اطبع هذه الصفحة


أعقوبة هي أم تمحيص..؟

الدكتور عصام بن هاشم الجفري


الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم،مجيب دعوة المضطرين وناصر المظلومين ولوبعد حين،أحمده سبحانه وأشكره جعل التمحيص قبل التمكين،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا يرتجى سواه لكشف الغمة والكرب عن المكروبين،وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله إمام المتقين وقائد الغر المحجلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد:
فيا أمة الإسلام قاطبة عليكم بتقوى الله فهي الطريق للنصر والتمكين أخبركم بذلكم ربكم بقوله:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}(الأنبياء:105).
أخي الحبيب قلي بربك إذا أصبت لا قدر الله في نفسك بمرض أو في أهلك أو في مالك ما الفارق بين من يعزيك بقوله:اتق الله فإن ما أصابك هو عقوبة لك على ذنوبك وخطاياك وإسرافك على نفسك،وبين من يقول لك ابشر فإنه ابتلاء وتمحيص ليرفع الله درجتك ويعظم أجرك..؟.
فالأول أقرب للشماتة والثاني أقرب للرحمة،أحبتي في الله أود منكم اليوم أن نشترك في إجابة على تساؤل قد يُشْكِل على البعض هذا التساؤل مفاده ما الفرق بين العقوبة والتمحيص..؟
هل ما أصاب إخواننا في غزة عقوبة أم هو التمحيص قبل التمكين..؟لا شك أن الاثنين بسبب الذنوب والمعاصي لقول الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى:30).
غير أن هناك فرق كبير بينهما فالعقوبة نتاج غضب وانتقام من الجبار جل جلاله قال تعالى:{ فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} (الزخرف:55).وهكذا كان غرق قوم نوح عقوبة،وكان ما أصاب قوم لوط وقوم هود وقوم صالح وغيرهم عقوبة.
أما التمحيص فإنه رحمة يمحو الله به ذنوب المؤمنين ويرفع درجاتهم،ويفضح الكاذبين والمنافقين؛وهاهو الحكيم العليم يخاطب أمة الإسلام بعد ما أصابهم يوم بدر ويجمع في آية واحدة بين العقوبة والتمحيص في قوله: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (آل عمران: 141).
فانظر أخي الأريب معي كيف جعل الله التمحيص خاصاً بالمؤمنين وجعل المحق خاصاً بالكافرين.والتمحيص سنة إلهية إنسانية جعلها الله قبل التمكين،وليس بالضرورة أن يكون التمحيص نتيجة الذنوب بل قد يكون لرفعة الدرجات؛فهذا موسى كليم الله عليه السلام ومن معه من المؤمنين حينما أطبقت عليهم المحنة وبلغ منهم الخوف مبلغه خرجوا فارين بدينهم واشتدت المحنة أكثر حينما تبعهم فرعون بجيش عظيم لا قبل لهم به واشتد عليهم الحصار فكان البحر من أمامهم وفرعون من خلفهم وعبر لنا القرآن الكريم عن تلك الشدة بقول أصحاب موسى:{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} (الشعراء:61).
فهل كان ذلك عقوبة أم هو التمحيص قبل التمكين..؟.اسمع لربك ماذا يقول عن ذلك:{فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا()وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفً}(الإسراء:104).
يوسف عليه السلام أصابته المحنة ورمي في البئر وبيع في سوق العبيد ثم استقر به المكان في بيت عزيز مصر وأصابه ما أصابه من محن متلاحقة أكان ذلك عقوبة أم هو التمحيص قبل التمكين..؟.
اسمع لربك يخبرك عن ذلك بقوله:{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(يوسف:21).
وهذا نبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم يحاصر هو وقبيلته في الشعب حتى يأكلوا ورق الشجر من الجوع واشتدت المحنة عليه بموت زوجه وعمه ومالقي من أهل الطائف فهل كان ذلك عقوبة أم هو التمحيص قبل التمكين..؟.،أُكرم صلى الله عليه وسلم بعد المحنة بأعز وأعظم رحلة في الوجود رحلة الإسراء والمعراج رُفع فيه صلى الله عليه وسلم إلى السماء السابعة..وهاهي قريش تحاصر بيت النبي صلى الله عليه وسلم خاصَّة لقتله فهل كان ذلك عقوبة -حاشاه فداه أبي وأمي- أم هو التمحيص قبل التمكين..؟.
كان بعدها مباشرة الهجرة للمدينة وإقامة دولة الإسلام.وهاهي قوى الكفر في جزيرة العرب قاطبة تطبق على المدينة في غزوة الخندق؛المشركون من الخارج واليهود ينقضون العهد كعادتهم من الداخل واسمع لربك وهو يصف شدة المحنة التي أصابت المسلمين في تلك الأثناء بقوله:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا()هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدً}(الأحزاب:10-12).
فهل كانت تلك الشدة عقوبة أم هو التمحيص قبل التمكين..؟.اسمع للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول بعد تلك الغزوة:((لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ، ولكنكم تغزونهم))(سيرة بان كثير،ج3،ص221). فكان فتح مكة وكان التمكين النهائي لدولة الإسلام، فهل أدركنا الفرق بين العقوبة وبين التمحيص قبل التمكين..؟.اسمع معي أخي لربك وهو يقول:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة:214).

الخطبة الثانية:
الحمد لله ولي المتقين ولا عدوان إلا على الظالمين،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له الملك الحق المبين وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله للناس أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الغر الميامين.أمابعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا رحمني الله وإياكم أن من علامات العقوبة انتشار المعاصي والمجاهرة بها وعدم الالتفات لعلامات النذر التي تسبق العقوبة،من غلاء،وموجة برد قارس،وموت للماشية،وفساد منتجات زراعية..وغيرها،ومن علامات التمحيص تغير أحوال المجتمع نحو الصلاح والإقبال على الله،ومن يعرف قطاع غزة من قبل ويعرفه اليوم يشهد بالتغير الكبير الذي حصل في اتجاه التقوى والصلاح وعمارة المساجد وانتشار الحجاب،بل أن ما يحدث اليوم هناك من جريمة إنسانية بشعة إنما هو حرب على تدين أهل غزة،ومحاولة لصرف الأنظار عن عملية التهويد الكبيرة التي تتم هذه الأيام في القدس،وهو امتحان واختبار لأمة الإسلام قاطبة كيف سينصرون إخوانهم المحتاجين لنصرتهم، وإنا والله لنرجو أن يكون ما أصاب إخواننا هناك هو التمحيص قبل التمكين،كيف لا وهم الذين يحمون الأقصى بدمائهم،بل هم رأس حربة الإسلام في خاصرة اليهود القذرة،وأبشركم بأن نصر الله قريب.
 

عصام الجفري
  • خطب إيمانية
  • خطب إجتماعية
  • يوميات مسلم
  • خطب متفرقة
  • مناسبات وأحداث
  • رمضانيات
  • خطب ودروس الحج
  • الصفحة الرئيسية