اطبع هذه الصفحة


الخصم الأكبر !
عدد ربيع الآخر1432هـ

د.فهد بن صالح العجلان
@alajlan_f

 
بسم الله الرحمن الرحيم


لطالما  طرق أذني هذا المعنى ،  وكثيراً ما يعاد ترداده في مناسبات عديدة، هذا المعنى يتلخّص في العبارة التالية (ضرورة تقديم خطاب عقلاني وبرهاني وعلمي لدعوة الناس إلى الإسلام، وأنّ سبب جفولهم عن الإسلام راجع إلى ضعف الخطاب الموجّه لهم).

ليس لي تحفّظ كبير يمسّ صحّة  هذا  المعنى، لكنّي كلما سمعتُ هذه العبارة قفز إلى ذهني المناظرات العلمية والإعجاز العلمي  فأجد أن دورها في دعوة الناس إلى الإسلام، وأثرها على أعداد الداخلين في الإسلام أضعف وأبعد بمراحل كثيرة من دور الموعظة الحسنة أو التعامل اللطيف أو الخطاب العقلي الميسّر مما جعلني أشك في حقيقة هذه الضرورة التي تكرّر علينا في كلّ حين، ليس انتقاصاً أو شكاً  لأهمية الحديث العقلاني والعلمي وإنما أشعر أنه يتضخّم أمام ناظرينا فيتشكل  بأكبر من صورته الحقيقية.

عدت  إلى (كتاب الله) وبدأت في قراءة المصحف من فاتحته لأتلمس الطريق الصحيح في التعامل مع هذا الأمر، ولم أكد أنهي بعض أجزاء القرآن حتى ذهلت من الحقيقة التي ظهرت لي بجلاء، لم تكن جديدة عليّ ولا أظنّها تخفى على أحد لكن ميزة  النظر في القرآن أنه يرتّب الأولويات في عقل المسلم ويعيد تشكيل نظرته إلى الأمور لتبدو في وضعها الصحيح.


بدت لي حقائق شرعية ناصعة البيان يجب أن تكون أمام ناظرينا في قضية الإيمان:

الحقيقة الأولى:
أن الهداية إلى الإسلام نعمة ومنّة من الله على أهل الإسلام (كذلك كنتم من قبل فمنّ الله عليكم) يختار الله لها و(يختصّ برحمته من يشاء)  وأمرها إلى الله فـ (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء)  فلن يدخل أحد في الإسلام إلا بعد أن يشرح الله صدره لذلك (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) وهذا ما يجعل من ثناء أهل الإيمان قولهم (وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله)  حتى من دخل في الإسلام فلن يستقيم على أحكام الشريعة إلا بفضلٍ من الله (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً)

وهذه الحقيقة توصلنا إلى الحقيقة الثانية:
أن الله يحول دون وصول بعض الناس إلى الإسلام فلا يتمكن من فهم الحقّ ولا ينشرح صدره له (ختم الله على قلوبهم وسمعهم وعلى أبصارهم غشاوة)  (وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً) (الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً) وجاء في ذلك التحذير المخيف  (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه)

فإذا لم يرد الله هداية إنسانٍ إلى الإسلام  فلن يملك أحد له شيئاً (أتريدون أن تهدوا من أضل الله) وقال نوح مخاطباً قومه (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح  لكم إن كان الله يريد أن يغويكم) لأن القاعدة الشرعية الراسخة في نفوس المسلمين جميعاً أنه  (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً)، فهم محجوبون عن الهداية، بل ويصرفهم الله عنها لمِـَا علم من حالهم (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وأن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها  وأن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً).

هاتان الحقيقتان تزيحان الستار  عن  ناظري المسلم بأن فهم الإسلام والاقتناع به لا يعني الدخول فيه، وأن من يرفض الدخول في الإسلام فليس لأنه لم يفهم الدليل ولم يقتنع به، فثمّ أمر آخر فوق هذا كلّه، هو إرادة الله ومشيئته، فالهداية ليست مرتبطة آلياً بالدليل العقلي، فإذا رفض شخص الإسلام بحثنا عن المزيد من الدلائل العقلية واجتهدنا في الإقناع تلو الإقناع، بل هي هداية وانشراح قبل ذلك وبعده، وهذا يضع (الدليل العقلي) في مكانه الصحيح فلا يطغى ويتضخّم ليربك المفاهيم والأولويات الشرعية.

الحقيقة الثالثة:
أن الدلائل العقلية ليست على الوجه الذي يريد الكفار،  فإنهم يقترحون  دلائل معينة فلا تحقق لهم ( فعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليك كنز أو جاء معه ملك)   وطالبوا (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك من جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا) فهذه دلائل طلبوها حتى يقتنعوا بالإسلام فلم تحصل لهم، مما يعني أن الدلائل العقلية لا يجب أن تكون بحسب ما يريد الكافر.

الحقيقة الرابعة:
أنّ الكفار يعتقدون أنهم على حقّ ( إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون) (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً) ولديهم قدرة على المحاججة والمجادلة عن باطلهم (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم) (ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق)

فبقاء الكافر معتقداً أنه على حق ويسير في طريق صحيح هذه سنّة كونية أرادها الله ولا مبدّل لما أراد، فالإنسان ليس بقادر على أنّه يقدّم دليلاً عقلياً يكون قاطعاً لأي أحد ولكل مجادل ويكون حال منكره كحال من ينكر الأرض التي يمشي عليها ، بل سنة الله أن يبقى أكثر الناس على ضلال ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)

الحقيقة الخامسة:
أن سبب ضلال كثيرٍ من الناس ليس لعدم فهمهم لدلائل الإيمان والتوحيد،  بل لما في نفوسهم من أهواء وأدواء، وفي (القرآن) ذكر لكثير من هذه الأهواء:

المال (ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً) والتلبيس (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) والإعراض (ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون)والحسد (ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم) والتعصّب للآباء(قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا)وحب الدنيا (زين للذين كفروا الحياة الدنيا) وغيرها كثير.

الحقيقة السادسة: قيام الدنيا على الابتلاء والتمحيص
 ، فمن سنّة الله أن يجري على أهل الإيمان الابتلاء والاختبار (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء)  وقد بيّن الله حكمة هذه السنّة الربّانية  (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب)، فقضية الإيمان ليست مسائل عقلية تفهم أو لا تفهم، بل تحتاج النفوس مع ذلك إلى اختبار وامتحان ليظهر الثبات والصبر وتقديم مراد الله، وهذه معانٍ شرعية عظيمة هي أسمى بكثير من فهم الدليل أو عدم فهمه، ولذلك يتكرر في القرآن وصف المؤمنين بالتزكية والثبات والإخبات والانقياد مما يعني أن الإيمان ليس فهماً للدليل بل خضوع وانقياد وتسليم لله ربّ العالمين، وهو ما تأنف عنه كثير من النفوس ولا يكفي فهمها للدليل لتصل لهذه المنزلة.

ما الذي نخلص إليه بعد استحضار هذه الحقائق القرآنية؟


نخلص إلى أنّ موضوع الإيمان ليس قضية عقلية صرفة، تتوقّف على مدى قدرتنا على تقديم خطاب عقلاني مذهل، وأنّ كثرة المعادين للإسلام وعلوّ أصواتهم ليس ناتجاً بالضرورة عن ضعف الدليل العقلي الذي يسمعونه من المسلمين، بل وراء ذلك أسباب عدّة تفتح لذهن الداعية فضاءً واسعاً للتفكير في كيفية الدعوة إلى الإسلام فلا يغلق ذهنه على صورة واحدة تتضخّم في الذهن بسبب عوامل خارجية،

وهذا قطعاً ليس تقليلاً من الدلائل العقلية أو تهويناً من قدرها، بل إن القرآن مليء بالبرهنة والاستدلال العقلي واستحثاث أهل العقول ونعي على أهل الشرك تعطيلهم لعقولهم،

إنّ حضور هذه الحقائق يفتح أمام ناظرينا  النتائج التالية:


1-
أن الخصومة الحقيقية والمشكلة الأكبر التي تصدّ الناس عن الإسلام ليست الدلائل العقلية بقدر ما هي (الأمراض) التي تسكن النفوس من كبر وحسد وحبّ للمال والجاه أو التعصّب لما عليه المجتمع والإرث أو الإعراض وحبّ الدنيا، ولعلّ هذا يفسّر أن أكثر الداخلين في الإسلام ينقادون إليه من دون حاجة لخطاب ذو مواصفات عالية في البرهنة والعقلانية.

2- أهمية العناية بالوسائل التي تعالج أمراض النفوس وأدوائها،  فالوعظ والترغيب والترهيب والتذكير بالبعث والمصير له دور عظيم في دخول الناس في دين الله أفواجاً، وسيلفت نظرك حين تقرأ دلائل القرآن أن الخطاب الوعظي حاضر بقوّة في مجادلة الكفّار، فتأمل في الآيات التالية (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة) وقوله سبحانه ( ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم) وقوله (وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم) بل إن من حكمة  الله في إرسال الآيات (وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً) فهذا خطاب الله الذي خلق هذه الأنفس ويعلم ما تحتاج إليه، وهو معنى يغفل عنه كثيراً من يغرق في العناية بالدلائل العقلية فيكون جلّ تفكيره وحديثه في محاولة الإبداع في استخراج الدلائل التي تقنع المخالف – وهو مطلوب حسن- لكنه يغفل عن  أثر الوعظ في هداية الناس.

3-
الاعتدال في تقرير وتقديم الدلائل العقلية فدورها أن تبين الحق للشخص وليس أن تدخله في الإسلام، وحين لا ينشرح صدر الشخص للإسلام فإنه قادر على المجادلة وإثارة الملفات المختلفة إلى ما لا نهاية، وكثيراً ما تختفي الأهواء والأمراض والحظوظ الشخصية في قوالب الدلائل العقلية التي يقدّمها المجادل، فتكون غلافاً لأهواء النفوس من حيث يشعر أو لا يشعر، ولهذا يكثر في خطاب القرآن تسمية حجج الكفار بالأهواء ( ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم) بل كلّ من يعرض عن اتباع الرسول فهو متبع لهواه ( فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم) وحين يكون بعض الناس بحاجة للدلائل العقلية المعقّدة والمركّبة والدقيقة فيجب أن يكون ذلك بحسب الحاجة لأن أكثر الناس في غنى عنها.

4-
مراعاة النفوس التي يعرف من حالها الصدق والبذل وحبّ الخير للناس أو الضعفة من الناس فمثل هؤلاء أقرب لأن تكون نفوسهم مهيّأة لقبول الحق (ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم)،  لأن سوء بعض الناس يكون سبباً لأن يحرمه الله من الهداية فكما قال تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) حتى لو جاءتهم الدلائل العقلية الواضحة البينة فإنهم لا يستفيدون ولا ينتفعون، بل قد يزيدهم سماع الحقّ ضلالاً  وفساداً كما قال تعالى (ونخوّفهم فما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً) وقال سبحانه (ولقد صرّفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفوراً) بل حتى لو أتاهم الدليل عياناً بياناً وتحقّق لهم حسب ما يريدون فلن ينتفعوا به (
ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون)

 

د.فهد العجلان
  • مقالات
  • السياسة الشرعية
  • سيادة الشريعة
  • محاضرات مفرغة
  • معركة النصّ
  • الفروق الفيسبوكية
  • المؤلفات
  • الصفحة الرئيسية