اطبع هذه الصفحة


الغيرة على الدين

الدكتور عصام بن هاشم الجفري

 
الحمد لله الذي خلقنا من عدم وكبرنا من صغر وقوانا من ضعف وأسمعنا من صمم وأغنانا من فقر وعلمنا من جهل وأمننا من خوف ، وهدانا من ضلالة ، أحمده سبحانه وأشكره وبالشكر تنال الزيادة وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل الغيرة على الدين في قلوب العباد دلالة المحبة والريادة وأشهد أن نبينا وحبيبنا وسيدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .أما بعد:فاتقوا الله عباد الله أوصاكم بذلكم ربكم بقوله : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1).

حراس العقيدة والدين تحدثت في الخطبة قبل الماضية عن الغيرة على الأعراض ؛ وعرفنا أن هناك تلازم بين الغيرة على الأعراض وبين قوة الإيمان وقوة المحبة للأهل، فكلما كان الرجل ذا إيمان قوي وذا محبة قوية لأهله كانت غيرته عليهم أشد .

 والسؤال من أولى بكمال الحب ؟ لا شك أنه الله خالقنا ورازقنا وحافظنا ومن بيده أمورنا وأمور الكون كله؛ فما من نفس نتنفسه إلا كان له فيه فضل علينا وما من لقمة نأكلها أو شربة نشربها إلا وكان له فيها فضل علينا، وما من كلمة نسمعها أو نتكلم بها إلا كان له فيها فضل علينا، وما من خطوة نخطوها إلا كان له فيها فضل علينا وما من فكرة نفكر فيها إلا كان له فيها فضل علينا وما من ..وما من ..{ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}(2). فأليس هذا الرب المنعم أولى بالحب وبالغيرة ؟ بلى والله والغيرة هنا أن يغار العبد المؤمن وتملك عليه الغيرة قلبه وجوارحه كيف يعصى الله ؟ كيف يعصى المنعم ، كيف يعصى المتفضل.أخرج البخاري في صحيحة عن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ))(3).
الغيرة على الدين الغيرة أن تنتهك محارم الله دليل على محبة الله دليل على الإيمان الصادق في قلب العبد، ومن لا يغار على محارم الله ضعيف إيمان أخبر بذلك الصادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه فيما أخرجه الإمام مسلم بقُوله صلى الله عليه وسلم (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ))(4).
ومن أمثلة الغيرة على الدين نبي الله إبراهيم عليه السلام يوم أن وجد قومه يعبدون الأصنام من دون الله أخذته الغيرة على الدين فنصحهم فما استجابوا له وأقاموا على أصنامهم وشركهم ففارت الغيرة في قلبه واستمعوا ماذا فعل؟ سطر فعله لكم العليم الخبير بقوله : {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ()مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ()فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ}(5). وذكر تتمتها في سورة الأنبياء بقوله{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}(6).
 فعل ذلك غير أبهٍ بما يترتب عليها من نتائج لأنه فعله لله ومن أجل الله وغيرة لدين الله، فلما أرادوا عقوبته على فعلته الشنيعة تلك في نظرهم وأوقدوا له تلك النار العظيمة، غار الرب لعبده كما غار العبد لربه، تدخل رب الدين وحامي المؤمنين الصادقين وخالق الكون أجمعين وخاطب الخالق مخلوقته : {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ()وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الْأَخْسَرِينَ}(7). ومجال غضب الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وغيرتهم على محارم الله عديدة يضيق المجال عن حصرها،ولنا في نبينا وحبيبنا صلوات ربي وسلامه عليه القدوة الحسنة فقد كان صلى الله عليه وسلم من أحلم الناس وكان يتحمل جهل الجاهلين عليه وأذاهم دون أن يرد عليهم أو أن ينتقم لنفسه لكن متى ما تنتهك محارم الله يغار وينتقم لمحارم الله واستمعوا تخبركم عن ذلك زوجه الحبيبة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها يوم أن تقول فيما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه : (مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) (7).وفي مسند الإمام أحمد تحكي لنا أيضاً موقفاً آخر من مواقفه العديدة صلوات ربي وسلامه عليه التي توضح غيرته على الدين بقولها : (دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ اسْتَتَرْتُ بِقِرَامٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ فَلَمَّا رَآهُ تَلَوَّنَ وَجْهُهُ وَقَالَ مَرَّةً تَغَيَّرَ وَجْهُهُ وَهَتَكَهُ بِيَدِهِ وَقَالَ : ((أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ أَوْ يُشَبِّهُونَ))(8).
أرأيتم أحبتي في الله ما جامل زوجته الحبيبة إلى قلبه وما غلب حبه لزوجه على حب الله والغيرة على محارم الله بل تمكنت الغيرة على محارم الله من قلبه الشريف فتناول الستارة بيده وألقى بها في الأرض، وكم من الناس اليوم تطغى محبة زوجته أو محبة أولاده على محبة ربه فتنتهك محارم الله أمام عينيه وهو ينظر ولا يحرك ساكناً وقد لا يأتي بأضعف الإيمان وهو الإنكار بالقلب، من الناس من طغى حب المال والنقود في قلبه على محبة الله فهو يرى المؤسسة أو الشركة التي يعمل فيها تتعامل بالربا أو بالنجش أو بغيرها مما حرم الله فلا يغضب لمحارم الله! أيها الأحبة في الله أتكون الغيرة على محارم الله في قلب الحيوانات أشد مما هي في قلب المؤمن الحي؟ فهذا الهدهد غضب أيما غضب يوم أن رأى بلقيس وقومها يسجدون للشمس من دون الله، فهل غضب وتركهم ، وقال ذنبهم على جنبهم ، مالي ولهم، لا . بل جاء معلناً غضبه أمام نبي الله سليمان عليه السلام وخلد الله له ذلك في الكتاب ليكون الهدهد ذلك الحيوان الصغير الضعيف عبرة وقدوة لمن ماتت أو ضعفت في قلوبهم الغيرة على محارم الله: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ}(9).
وما أخبره بالقضية وتركه بل تابع القضية حتى كان سبباً في هدايتهم! فقولوا لمن يرى اليوم المنكرات في بيته وفي حيه وفي عمله ولا يحرك ساكناً ولا يغار لحرمات الله أين أنت من هدهد سليمان ؟ أرأيتم معاشر المؤمنين هذا البحر الذي يستمتع الناس بمنظر ويرتكبون العظائم على شواطئه فإنه يفور غيرة لانتهاك محارم الله أخبر عن ذلك من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ؛ فقد أخرج الإمام أحمد عن عُمَر بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (( لَيْسَ مِنْ لَيْلَةٍ إِلَّا وَالْبَحْرُ يُشْرِفُ فِيهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَلَى الْأَرْضِ يَسْتَأْذِنُ اللَّهَ فِي أَنْ يَنْفَضِخَ عَلَيْهِمْ فَيَكُفُّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ))(10)وفي رواية أخرى : ((ما من يوم إلا والبحر يستأذن ربه أن يغرق ابن آدم والملائكة تعاجله وتهلكه والرب سبحانه وتعالى يقول دعوا عبدي)) كل ذلك غيرة على محارم الله، فالله أكبر أمن الجمادات من يغار على محارم الله أكثر من العبد المؤمن الموحد.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(11).

الخطبة الثانية

الحمد لله كثير النعم ، شديد النقم، أحمده سبحانه وأشكره على ما تفضل به علينا من نعمة الإيمان والهدى وعلى ما صرفه عنا من العذاب والنقم ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد الأحد الفرد الصمد وأشهد أن نبينا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .
أما بعد : فاتقوا الله عباد الله وربوا أنفسكم وأهليكم على الغيرة على محارم الله، واعلموا رحمني الله وإياكم أن الغيرة على محارم الله لابد من أن تمزج بالحكمة فإبراهيم عليه السلام يوم أن كسر أصنام قومه ترك كبيرها ليقيم عليهم الحجة ، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يطوف بالبيت في مكة وحول الكعبة وداخلها ثلاثمائة وستون صنماً فما حطمها وما كسرها وإنما صبر واتبع الحكمة حتى حانت الفرصة المناسبة فجاء صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فحطمها كما جاء في صحيح البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَحَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ وَثَلَاثُ مِائَةِ نُصُبٍ فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ،جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ، فمن الشباب من تأخذه الغيرة على محارم الله فيقوم مثلاً بإتلاف جهاز القنوات في المنزل، فنقول له ليس هذا المقصود بل قد تكون هذه فرصة لاقتناء آخر أكثر تطوراً وفجوراً،لكن ما يسعى إليه المسلم هو تغيير الأمر من داخل القلب وإحياء الإيمان في القلوب فهذا هو التغيير الحقيقي وإن أخذ وقتاً من الزمن؛والقاعدة التي نص عليها أهل العلم أنه إذا كان تغيير المنكر يؤدي إلى منكر أعظم منه فإنه يترك تغييره من باب ارتكاب أخف الضررين،لكن لا يعني هذا أيها الأحبة في الله أن يترك الإنسان الغيرة على محارم الله وأن تموت في قلبه الغيرة على محارم الله والعياذ بالله.


-------------
(1) آل عمران : 102.(2)إبراهيم:34.(3)البخاري،النكاح،ح(4822).(4) مسلم،الإيمان،ح(70). (5) الصافات:91-93.(6) الأنبياء:58.(7)الأنبياء:69-70. (7)مسلم،الفضائل،ح(4296). (8)أحمد،باقي مسند الأنصار،ح(22952).(9) النمل:24.(10) أحمد، العشرة المبشرين بالجنة، ح(286).(11) الأنفال:25.
 

عصام الجفري
  • خطب إيمانية
  • خطب إجتماعية
  • يوميات مسلم
  • خطب متفرقة
  • مناسبات وأحداث
  • رمضانيات
  • خطب ودروس الحج
  • الصفحة الرئيسية