اطبع هذه الصفحة


حينما تحترق القدوة

الدكتور عصام بن هاشم الجفري


الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، أحمده سبحانه وأشكره جعل من نعمه الكبرى صلاح الوالد والولد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المنزه عن الصاحبة والولد ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خير من وطئ الثرى وخير من سكن البلد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما ركع راكع أو سجد ، وما تذلل مؤمن بين يدي ربه وعبد.
أما بعد:فيقول الجبار العظيم:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ()يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}([1]) .
أمة الهدى والبصيرة لو كان أحدنا يركب في سفينة وكان قائد السفينة يصر على أن يقحمها في وسط الأمواج المتلاطمة وكأنه يصر على هلاكها بينما ينصحه الركاب ويحذرونه فيأبى إلا أن يصر على رأيه فكيف يكون حال من هو في تلك السفينة؟ لوكان أحدنا يركب في سيارة وهي تنحدر به في طريق جبلي خطر تكثر منحنياته ، وسائق السيارة يصر على السرعة الجنونية وعلى سلوك طريق نهايته هاوية الهلاك فكيف يكون حاله ، لو كان أحدنا يركب طائرة وأصر قائدها على أن يطير فوق منطقة تشتعل فيها حرب عسكرية وتطلق فيها صواريخ قد تسقط الطائرة فكيف يكون حاله وهو يرى الصواريخ تعبر بجوار الطائرة ويحس بها وكأنه تمر بجوار قلبه؟وكيف لو كان بين الركاب من يعز عليه ذلك القائد فهو يحبه ويحرص على سلامته ألا يكون ألم هذا واحتراق قلبه على ذلك القائد أعظم؟
أحبتي في الله إن المجتمع يتكون من مجموعة من المراكب والعربات ولكل منها قائد ؛ فكل أسرة في المجتمع هي مركبة من تلك المراكب وقائد تلك المركبة هو الأب فهو قائد إما أن يقودها إلى جنات الرضوان وإما إلى جحيم النيران، وكلما كثر من يقود أسرته إلى جنات الرضوان توجه المجتمع بأكمله إلى نفس الطريق، وكلما كثر من يقود أسرته إلى جحيم النيران توجه المجتمع بأكمله في نفس الطريق، فنقول لكل أب ا0حذر  فأنت إما أن تقود أسرتك إلى الهلاك الذي لا سعادة بعده وإما أن تقودهم إلى سعادة لا شقاء بعدها ، هذه بعض الحالات التي تهلك فيها الأسرة بأكملها أوت تنجو بأكملها لكن هناك حالات أخرى يكون الأب فيها على غير الهدى ولكن الزوجة أو الأولاد فيهم من الصلاح ففي مثل هذه الحالة يحترق قلب الزوجة وقلب الولد الصالح ذكراً كان أم أنثى على أبيهم عندها يبذلون جهدهم لهدايته ؛ وقد قص علينا القرآن صورة من هذا المثل وهو مثل إبراهيم مع أبيه فكم كان يدعو أباه بكل أدب جم إلى الطريق المستقيم واستمعوا إلى تلك الكلمات التي انطلقت من قلب محب مشفق على أبيه : {يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا()يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيًّا()يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا()}(2) ، لكن تلك الكلمات الودودة الناعمة المؤدبة إصتدمت بقلب غلفته قسوة الشرك والكبر بأن يأخذ النصيحة من ابنه فجاء ذلك الرد العجيب  :قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}(3)، فم يغضب الإبن ولم يخرج عن الأدب بل أجاب بقوله : {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}(4)، مدرسة قرآنية في كيفية تعامل الأبن الصالح مع الأب الفاسق، وقد قرأت قصة واقعية حدثت أحداثها في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم   تبين كيف أن احتراق الأب القدوة بالمعاصي والذنوب يحرق قلب محبيه من زوجته وأبنائه فتدفع تلك الحرقة الأصم الأبكم لأن يتحرك لإنقاذ أبيه يقول صاحب القصة أنا شاب في السابعة والثلاثين من عمري متزوج ولي أولاد ارتكبت كل ما حرم الله وكل ما يكرهه من الموبقات أما الصلاة فكنت لا أؤديها مع الجماعة إلا في المناسبات فقط مجاملة للآخرين، والسبب أني كنت أصاحب الأشرار والمشعوذين،فكان الشيطان لازماً لي في أكثر الأوقات.كان لي ولد في السابعة من عمره اسمه مروان أصم وأبكم ،لكنه كان قد رضع الإيمان من ثدي أمه المؤمنة .كنت ذات ليلة أنا وابني مروان في البيت، وكنت أخطط ماذا سأفعل أنا والأصحاب،وأين سنذهب؟ كان الوقت بعد صلاة المغرب، فإذا بابني مروان يكلمني (بالإشارات المفهومة بيني وبينه) ويشير لي : لماذا يا أبت لا تصلي؟ ثم أخذ يرفع يده إلى السماء ويهددني بان الله يراك ، وكان ابني في بعض الأحيان يراني وأنا أفعل بعض المنكرات ، فتعجبت من قوله . وأخذ ابني يبكي أمامي ، فأخذته إلى جانبي لكنه هرب مني ..وبعد فترة قصيرة ذهب إلى صنبور الماء وتوضأ وكان لا يحسن الوضوء لكنه تعلم من أمه التي كانت تنصحني كثيراً ولكن دون فائدة ،وكانت من حفظة كتاب الله،ثم دخل علي ابني الأصم الأبكم ، وأشار إليِّ أن انتظر قليلاً ..فإذا به يصلي أمامي ثم قام بعد ذلك وأحضر المصحف الشريف ووضعه أمامه وفتحه مباشرة دون أن يقلب الأوراق ووضع أصبعه على هذه الآية من سورة مريم :{ يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}(2)، ثم أجهش بالبكاء ،وبكيت معه طويلاً،فقام ومسح الدمع من عيني ، ثم قبل رأسي ويدي، وقال بالإشارة المتبادلة بيني وبينه ما معناه صلي يا والدي قبل أن توضع في التراب، وتكون رهين العذاب، وكنت والله العظيم في دهشة وخوف لا يعلمه إلا الله، فقمت على الفور بإضاءة أنوار البيت جميعها،وكان ابني مروان يلاحقني من غرفة إلى غرفة وينظر إليَّ باستغراب وقال لي:دع الأنوار.وهيا بنا إلى المسجد الكبير –ويقصد الحرم النبوي الشريف- فقلت له:بل نذهب إلى المسجد المجاور لمنزلنا،فأبى إلا الحرم فأخذته إلى هناك وأنا في خوف شديد، وكانت نظراته لا تفارقني البتة،ودخلنا الروضة الشريفة وكانت مليئة بالناس وأقيم لصلاة العشاء وإذا بالإمام يقرأ من قوله تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(5).فلم أتمالك نفسي من البكاء ومروان بجانبي يبكي لبكائي،وبعد انتهاء الصلاة ظللت أبكي وهو يمسح دموعي ، حتى أني جلست في الحرم ساعة كاملة،فقال لي ابني مروان : يا أبي لا تخف ..فقد خاف علي من شدة البكاء ، وعدنا إلى المنزل فأحضر لي ماء وكانت هذه الليلة من أعظم الليالي عندي إذ ولدت فيها من جديد. وحضرت زوجتي وحضر أولادي فأخذوا يبكون جميعاً وهم لا يعلمون شيئاً مما حدث فقال لهم مروان أبي صلى في الحرم، ففرحت زوجتي بهذا الخبر إذ هو ثمرة تربيتها الحسنة، وقصصت عليها ما جرى بيني وبين مروان وقلت لها : أسألك بالله هل أنت التي أوعزت إليه أن يفتح المصحف على تلك الآية؟ فأقسمت بالله ثلاثاً أنها ما فعلت، وأنا الآن لا تفوتني صلاة الجماعة في المسجد وقد هجرت رفقاء السوء جميعاً وذقت طعم الإيمان.كما أصبحت أعيش في سعادة غامرة وحب وتفاهم مع زوجتي وأولادي خاصة ابني مروان الأصم الأبكم الذي أحببته كثيراً كيف لا وقد كانت هدايتي على يديه(6).أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}(7).
 
الخطبة الثانية
الحمد لله جعل الجنة للمتقين الطائعين خير معاد ، وجعل النار للمعرضين عن طاعته من أهل العناد أحمده سبحانه وأشكره على ما تفضل به على العباد من نعم وجاد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المنزه عن النقائص والأضداد وأشهد أن محمداً عبد لله ورسوله خير العباد ومهوى الفؤاد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه من سار على النهج إلى يوم المعاد .
أما بعد:فإني أقول لكل أب بَعُدَ عن الجادة والطريق المستقيم اتق الله في نفسك وفي أهلك وولدك فإنهم أمانة في عنقك ستسأل عنهم يوم القيامة،اتق الله فيهم فإنما أنت قدوتهم فإذا احرقت نفسك بالمعاصي والذنوب احترقوا خلفك.أقول لكل أب استمع للنصيحة من ابنك كما فعل صاحب القصة فنجى ولا تتكبر عن قبولها إذا كانت على الحق فتضل كما ضل والد إبراهيم ولم ينفعه أن ابنه خليل الرحمان، وإلى من منَّ الله عليهم بالهداية من الأبناء أقول لهم اتقوا الله في آبائكم وأمهاتكم حتى وإن كانوا قد بعدوا عن الحق لا تنظروا إليهم بأنهم مجرمون انظروا إليهم بأنهم مرضى بحاجة إلى رحمة منكم وعطف. ألا ترى أخي يوم أن يصيبك المرض يسعون في طلب العلاج لك ويسهرون على راحتك .وهم قد أصابهم ما هو أعظم من مرض الأبدان إنه مرض القلوب فهل تتخلى عنهم وتبدي اليأس منهم،هل تتصور أنك ستسر غداً يوم يُذهب بهم إلى النار؟هل تتصور أنك لن تُسأل عنهم وماذا بذلت لهم؟ أنت مطالب ببرهم وإن من أولويات ذلك البر الأخذ بأيديهم إلى طريق الرضوان والجنان.هذا طفل صغير أصم أبكم أخذ بيد والده إلى الهداية فماذا فعلت أنت يا من منَّ الله عليه بالسمع والبصر؟ . 

-------------------
([1]) الحج:1،2.(2)مريم:43-45.(3)مريم:46.(4)مريم(47).(5)النور:21.(6)محمد المسند،عندما نطق الأصم…بأبلغ عبارة،شباب، العدد الثامن،رجب1420،ص19.(7)التحريم:6.
 

عصام الجفري
  • خطب إيمانية
  • خطب إجتماعية
  • يوميات مسلم
  • خطب متفرقة
  • مناسبات وأحداث
  • رمضانيات
  • خطب ودروس الحج
  • الصفحة الرئيسية