اطبع هذه الصفحة


كيف يستفاد من موسم الحج

الدكتور عصام بن هاشم الجفري

 
الحمد لله الذي جعلنا جيران بيته وحرمه ، وجعل الناس تهفوا إلينا من كل حدب وصوب تلبية لأمره ، أحمده سبحانه حمد من يرجوه في كل شأنه ، وأشكره سبحانه شكر من يرجو رحمته وفضله .
أشهد أن لاإله ألا الله وحده لاشريك له شرع الحج لحكم بليغة ومنافع عظيمة ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من استغل الحج في خدمة الإسلام فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .
أما بعد :
فاوصيكم ياجيران الحرم ونفسي القاصرة المذنبة أولا بما أوصى الله به الحجيج في رحلتهم الى الحج حيث قال الحكيم الخبير : { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب } .
ياجيران البيت العتيق أتعلمون قصة هذا البيت وقصة توافد الحجيج إليه ..؟ ، إن أول بناء وأول نواة أُنشئت لهذا البلد الأمين لمكة حرسها الله إنما هي اللبنات التي وضعها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بعضها على بعض ، منذ أول لحظة عرَّف الله لإبراهيم مكان البيت أعلن الغاية من وجوده وبناءه وهي توحيد الله وإفراده بالعبادة ، وحدد سبحانه نوعية من يفترض فيهم أن يؤموا هذا البيت فقال الباري جلت قدرته : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيتِ ألَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّر بيتي للطآئفينَ والقآئِمينَ والركعِ السجودِ } .

عباد الله إننا نعيش اليوم استجابة العالم أجمع لأول نداء أطلقه أبانا إبراهيم من جوار البيت ، من وادي مكة المقفر في ذلك الزمان ، حيث لم تكن هناك مكبرات صوتية ، ولا ألياف بصرية ولا أقمار صناعية ، لكن كانت القدرة الإلهية . { وَأَذِّن فِي الناسِ بالحجِ يأتوكَ رجالاً وعلى كُلَّ ضَامرٍ يأتينَ من كلِ فجٍّ عميقٍ } عليك النداء يإبراهيم وعلينا ايصاله ، وظل الناس في جاهلية و إسلام لا ينقطعون عن حج هذا البيت الكريم ، لماذا يحجوا ..؟ لماذا يجتمعوا ؟ { لِّيَشْهدُوا مَنَافَعَ لهُمْ ويذكروا اسمَ اللهِ في أيامٍ معلوماتٍ على مارزقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنعامِ فكلوا منها وأَطْعِمُوا البآئِسَ الفقِيرَ . ثم ليَقْضُوا تَفَثَهُمْ وليُوفُوا نُذُورَهَمْ ولْيَطَّوفُوا بالبيتِ العَتِيقِ} ، ولنقف مع قوله تعالى : { ليشهدوا منافع لهم } إن اجتماع الناس من شتى بقاع الأرض لهو فرصة لاتعدلها فرصة فيحسن استغلالها ، وقد عرف أهل مكة ذلك من قديم ؛ وإضرب لكم مثالين لاستغلال الحج ، أولهما مثل لاستغلال الحج استغلالا سيئا : وهي قصة عمرو بن لحي سيد خزاعة الذي كان أول من جلب هُبْل معه من الشام ووضعه في الكعبة ودعا أهل مكة للشرك فأشركوا ، ويُذكرُ أنه كان له رئي من الجان -وما أظنه إلا إبليس - فأخبره ذلك الجني بأن أصنام قوم نوح - ود ، وسواع ، ويغوث ، ونسرا - مدفونة بِجَدَة أو ما تعرف اليوم بِجِدَة ، فأتاها فاستثارها ، ثم أوردها إلى تهامة فلما جاء الحج دفعها إلى القبائل ، فذهبت بها إلى أوطانها ، حتى صار لكل قبيلة صنم .

وأما المثال الآخر فهو لاستغلال الحج استغلالاً حسناً : هو ما كان يقوم به خير البرية صلى الله عليه وسلم كل عام في الحج من عرض نفسه ودعوته على القبائل والأفراد ووجد في سبيل ذلك ما وجد بأبي هو وأمي وبالناس أجمعين من التكذيب والأذى ، لكنه صلى الله عليه وسلم كان يعرف أنه إذا انطلق بارق الهداية من هذا الموسم فإن نور الهدى سيغطي أرجاء الكون ، وذلك بأن هيأ الله له في السنة الحادية عشر من النبوة ست نسمات طيبات وبذور صالحات ، سرعان ما تحولت إلى شجرات باسقات اتقى المسلمون في ظلالها الوارفة لفحات الظلم والطغيان ، وكانت بيعة العقبة الأولى ثم الثانية ، ثم انتقل مركز الدعوة إلى المدينة ليكتسح الشرك وأهله .

واليوم أيها الأحبة في الله تتوفر في موسم الحج عناصر هي من دعائم النجاح لنشر الإسلام الصحيح إن استغلت خير الاستغلال حيث يجتمع في هذا المكان الطاهر جم غفير من المسلمين ربهم واحد وندائهم واحد وقبلتهم واحدة ، يجتمعون في بلد واحد وفر الله فيها الأمان لطيرها وشجرها فضلا عمن يسكنها ، ووفر في هذا الموسم الجو اللطيف الهادئ للحوار { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } .

والسؤال ما هو دورنا نحن من اصطفانا ربنا من بين الخليقة لجوار بيته في موسم الحج ..؟ .
إنه سؤال يجب أن يراود كل غيور على دينه ، والجواب عليه ذي شقين
الأول على المستوى الحكومي والرسمي ؛ وهذا يلمسه كل مقيم أو حاج ؛ حيث يبذل ولاة أمر هذه البلاد جهوداً جبارةً لتوفي كافة نواحي الراحة والطمأنينة للحجاج من أمنية وغذائية وصحية وغيرها ، وعلى مستوى توحيد وجمع كلمة المسلمين نرى الحفل السنوي الذي يقيمه وليأمر هذه البلاد يجمع فيه قادة الفكر والسياسة من الحجاج ، وكذا محاضرات واجتماعات رابطة العالم الإسلامي في وقت الحج ، بالإضافة إلى الحرص على توعية أكبر قدر من الحجيج بأمور دينهم ومناسكهم من خلال البرامج المكثفة التي تقوم بها وزارة الدعوة والإرشاد ؛ من كلمات في المساجد ودوريات ومكاتب ثابتة لإجابة على استفسارات الحجيج وأسئلتهم .

أما الشق
الثاني فإنه يتعلق بالأفراد والمؤسسات الخاصة ؛ مؤسسات الطوافة والمطوفين والزمازمة والأدلاء والتجار ؛ لكل هؤلاء ولغيرهم ممن شرفهم والله واصطفاهم لخدمة ضيوفه نقول لهم إن الله اصطفاكم لأشرف مهمة ، وأعظمها فأقدروا لهذه المهمة قدرها ، لقد اصطفاكم الله لخدمة ضيوفه وحجاج بيته وهي مكانة تكليف أكثر من كونها مكانة تشريف ، وتخيل كيف يكون حالك إذا عهدت إلى رجل لاستقبال ضيوفك وخدمتهم فأساء إليهم ولله المثل الأعلى ، لايكن يأخي المطوف الحبيب همك أكبر قدر من الأجرة ولكن ليكن همك أكبر قدر من الأجر ؛ فلا تقدم لهم فراشاً فاحت منه رائحة نتنة من قدمه وسوء تخزينه ، لاتقدم لهم مكيفات خربة ، تذكر أن الله يراك ويحصي عليك أفعالك ويعلم سرك وعلانيتك ، تحمل منهم أخطاءهم وسوء معاملتهم لك وعاملهم بالخلق النبوي الرفيع ، احرص على عمل برنامج ثقافي للحجاج بلغتهم تعرفهم فيه مناسكهم وأمور دينهم وعقيدتهم ، واعلم أن الخسارة كل الخسارة أن يعود الحاج إلى بلاده من عندك كما قدم عليك ، فما بالك إذا عاد بأسوء مما قدم به عليك لاسمح الله ، والله لو أنك بنيت في كل عام حاجاً واحداً فقد قدمت إلى أمتك خدمة جليلة ، وأضفت إلى بناءها لبنة صالحة ، أخي المطوف الحبيب أنت أول من جاء الحاج ليرى فيه الإسلام خلقاً وتعاملاً فإما أن تعطيه عن الإسلام صورة مشرقة فيتأثر بك ، فيشكر الله لك ويرفعك الدرجات العلى ، وإما عياذاً بالله أن يكون العكس ، أخي التاجر الحبيب أنت أيضاً نافذة أخرى للحجاج على الإسلام فلا يرى منك غشاً ولاكذباً في البيع والشراء ، لايكن همك الدرهم والدينار وليكن همك توفي احتياجات المسلمين وراحة الحجيج لتكسب الدنيا والآخرة لايراك الحاج تبيع سلعا محرمة فيأخذها ظاناً أنها حلال ، وقد يأخذ لأهله هدية منها ويقول : جئتكم بهدية من جوار الحرم فإذا بها حرام ، فتكون سبباً لانتشار الحرام في أرجاء العالم الإسلامي .
اللهم يارب وفقنا لخدمة ضيوفك ، ودعوتهم إلى سبيلك بالقول والعمل ، إنك ولي ذلك والقادر عليه .

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي اصطفانا من بين خلقه لخدمة ضيوفه ، وسهل لنا طريق الدعوة إلى دين الله وتبيين حدوده ، أحمده سبحانه وأشكره حمد وشكر من يرجو من الله ستر عيوبه ومغفرة ذنوبه .
أشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له ولا شبيه ولا مثيل ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد :
فاعلموا رحمني الله وإياكم أن معظم الحجيج حينما يأتوا إلى مكة وبالذات في المرة الأولى فإنهم يتصوروا بأنهم سوف يروا جيران الحرم سوف يروا أبناء الصحابة ، سوف يروا قرءاناً يمشي على الأرض ، لكنهم يصدموا منذ أول وهلة يدخلون فيها البد الحرام فبدل من أن يروا أكفا إلى الله ضارعة بالدعاء فإنهم يروا أطباق اللاقطات الفضائية ( الدشات ) يستنزل بها أصحابها غضب الله وسخطه ، يصدموا حينما يروا أن من شباب البلد الحرام من تشبه في قصات شعره ومنظره بسفلة الغرب وحثالتهم ، يصدموا حينما يسمعوا أصوات الموسيقى والغناء تنبعث من مسجلات المحلات والسيارات بدلا من التهليل والتكبير والقرآن ، يصدم الحاج حينما يتيه في شوارع مكة فيقع على رجل لايدله إلا بمقابل مادي .

لكن مما يخفف من هذه الصدمات المتتاليات ما يراه الحاج من جهود المحسنين ؛ ومنها عبوات الماء التي تقدم هدية للحجيج من خادم الحرمين الشريفين حفظه الله ، وما قام به المحسنون من تشجير لعرفات وتلطيف لجوها بزخات الماء ، ومايراه الجميع من شاحنات كبيرة محملة بالماء والعصيرات تقدم للحجاج ابتغاء مرضات الله ، وما يصنعه البعض من طعام للحجيج .
لكن الحديث يوجه إلى كل فرد من سكان هذا البلد الحرام ، فنقول لما لا يكون كل واحد منكم مشعلا للهدى ومصباح في ليل الدجى يضيء بقدر إمكانه لإخوانه الذين قدموا إليه من كل بقاع الأرض ، لما لا نربي أنفسنا وأولادنا على أن الحج ليس فرصة ذهبية للكسب المادي فقط بل هو فرصة أعظم لكسب الأجر الأخروي ، فالعمل في خدمة الحجيج فرصة لإعطاء هذه المواكب المباركة صورة عن التعامل الإسلامي الصحيح ، ولا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق بابتسامة عذبة حانية .

ألا وصلوا على الرحمة المهداة والنسمة المجتباة فقد أمركم ربكم بذلك في كتابه إذ يقول { أن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين ءأمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما }
 

عصام الجفري
  • خطب إيمانية
  • خطب إجتماعية
  • يوميات مسلم
  • خطب متفرقة
  • مناسبات وأحداث
  • رمضانيات
  • خطب ودروس الحج
  • الصفحة الرئيسية