** أولا:ما يتعلق بالتشبه بالكفار
والمنع الشديد من ذلك:ـ
* قال ابن تيمية فى معنى الصراط
المستقيم فى:اقتضاء الصراط المستقيم جـ2 صـ 11 وما بعدها:ـ
ثم إن الصراط المستقيم هو أمور باطنة في القلب من اعتقادات وإرادات وغير ذلك
وأمور ظاهرة من أقوال وأفعال قد تكون عبادات وقد تكون أيضا عادات في الطعام
واللباس والنكاح والمسكن والاجتماع والافتراق والسفر والإقامة والركوب وغير
ذلك.
وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ولا بد ارتباط ومناسبة فإن ما يقوم
بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورا ظاهرة وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال
يوجب للقلب شعورا وأحوالا
وقد بعث الله عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحكمة التي هي سنته وهي
الشرعة والمنهاج الذي شرعه له.
فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب
عليهم والضالين وأمر بمخالفتهم في الهدى الظاهر وإن لم يظهر لكثير من الخلق
في ذلك مفسدة لأمور
منها أن المشاركة في الهدى الظاهر تورث تناسبا وتشاكلا بين المتشابهين يقود
إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال وهذا أمر محسوس فإن اللابس لثياب أهل العلم
مثلا يجد من نفسه نوع انضمام إليهم واللابس لثياب الجند المقاتلة مثلا يجد في
نفسه نوع تخلق بأخلاقهم ويصير طبعه مقتضيا لذلك إلا أن يمنعه من ذلك مانع.
ومنها أن المخالفة في الهدى الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن
موجبات الغضب وأسباب الضلال والانعطاف إلى أهل الهدى والرضوان وتحقق ما قطع
الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين وكلما كان القلب أتم
حياة وأعرف بالإسلام الذي هو الإسلام لست أعني مجرد التوسم به ظاهرا أو باطنا
بمجرد الاعتقادات التقليدية من حيث الجملة كان إحساسه بمفارقة اليهود
والنصارى باطنا أو ظاهرا أتم وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد
ومنها أن مشاركتهم في الهدى الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التمييز
ظاهرا بين المهديين المرضيين وبين المغضوب عليهم والضالين إلى غير ذلك من
الأسباب الحكمية
هذا إذا لم يكن ذلك الهدى الظاهر إلا مباحا محضا لو تجرد عن مشابهتهم فأما إن
كان من موجبات كفرهم فإنه يكون شعبة من شعب الكفر فموافقتهم فيه موافقة في
نوع من أنواع ضلالهم ومعاصيهم
* فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له والله أعلم
** فصل في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على الأمر بمخالفة الكفار
والنهي عن التشبه بهم
لما كان الكلام في المسألة الخاصة قد يكون مندرجا في قاعدة عامة بدأنا بذكر
بعض ما دل من الكتاب والسنة والإجماع على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن
مشابهتهم في الجملة سواء كان ذلك عاما في جميع الأنواع المخالفة أو خاصا
ببعضها وسواء كان أمر إيجاب أو أمر استحباب.
وكذلك نفس قصد مخالفتهم أو نفس مخالفتهم مصلحة بمعنى أن ذلك الفعل يتضمن
مصلحة للعبد أو مفسدة وإن كان ذلك الفعل الذي حصلت به الموافقة أو المخالفة
لو تجرد عن الموافقة والمخالفة لم يكن فيه تلك المصلحة أو المفسدة ,كذلك قد
نتضرر بموافقتنا الكافرين في أعمال لولا أنهم يفعلونها لم نتضرر بفعلها.
*قال: فنحن نذكر من آيات الكتاب ما يدل على أصل هذه القاعدة في الجملة ثم
نتبع ذلك الأحاديث المفسرة لمعاني ومقاصد الآيات بعدها:ـ
قال الله سبحانه:وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ
وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ
وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ {16} وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ
الْأَمْر فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ
بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ{17} ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ
مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِع أَهْوَاء الَّذِينَ لَا
يَعْلَمُونَ {18} إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّه شَيئًا وإِنَّ
الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ
الْمُتَّقِين(19) سورة الجاثية.
أخبرسبحانه أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا وأنهم اختلفوا بعد
مجيء العلم بغيا من بعضهم على بعض ثم جعل محمدا صلى الله عليه وسلم على شريعة
من الأمر شرعها له وأمره باتباعها ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون وقد
دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته وأهواءهم هي ما يهوونه وما عليه
المشركون من هديهم الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل وتوابع ذلك فهم
يهوونه وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين
في بعض أمورهم ويسرون به ويودون أن لو بذلوا مالا عظيما ليحصل ذلك ولو فرض أن
ليس الفعل من اتباع أهوائهم فلا ريب أن مخالفتهم في ذلك أحسم لمادة متابعتهم
في أهوائهم وأعون على حصول مرضاة الله في تركها وأن موافقتهم في ذلك قد تكون
ذريعة إلى موافقتهم في غيره فإن من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه.
ومن هذا الباب قوله سبحانه: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُون
بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو
وَإِلَيْهِ مَآبِ {36} وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ
اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ
اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ {37} سورة الرعد. َ
فالضمير في أهوائهم يعود والله أعلم إلى ما تقدم ذكره وهم الأحزاب الذين
ينكرون بعض ما أنزل إليه فدخل في ذلك كل من أنكر شيئا من القرآن من يهودي أو
نصراني أو غيرهما وقد قال ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم
ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم وتوابع دينهم اتباع لأهوائهم بل يحصل
اتباع أهوائهم بما هو دون ذلك
ومن هذا أيضا قوله تعالى:
وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ
مِلَّتَهُمْ قُلْ إِن هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكََّ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ
مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ {120} سورة البقرة.
فانظر كيف قال في الخبر ملتهم وفي النهي أهواءهم لأن القوم لا يرضون إلا
باتباع الملة مطلقا والزجر وقع عن اتباع أهوائهم في قليل أو كثير ومن المعلوم
أن متابعتهم في بعض ما هم عليه من الدين نوع متابعة لهم في بعض ما يهوونه أو
مظنة لمتابعتهم فيما يهوونه كما تقدم
ومن هذا الباب قوله سبحانه :
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ
أَبْنَاءهُمْ وَإِن فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ {146} الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ {147} وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ
الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا ّ إِنَّ
اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {148} وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ
وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ {149} وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ
فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ
حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ
وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
{150} سورة البقرة.
قال غير واحد من السلف معناه لئلا يحتج اليهود عليكم بالموافقة في القبلة
فيقولوا قد وافقونا في قبلتنا فيوشك أن يوافقونا في ديننا فقطع الله
بمخالفتهم في القبلة هذه الحجة إذ الحجة اسم لكل ما يحتج به من حق وباطل "إلا
الذين ظلموا منهم" وهم قريش فإنهم يقولون عادوا إلى قبلتنا فيوشك أن يعودوا
إلى ديننا.
فبين سبحانه أن من حكمة نسخ القبلة وتغييرها مخالفة الكافرين في قبلتهم ليكون
ذلك أقطع لما يطمعون فيه من الباطل ومعلوم أن هذا المعنى ثابت في كل مخالفة
وموافقة فإن الكافر إذا اتبع في شيء من أمره كان له من الحجة مثل ما كان أو
قريب مما كان لليهود من الحجة في القبلة
وقال سبحانه :"وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن
بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
{105} سورة آل عمران.
وهم اليهود والنصارى الذين افترقوا على أكثر من سبعين فرقة ولهذا نهى النبي
صلى الله عليه وسلم عن متابعتهم في نفس التفرق والاختلاف مع أنه صلى الله
عليه وسلم قد أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة مع أن قوله لا تكن
مثل فلان قد يعم مماثلته بطريق اللفظ أو المعنى وإن لم يعم دل على أن جنس
مخالفتهم وترك مشابهتهم أمر مشروع ودل على أنه كلما بعد الرجل عن مشابهتهم
فيما لم يشرع لنا كان أبعد عن الوقوع في نفس المشابهة المنهي عنها وهذه مصلحة
جليلة
وقال سبحانه وتعالى لموسى وهرون:ـ
قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ
سَبِيل الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ {89} سورة يونس َ
وقال موسى لأخيه هرون:وَقَال مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي
قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ {142} سورة
الأعراف.َ
وقال تعالى: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ
الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرسَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى
وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا {115} سورة النساء. َ
وما هم عليه من الهدى والعمل هو من سبيل غير المؤمنين بل من سبيل المفسدين
والذين لا يعلمون وما يقدر عدم اندراجه في العموم فالنهي ثابت عن جنسه فيكون
مفارقة الجنس بالكلية أقرب إلى ترك المنهي عنه ومقاربته في مظنة وقوع المنهي
عنه.
قال سبحانه: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَاب بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا
بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم
بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُم عَمَّا جَاءكَ مِنَ
الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء
اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ
آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا
فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {48} وَأَنِ احْكُم
بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ
أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ
فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ
وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ {49} سورة المائدة.
ومتابعتهم في هديهم هي من اتباع ما يهوونه أو مظنة لا تباع ما يهوونه وتركها
معونة على ترك ذلك وحسم لمادة متابعتهم فيما يهوونه.
ونحن ذكرنا ما يدل على أن مخالفتهم مشروعة في الجملة إذ كان هذا هو المقصود
هنا.
ثم قال سبحانه : فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم
بِخَلاَقِكُم كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ
وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي
الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {69} سورة التوبة .
وفي "الذي" وجهان أحسنهما: أنها صفة المصدر أي كالخوض الذي خاضوه فيكون
العائد محذوفا كما في قوله "أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما
فهم لها مالكون" وهو كثير فاش في اللغة
والثاني أنه صفة الفاعل أي كالفريق أو الصنف أو الجيل الذي خاضوه كما لو قيل
كالذين خاضوا
وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض لأن فساد الدين إما أن يقع
بالاعتقاد الباطل والتكلم به أو يقع في العمل بخلاف الاعتقاد الحق والأول هو
البدع ونحوها والثاني هو فسق الأعمال ونحوها
والأول من جهة الشبهات والثاني من جهة الشهوات.
ولهذا كان السلف يقولون احذروا من الناس صنفين صاحب هوى قد فتنه هواه وصاحب
دنيا أعمته دنياه
وكانوا يقولون احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة
لكل مفتون فهذا يشبه المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ولا يتبعونه وهذا يشبه
الضالين الذين يعملون بغير علم ووصف بعضهم أحمد بن حنبل فقال رحمه الله عن
الدنيا ما كان أصبره وبالماضين ما كان أشبهه أتته البدع فنفاها والدنيا
فأباها
وقد وصف الله أئمة المتقين فقال "وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا
وكانوا بآياتنا يوقنون" فبالصبر تترك الشهوات وباليقين تدفع الشبهات.
ومنه قوله في سورة العصر"وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر" وقوله "واذكرعبادنا
إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار" .
ومنه الحديث المرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يحب البصير الناقد
عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات ْ.
فقوله سبحانه "فاستمتعتم بخلاقكم" إشارة إلى اتباع الشهوات وهو داء العصاة.
وقوله "وخضتم كالذي خاضوا"إشارة إلى اتباع الشبهات وهو داء المبتدعة وأهل
الأهواء والخصومات وكثيرا ما يجتمعان فقل من تجد في اعتقاده فسادا إلا وهو
ظاهر في عمله وقد دلت الآية على أن الذين كانوا من قبل استمتعوا وخاضوا
وهؤلاء فعلوا مثل أولئك.
ثم قوله "فاستمتعتم" و "خضتم" خبر عن وقوع ذلك في الماضي وهو ذم لمن يفعله
إلى يوم القيامة كسائر ما أخبر الله به عن أعمال وصفات الكفار والمنافقين عند
مبعث عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم فإنه ذم لمن يكون حاله حالهم إلى
يوم القيامة.
وقد توعد الله سبحانه هؤلاء المستمتعين الخائضين بقوله "أولئك حبطت أعمالهم
في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون".
وهذا هو المقصود هنا من هذه الآية وهو أن الله قد أخبر أن في هذه الأمة من
استمتع بخلاقه كما استمتعت الأمم قبلهم وخاض كالذي خاضوا وذمهم على ذلك
وتوعدهم على ذلك.
*ثم هذا الذي دل عليه الكتاب مشابهة بعض هذه الأمة للقرون الماضية في الدنيا
وفي الدين وذم من يفعل ذلك دلت عليه أيضا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتأول هذه الآية على ذلك أصحابه رضي الله عنهم:ـ
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لتأخذن كما أخذت
الأمم من قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع حتى لو أن أحدا من أولئك
دخل حجر ضب لدخلتموه قال أبو هريرة اقرؤا إن شئتم: " كالذين من قبلكم كانوا
أشد منكم قوة" الآية.
قالوا يا رسول الله كما صنعت فارس والروم وأهل الكتاب قال فهل الناس إلا هم..
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية أنه قال ما أشبه الليلة بالبارحة
هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا
تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا.
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال المنافقون الذين منكم اليوم شر من
المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا وكيف قال
أولئك كانوا يخفون نفاقهم وهؤلاء أعلنوه .
وأما السنة فجاءت بالإخبار بمشابهتهم في الدنيا وذم ذلك والنهي عن ذلك وكذلك
في الدين
فأما الأول الذي هو الاستمتاع بالخلاق ففي الصحيحين عن عمرو بن عوف أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن
الحضرمي فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة
فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
رآهم ثم قال أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين فقالوا أجل يا
رسول الله فقال أبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن
أخشىعليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما
تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يخاف على أمته فتنة الفقر وإنما
يخاف بسط الدنيا وتنافسها وإهلاكها وهذا هو الاستمتاع بالخلاق المذكور في
الآية
وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج
يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر فقال إني فرط لكم
وأنا شهيدعليكم وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني أعطيت مفاتيح خزائن
الأرض أو مفاتيح الأرض وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف
عليكم أن تتنافسوا فيها وفي رواية ولكني أخشى عليكم أن تنافسوا فيها وتقتتلوا
فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم قال عقبة فكان آخر ما رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم على المنبر
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم قال عبد الرحمن بن
عوف نكون كما أمرنا الله عز وجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تنافسون
ثم تحاسدون ثم تدابرون أو تباغضون أو غير ذلك ثم تنطلقون إلى مساكن المهاجرين
فتحملوا بعضهم على رقاب بعض.
وروى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله سبحانه مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون
فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء.
فحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة النساء معللا بأن أول فتنة بني
إسرائيل كانت في النساء.
وهذا نظير ما سنذكره من حديث معاوية عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال إنما هلك
بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم يعني وصل الشعر
وكثير من مشابهات أهل الكتاب في أعيادهم وغيرها إنما يدعو إليها النساء
وأما الخوض كالذي خاضوا فروينا من حديث الثوري وغيره عن عبد الرحمن بن زياد
بن أنغم الأفريقي عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتين على أمتي ما أتى على بني
إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إذا كان منهم من أتى أمة علانية كان من أمتي من
يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث
وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا من هي يا رسول الله قال ما أنا
عليه اليوم وأصحابي رواه أبو عيسى الترمذي وقال هذا حديث غريب مفسر لا نعرفه
إلا من هذا الوجه .
وهذا الافتراق مشهورعن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله
عنه وسعد ومعاوية وعمرو بن عوف وغيرهم وإنما ذكرت حديث ابن عمرو لما فيه من
المشابهة فعن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين
وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة رواه أبو
داود وابن ماجة والترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح.
وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة
ستفترق على ثلاث وسبعين ملة يعني الأهواء كلها في النار إلا واحدة وهي
الجماعة وقال إنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى
الكلب بصاحبه فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله والله يا معشر العرب لئن لم
تقوموا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم
به.
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بافتراق أمته على ثلاث وسبعين فرقة
واثنتان وسبعون لا ريب أنهم الذين خاضوا كخوض الذين من قبلهم
ثم هذا الاختلاف الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم إما في الدين فقط
وإما في الدين والدنيا ثم قد يؤول إلى الدنيا وقد يكون الاختلاف في الدنيا
فقط
وهذا الاختلاف الذي دلت عليه هذه الأحاديث هو مما نهى الله عنه في قوله
سبحانه ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك
لهم عذاب عظيم وقوله" إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء
وقوله" وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله”
وهو موافق لما رواه مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه
أقبل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه من العالية حتى إذا
مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلا ثم انصرف
إلينا فقال سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة وسألت ربي أن لا يهلك
أمتي بالسنة فأعطانيها وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألته أن
لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها .
وروى أيضا في صحيحه عن ثوبان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما
روى منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض. وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها
بسنة بعامة وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال
يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة
بعامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم
من بأقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم
بعضا ورواه البرقاني في صحيحه وزاد وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين وإذا
وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من
أمتي بالمشركين وحتى يعبد فئام من أمتي الأوثان وإنه سيكون في أمتي كذابون
ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ولا تزال طائفة من
أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى.
وهذا المعنى محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه يشير إلى أن
الفرقة والاختلاف لا بد من وقوعهما في الأمة وكان يحذر أمته منه لينجو من
الوقوع فيه من شاء الله له السلامة كما روى النزال بن سبرة عن عبد الله بن
مسعود قال سمعت رجلا قرأ آية سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها
فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فعرفت في
وجهه الكراهية وقال كلاكما محسن ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا
رواه مسلم.
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين
مامع الآخر من الحق لأن كلا القارئين كان محسنا فيما قرأه وعلل ذلك بأن من
كان قبلنا اختلفوا فهلكوا.
فأفاد ذلك شيئين :
أحدهما:تحريم الاختلاف في مثل هذا .
والثاني:الاعتبار بمن كان قبلنا والحذر من مشابهتهم.
ومثل ذلك ما رواه مسلم أيضا عن عبد الله بن رباح الأنصاري أن عبد الله ابن
عمرو قال هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فسمعت أصوات رجلين
اختلفا في آية فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب
فقال إنما هلك من كان قبلكم من الأمم باختلافهم في الكتاب
فعلل غضبه صلى الله عليه وسلم بأن الاختلاف في الكتاب هو كان سبب هلاك من
قبلنا وذلك يوجب مجانبة طريقهم في هذا عينا وفي غيره نوعا.
**بيان بعض ما جاء فى القرآن مما فيه النهى عن مشابهة الكافرين عموما وأهل
اكتاب خصوصا:ـ
*قال رحمه الله فى نفس الكتاب جـ 2 صـ 45:
ومما يدل من القرآن على النهي عن مشابهة الكفار قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا
ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ {104} سورة البقرة ْ
قال قتادة وغيره كانت اليهود تقوله استهزاء فكره الله للمؤمنين أن يقولوا مثل
قولهم وقال أيضا كانت اليهود تقول للنبي صلى الله عليه وسلم راعنا سمعك
يستهزؤن بذلك وكانت في اليهود قبيحة.
وروى أحمد عن عطية العوفي قال كان يأتي ناس من اليهود فيقولون راعنا سمعك حتى
قالها ناس من المسلمين فكره الله لهم ما قالت اليهود.
وقال عطاء كانت لغة في الأنصار في الجاهلية وقال أبو العالية إن مشركي العرب
كانوا إذا حدث بعضهم بعضا يقول أحدهم لصاحبه راعني سمعك فنهوا عن ذلك وكذلك
قال الضحاك .
فهذا كله يبين أن هذه الكلمة نهي المسلمون عن قولها لأن اليهود كانوا
يقولونها وإن كانت من اليهود قبيحة ومن المسلمين لم تكن قبيحة لما كانت
مشابهتهم فيها من مشابهة الكفار وطريقهم إلى بلوغ غرضهم.
وقال سبحانه وتعالى : لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاوات وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن
تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ ِ
يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء
وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {284} آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِل
إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ
وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ
الْمَصِيرُ {285} لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا
كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن
نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ .َ
عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا
وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ
لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ {286} سورة البقرة.
وقد روى مسلم في صحيحه عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم لله ما في السموات
وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآيات اشتد
ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه
وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا أي رسول الله كلفنا ما نطيق من الصلاة
والصيام والجهاد والصدقة وقد نزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا
وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فلما اقترأها القوم
وذلت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى في إثرها "من الرسول بما أنزل إليه من ربه
والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا
سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير"فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل
الله"لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا
تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" قال نعم"ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على
الذين من قبلنا" قال نعم"ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"قال نعم"واعف عنا
واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين"قال نعم .
فحذرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلقوا أمر الله بما تلقاه به أهل
الكتابين وأمرهم بالسمع والطاعة فشكر الله لهم ذلك حتى رفع الله عنهم الآصار
والأغلال التي كانت على من كان قبلهم.
ولما دعا المؤمنون بذلك أخبرهم الرسول أن الله قد استجاب دعاءهم.
وهذا وإن كان رفعا للإيجاب والتحريم فإن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن
تؤتى معصيته قد صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك كان النبي عليه
الصلاة والسلام يكره مشابهة أهل الكتابين في هذه الآصار والأغلال وزجر أصحابه
عن التبتل وقال لا رهبانية في الإسلام وأمر بالسحور ونهى عن المواصلة وقال
فيما يعيب أهل الكتابين ويحذرنا عن موافقتهم فتلك بقاياهم في الصوامع وهذا
باب واسع جدا.
وقال سبحانه وتعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى
أَوْلِيَاء بَعْضُهُم أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْم الظَّالِمِينَ {51}
سورة المائدة.
وقال سبحانه :ـ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى
الْكَذِب وَهُمْ يَعْلَمُونَ {14} سورة المجادلة.ِ
يعيب بذلك المنافقين الذين تولوا اليهود إلى قوله:
لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ
مَن حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ
أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ
الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ {22} سورة المجادلة.
ونظائر هذا في غير موضع من القرآن يأمر سبحانه بموالاة المؤمنين حقا الذين هم
حزبه وجنده ويخبر أن هؤلاء لا يوالون الكافرين ولا يوادونهم.
والموالاة والموادة وإن كانت متعلقة بالقلب لكن المخالفة في الظاهر أهون على
المؤمن من مقاطعة الكافرين ومباينتهم .
ومشاركتهم في الظاهر إن لم تكن ذريعة أو سببا قريبا أو بعيدا إلى نوع ما من
الموالاة والموادة فليس فيها مصلحة المقاطعة والمباينة مع أنها تدعو إلى نوع
ما من المواصلة كما توجبه الطبيعة وتدل عليه العادة ولهذا كان السلف رضي الله
عنهم يستدلون بهذه الآيات على ترك الاستعانة بهم في الولايات.
فروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قلت لعمر
رضي الله عنه إن لي كاتبا نصرانيا قال مالك قاتلك الله أما سمعت الله يقول"يا
أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض " ألا
اتخذت حنيفا قال قلت يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه قال لا أكرمهم إذ
أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله .
ولما دل عليه معنى الكتاب وجاءت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة
خلفائه الراشدين التي أجمع الفقهاء عليها بمخالفتهم وترك التشبه بهم :ـ
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم"أمر بمخالفتهم.
ولا يتشبه بأهل الكتاب لقول النبي صلى الله عليه وسلم غيروا الشيب ولا تشبهوا
بأهل الكتاب وقال إسحاق بن إبراهيم سمعت أبا عبد الله يقول لأبي يا أبا هاشم
اختضب ولو مرة واحدة فأحب لك أن تختضب ولا تشبه باليهود
وهذا اللفظ الذي احتج به أحمد قد رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود قال
الترمذي حديث حسن صحيح.
وقد رواه النسائي من حديث محمد بن كناسة عن هاشم بن عروة عن عثمان ابن عروة
عن أبيه عن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال غيروا الشيب ولا تشبهوا
باليهود ورواه أيضا من حديث عروة عن عبد الله بن عمر لكن قال النسائي كلاهما
ليس بمحفوظ.
وقال الدارقطني المشهور عن عروة مرسلا
وهذا اللفظ أدل على الأمر بمخالفتهم والنهي عن مشابهتهم فإنه إذا نهى عن
التشبه بهم في بقاء بياض الشيب الذي ليس من فعلنا فلأن ينهى عن إحداث التشبه
بهم أولى ولهذا كان هذا التشبه بهم يكون محرما بخلاف الأول
وأيضا ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى رواه البخاري ومسلم
وهذا لفظه.
فأمر بمخالفة المشركين مطلقا ثم قال أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى.....أ.هـ