اطبع هذه الصفحة


فضل دراسة العلوم الشرعية وتدريسها

د.عبدالعزيز بن سعد الدغيثر

 
بسم الله الرحمن الرحيم

 
يخطئ كثير من الكتبة في الاستدلال على أهمية العلوم الكونية والدنيوية بالنصوص المادحة للعلم وأهله، كما أن آخرين يقعون في خطأ آخر من تهميشهم لأهمية العلوم الدنيوية وعدم جدواها، وفي هذه المقالة تبيين للفريقين بأن تحترم النصوص الشرعية وتفسر بما فسرها به السلف من الصحابة فمن بعدهم، وأن نجعل للعلوم الكونية والدنيوية مكانتها من الأهمية.
 
 ولا يشك مسلم أن العلم بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أفضل ما يعلم لأن الله تعالى خلق الخلق لعبادته، ولا تصح العبادة إلا إذا كانت صحيحة موافقة للشرع، ولا يوصل لذلك الهدف إلا بالعلم بالوحيين. ولذا نجد مدح العلم والعلماء مبثوثا في مواضع كثيرة من الكتاب والسنة، فمن ما جاء في ذلك:


1-
أن العلم بالوحيين من إرادة الله الخير للعبد كما في قوله تعالى: يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا" (البقرة: 269)، وكما في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"[1]، وقوله:" في الدين" يدل على أن المقصود علم الكتاب والسنة وعلوم الآلة لفهمهما وما أحسن ما أثر عن الإمام أحمد[2] من قوله:

دين النبي محمد آثار ---  نعم المطية للفتى الأخبار
لا ترغبن عن الحديث وأهله   --- فالرأي ليل والحديث نهار[3]

2- أن العلم بالشرع طريق إلى الجنة كما في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضىً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر"[4] . وسبب ذلك أنه يدل صاحبه إلى خشية الله تعالى، قال تعالى:" إنما يخشى الله من عباده العلماء" ( فاطر: 28). 

3-
وفي الحديث السابق تواضع الملائكة لطالب العلم الشرعي وكون العالم بالشريعة وريث النبوة وفضيلته على العابد لأن نفعه متعدي والعبادة القاصرة لا تصل في الثواب إلى مرتبة العبادة المتعدية.

4-
وفيه أن جميع من في الكون يحب علماء الشرع ويستغفر لهم ولو تأمل العالم هذه الفضيلة لهان عنده كل مكروه يواجهه في طريق العلم .

5-
أن طالب العلم الشرعي بمنزلة المجاهد في سبيل الله لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله"[5]. وقد أمر الله في القرآن الكريم أن ينبري من عباده المجاهدين فرقة لطلب الفقه في الدين، قال تعالى:" وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون" ( التوبة: 122).

6-
أن من العلم الشرعي ما هو فرض على كل مسلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم:" طلب العلم فريضة على كل مسلم"[6].

7-
أن من جلس مع إخوانه لتعلم العلم الشرعي نال أربع جوائز مذكورة في الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ما من قوم يجتمعون في بيت من بيوت الله يتعلمون القرآن ويتدارسونه بينهم إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وتنزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده "[7].

8-
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لناشر السنة، فقد ورد في  الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" نضر الله امرءا سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه"[8].

9-
أن العلوم الدينية مخصوصة بالأمر بتبليغها من بين العلوم وتحريم كتمانها، قال تعالى:" إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولائك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" ( البقرة: 160)، وقال صلى الله عليه وسلم:" من سئل علما علمه فكتمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار" [9]، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" بلغوا عني ولو آية"[10].

10-
أن الله استشهد بأولى العلم الشرعي على أجلّ مشهود وهو التوحيد فقال سبحانه:" شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط" ( آل عمران: 18) مما يدل على تزكيتهم وتعديلهم.

11-
أن الله تعالى رفع قدر العلماء كما في قوله جل وعلا:" يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" ( المجادلة: 11 )، وقال سبحانه:" قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" ( الزمر: 9).

12-
أن فقد علماء الشريعة ضلال للأمة، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لن يبقِ عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"[11].

13-
أن أثر علمهم يجري عليهم الأجر إلى يوم القيامة كما في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له"[12]. بل إن طلاب العلم وغيرهم يدعون للعلماء عند ذكرهم ويترحمون عليهم أكثر من أولادهم الذين هم من أصلابهم. وسبب جريان أعمال العلماء إلى يوم القيامة أن "الدال على الخير له مثل أجر فاعله" كما في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم[13].
 
وقد يظن ظان أن هذه النصوص تعم كل علم سواء كان متعلقا بفهم الكتاب والسنة أم كان من العلوم الأخرى، ودفعا لهذا التوهم قال ابن القيم[14] رحمه الله:" فأعلى الهمم في طلب العلم طلب علم الكتاب والسنة والفهم عن الله ورسوله نفس المراد وعلم حدود المنزل. وأخس همم طلاب العلم قصر همته على تتبع شواذ المسائل وما لم ينزل ولا هو واقع أو كانت همته معرفة الاختلاف وتتبع أقوال الناس وليس له همة إلى معرفة الصحيح من تلك الأقوال وقل أن ينتفع واحد من هؤلاء بعلمه"[15].
وقال ابن القيم أيضا:" وما كان من العلوم مطابقا للحقيقة في الخارج فهو نوعان: نوع تكمل به النفس بإدراكه والعلم به، وهو العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وكتبه وأمره ونهيه . ونوع لا يحصل للنفس به كمال، وهو كل علم لا يضر الجهل به فإنه لا ينفع العلم به، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من علم لا ينفع [16].أ هـ. 
وقال في النونية:

والعلم أقسام ثلاث ما لها       ---   من رابع والحق ذو تبيان
علم بأوصاف الإله وفعله       ---   وكذلك الأسماء للرحمن
والأمر والنهي الذي هو دينه ---      وجزاؤه يوم المعاد  الثاني

وقال تلميذ ابن القيم- الحافظ ابن رجب[17] رحمهما الله:" العلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك. والاجتهاد في تمييز صحيحه من سقيمه أولا ثم الاجتهاد في الوقوف على معانيه وتفهمه ثانيا وفي ذلك كفاية لمن عقل وشغل لمن بالعلم النافع عنى واشتغل"[18].
ومما تقدم نجد أن كثيرا من الكتاب يبعدون عن الصواب حين يذكرون أن المقصود في الآيات والأحاديث الآنفة الذكر، طلبة العلوم الدنيوية، ولا نزاع في بطلان هذا القول، فالقول به حادث مردود، وليس هذا انتقاصا لعلم من العلوم المفيدة، ولكن لا يجوز تفسير القرآن بالأهواء، وهذه العلوم لها مكانة في الشرع لأنها وسيلة إلى تقوية المسلمين، أما أن تفسر النصوص بالباطل فلا يرضى به مؤمن.
 

----------------------------------------
[1] أخرجه البخاري (فتح 6/152) ومسلم (1037)  من حديث حديث معاوية رضي الله عنه.
[2] هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني البكري الوائلي (164هـ - 241هـ)، إمام أهل السنة وفقيه المحدثين، له من الآثار المسند والزهد والورع والرد على الجهمية، كما أن له فتاوى مبثوثة في مسائل طلابه كمسائل ابنه صالح ومسائل ابنه عبدالله وغيرهما. سير أعلام النبلاء 11/177.
[3] ونسبها الخطيب إلى عبده الأصبهاني، تهذيب شرف أصحاب الحديث / 88 .
[4] رواه أبو داود (3641) والترمذي (2683) وغيرهم  من حديث حديث أبي الدرداء رضي الله عنه وحسنه الأرناؤوط في تحقيق جامع الأصول 8/6.
[5] رواه ابن ماجه (227) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه  وحسنه الأرناؤوط في تحقيق جامع الأصول 8/7.
[6] رواه ابن ماجه وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه ( 183) وصحيح الجامع (3808).
[7] رواه مسلم ( 2699) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه الترمذي (2685) وأبو داود (3660) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه وصححه الأرناؤوط في تحقيق جامع الأصول 8/18.
[9] رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2135) وصحيح ابن ماجه (210) وصحيح الجامع (6160).
[10] رواه البخاري (فتح 6/361) عن ابن عمرو رضي الله عنه.
[11] رواه رواه البخاري ( فتح 1/174) ومسلم (1673) عن ابن عمرو رضي الله عنه .
[12] رواه مسلم ( 1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[13] رواه مسلم (1893 وغيره من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه.
[14] محمد بن أبي بكر الزرعي ثم الدمشقي، الإمام المشهور بالفقه والأصول والتفسير والنحو ويغرها، كان والده قيم لمدرسة الجوزية،ولد سنة 691هـ وتوفي سنة 751هـ. له من اآثار إعلا م الموقعين وزاد المعاد وإغاثة اللهفان والصواعق المرسلة وغيرها . "الذيل على طبقات الحنابلة " 2/447.
[15] الفوائد /111 .
 [16] الفوائد /160 . والحديث رواه النسائي 8/255 والترمذي (3478) من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما وسنده صحيح.
[17] هو أبو الفرج عبدالرحمن بن أحمد الحنبلي، العالم المشهور، من أشهر آثاره جامع العلوم والحكم والقواعد وذيل طبقات الحنابلة وفتح الباري- ولم يكمله. توفي سنة 795هـ. " شذرات الذهب" 6/ 339.
[18] فضل علم السلف /46..

 

د.عبدالعزيز الدغيثر
  • بحوث علمية
  • مقالات حديثية
  • مقالات فقهية
  • مقالات لغوية
  • مقالات عقدية
  • مقالات أخرى
  • الصفحة الرئيسية