اطبع هذه الصفحة


الـقـبـور الـواعـظـة

اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد

الشيخ عبدالكريم بن صالح الحميد

 
عَجَائِبُ الوَقْتِ لاَ نُحْصِي لَهَا عَدَدًا  ***  وَإِنَّمَا بَعْضَهَا نَذْكُرْهُ لِلْعَجَبِ
قُبوُرُنَا حَوْلَنَا وَالْمَيْتُ مُنْجَدِلٌ   ***  وَضِحْكُنَا حَاضِرٌ فِي البَالِ لَمْ يَغِبِ
أَمَحْفَلُ العُرْسِ أَمْ مَيْتاً نُشَيِّعُهُ  ***  تَشَابَهَ الْحَالُ .. وَاغَوْثَاهُ مِنْ كُرَبِ
وَصَفْقةُ البَيْعِ عِنْدَ القَبْرِ نَعْقِدُهَا   ***  وَصَعْقةُ الْمَوْتِ تُدْنِينَا مِنَ العَطَبِ
تَبِيعُ ، تَشْرِي ؛ وَلاَ تَدْرِي أَمُنْقَلِبٌ   ***  لِأَهْلِكَ اليَوْمَ أمْ لِلْمَيْتِ مُصْطَحِبِ
كَأنَّنَا بَعْدَ هَذَا الْمَيْتِ فِي أَمَدٍ   ***  مِنَ الْحَيَاةِ بِدَارِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ
قَسَـاوَةُ القَلْبِ دَاءٌ لاَ دَوَاءَ لَهُ  ***  إِلاَّ الرُّجُوُعُ إِلَى دَرْبٍ لَنَا رَحِبِ
هَذِي القُبُورُ بِهَا الذِّكْرَى لِمُتَّعِظٍ   ***  صَوَامِتٌ .. إِنَّمَا نَادَتْكَ بِالطَّلَبِ
رَكْبُ الْجَنَائِزِ لاَ يُوحِي بِتَذْكِرَةٍ  ***  وَعِبْرَةٍ أَنَّنَا فِي دَارِ مُغْتَرِبِ
كَمْ فِي القُبُورِ نَعِيماً لَسْتَ تُدْرِكُهُ  ***  وَكَمْ بِهَا حُفَرٌ لِلنَّارِ وَاللَّهَبِ
مَا مُؤمِنٌ يَنْظُرُ الأَجْدَاثَ مُعْتَبِراً   ***  إلاَّ تَغَيَّرَ مِنْ هَمٍّ وَمِنْ نَصَبِ
وَمَيِّتُ القَلْبِ عِنْدَ القَبْرِ فِي عَمَهٍ   ***  وَليْسَ يَنْفُذُ خَلْفَ السِّتْرِ وَالْحُجُبِ
وَغَافِلُ القَلْبِ عِنْدَ القَبْرِ فِي مَرَحٍ   ***  سِيمَاهُ تُخْبِرُ .. لاَ تَسْأَلْ عَنِ السَّبَبِ
وَكَيْفَ يَغْفُلُ وَالأَيَّامُ تَنْقُلُهُ  ***  إِلَى الْمَقَابِرِ لَوْ قَدْ جَدَّ فِي الْهَرَبِ
إنَّ القُبُورَ مزَارٌ سَوفَ تَسْكُنُهُ  ***  عَمَّا قَلِيلٍ وَمَا الأَعْمَارُ كَالْحُقُبِ
فَرَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْخُلْدِ مُشْرِقَةٌ  ***  أَوِ الجَحيمُ .. وَيَا بُؤساً لمنْقَلِبِ
هَذَا النَّعِيمُ إِذَا تَطْلُبْ لَهُ شَبَهاً   ***  كَذَا العَذَابُ ، فَأَمْرٌ غَايَةُ العَجَبِ
كَنَائِمٍ سُرَّ فِي أَحْلاَمِ نَوْمَتِهِ  ***  وَآخَرٌ كَمْ رَأَى فِي النَّومِ مِنْ كُرَبِ
هَذَا يُشَابِهُ بِالتَّقْرِيبِ بَرْزَخَنَا   ***  وَمَا الْمُشَبَّهُ كَالْمَرْئيِّ عَنْ كَثَبِ
إِذَا رَأَيْتَ أُنَاساً عِنْدَ مَقْبَرَةٍ   ***  فِي شُغْلِ دُنْيَاهُمُو فَالدِّينُ فِي عَطَبِ
مَرَاكِبُ القَوْمِ جَالَتْ فِي مَقَابِرِهِمْ  ***  مُعَبِّدِينَ لَهَا خَوْفاً مِنَ التَّعَبِ
جَوَّالُهُمْ جَالَ فِي هَذْرٍ يَلِيقُ بِهُِمْ   ***  وَسَامِعُ الْهَذْرِ ظَنَّ القَوْمَ فِي طَرَبِ
أَسْلاَفُنَا كُلُّهُمْ بِالغَمِّ مُشْتَمِلٌ   ***  عِنْدَ القُبُورِ لِأََمْرٍ لَيْسَ بِاللَّعِبِ
تَذكَّرُوا الْمَوْتَ إِذْ يَأْتِي فَيَفْجَؤُهُمْ  ***  لِأَنَّهُمْ فِي الدُّنَى كَانُوا كَمُغْتَرِبِ
إنْ مَاتَ ميْتٌ تَرَى الأحْزَانَ شَامِلَةً   ***  أينَ الْمُعَزَّى ، فَكُلُّ القَوْمِ فِي رَهَبِ !
فِي دَاخِلِ القَبْرِ أَهْوَالٌ مُهَوِّلَةٌ  ***  مَنْ عَايَنَ القَبْرَ لَمْ يَرْغَبْ بِمُنْقَلَبِ
إِلاَّ لِيَعْمَلَ أَعْمَالاً تَكُونُ لَهُ   ***  ذُخْراًَ إذَا جَاءَ وَعْدٌ لَيْسَ بِالكَذِبِ
مَنْ لَمْ تَعِظْهُ قُبُورٌ سَوْفَ يَسْكُنُهَا   ***  فَعَقْـلُـهُ تَائِهٌ لاَهٍ بِمُسْتَلَبِ
مَوْتُ القُلُوبِ عُقُوبَاتٌ مُعَجَّلَةٌ   ***  وَمَيِّتُ القَلْبِ لاَ يَدْرِي عَنِ السَّبَبِ
حَالُ الجَنَائِزِ - يَا مَنْ غُرَّ - قَائِلَةٌ  ***  إِحّذَرْ ! .. فَإنَّكَ يَا مَغْرُوُرُ بِالطَّلَبِ
لاَ تُلْهِيَنَّكَ دُنْياً سَوْفَ تَتْرُكُهَا   ***  وَآخِرُ الأَمْرِ مَحْمُولٌ عَلَى الْخَشَبِ
مِنْ حِينِ جِئْتَ إِلَى الدُّنْيا فَمُتَّجِهٌ  ***  نَحْوَ القَبُورِ وَلَوْ أَمْعَنْتَ فِي الْهَرَبِ
هَذِي الْحَقِيقَةُ يَا مَنْ غَرَّهُ أَمَلٌ   ***  قَدْ جَاوَزَ الأجَلَ الْمَخْطُوطَ بِالكُتُبِ
أَنفَاسُنَا وَالْخُطَى عَدًّا بِلاَ خَطَإٍ  ***  مَعَاوِلٌ هَادِمَاتٌ عُمْرَنَا الْخَرِبِ
مَنْ كَانْ يَضْحَكُ وَالأجْـدَاثُ تَرْقُبُـهُ . .   ***  فَأَمْرُهُ عَجَبٌ يَدْعُو إِلَى العَجَبِ ! .

أما النبي  صلى الله عليه وسلم  فحاله عند القبر كما وَصَفَ البراء بن عازب  رضي الله عنه  حيث قال : (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرُ .. ) (1) ، تأمَّل : (كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرُ ) تَتَبين لكَ رَهبةُ الْمَقَام ! ؛ وقد حَلَف ابنُ مسعود  رضي الله عنه  ألاَّ يُكلِّم رجُلاً رآه يضحك مع جنازة حيث قال له : ( أتضْحَك وأنتَ تَتَّبِعُ جنَازة ! ، واللهِ لا أكَلِّمُكَ أبَداً ! ) (2) ؛ كيف لو رأى السلفُ الْمُشيِّعين للجنائز اليومَ ومَا هُمْ لاَهُون لاَغُون فيه مِنْ ضَحِكٍ وكلامٍ في أمورِ الدنيا وجوَّالاَتٍ مُصاحِبة لهم ومراكب جائلة في المقابر ! ، وهذا لا يدل على شيء إلاَّ على قوله تعالى : } لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ { ! ، أمَّا لو تذكَّر الإنسانُ أنَّ هذا مصيره وقد أُخفي عليه حِينُه وتذكَّر ما وَرَدَ في شأن القبر وكَوْنه رَوضة من رياض الجنة أو حفرة من حُفَر النار وسؤال « مُنكَر ونكير » لصارَتْ له حالٌ غير هذه الحالة الإستكبارية الجفائية الْمُعلنة أن صاحبها في شأنٍ غير الشأن الذي خُلِق له وأمِر به ، وأن العقل عازبٌ ، وفي أودية طول الأمَل ذاهبٌ ! ؛ قال إبراهيم النخعي ~ : ( كَانَتْ تَكُونُ فِيهِمْ الْجِنَازَةُ فَيَظلُّون الأيَّام مَحْزُونِينَ يُعْرَفُ ذَلِكَ فِيهِمْ ! ) (3) ، وقال أيضاً : ( كُنَّا إذَا حَضَرْنا جِنَازَةً أوْ سَمِعْنَا بِمَيِّتٍ عُرِفَ ذلك فِينَا أيَّامًا ؛ لأنَّا قَدْ عَرَفْنَا أنه قَد نَزَل به أمْرٌ صَيَّرَه إِلَى الْجَنَّةِ أوْ إلى النَّارِ ) ثم قال : ( فَإِنَّكُمْ فِي جَنَائِزِكُمْ تَحَدَّثونَ بِأحَادِيثَ دُنيَاكُمْ ! ) (4) ؛ وعن الأعمَشِ ~ أنه قال : ( إنْ كنَّا لَنشهَد الْجِنَـازَة فلاَ نَدْرِي مَنْ نُعَزِّي مِنْ حُزْنِ القَوْمِ ! ) (5) ؛ فتأمَّل ذلك وما نَحنُ فيه اليوم ! .
والله المستعان ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .


------------------------------------
(1)  جزء من حديثٍ طويل صحيح مشهور أخرجه أبو داود برقم ( 4753 ) وغيره ، وأخرجه ابن جرير في « مسند عمر » ( 2 / 494 ) وصحَّح إسناده .
(2)  أخرجه البيهقي في « شُعب الإيمان » برقم ( 9271 ) ، وابن عبد البَرِّ في « التمهيد » ( 4 / 87 ) ، وغيرهم .
(3)  « الزهد » لوكيع ص ( 232 ) ، و « حلية الأولياء » لأبي نعيم ( 4 / 227 ) .
(4)  « الزهد » للإمام أحمد ص ( 365 ) ، و « البداية والنهاية » لأبن كثير ( 9 / 160 )  .
(5)  « مصنف ابن أبي شيبة » ( 8 / 318 ) ورقم ( 169 ) .

 

عبدالكريم الحميد
  • كتب ورسائل
  • بيانات ورسائل
  • قصائد
  • الصفحة الرئيسية