اطبع هذه الصفحة


سجال السيادة، وظاهرة المسارات المتفاوتة! (تدوينة مختصرة)

د.فهد بن صالح العجلان
@alajlan_f

 
بسم الله الرحمن الرحيم


تلحظ بوضوح في أي سجال حول (السيادة) أن النقاش يطول جداً، فيتحدث الشخص كثيراً، ويستمع طويلاً،  ثم يخرج وهو يقول لم تفهموني، ويقول صاحبه لم تفهمني!

لهذا تفسيرات عدة، من أهمها في نظري  هو ظاهرة المسارات المتفاوتة، فالنقاش لا يسير على مسار واحد وسؤال واحد، بل ثم أسئلة متعددة، ومسارات مختلفة في موضوع السيادة، تتقاطع في الحوار وتتبعثر القضايا، فيتحدث في الموضوع على اعتبار أنه مسار واحد، في نفس الوقت الذي يتحرك هو ومن يقابله في مسارات مختلفة.


هناك أربعة مسارات في موضوع السيادة،  تختصر في الأسئلة التالية:

1-لمن المرجعية والمشروعية؟ (وهذا سؤال السيادة تحديداً).
2-من الذي ينفذ ويطبق؟
3-من يضمن أن يكون التنفيذ مستقيماً وحسب المشروعية؟
4-كيف نصل إلى هذه المشروعية؟

فلا يصح أن تعترض على السؤال الأول بمعلومة في السؤال الثاني، ولا أن تحسم جوابك على السؤال الأول وأنت تجيب على السؤال الرابع أو الثالث!


سأعرض جواباً مختصراً على هذه الأربعة ثم أضع نموذجاً تطبيقاً للخلل الذي يحصل.

المرجعية في النظام السياسي الإسلامي لأحكام الشريعة، فلا شيء يعلو عليها، ولا مشروعية بدونها:
 فالطاعة لها (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول)
وأي شيء يخالف فهو منكر يجب منعه (من رأى منكم منكراً  فليغيره..)
 ويجب التحاكم والحكم إليها (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به)
وكل القرارات يجب أن تتقيد بها (إنما الطاعة في المعروف) (ما لم يؤمر بمعصية)
والقتال لمن كفر بها (إلا تروا كفراً بواحاً).
وتطبيقها بحسب الاستطاعة (فاتقوا الله ما استطعتم).

وأما حين تقول إن المشروعية والسيادة للأمة فإنك ستجعل كل هذه الأحكام لها، وهذه مناقضة لأصل قطعي في الشريعة.


من يطبق وينفذ هذه المشروعية؟

هم الناس، وليسوا كل الناس طبعاً، بل كل بحسب وظيفته، فهناك جهاز قضائي، تشريعي، أمني، رقابي، الخ.


من يضمن؟

هناك ضمانات قانونية، ضمانات سياسية، إضافة إلى ضمان القوة، وكل هذه الضمانات تحتاج إلى ضمانات أخرى، فهي لوحدها لا تكفي، وهي تعتمد على قوة الدولة وثقافة أهلها والقيم المؤثرة وتاريخ الحكم وطول التجربة وعوامل كثيرة لا تختصر في أدوات محددة فما ينجح في نظام قد يكون أكبر إخفاق في نظام آخر.


كيف نصل إليها؟

سؤال السيادة لا يحدد كيف تصل، لهذا في النظام الديمقراطي لا يكون الوصول إلى الديمقراطية بالديمقراطية نفسها، إنما يبحث فقهاء القانون وسائل الوصول إلى الديمقراطية فيذكرون (المنحة من الحاكم، شبه المنحة، العقد، الانقلاب العسكري .. الخ) فدورهم أن يبثوا في الناس الوعي بالمشروعية وأما الوسيلة لها فليست من اختصاصهم، فهو محكوم بحسب كل واقع ومصالحه  وإمكانياته ومشروعيته.

يتهكم بعض المعاصرين على الفقهاء فيقول يرون للمتغلب مشروعية، فإذا جاء متغلب آخر أعطوه المشروعية أيضاً!
وهذا كلام يكشف أن بعض الناس يفكر بنشاط ذهني عقلي صرف بعيداً عن فهم النظم السياسية.
فكل النظم في الدنيا تقوم على  هذا الاعتبار، فهي تعطي المشروعية للنظام القائم فإذا سقط وجاء غيره أعطت المشروعية للجديد، هذا هو سنة تاريخ النظم السياسية في العالم كله، فما المضحك والغريب؟

الذي يميز النظام السياسي الإسلامي أنه جعل للمشروعية حداً لا يقبل تجاوزه ولو جاء بالتغلب والقهر بخلاف تلك النظم فليس لديها أي حد، كما أنه يجعل أحكام الإسلام هي المشروعية على أي حال، فأي قرار يخالف حكماً شرعياً فلا طاعة له سواء ًجاء من فرد أو جماعة أو من أمة أو من  أي أحد.

فسؤال المرجعية مسار يختلف عن مسار كيف الوصول، فأنت لا تحدد مشروعيتك بناءً على الطريق الذي تصل إليه، لهذا تجد النظم الليبرالية تشيع فكرها وفلسفتها وتقنع الناس بأن هذا هو السبيل الصحيح وما عداه فهو ظلم وجور الخ حتى يتشبع الناس بهذا ثم تتجه كل الطرق للوصول إليه، وهكذا تسير كل مشروعية.

إذا تفككت لديك هذه الأسئلة، واتضحت رؤية المسارات الأربعة، فستتعجب ممن يجيب على هذه الأربعة كلها بكلمة واحدة هي (الآمة)!

فالمشروعية للأمة!
 والتنفيذ للأمة!
والضمان من الأمة!
 والوصول من الأمة!

هذا كلام إنشائي خطابي، يمكن أن يكون مقبولاً في مقام معين، لكن لا يسوغ في مقام التأصيل والتحرير خاصة حين يرتب عليها أحكام وتصورات شرعية.

وهو شيء لا يمكن  أن تجده في الدراسات المتخصصة في الموضوع، فليس لديهم مثل هذا الخلط، فحين تفتح أي كتاب في القانون الدستوري أو النظم السياسية أو الفقه السياسي ستجد أن سؤال السيادة له مبحث خاص، ثم سؤال المؤسسات التنفيذية، ثم سؤال الضمانات، فكل مبحث له محدداته وإجاباته، ولا تجد لديهم مثل هذه (العجينة)!

فمن الظريف مثلاً أن يشكك الشخص في مرجعية الإسلام لأن الشريعة لا تطبق نفسها بنفسها!
عجيب! وهل إرادة الأمة تطبق نفسها بنفسها؟ وهل الليبرالية أو الاشتراكية أو أي منظومة في الدنيا تطبق نفسها بنفسها؟
فهذه معلومة بدهية، لهذا لا أذكر أني وجدت هذه الكلمة ولا أي جواب عليها في أي دراسة معاصرة، لأنها جدال في بدهيات.

نأخذ الآن هذا المثال التطبيقي،  نوضح به خلط المسارات،  ونختم به هذه التدوينة:
السيادة للأمة، لأن الأمة هي التي تطبق أحكام الإسلام وهي التي توجه الله لها بالخطاب، وجعل الشريعة موكولة بالأمة هو أكبر ضمان لحفظ الشريعة من التعدي والعبث والاستغلال، ولا يمكن أصلاً أن تفرض الشريعة على الأمة وهي ترفضها.

مضمون هذا المقطع يتكرر، وستلاحظ الخلط بين المسارات بشكل ظاهر:
فهو يجيب عن السؤال الأول (سؤال المشروعية)  بأن الأمة تطبق! (انتقال للسؤال الثاني) ثم يدلل على ذلك بموضوع الضمان (السؤال الثالث) ثم يتحدث عن كيفية فرض الشريعة (السؤال الرابع).

أياً ما كان قناعتك في موضوع السيادة، فمن المهم أن تميز هذه المسارات، فلها في تقديري أثر كبير في تصحيح كثير من الإشكالات، وفي تصور الخلل الكبير الذي يقع فيه من يجعل سيادة الأمة فوق سيادة الشريعة بغض النظر عن المدخل الذي يظنه سيهون من حجم هذه الاشكالات.

تعليق رابع على نقاش السيادة بين الشويقي والمالكي
14/9/1433هـ

 

د.فهد العجلان
  • مقالات
  • السياسة الشرعية
  • سيادة الشريعة
  • محاضرات مفرغة
  • معركة النصّ
  • الفروق الفيسبوكية
  • المؤلفات
  • الصفحة الرئيسية