اطبع هذه الصفحة


الإقصائيَّة والعاطفيَّة والإنشائيَّة في الفكر الإسلامي

عبدالرحمن بن فؤاد الجارالله

 
يُتَّهم الفكر الإسلامي المعاصر بالإقصاء والعاطفية والإنشائية. فما مدى صدق تلك التهمة عليه؟، وما أسبابها؟، وكيف السبيل في نظرك لتجاوزها؟.

إنَّ مما يرمي به بعضُ المثقفين اتهام الفكر الإسلامي بهاتيكَ التُّهمِ، وإلصاقها - تبعاً لذلك - بالخطابِ الإسلامي –، كمسلك البعض في رميِ التُّهمِ جُزافاً، وقذفِ كلّ ماله علاقةٌ بالدينِ بالنقصِ والعيب-.

لم يُتِحْ لي قصرُ الوقت تتبُّع تلكَ الدعاوى والاتهاماتِ، وجمعها، ومن ثمَّ تناولها بالمناقشةِ، والعودِ عليها بعدُ بالإبطالِ، لكنْ لعلَّ فيما يجودُ به الخاطرُ، ويمنُّ به القلمُ كفايةً، وحسبُك من قلادةٍ حوطها بعُنقٍ!.

إنَّ مثل هذه الاتهامات تُدار في بعضِ مجالسِ أفراخ الغربِ من مُدَّعي الثقافة، وتنفحُ بها مقالاتُهم، وتُنفخُ بها كتُبهم، فبعضهم لا يتناول تلك الأمور من بابِ إصلاح الخطل، وتقويم الزلل، ورأب الصدعِ!، لكن إثباتاً لنقيصةِ كل ماله تعلقٌ بالإسلام، وارتباطٌ بالدعوة!. فعلى من تصدى لبحثِ تلك الاتهامات، وتناولها بالمناقشةِ، والردِّ عند عدمِ التسليم.

ففرقٌ بينَ من يرمي الفكرَ والخطابَ الإسلامي بمثل هذا ديانةً، ومحاولةً في تصحيح المسيرةِ، وإبانةً لدربِ الجادَّةِ، وبين من يرمي بها جُزافاً؛ لإسقاط الفكرِ الإسلامي، وإثباتاً لنقيصته، لا لشيء سوى أنه من الإسلامِ والدعوةِ وإليهما!.

فأولئك القوم لم يقوموا بما يناط بهم - كمثقفين – من فاعليَّةٍ تجاه الأمة والمجتمع، بل كانوا خلاف ذلك، سلبِيين في موقفهم تجاه الفكر الإسلامي، بله الإسلام؛ إذ لا يمكن إنكارُ دورُ الفكرِ في إبلاغ رسالةِ الإسلام، والنهوضِ بمهامه.

إنَّ من اللازمِ على كلِّ ذي لُبٍّ أن يفرق حينَ يتناول مثلَ تلك الاتهامات بالدَّرس والبحث بين الفكر والمفكر، وبين الخطاب والمخَاطِبْ، ليتجلى له حينها أنَّ الفكر الإسلامي معصومٌ بعصمةِ أصلهِ؛ إذ هو مقتبسٌ من الإسلامِ، لكن ربما تخلل صرحه مسائلُ هي محل اجتهادٍ ونظر، وفي ذلك احتمالٌ للزلل، وذلك لا يتأتى في ثوابته؛ إذ هي قطعيَّة ثابتةٌ.

كما أنَّه من اللازم عليهم – أيضاً – حينها أن يفرقوا بين نقد الفكر، وبين نقد المفكر؛ لأنه قد يتطرق النقص – في زعمهم – عن طريق المفكر، والمبلغ، ففرقٌ حينها بين تناول الفكر بالنقد، وبين تناول وسيلة التفكير، أو وسيلة البلاغ.

متى ما تأمل المثقف الحصيفُ ما سلَفَ عَلِم – يقيناً – أنَّ تلك التهم لا تنطبقُ على الفكر الإسلامي ألبتة؛ لأنه كما سبق مُستَّلٌ من الإسلام، لكنَّ النقد في الواقِع متَّجِهٌ إلى المفكرين المسلمين، وهذا ما لا يمكنُ إنكاره، ويَعسُر جحده، إذ القصور موجودٌ مُلاحظٌ، وأيّ نظرةٍ إلى النتاجِ الثقافي تُتيحُ للناظر فرصةَ إدراك الثغرةِ، ولَمْحِ الثُّلمةِ.

وعلى الناقدِ المثقف قبل تناوله تلك المسائل أن يحصُر قوانينَ الأفكار، وما تُبنى عليهِ، وكيف تزهو؟، ومتى تسمو؟.

كما عليهِ أن يعلم أنَّ الخطابَ الممثِّل للفكر ما هو في الحقيقة إلا وسيلةُ إبلاغُ الفكر، وإيصال ثقافةِ الفكر!.

في رأيي القاصر أنَّ لـ(لإقصاء والعاطفيَّة والإنشائيَّة) جانبينِ في الأفكار والثقافات، أولاهما أنَّه لابد من احتواء خطاب كُلِّ فكرٍ – أيًّا كان - قدرٌ لازمٌ منها للحفاظِ عليهِ، وجمعِ أهلهِ عليهِ، وعدم صرفهم عنه، وهو كذلك في الواقع؛ إذ هو موجودٌ في أيِّ فكر يزعمُ أهله تبنيه، والسير وفق سَنَنِه، لكنَّ ذلك يُحمدُ ما لم يؤدي إلى تهميش ثقافاتٍ أخر لها وزنها على الساحةِ، أو أدى إلى الاختلال في الخطابِ ببناءه على العاطفيَّةِ دونَ العلميَّة، حتى تكون الحقائقُ والنظريات في الفكرِ ليستْ سوى عواطِفَ تُفرغُ في أذهانِ المُريدين، أو أدى إلى الاعتماد على الإنشائيَّة في النقدِ والتمحيص، والبُعد عن الإنصاف، والحِياديَّة في نقد الأفكار والمذاهب الأُخر.

إنَّ جميعَ ما سبَق لا يمكن إنكاره عن الخطاب الإسلامي، إذْ أنَّ في ممارساتِ المفكرينَ والمثقفينَ المسلمين قصوراً ظاهرٌ؛ فثَّم تهميشٌ للأفكارِ الأُخر، وادعاء عدم الاستفادة منها!، وهو ما لا يُسلم، إذ أنَّ الفكر الإسلامي قد استفاد من المناقطةِ وغيرهم، وهو مالا يمكن جحوده، كما أنَّ قدرَ العاطفيَّة اللازمُ في الفكر الإسلامي وخطابه والمُتمثل في المواعِظ والرقائق قد تجاوزها إلى طُرُقِ تفكير كثيرٍ من المسلمين، بله مدعي الثقافةِ، كما تجاوزها إلى طريقة طرح الحقائق والنظرياتِ، ونقدِ الأفكار والمذاهب الأخر، المبنيُّ على العاطفة والإنشاء، وهذا ما لا يُقِّره عقلٌ ألمعيٌّ.

لك أخي القارئ بعدَ هذا أن تتأمل فيمَ كان الإقصاء والعاطفيَّة والإنشائية؟، هل هي في الفكر؟، أم في التفكيرِ والخطابِ؟.

بعدَ أنْ سلمنا بوجودِ شيء من هاتيكَ التُّهم في التفكير والخطاب، لنا أن نسألَ المُتَّهمينَ الفكرَ الإسلامي بذلك: ما المرادُ بالإقصائية والعاطفيَّة والإنشائية التي تزعمون؟!.

إنَّ كثيراً من هؤلاء يريدون بدعوى الإقصائيَّة أنَّ الفكرَ الإسلاميَ قد أقصى جميعَ الأفكار، والمناهج!، ونحو ذلك اتهامه بالعاطفيَّة، فكونُ الفكر الإسلامي كُلُّهُ عاطفيًّا تهمةٌ لا تُسلَّم، ودعوى لا تُرتضى، لكنْ الواجب في الخطابِ قْدرٌ لازمٌ من العاطفيَّة؛ يكونُ في المواعِظِ والرقائق، ولا يُرتضى في ما سواها!، لكنَّ أولئكَ الأقزام إنما يريدونَ به: كون الفكر الإسلامي مبنيَّاً على العواطِفِ، مُسيَّراً من خلالها، قد هيمنتْ عليهِ، وتحكمتْ بهِ، وهذا ما لا يُسلم.

وأخيراً: الاتهام بالإنشائيَّة: فدعوى إنشائيَّة الفكرِ الإسلامي كله، فهي دعوى خَلْوٌ من البرهان. فهناكَ قدرٌ لا بُدَّ منه من الإنشائيَّةِ في الخطابِ لا الفكر، إذ أنَّ المُبلِّغينَ سوى رسول الله > ليسوا سوى بشراً من البشرِ، وخطابهم ليسَ وحياً؛ إذ الوحي قد انقطع بوفاته > .

إنَّ جميعَ تلكَ التهم التي رمى بها أولئك القوم قد تكونُ واقعَ بعضِ المفكرين أو الدعاة، أو بعضِ المتصدينَ للبلاغِ، قد تصدق على بعضهم تلك الاتهامات، وتُسلَّمُ في حقهم، لكن رمي الفكر بها، أو تعليقها على الخطاب فذلك ما لا يُسلَّمُ ولا يُقبلُ، بل إنَّ ذلك منافٍ للموضوعيَّة والانصاف والحيادية التي يدَّعيها أمثال أولئك القوم.

إنَّ هناك أسباباً لذلك القصور في التفكيرِ والخطابِ متعلَّقه أولئك الدعاة والمفكرون ونحوهم من المُتصدِّرين؛ فالجهل في كثيرٍ منهم معروفٌ مشاهدٌ، كما أنَّ طُرق تفكير البعضِ منهم طُرُقٌ بدائيةٌ باديةٌ!، وعدمُ تأمل القضيَّة محل البحثِ، وطرح حلولَ للواقع لا تمتُّ للواقع بصلةٍ.

هذه أسبابُها، أما إنْ رُمتَ السبيل لتجاوزها فدُونكَ ما يسَّر الله لأناملي جرهها:
فقديماً قيل: الوقاية خير من العلاج، لكن والداء قد نزَلَ، والمصيبةُ قد حلَّتْ، فإنَّ خيرَ ما يبادرُ به الفاعلُ نفسَهُ، فيصلحُ شأوها، ويُتِّمُ شأنها، فإنَّ على الأمةِ أن تبادرَ إلى رفعِ مستوياتِ دعاتها ومفكريها، والرقيُّ من شأنهم، وإصلاح خطئهم، وتقويم زلَلِهم، ومن الأساليب التي تؤدي تلك الأدوار: إنشاء مراكز مختصة لإعدادِ الدعاة وتطويرهم، كما أنَّ على علماء الأمة ودعاتها أن لا يضيقوا بالانتقاد، وأن يفتحوا صدورهم لما من شأنه إصلاح الحال، والرقي في المآل، كما أنَّ على الأمة أن تُعلنَ رفضها لمثلِ تلك الأساليب في التفكير من إقصاءِ وعاطفةٍ وإنشائيَّة غالبةٍ على الفكرِ مهيمنة عليهِ، ومن الأساليب محاولة الرُّقيّ بالأمةِ من خلالِ الطرح، ومبادَرة العلماء والمفكرين والمُثقفين إلى محاولاتِ تجديد الخطاب الديني التي يبادرُ إليها بعضُ من لا يُتَّهم، كمبادرةِ رابطة العالم الإسلامي، في مُلتقاها الأخير عن الموضوعِ ذاتِهِ، غُرَّةَ شهرِ ذي الحجةَ الفائت، في مكة المكرَّمة. ومن ثمَّ الاجتهادُ في العمل بتوصياتِ أمثال تلك المؤتمراتِ والندواتِ وورش العمل؛ إذ هي حصيلةُ عقول مجربة قلما تجتمع!.

كذلكَ على العلماء والدعاة والمفكرين والمثقفينَ ممن عُلِمَ منه الصدق وطلب السمو بالأمة إيجادُ حلولٍ أكثر إيجابية وفاعليَّة؛ لبعث الأمة من رُقادها.
أما أولئك القوم المتهمون للفكر الإسلامي ككلّ بذلك، ممن عُلم من شأنه الاصطياد في عَكِرِ الماء، ممن دُخِلَ فكره، وخوى قلبُهُ؛ فلما أنْ أُشبعتْ قلوبهم الهوى، وملئت نفوسهم بالحقد، فاضت بمثلِ هاتيكَ التُهم، وعُمِّمتْ على الفكرِ كُله، والمفكرون والدعاة ذو الخلل - في رأيهم - لا يمثلون الإسلامَ، ولا الفكر الإسلامي، ولا يدعون ذلكَ، ومن ادعاه – إن وُجِدَ – فقد أُتيَ من قِبلَ نفسِهِ.

إنَّ على الأمة أن تقف صفاً واحداً تجاه أولئك الأقزام، هجراً له، معاشرةً، وقراءةً، ...

كما أنَّ الأقوَمَ في شأنِ أولئك ألا يُصدروا المجالسَ، وألا تُتاح لهم فرص الكتابةِ في الصحف، وأنْ يُحذَّر منهم، فقديماً قال الإمام المُطَّلِبي محمد بن إدريس الشافعي /: ((حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويُجعلوا على الإبل ويُطاف بهم في العشائر والقبائل، ويُنادي عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام)).

وختاماً: فالكلامُ في الموضوع طويلُ الذيل، دونَ حصرهِ خَرْطُ القتادِ وفتُّ الأكبادِ، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعُنقِ، وهذا جهدُ المقلّ، نسأل الله العفو عن الزلل، وغفرانَ الخطلِ، إنه جوادٌ كريم.

وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
 

وكتبه:
عبد الرحمن بن فؤاد بن إبراهيم الجارالله

 

 الجار الله
  • المذكرات التربوية التوجيهية
  • رسائل ومقالات
  • بحوث علمية
  • مواضيع عقدية
  • الصفحة الرئيسية