اطبع هذه الصفحة


بين (مقاصد الشريعة) و (مقاصد النفوس)!
عدد شوال 1431هـ

د.فهد بن صالح العجلان
@alajlan_f

 
بسم الله الرحمن الرحيم


(نحن بحاجة إلى إعادة النظر في هذا الحكم حسب المقاصد الشرعيّة) و ( لا بدّ من مراعاة المقاصد الشرعية عندما نتحدّث عن هذه القضية).
وعبارات أخرى مختلفة، ستراها – ولا بدّ – عند أي رؤية منحرفة تتعامل مع النصوص والأحكام الشرعيّة، فعامّة الانحراف المعاصر حين يتعامل مع النصوص والأحكام الشرعية الجزئية فإنه لا بدّ في سياق تجاوزه لأي حكم وإنكاره له أن يرفع لافتة (المقاصد الشرعيّة) كتصريح شرعيّ للمارسات غير الشرعيّة.

المقاصد الشرعيّة التي كتب فيها فقهاء الإسلام بدءاً من الجويني والغزالي والعزّ بن عبد السلام والقرافي وشيخ الإسلام ابن تيمية والشاطبي تختلف اختلافاً تامّاً عن هذه المقاصد التي يشيع كثير من الناس الحديث فيها، فالمقاصد عند فقهاء الإسلام قواعد كليّة مستخرجة من استقراء كلّي لكافّة النصوص والأحكام الجزئية، ولا يصحّ أن يردّ بها أي حكم أو نصّ جزئي، بخلاف هذه المقاصد التي تترجم المقاصد التي تريدها (نفوسهم) وتميل إليها (اختياراتهم) ويسعون من خلالها لردّ جملة من النصوص والأحكام  غير المرغوب فيها.
من أهم قواعد المقاصد الشرعيّة أنّ لا يردّ بها أي حكم جزئي، فإذا ثبت نصّ شرعي أو حكم فقهي فلا يجوز أن ينقض ويتجاوز بدعوى أنه مخالف لقاعدة مقاصديّة  فهذا باطل لا علاقة له بعلم المقاصد ( فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكماً شرعياً ليس بحقّ في نفسه) ([1])
 وإذا كانت المقاصد الشرعية تقوم على ضرورة اعتبار (الكليّات) فإنها تقوم على اعتبار الجزئيات كذلك ( كما أنّ من أخذ بالجزئي معرضاً عن كليّه فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي معرضاً عن جزئيه) ([2])
 
 فالمقاصد الشرعية تعتمد على تفاصيل الأحكام الجزئية، تقوم عليها، ولا تنكرها، بل حتى ولو وجد تعارض بين قاعدة مقاصديّة وحكم جزئي تفصيلي فإن المنهج الصحيح في ذلك ليس إنكار الجزئي بل  ( إذا ثبت بالاستقراء قاعدة كليّة ثم أتى النصّ على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة فلا بدّ من الجمع في النظر بينهما) ([3])

 فإذا وصل الأمر إلى حصول تعارض بين (الكليات) و ( الفروع) فهذا يستدعي الجمع بينهما لأهمية كلّ من الكليات والفروع التفصيلية، وهو شيء لا يفهمه (مقاصديّو النفوس) حيث ينكرون النصوص والأحكام الشرعية ثمّ يبحثون بعد هذا عن الطريقة المقاصدية المناسبة لرفض مثل هذه الأحكام!
لقد كان الشاطبي مدركاً غاية الإدراك خطورة استعمال المقاصد من غير المؤهلين،  ولأجله منعهم من  موافقاته وجعلهم في حرج من قراءته أو الاستفادة منه (لا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد حتى يكون ريّان من علم الشريعة أصولها وفروعها معقولها ومنقولها) ([4])

كما أطال الحديث عن ضرورة العناية بالجزئيات، وأن المقاصد لا تقوم إلا عليها، وهذا كلّه لإدراكه أن طبيعة المقاصد وما فيها من كليات عامة يستدعي دخول  غير المؤهلّين واستغلال بعض المنحرفين مما يؤدّي إلى تعطيل الشريعة، وهذا ما دعا بعض المنحرفين الذين يفهمون حقيقة المقاصد الشرعيّة أن يسمّي المقاصد بأنها (تبرير) للأحكام الشرعية ليس إلإ، وقد صدق، فالمقاصد ليست إلا بحثاًَ عن (فلسفة) لقواعد وعلل للشريعة من خلال الأحكام والنصوص، فإذا وجد نصّ مخالف فإن المقاصد تعدّل في (الفلسفة) حتى تدخل هذا الحكم لا أن تلغيه لمخالفته للمقاصد.

إنّ دعوتهم للأخذ بالمقاصد لإسقاط بعض الأحكام الشرعية يؤدّي إلى نسف الشريعة بكاملها، وتعطيل كافّة أحكامها، وإسقاط قطعياتها وضرورياتها، وليس عسيراً على أي أحد أن ينفي أي حكم شرعي ويربط ذلك بمقاصد عليا، وقد مارس المعاصرون في ذلك من ألوان العدوان على الأحكام الشرعية ما لا يحصيه إلا الله، فـ ( الحدود الشرعية) منافية لمقصد الشريعة في الرحمة وإشاعة الامن و ( حدّ الردةّ) منافٍ لمقصد الشريعة في التسامح والحريّة  و ( الحجاب) منافٍ لتكريم المرأة و ( كلّ فتوى بتحريم أي حكم) تنافي مقصد الشريعة في التيسير ورفع الحرج و ( الحكم بكفر من لم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم) يتعارض مع مقصد إرساله رحمة للعالمين و (حرمة الربا) أو ( منع المحرّمات) يؤدّي إلى حصول حرج ومشقة تنافي مقصد الشريعة
ولأجل ذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية بصيراً بأمر عموميات المقاصد حين قال:(فمن (استحلّ أن يحكم بين الناس بما يراه هو عــــدلاً من غير اتباع لما أنـــــزل الله فهو كافر). ([5]) فهذه المقاصد الكلية تتسم بالعمومية المطلقة التي يشترك فيها عامة الناس، فاختصاص الشريعة إنما يكون بتفصيل هذه المقاصد وشرحها وتقييدها فإذا ألغى الإنسان الاعتبار بها  لم يكن قد أخذ من الشريعة بشيء.

وهكذا تغيب أحكام الشريعة الجزئية، بسبب مخالفتها لمقاصد (النفوس) كما يسمّيها بعض الفضلاء، فهي مقاصد لما تريده نفوسهم وأهواؤهم وما يتوافق مع شهواتهم جعلوها قواعد كليّة تحاكم إليها النصوص والأحكام الفقهية،  وتلك (النفوس)  تكاد تحصر مقاصدها في الجانب الدنيوي المحضّ، وهو ما يختلف تماماً عن المقاصد الشرعيّة المستفادة من نصوص الكتاب والسنّة  التي تدلّك على أنّ ( الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية) ([6])   
 
بل إن المصالح الدنيوية تابعة للمصالح الأخرويّة  فـ (المصالح المجتلبة شرعاً والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية). ([7])
وإذا كان إشاعة علم المقاصد الشرعية ضرورياً في مرحلةٍ ما لشيوع التعصّب والجهل والتضييق على الناس فإنّ المبالغة في تقرير المقاصد الشرعيّة وإشاعتها وتعظيم قدرها وضرورتها عند عامة الناس  وقد اختلف الحال سيكون على حساب تعظيم النصّ الشرعي والانقياد له، وسيكون سبباً لظهور مقاصد النفوس لتشيع عبثها وانحرافها بدعوى (مقاصد الشريعة) . 

---------------------------
([1])  الموافقات للشاطبي 2/556
([2]) الموافقات 3/8
([3])  الموافقات 3/9
([4]) الموافقات  1/78
([5])  منهاج السنة النبوية 5/130
([6]) الموافقات 2/350
([7]) الموافقات 2/351

 

د.فهد العجلان
  • مقالات
  • السياسة الشرعية
  • سيادة الشريعة
  • محاضرات مفرغة
  • معركة النصّ
  • الفروق الفيسبوكية
  • المؤلفات
  • الصفحة الرئيسية