اطبع هذه الصفحة


علمتني الشدائد!!!

عبدالله بن أحمد الحويل
@alhaweel


شدائدُ الحياة مهيعٌ مسلوك لا يتخلف عن النزول به أحد.

ومحنُ الحياة سيفٌ مرهف لا يملك التترس منه أحد.

وبوائقُ الزمان نَبْـلٌ مسنونٌ لا يسلم من سهامه أحد.
وقد دهمتني من صروف الدهر نائبة أزرتْ ببدني ومالي، وغشيتني من حوادث الأيام فاجعة أغضت عين عزيمتي، وقصمتني من طوارق الليالي حازبةٌ صرمت حبال أنسي وبهجتي.

وكان أشدُّ ما عانيتُ من لأوائها =خذلان الصديق، وشماتة العدو.!!!

تلفّتُّ فما راعني غير خلو داري من الزائرين بعد ما كانوا يحطمون عتبتها ذهاباً وإياباً.

ونظرتُ فما ساءني غير لواحظ الشامتين الحادة، وإشاعات المغرضين الكاذبة، وفرحة الحاسدين النتنة.

 فكانت هذه الشدّةُ - على علاتها -اختلاءاً فكرياً بالنفس وللنفس أراجع خلالها حساباتي وأدوّن فيها دروس حياتي .

وهذا هو دأب العقلاء عندما تنوبهم الخطوب
وهذه هي شنشنة الألبّاءعندما تخترمهم النكبات

فالشافعي لما تحيـّفته شدةٌ عظيمة استفاد منها درساً عظيما وأنشد قائلا :


جزي الله الشدائد كل خيرٍ
وإن كانت تغصصني بريقي
وما شكري لها إلا لأني
عرفتُ بها عدوي من صديقي

والزعازع التي لاحقتْ المتنبي ألهمته الحكمة وأنبغت ذكاءه فكان :

ينام ملء جفونه عن شواردها
ويسهر الخلق جرّاها ويختصم

وأشعاره كلها تتضح بالتجارب والدروس ومنها قوله الذي لا أفتأ أردده:


فَلَمّا صارَ وُدُّ الناسِ خِبًّا
جَزَيتُ عَلى اِبتِسامٍ بِاِبتِسامِ
وَصِرتُ أَشُكُّ فيمَن أَصطَفيهِ
لِعِلمي أَنَّهُ بَعضُ الأَنامِ

أما مصطفى السباعي فالبوائر التي ضعضعته أنتجتْ لنا كتاباً عظيم النفع فائق الفائدة أسماه ( هكذا علمتني الحياة) يقول في فاتحته:


"وبعد فهذه خطرات بدأت تسجيلها وأنا في مستشفى المواساة بدمشق في شهر ذي القعدة من عام 1381 للهجرة الموافق لشهر نيسان (إبريل) من عام 1962 للميلاد، وكنت بدأت بتسجيلها لنفسي حين رأيتني في عزلة عن الأهل والولد، والتدريس والتأليف، وتلك هي عادتي في السجون والأمراض والأسفار"

وما أحب أن أكون بدعاً من الحكماء فأطلقتُ عنان فكري في استجلاب الدروس من ثنايا شدتي كي أستبين سبيلَ الراشدين وأتجنب اللدغ من الجحر الواحد مرتين.

وهذه غيضٌ من فيض تجاربي التي أنجعتني

عرفتُ الليالي بؤسها ونعيمها
وجربتُ حتى أحكمتني التجاربُ

ووشلٌ من بحر معاناتي التي أنضجتني

وقد شذبتني الحادثاتُ وإنما
يـُفـِّرع غُـصنُ الدوحِ حين يُشـَذَّبُ

لعلّها تكون للمنكوب تسليةً وللمغرور تذكرةً والسعيد من حوى تجارب الآخرين إلى تجاربه وأضاف أعمارهم إلى عمره وزاد بعقولهم عقله.


١-
تعلمتُ ألا أخاف مكر الأعداء وألا ترتعد فرائصي من تدبيرهم لأن الأمر كله لله لا لهم

٢-
وتعلمتُ ألا أحزن لخذلان الأصحاب في الشدائد لأن الفرج كله بأمر الله لا بأمرهم.

٣-
وتعلمتُ ألا أبتئس من تقلـّب وجوه الأصدقاء لأنّ السعادة منحةُ الله لا منحتهم.

٤-
وتعلمتُ ألا أكترث لتصنيفاتِ الأغبياء لأنّ مفاتيح الجنة من عند الله لا من عندهم.

٥-
وتعلمتُ ألا أخش منع الناس وردهم لأن الرزق كله بيد الله لا بأيديهم.

( مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ)

٦-
وتعلمتُ ألا أرفع مظلمتي للمخلوقين قبل أن أرفعها لخالقي لأن الولي والناصر هو الله لا المخلوق.
(أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)

٧-
وتعلمتُ ألا أنتظر الوفاء من أحدٍ لأن الشكور هو الله الودود لا الإنسان الكنود.

٨-
وتعلمتُ ألا أروي انكساري لأحدٍ لأن الجبّار هو الله الكريم لا المخلوق اللئيم.

فمافي القلب من همٍّ لا أبثه إلا لخالقي (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ)

إليك الـمُـشتكى لا منك ربي
فأنتَ لنائباتِ الدهرِ حسبي

٩-
وتعلمتُ ألا أعتمد على صديقٍ أو ذي جاه لأن الكافي هو الله اللطيف الحسيب لا الصديق الحبيب.

(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)

١٠-
وتعلمتُ ألا أنزل حاجتي بأحدٍ من البشر لأنّ قاضي الحاجات هو الله ربُّ البريات لا أرباب الأموال والعقارات.

إذا عرضتْ لي في زماني حاجةٌ
وقد أشكلتْ فيها عليّ المقاصدُ
وقفتُ ببابِ الله وقفةَ ضارعٍ
وقلتُ إلهي إنني لك قاصدُ
ولستُ تراني واقفاً عند باب مَن
يقول فتاه :سيدي اليومَ راقدُ

١١-
وتعلمتُ ألا أفرح بمدح المادحين ولا أغضب من ذم القادحين لأن الذي مدحه زين وذمه شين هو الله الكبير لا المخلوق الحقير.

إذا صحَّ منك الودُّ فالكلُّ هيّنٌ
وكل الذي فوقَ التراب ترابُ

١٢-
وتعلمتُ ألا أنتقم بنفسي ممن ظلمني لأن انتقام الله القوي أعظم من انتقام العبد الضعيف.
(وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)

١٣-
وتعلمتُ ألا أجزع من قضاء الله لأن ابتسامة رضا واحدة بالله هي التي تزيل آلام القلب الوجيب لا أنين التسخط الكئيب.

١٤-
وتعلمتُ أن أفرح بكل ما يلمّ بي من أقدارٍ ظاهرها الألم كـ(فراقٍ صديق) أو (إنهاء علاقة)أو (فك ارتباطٍ بعمل) ليقيني أن اختيار الله لي أفضل وأحكم وأجمل وأعلم من اختياري لنفسي.

١٥-
وتعلمتُ ألا أهتم بمخاوفي من المستقبل والمجهول لأن السلام هو الله ومن يدبر الأيام والليالي هو الرحيم الرحمن لا غيب الزمان أو مجاهيل الأوقات

١٦-
وتعلمتُ ألا أرهق تفكيري وأثير بلابل خواطري في توقع المصائب لأن تسعة أعشار ما نخاف وقوعه لا يقع.

ودع التوقع للحوادث إنه
للحي من قبل المماتِ مماتُ

١٧-
 وتعلمتُ أن أتعبّد الله بحُسنِ الظنِّ به وبالتفاؤلِ برحمته فهو سبحانه يقول في الحديث القدسي الصحيح ( أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي) وظني به أنه يفرج همي ويزيل كربي فكان ما ظننته به سبحانه.

والتفاؤلُ وحُسنُ الظنِّ بالله سعادةٌ لا يعرف لذتها إلا من ذاق حلاوتها

ألا إنما بِشرُ الحياةِ تفاؤلٌ
تفاءلْ تعش في زمرة السعداء

١٨-
وتعلمتُ ألا أحكي عن أوجاعي لأحدٍ من الناس، فـ(ثمانون بالمئة)سيشمتون بحزني و(عشرون بالمئة) لن يكترثوا أصلاً بما يحلُّ بي من قوارع.

وإذا شكوتَ إلى ابن آدم إنما
تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يرحم

١٩-
وتعلمتُ ألا أقطع معروفي عمن خذلني لأن حسابي على الله الكريم لا عليهم، وثوابي منه لا منهم

(وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)

٢٠- 
وتعلمتُ أن أبتسمَ عند الكرب كيلا أغمّ المحب ، أو أفرح الشامت

وَتَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ أُرِيهِمُ
أَنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لاَ أَتَضَعْضَعُ

أما قبلُ يا سادة :

فهذه خلاصة الدروس التي علمتني إياها شدائدي لا أراكم الله نائبةً ، ولا فجعكم بآبدة كتبتها على سبيل التذكر لا التسخط، وقيدتها بوحاً بالفائدة لا نوحاً على البائقة

عبدالله بن أحمد الحويل
١٤٣٧/٢/٢٠
 

عبدالله الحويل
  • مقالات
  • كتب
  • الصفحة الرئيسية