اطبع هذه الصفحة


يوميات مسلم (16) وقفة مع إياك نعبد وإياك نستعين

الدكتور عصام بن هاشم الجفري


الحمدلله لا معبود بحق سواه،ولا معين للخلق عداه،أحمده سبحانه وأشكره على نعمه العظمى علينا وما أسداه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن نبينا وحبينا محمداً عبد الله ورسوله و صفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.وبعد:فاتقوا الله عباد الله تفوزوا بجنة عرضها السموات والأرض فيها ما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وعدكم بذلكم من لا يخلف الميعاد بقوله:{تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّ }(مريم :63).معاشر الأتقياء الأنقياء في الخطبة السادسة عشر من هذه السلسلة (يوميات مسلم) نقف مع قوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } (الفاتحة:4).كلمتان بسيطتان لكنهما والله عظيمتان وهما جماع الدين فما خلق الله الخلق إلا لغاية واحدة بينها لهم في كتابه جل شأنه بقوله:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }(الذاريات:56).فما من إنسي ولا جني ولا ملك مقرب خُلق منذ بدأ الله الخلق حتى يرث الأرض ومن عليها إلا لهدف واحد وغاية واحدة ألا وهي عبادة الله،وما من نبي إلا ودعا قومه ل{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }؛أثبت ذلك ربنا في كتابه بقوله:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (النحل:36). ولا يستنكف ويستكبر عن عبادة ربه إلا جاهل غبي محروم وفي الآخرة شقي معذب في نار تدوم:{ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا(172) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا(173)يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينً }(النساء:174). العبودية لله هي أشرف المقامات وصف الله بها خير خلقه في مقام الإسراء والمعراج فقال:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ.. }(الإسراء:1).ووصفه بها حال الوحي فقال:{ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى }(النجم:10).ووصف العظيم بها عباده الذين اصطفاهم وعصمهم من الشيطان فقال:{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلً }(الإسراء:65).ومما زادني فخراً وتَيْهاً..وكدت بأصبعي أطأ الثريا..دخولي تحت قولك ياعبادي..وأن صيَّرت أحمد لي نبياً.فإلى من يبحثون عن الوجاهات والدرجات نقول لهم هنا والله الرفعة هنا العزة هنا المنعة هنا المتعة في العبودية لله الواحد الأحد:{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ(105)إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ }(الأنبياء:106).{ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ }(الزخرف:70).يوم أن عرفت العبودية طريقها لقلب بلال وهو عبد حبشي ما استطاع صناديد قريش أن يغيروه عنها؛وبلغ من العزة أن اعتلى بقدمه السوداء أطهر مكان على وجه الأرض الكعبة ليعلن عبوديته لله ليعلن ثمرة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }وصناديد قريش مطأطئين رؤسهم تحت قدميه،العبودية كما عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هي كمال الحب مع كمال الذل، فقد يحب المرء ابنه ولكن لا يذل له، وقد يذل المرء من الحاكم ولكن لا يحبه، فلا ينبغي أن يجتمع كمال الحب وكمال الذل إلا لله رب العالمين والنفوس مجبولة على العبودية فمن لم يعبدها لله عبدها لغير الله، ألم ترى أن من البشر من عبدوا الجن والشجر والحجر والبقر،ومنهم من كان عبداً لشهواته ومنهم من كان عبداً لأمواله وعماراته وسياراته، ومنهم من كان عبداً لمناصبه ووجهاته، فاحمد الله أخي الحبيب أن اجتباك ربك ووفقك للعبودية الحقة لجلاله،ويترتب على عبودية القلب لله عبودية البصر فلا ينظر إلى ما حرم الله،وعبودية الرجل فلا تمشي إلى ما حرم الله،وعبودية الأذن فلا تسمع ما حرم الله وهكذا إذا عُبِّد القلب عُبِّدت الجوارح، ولا يكون العبد محققاً إياك نعبد إلا بأصلين عظيمين وهما الإخلاص والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في هذا منقسمون لأربعة أقسام الأول منهم من حقق إياك نعبد فكانت كل أعماله لله وموافقة لشرع الله، القسم الثاني وهم من لا إخلاص له ولا متابعة كأعمال المتزينين للناس المرائين لهم بما لم يشرعه الله وهم شرار الخلق،القسم الثالث وهم مخلصون في أعمالهم ولكنها على غير هدى كجهال العبَّاد ممن يظن أن الخلوة التي يترك فيها الجمعة والجماعة قربة،وأن صيام يوم فطر الناس جميعاً قربة، القسم الرابع:من أعماله على متابعة الأم ،لكنها لغير الله كطاعة المرائين.والناس مع أفضل أحوال العبادة أربعة أصناف؛الصنف الأول:يرى أن أنفع العبادات وأفضلها هو أشقها على النفوس وأصعبها؛ فقالوا الأجر على قدر المشقة، وأن النفوس لاتستقيم إلا بذلك، والصنف الثاني:رأى أن أفضل العبادات التجرد والزهد في الدنيا والتقلل منها،الصنف الثالث:رأوا أن أفضل العبادات ما كان فيه نفع متعد، فرأوا خدمة الفقراء والاشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم أفضل فتصدوا لها،الصنف الرابع وهو أرشدهم؛فقالوا:إن أفضل العبادة:العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته،فأفضل العبادات عند حضور الضيف إكرامه، والأفضل في أوقات السحر الاشتغال بالصلاة والقرآن،والأفضل في أوقات استرشاد الطالب وتعليم الجاهل الإقبال عليه والاشتغال بتعليمه، والأفضل وقت الأذان ترك ما هو فيه من ورده والاشتغال بإجابة المؤذن، والأفضل في أوقات الصلوات الخمس الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والأفضل وقت قراءة القرآن جمع القلب والهمة على تدبره وتفهمه حتى كأن الله تعالى يخاطبك..وهكذا،أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ(115)فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ }(المؤمنون:116).

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه.أمابعد:فاتقوا الله عباد الله واعلموا رحمني الله وإياكم أن العبد لا يوفق للعبودية من عند نفسه ولكن لا بد من إعانة الله له يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله "تأملت أنفع الدعاء : فإذا هو سؤال الله العون على مرضاته ثم رأيته في الفاتحة{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }"(عبدالمنعم صالح العزي،تهذيب مدارج السالكين،ط1(جدة:مكتبة السوادي،1412هـ/1992م)ص65.فأنت أخي الحبيب في حاجة لأن تغتنم أفضل الأوقات لتدعوا ربك وخالقك ورازقك أن يعينك على عبادته وعبوديته لدى كانت وصية الحبيب للحبيب؛أخرج الإمام النسائي عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ أَخَذَ بِيَدِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (إِنِّي لَأُحِبُّكَ يَا مُعَاذُ) فَقُلْتُ: وَأَنَا أُحِبُّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :(فَلَا تَدَعْ أَنْ تَقُولَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ رَبِّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ)(النسائي،السهو،ح(1286)).أخي الحبيب إني أحبك وأوصيك بوصية نبيك وحبيبك صلى الله عليه وسلم فحافظ عليها بعد كل صلاة وعلمها أهلك وولدك وكل من حولك.واعلم رحمني الله وإياك أن الاستعانة بالله تكون في جميع الأمور:أمور الدنيا وأمور الآخرة فلا تقصرها علىأمور الشهوات والدنيا، ولاتضيق إذا لم يعينك الله على قضاء أمر من أمور الدنيا فقد تكون فيه هلكتك، فهذا إبليس أجارنا الله وإياكم من مكره طلب من ربه فقال:{ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }(الأعراف:14).فأعانه الله على تحقيق طلبه فقال{ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ }(الأعراف:15).فكان في إجابته وإعانته مزيد شقاء له.أيها الأحبة في الله لقد وضع الإمام ابن قيم الجوزية ست وستون منزلة لإياك نعبد وإياك نستعين وهذبها الشيخ عبد المنعم العزي فأتمنى على كل واحد منكم أن يقني كتاب تهذيب مدارج السالكين وأن يقرأه مع زوجه وأولاده في البيت ليتعمق أكثر في فهم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين }.

 

عصام الجفري
  • خطب إيمانية
  • خطب إجتماعية
  • يوميات مسلم
  • خطب متفرقة
  • مناسبات وأحداث
  • رمضانيات
  • خطب ودروس الحج
  • الصفحة الرئيسية