اطبع هذه الصفحة


على هامش (الأصل) و (الاستثناء)

د.فهد بن صالح العجلان
@alajlan_f

 
بسم الله الرحمن الرحيم


كنت أقلّب عدداً من الدراسات المعاصرة في الفقه السياسي، فوقع في يدي مقطعاً جميلاً كتبه الدكتور: صلاح الصاوي في كتابه الرائع: التعددية السياسية في الدولة الإسلامية.
ومن الموافقات أني قرأت المقطع بعد أيام من نشر مقالتي في مجلة البيان (بين الأصل والاستثناء) والتي تقوم على فكرة أساسية هي أن بعض الإسلاميين يعتمد على (الضرورة) في تأصيل وبيان عدد من الاحكام الشرعية، فما كان غير ممكن في الواقع فهو الحكم الشرعي، من دون أن يميز بين الحكم الشرعي الأصل وبين الحكم في حال الضرورة مما يؤدي إلى تحريف الأحكام الشرعية.
ومقطع الدكتور الفاضل الصاوي يعالج هذه الإشكالية تحديداً من خلال مسألة معينة من مسائل النظام السياسي، وهي حكم السماح للأحزاب السياسية التي لا تعتمد مرجعية الشريعة، فهل يتسع النظام السياسي الإسلامي لمشاركة مثل هذه الاحزاب ودخولها في معترك السياسة حتى ولو أدى ذلك لتوليها للحكم؟
ذكر الصاوي أن الإسلاميين قد تنازعوا في مشروعية الأحزاب إلى ثلاث اتجاهات رئيسية:
الاتجاه الأول: المنع من وجود الأحزاب مطلقاً.
الاتجاه الثاني: مشروعية وجود الأحزاب شريطة أن تكون ملتزمة بالمرجعية الشرعية، ومؤمنة بالخيار الإسلامي.
الاتجاه الثالث: مشروعية وجود كافة الأحزاب ولو كانت علمانية او شيوعية أو من أي اتجاه كان.
وقد عرض الصاوي لكافة الأدلة وناقشها.
فلما جاء للاتجاه الثالث وناقش إشكالاتهم، عرض لإشكالهم الذي يثبت حضور إشكالية الخلط بين الأصل والضرورة.
فقال:

(فإن قالوا إن هذا نوع من المناورة ألجأتنا إليه ظروفنا المعاصرة إذ كيف نقدر على الإعلان في مشروعنا الإسلامي عن مصادرتنا للمعارضة ونحن لم نبلغ بعد مبلغ أن نكون معارضة؟ كيف نعلن عن مصادرتنا للرأي الآخر وأقصى ما نتطلع إليه أن يسمح بنا وأن يقبل بوجودنا باعتبارنا رأياً آخر؟
ومن ناحية أخرى فنحن نثق في إسلام الأمة ويقظتها وهذه الأحزاب لا سبيل لها إلى الحكم إلا من خلال الأمة، فإذا تقدمت الأحزاب الشيوعية أو الملحدة بمشروعها الإلحادي إلى الأمة فستلفظها الأمة وتركلها وتخرجها من ذاكرتها إلى الأبد، وبهذا نصل إلى ما نريد من الناحية العملية بدلاً من فتح النار على المعارضة وإتاحة الفرصة على مشروعنا الحضاري ونحن لا نزال في مواقع المعارضة، وفي حاجة إلى تألف الجميع ومداراة الجميع.
ورغم ما قد يبدو في هذا الكلام من وجاهة بادئ الرأي إلا إنه عند التحقيق والتأمل ينكشف عواره ويظهر تهافته ويمكن أن يناقش بما يأتي:
أولاً: أن المناورة المدعاة لا تبيح الكذب على الله أو الكذب على الناس في مقام البيان والبلاغ فإن هذا نوع من التغرير والكتمان بل التلبيس والخيانة لأمانة الكلمة وأمانة البلاغ.
إن القبول بالتعددية معناه القبول المبدئي بولاية ومناهج جميع الذين يسمح لهم بالمشاركة فيها، لأن تبادل السلطة هو محور التعددية فهل تتسع المذهبية الإسلامية للقبول بولاية المجوس والوثنيين وغيرهم من سائر الكفار وقبل تطبيق مناهجهم على المسلمين؟
وإذا كانت المذهبية الإسلامية لا تتسع لذلك فلماذا هذا النفاق السياسي الذي يلبس على الأمة ويزيف الحقائق ويسوي بين المشروع الإسلامي وبين المشاريع الإلحادية والعلمانية
أما ان العمل الإسلامي لم يبلغ بعد مبلغ المعارضة المشروعة في ظل الأنظمة العلمانية السائدة فلا يتسنى له أن يصادر معارضات الآخرين فهو موضع نظر، لأننا لا نطالبه بأن يتخذ موقفاً إيجابياً تجاه مصادرة آراء الآخرين في واقع استضعافه ولكننا نذكره بأنه لا ينبغي أن يحمله الاستضعاف على تبديل مفاهيمه والانهزام لعقائده أو الكذب على الله وعلى الناس!!
وإنما نقول له قول الله عز وجل ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) فإن عجز عن أن ينطق بحق فلا ينبغي له أن ينطق بباطل، ورحم الله امرءاً قال خيراً فغنم أو سكت فسلم، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت.
لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو في ذروة استضعافه في مكة ( يا معشر قريش قد جئتكم بالذبح) فمن عجز عن قول الحق فليكف لسانه عن قول الباطل، وهذا هو الفرق بين المنهج في الإسلام الذي يعتمد الصدق والموضوعية والمنهج لدى الآخرين الذي يقوم على الخداع والديماجوجية!
أما التعويل على وعي الامة وحسن إسلامها في كشف هذه التكتلات العلمانية وهزيمتها في المعارك الانتخابية فهو قول ينطوي على قدر كبير من التفاؤل وحسن الظن بل والغيبة عن الواقع أو التجاهل لمعطياته.
هل نسي صاحب هذه المقول أن أجهزة الإعلام خالبة للعقول مذهلة للألباب؟
هل نسي قدرتها على التلبيس وقلب الحقائق وتزييف المفاهيم؟
هل نسي أن هذه الأحزاب الشيوعية قد عرفت طريقها إلى بلاد المسلمين وأصبح لها وجود رسمي وواقعي بفضل هذا التصليل الإعلامي الخبيث؟
وإذا كان وعي الأمة وحده كافياً فلماذا فازت هذه الأحزاب وأصبح لها وجود بل ورواج في بلاد المسلمين؟
إن الإقرار بالتعددية يعني أن نتيح لجميع الأطراف فرصة متكافئة في الإعلام يدعون لبرامجهم ويقدمون أنفسهم إلى الأمة وأن هذا يعني إذا لم نشترط تقيد الأحزاب بسيادة الشريعة أن يبذل الإعلام فيما يبذل للملاحدة والمرتدين يزينون باطلهم ويروجون إلحادهم وردتهم ويدعون الأمة إلى ما يفسد عليها الدين والدنيا معاً في إطار فاتن خلاب!
وإذا كنا ندين لله عز وجل بان هذه التكتلات الإلحادية لا شرعية لوجودها السياسي في دار الإسلام أو القبول باتباعها كمواطنين لا يعني القبول بهم ولاة للأمر، وأهلا للحل والعقد وقادة على البلاد والعباد، إذا كان هذا هو ما ندين الله به ظاهراً وباطناً فكيف نستبيح هذه المخادعة ونعلن على الملأ قبول هؤلاء في إطار التعددية ثم نسعى من طريق آخر أو نعول على طريق آخر للحيلولة بينهم وبين التسلل إلى مواقع السلطة التي أعلنا رسمياً عن استيعابها لهم واستعدادها لقبولهم في إطارها، أليس هذا محض النفاق والتلون والمخادعة؟
ثم ماذا يكون العمل لو استطاع هؤلاء أن يشتروا الذمم وأن يزيفوا الأصوات وأن يخادعوا الجماهير ويتسللوا إلى الحكم ليصبحوا ولاة الأمر في بلاد المسلمين زاعمين أنهم قد وصلوا إلى هذه المواقع من خلال الشرعية الدستورية، وأنهم نواب الأمة يتحدثون نيابة عنها ويفرضون كفرهم على الناس باسمها؟
أليس في هذا مجازفة بأمانة الحكم وتغرير بالولايات العامة في الأمة ومقامرة بمستقبل البلاد والعباد؟
أما الاستدلال بصحيفة المدينة فهو استدلال خارج عن محل النزاع لأنها كانت أشبه ما يكون بالنسبة لليهود بعقد الذمة التي تجعلهم يامنون على أنفسهم في إقامتهم بين المسلمين ولكن السيادة للشريعة والتحاكم إلى الله ورسوله جاء هذا جلياً في صلب الصحيفة في نص لا يحتمل التأويل أو التمحل ( وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإنه مردّه إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم).
فهل كانت هذه الصحيفة تجيز لليهود أن يكون حكاماً لللمسلمين في المدينة؟
أو أقرت منهجاً يمكن أن ينتهي بهم إلى شيء من ذلك في مستقبل الأيام؟
هذا بالإضافة إلى أن ثبوت هذه الصحيفة من الأساس موضع نظر؟
إن الخلط بين التعايش السلمي وحفظ الجوار وحسن العهد والسلام الاجتماعي وبين التعددية التي تبيح فرصة متكافئة للجميع في توجيه شؤون الحكم وتسنم مواقع السلطة في الأمة يتضمن تشويشاً خطيراً لا يحسن السكوت عليه لأنه خلط للأمور ووضع للأشياء في غير موضعها ...
لقد كان من أدلتنا للقبول بالتعددية ابتداء قاعدة الذرائع، وقلنا إنها ذريعة لصيانة الحريات ومنع التسلط وتمكين الأمة من مباشرة حقوقها في السلطة والقيام بواجبها في الرقابة والحسبة، لأن الذرائع تأخذ حكم المقاصد حلاً وحرمة، وعلى هذا فإننا وبنفس المنطق نرفض التعددية التي تكون ذريعة لولاية المرتدين والوثنيين والشيوعيين وتحكيم مناهجهم في بلاد المسلمين لأن الذريعة إلى الحرام محرمة كما أن الذريعة إلى الواجب واجبة.
وأخيراً فإن التعددية المطلقة لا وجود لها في الواقع لا في الدولة الإسلامية ولا في الدولة العلمانية لانه ما من دولة من الدول إلا وهو تقييد الحريات السياسية وغيرها بما يسمى بالنظام العام والآداب أو المقومات والمبادئ الأساسية للمجتمع ونحوه وقد تضيق دائرة هذه القيود وقد تتسع وقد تتفاوت من دولة إلى أخرى، إلا أن القدر المحكم لدى الجميع هو وجود إطار يجب أن تتقيد به هذه التعددية وأن تدور في فلكه.).


الفيسبوك
14/6/1432هـ
 


 

د.فهد العجلان
  • مقالات
  • السياسة الشرعية
  • سيادة الشريعة
  • محاضرات مفرغة
  • معركة النصّ
  • الفروق الفيسبوكية
  • المؤلفات
  • الصفحة الرئيسية