحابة -رضوان الله عليهم- يتخطّفون قادة الكفر المتحصّنين خارج أسوار المدينة لشتمهم الرسول صلى الله عليه وسلم ويتركون المنافقين في المدينة يسخرون ويمرحون!

ثمّ كيف يتمّ تفسير معنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ( من بدّل دينه فاقتلوه) وفي الحديث الصحيح الآخر ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث – وذكر منها-.. التارك لدينه المفارق للجماعة) فالحكم هنا قد تجاوز مرحلة المنع والإنكار إلى إقامة جزاء في أقصى درجاته (القتل) لمن يبدّل دينه، وقد اعتضد هذا الحكم بتطبيق الصحابة له عمليّاً كما صحّ عن علي بن أبي طالب وابن عبّاس ومعاذ وأبي موسى رضي الله عنهم، واتفقت كلمة الفقهاء كافّة على حكمه، ونصّت عليهم كتب المذاهب الأربعة جميعاً، ونقل الإجماع عليه عشرات العلماء عبر أزمنة متفاوتة، وحتّى لو اعتبرنا  رأي النخعي والثوري في استتابة المرتد بأنه (يستتاب أبداً) بأنه رأي آخر في المسألة فهو في النهاية لم يعطِ المرتدّ إلا هامش من الحريّة في تخفيف العقوبة عليه من القتل إلى الاستتابة المتلاحقة حتى يتوب ويقلع، فهو حكم خانق للحريّة وهامشها،  فهل يقبل عقلاً وفقهاً أن يكون هؤلاء الفقهاء  كلهم لا يدرون عما كان عليه حال المنافقين في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم من إعلان للردّة والكفر؟ وهل يخفى عليهم (هامش) حريّة المنافقين الذي ساق فيه الكاتب عشرات الآيات كلّها في شتم وعيب وإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم؟

وتجد في سنّة وسيرة النبيّ صلى الله  عليه وسلم جلد من يرتكب الزنا ويشرب الخمر، ورجم المحصن من الرجال والنساء، فهل يتصوّر أن لا يكون ثمّ هامش في أفعال سلوكيّة اختياريّة من شرب الخمر والزنا، ويتمدّد الهامش في شتم الرسول صلى الله عليه وسلم والطعن في عدالته ورسالته مما هو أشدّ ذنباً وأعظم خطراً وضرراً؟

فاستدلال الأستاذ نواف على واقع وجود المنافقين على هامش الحريّات قائم على تصوّر خاطئ لواقع المنافقين في عصر الرسالة، ويتضمّن –من جهة أخرى- إشكاليّة في الضابط الشرعيّ المحدّد لحدود الحريّات في النظام السياسي الإسلاميّ فكيف نطالب بهامش للحريّة وسنستدلّ  على هامش الحريّة هذا بشتم الرسول صلى الله عليه وسلم ؟

ليس فينا من ينازع الأستاذ نواف في وجود هامش حريّة في الفكر الإسلامي، لكنّ هذه الهامشية إطلاق عائم،  ووصف غير منضبط ولا يتحدّد منه ضابط شرعيّ يمكن الاتفاق عليه،  والاستدلال له بواقعة المنافقين المتضمنة لشتم الرسول صلى الله عليه وسلم والطعن في عدالته والإساءة لمقامه الشريف لا يبشّر بخير، وحتّى لو قيل بعده بأن الحريّات ستكون حسب الضوابط والقيم الشرعيّة، فإنّ هذا الاستدلال سيبقى عالقاً ومشكلاً، فأي حدّ وأي ضابط معتبر بعد أن يتمّ تشريع شتم الرسول صلى الله عليه وسلم؟ طبعاً: لا يقوله الكاتب، وهو أبعد بكثير عنه، لكنّ هذا الاستدلال لا يستقيم إلا عبر هذه الجهة، فإما أن يصحّح الدليل، وإما أن يقال به كما هو، وأما على حالته فأينما توجهه لا يأت بخير.

==

وأما المستند الثاني للأستاذ فهو نصوصه التي اختارها من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- وليت الأستاذ إن أبى إلا أن ينقل من نصوص العلماء، ليته اختار له أحداً غير شيخ الاسلام، لأنّ ابن تيمية في هذا الباب صارخ في الوضوح والجلاء، ولا أبالغ إن قلت: لو مددت يدك فسحبت أي جزء من أجزاء فتاوى الشيخ الـ ( 35) وفتحت على أي صفحة منها، فإنك لن تقلّب( 10 ) أو ( 20 ) صفحة حتى تقع على عبارة يطالب فيها الشيخ بـ (تأديب)  عاصٍ أو (استتابة)  قائل أو (تعزير)  إنسان  أو (ردع)  مبتدع مما يعرف منه أي هامش للحريّة لدى هذا الإمام.

خذ مثلاً هذه النصوص:

- هنا .. دعوة للاستتابة والقتل لمن يقول قولاً قد شاع في كتب كثير من المتصوّفة (11/47): (
  وأما من قال إن أحدا من الصحابة أهل الصفة أو غيرهم أو التابعين أو تابعي التابعين قاتل مع الكفار، أو قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه أو أنهم كانوا يستحلون ذلك أو انه يجوز ذلك فهذا ضال غلو بل كافر يجب أن يستتاب من ذلك،فان تاب وإلا قتل)

وهنا .. يقرّر عقوبة من (يردّ) على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر (22/203):  (ومن لم يأتمر بما أمره الله به وينته عما نهى الله عنه ، بل يرد على الآمرين بالمعروف ، والناهين عن المنكر ، فانه يعاقب العقوبة الشرعية التي توجب له ولأمثاله أداء الواجبات وترك المحرمات)

وندخل في التفاصيل أكثر .. فنجده  يقرّر تأديب من يفعل أمراً فقهياً في شأن عباديّ خاصّ، وقد قال به بعض الفقهاء ( 22/218):  (  والجهر بالنية لا يجب ولا يستحب باتفاق المسلمين ، بل الجاهر بالنية مبتدع مخالف للشريعة ، إذا فعل ذلك معتقدا انه من الشرع فهو جاهل ضال يستحق التعزيز)

وكذلك (23/218) : ( وكان عمر بن الخطاب يضرب من من يصلي بعد العصر فمن فعل ذلك فانه يعزر إتباعا لما سنه عمر) 

وفي موضع آخر .. يطالب بعقوبة (تارك صلاة الجماعة) ويعيبه ويردّ شهادته، مع كون مجرّد سنّة عند كثير من الفقهاء( 23/252)  : ( والمصر على ترك الصلاة في الجماعة رجل سوء ينكر عليه ويزجر على ذلك بل يعاقب عليه وترد شهادته

ويقرّر أنّ كلّ من فعل محرّم أو ترك واجب فهو مستحقّ للعقوبة –لاحظ عموم القاعدة- (28/279):( وهذا أصل متفق عليه أن كل من فعل محرما أو ترك واجبا استحق العقوبة فان لم تكن مقدرة بالشرع كان تعزيرا يجتهد فيه ولي الأمر. )

ويقرّر مشروعية عقوبة العالم إذا خالف الكتاب  والسنّة – انتبه في هذه العقوبة ستكون لمن؟- (35/282):( وليس لأحد أن يحكم على عالم بإجماع المسلمين ، بل يبين له انه قد اخطأ فان بين له بالأدلة الشرعية التي يجب قبولها انه قد اخطأ وظهر خطؤه ولم يرجع بل أصر على إظهار ما يخالف الكتاب والسنة والدعاء إلى ذلك وجب أن يمنع من ذلك ويعاقب إن لم يمتنع،  وإما إذا لم يبين له ذلك بالأدلة الشرعية لم تجز عقوبته باتفاق المسلمين.  

فإذا كانت نصوص (الاستتابة) و (التعزير) و ( العقوبة) حاضرة في خطاب شيخ الإسلام ابن تيمية، ومتقرّرة حتى في المسائل الفقهية، والخلافيّة، فهل ترى مثل هذا الخطاب يصلح لأن يكون شاهداً على هامش حريّة لمثل فكر خالص جلبي؟ وهل يناسب أن يؤتى بشيخ الإسلام كشاهد لما كان موجوداً لدى المنافقين من هامش حريّة للكفر والطعن في الرسول وشتمه وعيبه؟

فهذه النصوص توضّح منهج شيخ الإسلام ابن تيمية، وأنه بعيد من السياق الذي وضعه فيه الكاتب، وأما مجيئه بعد حكاية حريّة المنافقين فليس بينه وبين ابن تيمية إلا بعد المشرقين،  وإن كان ولا بدّ من حضور لاسم شيخ الإسلام ابن تيمية في موضوع الحريّات، فهو وإن قلبته على أي اتجاه لن يكون إلا (عقبة) و (مشكلة) في طريق الحريّات على مفهومها المعاصر.

إذن: ما معنى النصوص التي نقلها الأستاذ نواف؟

هي نصوص تتعلّق بحكم المجتهد والمتأول من جهة المغفرة أو عدمها، ومن حيث الإثم وعدمه، فابن تيمية يرى أنّ من بذل وسعه فاجتهد فهو مغفور له لأنّه (لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها) وقد بذل ما عليه فلا يؤاخذ بما لا يطيق.

غير أنّ الحكم بأن فلاناً معذور عند الله، لا يعني أن يترك بكلّ حريّة ليقول ويقرّر كلّ ما يريد، فكونه معذور وغير معذور متعلّق بحكمه عند الله، ومتعلّق بكون قد بذل جهده واستطاعته فلم يوفق للحقّ، وأما الحريّة وهامش الحريّة فهو متعلّق بمدى صحّة وإمكانية أن يجاهر بفعله وأن يترك من غير إنكار، وهاتان مسألتان منفصلتان تماماً، فتلك من أحكام الآخرة، وهذه من أحكام الدنيا.

خذ مثلاً لهذا التفريق من النصوص التي نقلها صديقنا الكاتب ، فابن تيمية يقول: ( إن عامة ما حرمه الله مثل: قتل النفس بغير حق، ومثل الزنا، والخمر، والميسر، والأموال، والأعراض، قد استحل بعض أنواعه طوائف من الأمة بالتأويل )

فهذه مسائل قد حكم عليها (ابن تيمية) بعذر أصحابها، فهل ترون ابن تيمية يجيز القتل والزنا والخمر والميسر واستحلال الأموال والأعراض؟
فهذه مسألتان منفصلتان تماماً، فالحكم في الدنيا شيء، والحكم في الآخرة شيء آخر.
فحتّى من يعبد الأصنام، ويشرك بالله، ويشتم الصحابة، ويترك الصلاة والزكاة وكافّة الشعائر ويرتكب الزنا والربا ويشرب الخمر، قد يكون معذوراً بسبب الجهل أو التأويل أو الخطأ –بشروطه- فهل تظنّ أنّ هذا يعني أن يكون كلّ هذا داخلاً في هامش الحريّة في النظام الإسلامي؟
على أنّ من المهم أن نفهم أنّ حديث ابن تيمية هنا في الاجتهاد الذي بذل فيه الإنسان وسعه ونظر في الأدلة ولم يصل فيه إلى الحقّ، وليس في شخص معرض تماماً عن الأدلة، وهي في مسألة في النهاية متعلّقة بالإثم والمغفرة والنجاة وهي شؤون أخرويّة فلا نطيل الحديث عنها.

إلى هنا أتوقّف، وقبل أن أحمل أوراقي راحلاً  أرفع الورقة الأهم لديّ، وهي أنّ القضية هنا ليست في الشيخ عبد الرحمن البرّاك ولا في خالص جلبي، الإشكاليّة لديّ في الاستدلال الخاطئ بحالة المنافقين، المبني على تصوّر غير صحيح، ويتضمّن تشريعاً للحريّات منافٍ تماماً لأحكام الشريعة، ولو كان مجرّد استدلال بدليل غير موصل للنتيجة لهان الأمر، لكنّ هذا الاستدلال الخاطئ سيوضع فرشاً تبنى عليه الأحكام والتصوّرات في باب الحريّات،  ويبقى وجود هامش الحريّة أصلاً متفقاً عليه بين الفرقاء، غير أنّ من المهم والضروري أن  يتمّ  الاتفاق على وجود أصول وأحكام شرعيّة حاكمة ومحدّدة لهذه الحريّة، وحين نتفق على هذا الأصلّ سيتمهّد الطريق للاتفاق على ماهية هذه الأصول والأحكام الشرعية.

 

مجلة العصر
28/5/1431هـ

 

د.فهد العجلان
  • مقالات
  • السياسة الشرعية
  • سيادة الشريعة
  • محاضرات مفرغة
  • معركة النصّ
  • الفروق الفيسبوكية
  • المؤلفات
  • الصفحة الرئيسية